واكبَ الشعرَ في عُمان تمجيدٌ طويلٌ وعميق؛ أُجِلَّ الشاعر وقُدِّست الكلمة، اصطُفيَ بين الناس من امتلكَ السِّحر ولم يترجل عن صهوة الخيال. وامتدادًا لتاريخ عربي ضارب في القدم تنوقلت الأشعارَ شفاهةً، ومضى الرواةُ على خُطى الرواةِ الأوائلِ يحفظون شعر شعرائهم، ويعيدون إنشادَه في مجالسِ القومِ، وفي مواقفِها كلَّها، جِدِّها وهزلِهَا.
وفي الوقت الذي أزهرت فيه نجيمات الشعر الحر في باقي أصقاع العرب، ورأى غارسو ياسمينته ثمار تجديدهم في حياتهم، وحين كان السياب يصيح بالمطر، ونازك الملائكة تخطُّ كلماتها التي ستثير الجدل طويلا من بعد، وحتى بعد ذلك، حتى مع فدوى طوقان وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل، كان الشعر العماني مازال مستظلا بنخلتِه العريقة، نخلةِ العمودِ وفيء الكلاسيكي، وكان شعراء القرن العشرين في أرجاء عمان ينظمون قصائدهم على عَروض الخليل العُماني، ولعل الثلاثين سنة الأخيرة من القرن العشرين زعزعت جذور تلكم النخلة، وساءلت مواءمة ذلكم الفيء للعصر، فبزغت الأصوات الجديدة ودخلت القصيدة العمانية حقبة أخرى من الدهر.
ولكن بقي من الشعراء العمانيين من تمسك بعموده تمسك المؤمن بعقيدته، ودارت سجالات، وسُجِّلَت شعارات، وكلُّها لا تعنينا في هذا المقام، وإنما يعنينا أن نبسط بعضا من صفحات هؤلاء الشعراء، وشيئا من ذوقهم الشعري مُجسَّدًا في أبياتٍ نختارها لهم، وإن كان بعض شعراء القرن العشرين قد علا صيته، وانتشر ذكره، وصدحت بقصائده حناجر طلبة المدارس، حتى لم يكد يخلو بيتٌ عمانيٌ من دواوينه، كأبي مسلم البهلاني، وعبدالله بن علي الخليلي، وابن شيخان السالمي، فإن هناك َشعراء آخرين، أجلَّهم الناس وأحبوهم، على أن شهرتهم لم تطبق الآفاق، وأغلب قصائدهم أنشِدَت في محافل ثم ماتت بختام تلكم المناسبات، لم يُجمَع لهم ديوان، ولم يبقَ لبعضهم إلا قصائدَ معدودة على البَنان. وربما حظي بعضهم بعد سنين طويلة على موته بمن يجمع أوراقه المتناثرة، ويستنشد حافظي شعره، ويعود للتسجيلات القديمةِ في المحافل، وللأوراق البالية في الدفاتر، فيجمع ديوانه ويحفظ ما أمكن حفظه من الزوال، على أن كثرة منهم لم تُجمع دواوينهم ولم يبقَ من شعرهم إلا القليل، وأملي في هذه الصفحات أن يتعرف القارئ المعاصر شيئا من سِيرهم ويتنشق نَفسًا من عبير شعرهم، على أني لا أحصيهم عددا وإنما أختار وأنتقي، وفي الإشارة غنى عن العبارة.
الشاعر أحمد بن عبدالله بن أحمد الحارثي، شاعر وفقيه وسياسي، لقب بأبي الحَكَم، وبشاعر الشرق. ولد بين عامي 1923 و1928 بالمنطقة الشرقية بعُمان. تلقى دراسته في المضيرب ونزوى على يد كبار علماء عصره، عمل واليًا للإمام محمد الخليلي والسلطان سعيد بن تيمور، كما عمل وكيلا لوزارة شؤون الأراضي، ورئيسًا لهيئة جمع المخطوطات العمانية، ومستشارًا في الديوان السلطاني في عهد السلطان قابوس بن سعيد. شُغِفَ بالأدب، والتفسير والفقه، وعلم الفلك، ولم يُعنَ بحفظ قصائده أو إصدارها في ديوان، ومن أعماله غير المنشورة:
-تفسير القرآن الكريم حتى سورة الشعراء.
– شرح (غير مكتمل) لنونية أبي مسلم البهلاني.
– شرح (مفقود) لقصيدة المقصورة لأبي مسلم البهلاني.
