أبرْقٌ هذا الذي يلمع في
الفضاءِ الموحش؟
أم ذئبٌ روّع القطا
قرب الغدير، فتطايرتْ
كوابيس أحلامه
في مهبّ الرياح؟
* * *
أحييك تحيّة الصباح اللكسمبوري، حيث تشرئب الحدائق والأشجار بأغصان وأعناق سماويّة. التماثيل تسرد رحلتها الطويلة من شغف المعرفة وبطش الحياة. بودلير يتحدث عن ضفاف موتى صاخبين في سطوع القمر والنبيذ. فاليري، يستوطن مقبرته البحريّة حيث لا عزاء للأحياء إلا بالتآخي والانحلال في حيوات الطبيعة الخالقة.
وحدَها عصافير الدوري والبط تترحّل بين الأزمان حُرة طليقة، تسرج القارات بنشيد سفرها الذي لا ينقطع.
صديقك أندريه بريتون، يفتح نافذته للصدفة كي تدخل منها امرأة أو موجة تعبر المحيط.
الأمير عبدالقادر الجزائري يتلو وصاياه على المقابر، المكتظة التي خلفتها حروب الأهل والغنيمة..
فيلة أفريقيّة وآسيويّة تتسكع بين أدغال الحديقة تحمل رعود طفولاتها تلك التي تصرمت من غير أمل في عودة ووئام. وَحْده، أندريه بريتون يصرخ وهو يمتطي أحد الفيلة «مزقوا كل تلك المواثيق التي وقّعناها في غياب الحلم».
لقد استفدت من بريتون أكثر من غيره، رفضه المطلق لحياة البؤس تحت أي ضغط واقعي وظرف.. الخيال والحلم ملاذ الفرد من بؤس الواقع والتاريخ. رغم اني لا أتخيل في أي ظرف ومرحلة ، بؤساً في باريس يقارب ولو على مسافة كبيرة، واقع البؤس العربي، حتى لو كانت تحت جحيم القصف النازي.. وكما كنت تردد للمتنبي..
(هَوِّن عَلى بَصَرٍ ما شَقَّ مَنظَرُهُ
فَإِنَّما يَقَظاتُ العَينِ كَالحُلُمِ)
معنا في بلاد العرب والعجم كل شيء يشق منظره، فأنت من البيت والعتبة، إلى كل التفاصيل والتضاريس، إذ لا جوهر هناك، تكابد مشقة النظر والنظرة والرؤية، المشقة والشقاق المريع.
في هذا المستنقع الهمجي كل شيء يدعو للمشقة والشقاق والانشقاق وكذلك البكاء المرير والضحك الهستيري القاتل أكثر من البكاء، إذ أن الدموع تظهر أحياناً وتشفى..
قادر بوبكري، اقتلعت جسدك، مثل كثيرين، من صحراء الجزائر ميمماً نحو باريس، عانقت أشباح الأسلاف الآفلين، من غير أمل ولا يأس، عدو الثنائيات أنت والاختزالات البلهاء. من نافذة الطائرة، حدقت في غيوم تلتف وتتلوى مثل أفاعٍ هائجة في فراغ السديم، في بركان المغيب: قلت هذه هي الأبدية التي تحدث عن غموضها الفلاسفة والأناجيل.
كم من الأزمنة انقرضت، وأنت تحرث المدينة أفكاراً ومكاناً كأنما تطارد حلماً هرب منذ ولادتك في الصحراء ولن يعود إلا بعد الرحيل الآخر والموت. كم من الوقت مضى، ثلاثون، خمسون عاماً، أنت ممتطيا حصانك الذي جمعت أشلاءه من قارعة الطرق لتمخر به ليلَ المدينة العصي، ونهارها. عاشرت الكتب أكثر من البشر وذهبت في نأي العزلة بعد أن شاهدت القطيع يوغل في انحداره المقيت، وتمثلت قول البحتري:
صُنتُ نَفسي عَمّا يُدَنِّسُ نَفسي
وَتَرَفَّعـتُ عَن جَدا كُلِّ جِبسِ
لم تعد صحراؤك الأولى يا بوبكري، لأنك أغلقت بواباتها السبع، قذفت المفاتيح في أحشاء وعلٍ نَحره الأقدمون قرباناً لإله غامض.
