كانت كفها تقبض على كفه وهما يمشيان متلاصقين كتفا بكتف، ويهتز ردفاهما مع الخبطات المتوالية لكفيهما. كانت الصحراء تمتد قدامهما صفراء صفرة الغروب المكتومة، وعن يسارهما انتهت آخر أشجار حقل الجوافة المجاور. أما على اليمين، فكانت قضبان القطار تتضاءلن لمعتها الخفيفة وهي تغيب في الأفق. كانا صامتين مستغرقين ومكتفيين بلمساتهما المتباعدة، لكن حقيبتها المدرسية المعلقة على كتفها اليمنى ضايقتها، وأحست بها ثقيلة، و"الكرافت " الأزرق على "البلوزة " البيضاء يضيق على عنقها.
كان هو قد تابعها عن بعد منذ أن تخلصت من آخر زميلاتها، ودلفت الى محطة القطار. اشتعل وجهها حين التقت عيونهما لثوان قليلة، حتى جاء القطار يظلع. ركب في عربة غير عربتها، ولم تهدأ هي إلا حين لمحته في المحطة التالية. راحا يقطعان الحواري القصيرة بعد أن هبطا، والمسافة التي تفصل بينهما تتلاشى.
ذلك هو أبعد مكان، لذلك فهو الأكثر زمنا.
القطار الذي يقطع الصحراء لا يركبه سوى الجنود، كما أنه
لا يمر مطلقا في الأوقات التي كانا يسرقانها. يتوقفان بالضبط حين يشعران أن سيقانهما لا تكاد تحملهما، غير أن قبضة كل منهما على الأخر تشتد، وهما يتبادلان كلمات قليلة متقطعة. تهز له رأسها وهو يحكي لها عما جرى، وترفع وجهها بحنو واحساس عنيف يطويها بجواره ومعه مستكينة لصمت الرمال.
ثمة زير ماء يتوقفان عنده يستريحان. الزير متكيء على حائط من الطوب اللبن تحته نخلة وحيدة عجوز. تملأ له بيدها كوز الماء البارد يساقط الماء من ثقبين في جداره المعدني المبتل.
تحكي هي له عما جرى لها في الأيام الماضية، ويتلفتان حولهما قبل أن يغيب بوجهه في شعرها ويشمها وتشم هي رائحته، وحين يقترب بوجهه من وجهها يتلبسها الرعب وتكاد تغيب عن الدنيا وهو يسندها بذراعيه.
يستديران عائدين أدراجهما ويقتربان من لحظة فراقهما. ما عليهما إلا أن يصلا الى أولى أشجار حقل الجوافة فحسب. وأمسكت بهما خطفة الروح وانقبضا ستوجسين وهما يقتربان من الأشجار الواقفة.
هذه المرة كانت هناك عيون مختبئة بين الشجر الكثيف، وكان هو يكاد يشعر بها، وانتابته رغبة مفاجئة سرعان ما تمكنه في أن يشدها معه ويركضا.
وعندما انطلقا أخيرا، أحسا معا بالعيون التي تتابعهما، بل وخيل اليهما أنهما سمعا دمدمة ما لبثت أن تعالت بغتة.
محمود الورداني(كاتب من مصر)