توفي الشاعر أحمد الحارثي في مسقط في 22 سبتمبر 1995، وفي نوفمبر 2014 صدر ديوانه بجمع وتحقيق جوخة الحارثي، وهاكم بعض أبياته:
ويا حبَّذَا منْ مَجلسٍ بعدَ مَجلسٍ
حبيبيَ ساقيهِ وَخِلِّي مُنادِمي
وكُنَّا جميعاً غدوةً وعشيَّةً
على جمعِ شَمْلٍ أنفُهُ غيرُ رَاغمِ
ويارُبَّ ليلٍ مُدجنِ الغَيمِ قاتمِ
سريناهُ وَصلاً في زمانٍ مُلائمِ
وَنازعَني فيه الرحيقُ مُسَوَّرٌ1
يطوفُ بكأسٍ من شَهيِّ المَباسمِ
فأينَ الثُريا طَلعةً من جبينِهِ
ولا البدرُ حُسْنًا مثلُهُ في المَقاسمِ
يقولُ وقد نادَى المنادي ألا اصْبِحُوا
حنانيكَ رِفْقًا بالنُهى والشَّكائمِ2
فَمِلنا سُكارَى من شَمولِ3 صَبابةٍ
ولم نَصْحُ إلا غدوةً في المآتمِ4
وللشاعر أحمد الحارثي قصائد مفقودة، بلغنا خبرها ولم نقع على عينها، كبعض قصائده في الرثاء التي لم يبق منها إلا أبيات نادرة في صدور محبيه وأبناء المرثيين، على أنه له قصائد نُشِرت في حياته، في منابر ثقافية في ذلك الوقت كمجلة الغدير، وفي صحيفة عمان، ومنها قصيدته التي وُسِمَت بالوادي المقدس:
يا ربَّ ليلةِ وَصْلٍ نِلْتُها وَمَعي
منْ حَلَّ من مُهجتي بينَ الحُشَاشاتِ5
بَديعُ حُسنٍ مَليكٌ في الجَمالِ لهُ
عَلى النُّهَى شَنُّ غَاراتٍ وغَاراتِ
حُلوُ الشَّمائلِ ، لينٌ في مَعاطفِه6
يُبدي التبسُّمَ عن غُرِّ الثَّنياتِ
يبيتُ عنديَ أجلُو مِن محَاسنِهِ
كاساتِ خَمرِ المُنَى، لا خمرَ حَاناتِ
فلمْ أَزلْ هكذا والحُبُّ يظهرُ بي
حَتى بلغتُ من القُربَى بغَاياتِ
هناكَ حصَّنتُ نفسي بالعَفَافِ ولمْ
أؤثرْ هَوايَ عَلى هَدْمِ الدياناتِ
يا نفسُ وَيحكِ جِدِّي مَا إذا اختلفَتْ
فيكِ الأسنَّةُ7 والقيهَا بَعزماتِ
لا تُطرقِي كَطروقِ الأُفعوانِ عَلى
بطائنِ السوءِ في خُبثِ الطَّويَّاتِ8
فالأمرُ حَانَ ومِنْ حَانِ الوَفَا اغتَبِقي9
بعدَ اصطباحِكِ10 من كأسِ الكَراماتِ
ولقد كان نبض الشاعر مصغيا لنبض إخوانه في كل أرض، وإذ حلَّت النكبة بالعمانيين في زنجبار نجد له شعرا يقطر أسى، وهذه الأبيات من قصيدته – التي تستدعي سينيتي البحتري وشوقي- التي قيلت في ما عُرف بالثورة في زنجبار، وأدت إلى مذابح أليمة للعمانيين عام 1964، وهي الثورة التي أطاحت بالسلطان ذي الأصل العماني جمشيد بن عبدالله وحكومته العربية، وبلغ عدد القتلى من المدنيين أكثر من عشرين ألف شخص:
أتأسى وأيُّ شيءٍ يُؤسِّي11
عِيلَ صَبري وضِقْتُ ذَرعًا بنفسِي
ما ضَياءُ النهارِ عندي بِمُسلٍ
ودُجَى الليلِ بالهموم يُمسِّي
أَدِرِ الكأسَ يا نَديمي شِمَالًا
جَلَّ ذا الخَطبُ عن نَديمٍ وكأسِ