صحراؤك يا قادر بوبكري مثل صحرائنا العربية، الربع الخالي، الذي تفوق مساحته الجغرافيّة مساحة فرنسا التي تسكنها، كما سكنتْها الحضارة العظيمة منذ البدايات الأولى لميلاد الحداثة أو الحداثات.. بادية الشام والعراق، رحلت مع سكانها الأصليين، ولم يتبق إلا رفات ذكريات للموتى والراحلين والأطلال. وتلك الأشكال والرسوم والتماثيل، التي تنحتها وتسفوها الرياح الرملية المتحوّلة على الدوام.
آه على الذين رحلوا قبل الأوان أو فيه، رحلوا في الأماكن المتشظية أو إلى رحاب الأبدية.
صحراؤك الجديدة تمخر عبابها بحصان هزيل، صُنع من عجلتين وغيمة، تدلف الطرق الملتوية بين الشاحنات العملاقة والقطارات.
تدلف الحانات والمكتبات ولا تتورع عن سرقة الكتب لأنها وُضعت بعد كدح طويل، لمن يقرأها وليس لمن يقتنيها كديكور من كماليات المنزل والاستقرار، ولا أصدقاء كي تذهب إلى بيوتهم ونواديهم، صادقت الشجر والحمام، جيوبك مليئة بالأرز والحبوب، كي لا تبقى في باريس حمامة جائعة.
ما حاجتك إلى البشر، فحين يأزف أوان رحيلك عن هذا العالم، يكون الأوان قد فات، وترحل باصقاً على هذا العالم، كما يعبر صاحبك (أبي قور) وتكون قد أنجزت مهماتك الرمزية في القتال الضاري، ضد الزمن والقدر وانحطاط التاريخ. سترحل مردداً أنشودة نصر مجيد:
(لقد عشنا حياة طيبة)..
وسيمضي في الموكب الملكي، اليمام وأطياف الشجر والعصافير وكذلك السناجب والمشردون مرددين بفرح لقد عاش بوبكري ورفاقه حياة طيبة.
لقد وصلت إلى خضمّ السبعينيّات وما زلت على نضارة وصحة جيدة. صلابة جذور الصحراء بشراً، حيواناً وأشجاراً تغالب حتفها وسط العواصف وتحولات الرمال الهائجة فأنت لا تعترف بالمرض كواقعة فيزيانيّة وتعزوه إلى الوهم.. هذا أيضاً جذر ينتمي إلى الصحراء الآفلة أو على وشك الأفول والهروب من عالم «الحداثة» الخلبيّة وانسان الاستهلاك والوهم والصورة. بسبب تلك الجذورالغوريّة أو بسبب الحرية والزهد ودراجتك الهوائية التي تعانق الموج كل صباح!
لا تعترف بالمرض .. حين أتيت مرة إلى باريس للعلاج من دوخة تطوّح بي نحو الانهيار بين الحين والآخر، عبر صديقنا الدكتور خليل النعيمي. إذ لا سبيل للعلاج لأمثالنا في مدينة مثل باريس إلا عبر التأمين الصحي، أو عبر صديق:
قلت لي ان مرضك وهمٌ كبير وعليك أن تتحرر منه، ليس هناك إلا واقعة الولادة وواقعة الموت. وهذه الأخيرة علينا تأجيلها، ليس لأن هناك ما يستحق الحياة، كما عبر درويش.. وإنما هناك ما يضحكنا في هذه المسخرة المتقنة.
لكني أذكرك (بسيوران) الذي تسكع ردحاً من الزمن في الأماكن نفسها غنياً مترفاً وفقيراً، ضاحكاً وحزيناً، حين يقول «لا سبيل للحوار مع الألم الفيزيائي؟».
هل يمكن الحوار مع الألم الروحي وفداحته؟!
بالنسبة إليك هذه الوقائع والأمور جزء من فنطازيا المهزلة البشريّة.
الأرواح الهائمة في الأفق، أرواح الطيور وأطياف الفكر والغابرين بحفيف عبورهم السريع، هي الوقائع الأكثر واقعيّة وحقيقيّة..
أما أنا فما يرعبني أو ما هو علامة رئيسية في هذه الخضمّات المتمادية، هو المرض، واقعة المرض القاصمة وليس الموت. أن تكون عاجزاً في هذا العالم الوحشي البشع فتلك هي المأساة والاختبار الوجودي الأقسى فنحن في الصحة والحركة والترحل الدائم مع ذلك نغرق في كآبات لا حصر لها. أخاف مفاجآت الجسد، حين يمضي في الخذلان مع تقدم العمر، لكنني على الأغلب أترك أمور تفاصيل الحياة اليومية تمضي في سياقها الاعتيادي وأكابد من أجل أن تمضي هكذا، محاولاً تجنب الوساوس الكثيرة وسلطتها، التي ترمي الواحد منا في هاوياتها البعيدة، والتي هي المرض والمعاناة المضنية عينها..
أخاف الموت والغياب الذي من غير عودة على من أحبّ، وأكاد أقع أحياناً في لجة ذلك الوسواس القهري. لكنني حين أرى أخاً أو عزيزاً وقد بلغ به العجز والألم مبلغاً قاتماً، أقول ان الموت تتمة منطقية إن كان من معنى للمنطق هنا، وأخلاقية ورحمة للروح والجسد إن صحت هذه الثنائية، وربما هي صحيحة بشكل غير جوهري. واذا استأنسنا بابن عربي الكبير، فوحدة الوجود لن نصل إليها إلا عبر المرور بهذه الثنائيات.. بعض الفلاسفة قال: إن الحياة مهزلة لا قيمة لها لو لم تُربط بواقعة الموت الخالدة والأزلية.
الحياة لا تكتسب أهميتها إلا في ضوء ذلك الغموض الميتافيزيقي لرحيل الكائن الحتمي والغياب.
أولئك الذين عرفناهم في الماضي لا نريد أن نلتقيهم بعد فراق طويل جداً، وقد أخذ الزمن والعمر والمعاناة تحفر ندوباً وأخاديد ووهناً في الوجه والجسد، انهم مرآة ذاتنا الغابرة والحاضرة. ان هذه اللحظة المحتشدة بالسنين هي الأكثر حزناً وقسوة، تلك القسوة البالغة التي يتركها تقادم الزمان، يحاول المغترب حين يكون في حضرة الوطن، وما يشبهه وتلك الوجوه التي تغيرت قسماتها، تروي حكايات الماضي، تلك المتعلقة بشقاء طفولة ريفية في ذلك الركن المنسي من العالم تحاول أن تخلق مرحاً وضحكاً منتزعاً من براثن الصخور المسنّنة والأيام. والمغترب بدوره يحاول أن يبدد احتشاد تلك اللحظة، كأن يندمج في جو المرح والذكريات، يراوغ وحش الأعماق والتغير والتصدّع الذي أصاب الروح والمكان.
حتى حدث الموت الماثل والحتمي دوماً هناك محاولة تبديده قصد التأجيل، بالتمويه على الذات والآخر.. منذ فترة رحل صديق، في الواقع الأصدقاء يرحلون تباعاً تاركيننا لوحشة جدار العالم ، والحكاية والذكرى….