إنها رَوْعَةٌ تطايرَ منهَا
طائِشًا عقلُ كلِّ لُبٍّ مُؤسِّي
عِيلَ صَبري وضلَّ عنيَ رُشْدِي
وتحيَّرتُ بين طَيشٍ وكَيْسِ12
لستُ أدري وَلَيتَ لو كنتُ أدري
عن غُراب في الأرضِ يبحثُ رَمْسي13
وَغريبٍ وقوعُهُ في رُبى الدَّوْحِ
وتَنْعَابُه بِرأسِ الدِّرَفْسِ14…
صَاحِ، حَدِّثْ عَسَى حَديثُكَ يُطفي
للهيبٍ أفنَى شَراسِيفَ15 نَفسِي
أتَرَى بَارِقًا يلوحُ سُهَيلًا16
هلْ سَقَى غَيثُهُ مَرابِعَ أُنْسِي
أمْ سَحابٌ قد أخْلفَ المُزنَ رَاجِيـ
ـهِ برجزٍ وصَيِّبٍ17 إثرَ رِجْسِ
صَاحِ، باللهِ أين تلكَ الرَوابي
مَا لها بُدَّلتْ بمَحوٍ وَطَمْسِ18
قِفْ بنا نَبْكِهَا مَعاهدَ صِدقٍ
ولنُقِمْ مأتمًا بأعدادِ خمسِ
في طُلُولٍ كأنها وَهْمُ حِسٍّ
ورُبوعٍ كأنها وَحْيُ طِرْسِ19
ومن قصائد أحمد الحارثي الرقيقة، التي تمتح من جداول الشعور المرهف من جهة، وروافد القصيدة الكلاسيكية في التراث العربي من جهة أخرى ، قصيدة شذا الأرواح:
أسوانحُ الخطَراتِ مِنْ ذِكرَاكِ
وشذَا المراشِفِ من عبيرِ لَمَاكِ20
أم ذا خيالٌ سَاقَهُ طيفُ الكَرَى
سَحَرَ الصبَا ومُولَّعٌ بهواكِ
فتنفَّسَ الصُّعَداءَ من جَمْرِ القَضَا
واستنشقَ الأرواحَ من ريَّاكِ
وتنوَّرَ الأضواءَ مِنْ نَارِ الحِمَى
قبسًا يشعْشعُ عن ضِياءِ سَناكِ
وبأيمنِ العلمينِ لي شجنٌ إذَا
جنَّ الدُجى حَنَّت بهِ أسلاكي
والساكنينَ بذي القضَا من أضلُعي
والواردينَ عيونَ صبٍّ بَاكي
هلاَّ رحمتُم مُغْرَمًا بهواكِمُ
وأسيرَ حُبٍّ مَالَهُ بفكاكِ
ونديَّةُ الأحشَاءِ من عَرفِ21 الصَّبا
مسكيِّةُ الأردانِ22 مِنْ أنداكِ
هبَّتْ فهاجَ من البلابلِ وجْدُها
وسَرتْ فطابَ نسيمُهَا بشذاكِ
يا جَارةَ الوادي اسجعِي وترنَّمي
شدْواً يهيبُ بمسمَعَيْ مُضناكِ
هَلاَّ تَبلْتِ سوى فؤادِ مُتَيَّتمٍ
وشغفتِ إلا مُغرمًا بهواكِ
هذا سَميرُ دُجى الصبابةِ والَجوَى
والنجمُ سَارٍ في ذُرَى الأفلاكِ
ونَجِيُّ أشواقٍ يُبعثَرَ شَجوَهُ
وُرْقٌ23 سَجَعْنَ على غصونِ أراكِ
ونديمُ أحزانٍ كَحَلْنَ جفونَهُ
أرقًا وصبغُ الليلِ في أحلاكِ
وتردّدُ الزفراتِ في أحشَائِهِ
كتجاوبِ الأوتارِ في الأسلاكِ
ذكرى لأيامٍ خَلَتْ في سَالفِ الـ
أيامِ حيثُ الشملُ في استِمسَاكِ
فتقطَّعَتْ تلك العُرَى عن خُلَّةٍ24
بانوا عليَّ ولات حينُ دراكِ
وتحدُّرُ العَبراتِ من أجفَانِهِ
كالدِّيمةِ الوطفَا لفرطِ هواكِ
وتجلُّدي ما ضَاقَ ذرعًا بالتي
هي أعظمُ الأهوالِ في الإرباكِ
لكنني قد ضقتُ ذرعاً أنْ أرَى
مُتجلِّدًا في الحبِّ مَنْ أغواكِ
يا مَن تبدَّى مُقبِلاً والشمسُ مِنْ
إشراقِ طَلعتِهِ على إدراكِ
أمَلي وما أمَلي سوى أنتُمْ فَهَلْ
مِن رجعةٍ تقضي بها أهواكِ
وعسى نسيمٌ أنْ يَهُبَّ بوعدِكُمُ
فتدبَّ في روحِ الهوى ريَّاكِ
وإذا شَذا الأرواحِ مرَّ بأرضِكُمْ
فعلى فؤادي جرَّ بردَ صباكِ
ونوازعُ الأشطانِ25 ما أزعَجْنَني
إذْ لستُ أخلُو من هَوى ذكراكِ
رُحماكِ صفحًا عن جنايةِ مُفلسٍ
في الحبِّ إلا من ديونِ غِناكِ
وَرَدَ الهَوى صفوًا فأصدَرَ عن جَدَا26
اعرفانِكم مستحقبًا بذراكِ
وعلى السَّماكِ وصاحبيهِ مُعرِّجٌ
يرجُو به فوزًا من الملَّاكِ
فلتُحِي هِمَّةَ عاشق مُتألهٍ
في الحبِّ لا يرجو الهوَى بسواكِ
ومن الشعراء المجيدين في عُمان، الذين أبدعوا في كل فن، وأجروا خيول أذهانهم في كل مضمار، جمعة بن سليم بن هاشل بن سالم الخنجري. ولد في بلدة «المضيرب، حوالي 1871، وفيها قضى حياته المديدة، وفيها مات، وقد سافر إلى زنجبار عدة مرات وحج بيت الله الحرام. تردد الشاعر جمعة الخنجري على حلقات الدروس في المساجد، فدرس القرآن الكريم، والتفسير، والفقه، والنحو، والشعر، وافتخر بكونه عصاميا في طلب العلم. كان له اهتمام بالزراعة، فاقتنى عددًا من المزارع في بلده وفي غيره، وفي جزيرة زنجبار حين انتقل إليها، وكان خطه جميلاً ونسخ العديد من كتب نورالدين السالمي. توفي في يناير 1949، لم يُجمع شعره فلم يُنشر له ديوان.
تهلَّلَ لـيلـي بـالـحـبـيب الـمـــــــواصلِ
سـروراً أمـال العطفَ مـن كل مـــــــــائلِ
تعسَّفَ مـومـاةً بـهـا قـائفُ القطـــــــــا
يضلُّ بـه استتبـاع إثْر الـمـنـــــــــاهلِ
دعـاه إلـيَّ الشـوقُ والـتَّوقُ والــــــــذي
يحـاولُه مـن رغمِ واشٍ وعــــــــــــــاذل
فتـاةٌ هـي الشمس استقـلَّتْ بقــــــــــامةٍ
إلـيّ كخـوطِ الـبـانةِ الـمتـمـــــــــائلِ
فكـان سـرور الـوصل أحسنَ قـاعــــــــــدٍ
إلـيَّ وغَمُّ الهجـرِ أفلجَ راحــــــــــــــل
فـمـا كـان إلا أن جـمعتُ جـوانـبـــــــي
عـلـيـهـا عـنـاقـاً فـاستـوتْ مـــنه داخل
وقـد شكرَتْ فعـل النـوى بعـدمـــــــا شكتْ
لأن النـوى أفضتْ بنـا للـتــــــــــواصلِ _
وقـد دار كأسُ الأنسِ مـا بـيـننـا عــــلى
تضـوُّعِ عـودٍ بـالـمسـرَّة قـــــــــــــائلِ
إلى أن أشـاب الفجـرُ نـاصـيةَ الــــــدجى
ونصَّل داجـي صـبـغهـا بـالـمـنــــــــاصلِ
أسـالـتْ عـلى الخدِّ الأسـيل مدامعـــــــاً
كطلٍّ عـلى غضٍّ مـن الـوردِ هـامـــــــــــلِ
وقـد خطرتْ للـمـنحنى وتـــــــــــــوجهتْ
وكـانـت بـه مـن أضلعـي فـي مـنــــــازلِ
وللشاعر جمعة الخنجري مراثٍ شهيرة، تناقلها الناس بالرواية، إجلالا للمرثي والراثي، وإحياء لفن قديم عند العرب في الاحتفاء بشفاهية الشعر ونبرته الخطابية، ومنها مرثيته في حمد بن حميد بن عبد الله الحارثي:
ما بَعْدُ موتِكَ من سرورٍ يا حَمَدْ
للعالمين سوى التَحَسُّرِ والكَمَدْ
ما كنتُ أحسبُ قبلَ نعْشِكَ أن أرَى
جَبلًا يُسارُ به وتتبعُهُ البَلَدْ
فكأنه الحَشْرُ العظيمُ ونارُهُ
نِيرانُ فَقْدِكَ في الجَوانحِ والخَلَدْ27
خَرجُوا به يَمشونَ هَوْنًا والأسَى
قَد قامَ في هذا، وفي هذا قَعَدْ
مِن كلِّ مُنخلِعِ الفؤادِ برأسِهِ
أثنَى يدًا وبصدرِهِ قد ضَمَّ يَدْ
فاحتلَّه فحَوَى سماءَ فَضائلٍ
فَسَمَا وكلُّ النيِّراتِ28 به تَقِدْ
ثم انثنَوْا وأكُفُّهُمُ صُفْرٌ وقَدْ
مُلِئتْ قلوبُهمُ بهِ حزنُ الأبَدْ
عرفوا حقيقةَ قَدْرِهِ بمماتِهِ
والشمسُ بعد غروبِها قد تُفتقَدْ
طُرِقوا بأعظمِ فَادحٍ من حادثٍ
بمُصابٍ مفقودٍ له فُقِدَ الجَلَدْ
لو حَلَّ بالجبلِ الصَّلُودِ29 أذابَهُ
والبحرُ ذَوَّبَهُ وصَيَّرَهُ جَسَدْ
أو حَلَّ بالجوزاءِ حَلَّ نِطاقَها
والنجمُ نَثَّرَهُ وبدَّدَهُ بَدَدْ
ولقد عُنِيَ الشاعر جمعة الخنجري- الذي كان إلى شعره الرقيق هجَّاءً «عداوته بئس المقتنى» على رأي المتنبي- عُنيَ بجمع الكتب، وعدَّها من نفائسه النفيسة، فكوَّن مكتبة ضخمة، ضاعت بعد موته، وتبددت، كما تبددت قصائده فلم يبق منها إلا القليل مما حفظته المجاميع والكراسات، ومن أحدها انتقيتُ هذه الأبيات:
وغررٍ من أوجهٍ إذا بدَتْ ليلا
محَتْ بصبحِها غيونَه
تبدو بقاماتٍ يميلُ عطفَها
طراوةُ الشبابِ واللدونة
بروضةٍ تميسُ من صَوبِ الحَيَا
وذوقها كشاربٍ زرجونَه30
إذا جرى الريحُ عليها
عطَّرَتْ قميصَه وطيَّبَت ردونَه31
إذا ذكرتُ ما مضى أورى
الجَوى بمهجتي وكبدي المحزونة
ومن الشعراء العمانيين المخلصين للنَفَس الكلاسيكي، الذين اشتُهروا بسائر أعمالهم في الفكر والتاريخ لا في الشعر، الشاعر محمد الملقب بالشيبة ابن نور الدين عبدالله بن حميد السالمي، ولد عام 1896، كان له دور مهم في الأحداث السياسية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين بعمان، كانت علاقاته ممتدة من أقاصي عمان إلى إمارات الساحل ودول الخليج كعلاقاته بآل سعود، وآل مكتوم، وآل صباح وأمراء الخليج إلى أقاصي الجزيرة العربية وأقطار الوطن العربي، هذه العلاقات المتناهية شكلت ضربا من ضروب التواصل السياسي والاجتماعي ليس للشيبة وحده بل لعمان، كما ارتبط الشيبة بعلاقات مع العلماء المستشرقين، من أمثال جورج رانس وملقن ومايلز. لمحمد السالمي كتاب نهضة الأعيان بحرية عمان، كما أسس مكتبة السالمي في بدية، وهي من أعظم المكتبات الخاصة بعُمان. توفي في ديسمبر 1985، ومن شعره:
ما جالَ بَعدكِ لحظي فـي سَنا
أحدِولا تجمَّـع بِـالأغيـارِ مُـنفردي
وَلـمْ يَطُل بَعْدَكُـمْ ليلي عَلـى
أَسفٍإِلا عَلى دُمْيةٍ فَرَّتْ مِنَ الرَّصَدِ
قَدْ خَامَرَ الْقَلبَ مِنْ تِذكَارِكُم
أَسفٌكَأنني مِنْهُ فِي سِجْنٍ وفِي صَفَدِ
يا ربةَ الحسنِ عطفًا بالفؤادِ وهل يا أعينَ المزنِ من فيضٍ ومن مددِ
إني لأحفظ سرا لا يُذاعُ ولا
يدريهِ غيري وغير اللهِ من أحدِ
إذ للنسيمِ اعتلالٌ في أصائلهِ
كأنه رقَّ لي فاعتلَّ بالكمدِ
والجو صافٍ وقد رقَّ الشرابُ لنا
والروض ألبس أطواقا من البردِ
والحبُّ منبسطُ الآمالِ ذو ثقةٍ
بالزائرِ الصبِّ يخشى طارقَ الحسدِ
وقامَ يختالُ تيهًا أثقلته صنوفُ
الحلي عجبًا بلا خمرٍ ولا سهدِ
لبيكَ يا لحظةَ الجاني على كبدي
هلا ترقَّ إذا ناديتُ واكبدي
ولم يصدر للشاعر محمد الشيبة ديوان، فما أُثِرَ عنه لا يتعدى قصائد قليلة، غير أن كتابا نُشِر عن حياته مؤخرا؛ وهو كتاب «الشيبة أبو بشير محمد بن عبدالله السالمي»، وقد صدر في أربعة أجزاء عن دار رياض نجيب الريس اللبنانية، وقد خصص المؤلف محسن الكندي الجزء الأول لسيرة حياة «الشيبة» أما الجزءان الثالث والرابع فقد خصصهما للوثائق والمراسلات، بينما خصص الجزء الرابع للأدبيات والصور. ومما قاله:
لحى الله دهراً شردتني صُروفهُ
عَنِ الأَهْلِ حتى صِرتُ حَيرانَ بَالِيا
كَأنِّـيَ لَـمْ أَسْكُـن إلـى ظِـلِ نِعمةٍ
تَقــرُّ بِهَـا عَينــي ويَرضــى فُـؤَادِيا
كَأنِّي لَـمْ أُكـرِم صَديقاً وَلـمْ أُهِنْ
عَــدواً وَلَــمْ أَستُــرْ مُسيـئاً وَعَـارِيا
كَأَنْ لـمْ تكُـنْ أَيامُ عَيْشِيَ
غَضَّةً وَأوجــهُ أيَّــامِ الـسُّــــرورِ تِـجَـاهِيا
فَيـــا أَرْبـــع آهــاً وإيــهٍ وآهــةً
لتشفْــي جَــوى كـرَّتْ عَليهِ الَّليالِيا
ومن شعراء الفقهاء سعيد بن عبدالله بن غابش النوفلي الحبشي، ولد في بلدة ودام الساحل من منطقة الباطنة عام 1911، وتوفي في ولاية إبراء من المنطقة الشرقية عام 2002. عاش الشاعر سعيد الحبشي في عمان وزنجبار. تلقى تعليمًا تقليديًا عن علماء بلاده، وبخاصة القرآن الكريم وعلومه في المساجد ومدارس القرآن الكريم. عمل معلمًا لمادة التربية الإسلامية في مدرسة المتنبي الثانوية. نُشِر ديوانه بعنوان«وحي القريحة» عن دار جريدة عمان للصحافة والنشر عام 2000. ومن مؤلفاته غير المنشورة كتاب بعنوان «قطوف البلاغة في وضوح الاستعارة» وهو مخطوط بمكتبته.
شاعر واعظ داعية، يتنوع شعره بين المديح النبوي، ومدح أعلام زمانه، والرثاء، ويحتل الحديث عن الموت والتذكير به والدار الآخرة وما ينتظر البشر فيها مساحة كبيرة من قصائده، ومنها قصائد الرثاء التي يستهلها غالبًا بتأملات في الحياة والموت والتذكير بيوم القيامة، والدعوة إلى الإعراض عن الدنيا، في قالب حكمي يميل إلى الموعظة:
مضى لسبـيل الفَنـا الأوَّلـونــــــــــــا
ويـمضـي عـلى نهجِهـم آخرونـــــــــــــا
تبـيـد الخلائقُ جـيلاً فجـــــــــــــيلاً
إذا وجـب الرَّحـل لا يُمهَلـونــــــــــــا
فسـاروا وشطّوا الرحـيل فـنـامـــــــــوا
متى غادروا الـدارَ لا يرجعـونــــــــــا
تسـير الظُّعـونُ بنـا مسـرعـــــــــــــاتٍ
فحـادي الـمـنـونِ يسـوق الظّعـونــــــــا
فإنـا خُلقنـا لأمـرٍ عـظيـــــــــــــــمٍ
وخطبٍ جسـيـمٍ يـقـدُّ الـوَتـيـنـــــــــــا32
خُلقنـا بـدار هـوًى وهــــــــــــــــوانٍ
فتزهـو لنـا فلهـا عـاكفـونــــــــــــا
خُلقنـا بـدار الفَنـا لا محــــــــــــالٌ
سخطْنـا بذاك الفـنـا أم رضـيـنـــــــــا
وهكذا مدار أبيات الشاعر سعيد الحبشي في الوعظ، وفي آداب النفس البشرية والبحث عن الحكمة في الحياة. وقد نشر حمود الطوقي دراسة في شعره عام 1994 بعنوان «البلابل: قراءة في شعر الشيخ سعيد بن عبدالله بن غابش الحبشي»، وللشاعر:
ضلّ السبـيلَ مُجِدٌّ فـي الغوايــــــــــــاتِ
ومُلـبِسُ النفس جلـبـابَ الخمــــــــــالاتِ
وسـاقطٌ فـي مهـاوي الجهل مـلـــــــــتبسٌ
مـلابسَ السـوء فـي زيِّ الـبطـــــــــالات
ومُجتـنٍ مـن ثـمـار الـبـغـــــــي كلَّ أذى
لكـي يؤدِّيـه فـي جسـر الـــــــــــمضرّات
فللـدَّنـيءِ خـصـالٌ لـيس يألفُهـــــــــــا
مهـذَّبُ النفس مـصحـوبُ الـمـــــــــــروّات
مـن أحـزم الرأي إن جــــــــاراك ذو سفهٍ
صـيـانةُ النفس عـن أهل السفـاهــــــــات
فـالنفسُ إن صُنـتهـا عَمّا يـدنِّسهـــــــــا
تأتـي إلـيك بأنـواع الـمســـــــــــرّات
وإن طلقتَ هـواهـا فـي مـلاعبـهـــــــــا
تـرعى وخـيـمًا وتـرضى بـالـمعـيبــــــات
فصـيِّرِ النفس للـتقـوى وكــــــــــنْ ورِعًا
فلا تغرَّك أيـامُ الـبطـــــــــــــــالات
أما الشاعر أحمد بن حمدون بن حميد الحارثي، فلم يُجمع شعره ولم يصدر ديوانه، على الرغم من شهرته بين مجايليه، فهو فقيه وشاعر، ولد حوالي 1906 في المضيرب من منطقة الشرقية بعُمان، نشأ في بيت علم وشرف، وتعلم عند الإمام الخليلي والشيخ عبدالله بن عامر العزري، عاش في زنجبار مدة طويلة متوليا منصب الإفتاء، حتى هاجمه اللصوص فقتلوا زوجه وأحرقوا مكتبته النفيسة، فمات كمدا في مايو 1965م، وكان بينه وبين عديد من الشعراء مساجلات شعرية، ومن مختارات شعره:
تنبَّــه سَمِيــري لِهــذا الخبر
نَسيمُ المُضَيْرِبِ هَبَّت سحَرْ
تـُذَكرنــي بِــمَحَـلِّ الجِيــــادِ
وَتـبْهِجُنـي بِـشَقِيــــقِ الـقَمَرْ
بمَن مَطْلَعُ الشَّمْسِ مِن وَجْههِ
وَمِـنْ فمِـهِ قَـدْ يُرِيـكَ الدُّرَرْ
لهَـوْتُ بِـه فِـي زَمـانِ الصِّبا
وَأسْكَنْتُهُ فـي سُوَيْـدا البَصَرْ
مَضَى ما مَضَى وانْقضَى مَا انْقضَى
وَعَنْـهُ عَدَلْــتُ لِتَقـوى الأَبَرْ
ولهذا الشاعر- الذي كان متوخيا لبذور المواهب الشعرية عند شباب الشعراء راعيا لهم – أبياته الرقيقة:
نسمـةُ الــودِّ سَقتنـا صـــرفَهَا
مـِن عَصيــرٍ لـــَمْ يشابِهْ عِنَبا
فانْتعشنــا يَــومَ دَارتْ أَكْؤُسـًا
وَحَلى الذَّوْقُ وَساغتْ مَشْرَبا
وَأَتـَتْ تَنشُـرُ عُـذراً للرِّضــى
خَشْيـَةَ السخطِ لَدى مَن عَتبا
لا وَربِّ العَرشِ مَا سخط بَدا
أَنتَ مـَنْ نَهوَى حَبيباً مُجْتبى
الهوامش
1 رحيق مسور: الرَّحيقُ: الخَمْرُ، أو أطْيَبُها، أو أفْضَلُها، أو الخالِصُ، أو الصافي، وقيل: الرَّحِيقُ صَفُوة الخمر. الـمـُسَوَّر: سَوْرَةُ الخمرِ: حِدَّتُها وحُمَيّاً دبيبها في شاربها.
2 الشكائم: الشَّكِيمةُ: الأَنَفَةُ، والانْتصارُ من الظُّلْمِ. والمقصود في البيت: النفوس الأبِّيَّة.
3 شمول صبابة: الشَّمُول: الخَمْر لأَنَّها تَشْمَل بِريحها الناسَ، وقيل: سُمِّيت بذلك لأَنَّ لها عَصْفَةً كعَصْفَة الشَّمال. / الصبابة: البَقِـيَّة اليسيرة تبقى في الإِناءِ من الشراب.
4 فقد الشاعر بالموت أكثر من زوج له، ولعل الإشارة هنا لهن.
5 مفردها حُشاشة وهي بقية الروح.
6 مَعاطِفُ: جمع عِطف على غير قياس، والمقصود جوانب الجسم.
7 الأسنة: جمع سنان للرمح.
8 الطَّويَّات: جمع الطَّوِيَّة، وهي السريرة أو الضمير، وفيها معاني الإخفاء والإضمار، خيراً أو شراً على السواء.
9 اغتبقي: من الغَبُوق وهو شرب آخر النهار، مقابل الصَّبُوح، ويكون من اللبن عادةً.
10 اصطباح: من الصَّبوح وهو الخمر يُشرب صباحاً.
1 يُؤسِّي: معناه يداوي ويعالجُ، ومعناه يُعزِّي.
2 كَيْسُ: تَعَقُّلٌ وتَوَقُّدٌ وتَظَرُّفُ.
3 رَمْسُ: الرَّمْسُ: الصوت الخَفِيُّ. ورَمَسَ الشيءَ يَرْمُسُه رَمْساً: طَمَسَ أَثَرَه. الراء والميم والسين أصلٌ واحدٌ يدلُّ على تغطيةٍ وسَتْر.
4 الدِّرَفْسُ: البعيرُ الضخمُ العظيمُ.
11 شَراسِيفُ: أطرافُ الضلوعِ المغروزةُ في عَظْمَةِ الْقَصِّ في وسطِ مُقدمِ الصدرِ.
12 سُهَيْلُ: اسم نجم أو كوكب.
13 صَيِّبُ: مطرٌ منهمرٌ متدفقٌ. الرجز هو تَحَرُّكُ السحابِ بطيئًا لكثرةِ مائِهِ.
14 طَمْسُ: الطَّمْسُ هو استئصالُ أَثرِ الشيءِ، وهو المسخ، وهو المحو.
15 طِرْسُ: الطِّرْسُ هو الكِتابُ الـمَمْحو الذي يُسْتَطاعُ أن تُعادَ عليه الكِتابة.
20 اللمى: سمرة في الشفة تُسْتَحسَن.
21 عَرف: الرائحة.
22 الأردان: جمع رُدُن وهو أصل الكم، وقيل الكم كله.
23 ورق: جمع ورقاء وهي الحمامة.
24 الخُلَّة: الصديق من الذكر والأنثى.
25 الأشطان: مفردها شَطَن وهو الحبل، وتُستعار للحياة.
26 الجَدَا: المطر والعطاء.
1 الْـخَلَدُ: البال والقلب والنفس، وجمعه أَخلاد؛ يقال: وقع ذلك في خَلَدي أَي في رُوعي وقلبي.
2 النَّـيِّراتُ: الشمس والقمر وسائر النجوم والكواكب.
3 الصَّلُودُ: الصُّلْبُ الأَمْلَسُ.
30 زرجونه: الكَرْم، ويقصد بها هنا الخمر.
31 الرُّدْن: أصل الكُم.
32 الوتين: عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه.
————————————
جوخة الحارثي