حين ألتقي بصديق مشترك ننبري نبحث في الفقيد، عن مبررات موته السريع، آه كان لا يهتم بصحته يأكل الدسم ولا يمارس الرياضة، كان ينسى نفسه في السهر والأكل والشراب…. الخ
كمن يهذي أمام واقعة الموت والفقد، مثلما هذى واضطرب أيما اضطراب ذات دهر، بداية الهواجس والأسئلة البدئيّة الحائرة، جلجامش، أمام جثة صديقه أنكيدو. كأنما الزمن أمام حدث الموت غموضه ورعبه، لم يتقدم آلاف السنين علماً ومعرفة واكتشافات تحاول هتك الغوامض في أسرار الكون حياةً وموتاً.
ليس هناك من منقذ إلا الجمال حسب ديستوفيسكي، جمال المرأة، الجمال الجسدي، والروحي، الجمال الإلهي، جمال الطبيعة الخالقة والمخلوقة، جمال الشعر والأدب. الجمال، الجمال، هو الذي ينسينا ولو لهنيهة، سلطة القبح، والقتل التي تبسط هيمنتها على العالم.
* * *
نهار رمضاني مضجر… ومتى كان توالي الأيام في هذه الصحراء الكونيّة الموحشة، غير مضجر، على الأقل في رمضان، ثمة تحفز روحي منعش بانتظار الإفطار. الماء والتمر الذي ستكسر به صيام يومك الصيفي الطويل الحار. تتذكر آخر اليوم، تلك المقولة الرائعة «إطعام جائع خير من بناء مائة مكان للعبادة» وتقول لنفسك: ما بال القوم يتسابقون في دور العبادة الفخمة، حتى تزاحمت بكثرتها البلاد، مساجد وجوامع بالغة الكلفة والثراء، لكن لا أحد يبني جامعة أو مدرسة أو مستشفى؟!
مناخ شهر في العام يكسر أيامه وعاداته الرئيسية. كل الأديان تلتزم بفروض الصوم وسننه بطرائق وأنماط مختلفة. الأديان التوحيدية قواسمها مشتركة أكثر من الوثنيّة التي تصوم بطريقتها الخاصة. كأنما البشر قاطبة بحاجة الى هذه الوقفة مع الذات ليتذكروا إخوانهم الذين تسحقهم المحن والحروب..
في هذا اليوم أتجول في أركان المنزل وردهاته، أدخل صدفة غرفة العفش والحقائب. ثمة حشرة تتسلق الجدار، مواء قط ونباح كلب في الجوار، وفي الخارج تتكاثف سحب وغيوم تميل الى القتامة والسواد على غير العادة في مثل هذا الفصل. ثمة نُذر بإعصار قادم بدأت طلائعه من المحيط الهندي وبحر العرب حيث أُعلنت جزيرة سقطرى، جزيرة منكوبة، طلائعه تصل إلى المنطقة الجنوبية من عُمان بصلالة. حالة الطوارئ ترفع أعلامها المتدرّجة حتى تصل إلى الأحمر ومنطقة الخطر المخيف. مسقط والداخل الحجري بعيدان عن صلالة. ربما بمنأى عن مركز الإعصار وقوته، لكن ستصل تأثيراته على الأقل سحباً وأمطاراً تلطف لأيام حرارة الصيف الضاربة.
الحقائب في غرفتها بأحجام وألوان مختلفة، نائمة تحلم بالحركة والرحيل، بالطائرات والقطارات، بالمدن والمطارات التي يتجمع في صالات انتظارها المسافرون والغرباء من كل مكان في عالم البشر وبلدانه الكثيرة..
أخال الحقائب في غفوتها الرمضانية، تحلم وتحدّث بعضها أحاديث غامضة عن رحلات قادمة، تسكن فيها بلاد أخرى وترافق حقائب جديدة في الطرق المتشعبة قبل الوصول.
تنشط حركة أحلام الحقائب وترفس بعضها متدحرجة من رفوف الغرفة الى أرضيتها محدثة ارتطاماً صاخباً وفوضى هائلة، كأنما حركة طلائع الإعصار وتغطياته الإعلاميّة التي بلغت شأواً عالمياً صاخباً يفوق حجمه بكثير، أحدثت فيها رغبة ملتهبة بالرحيل والانفصال عن الرتابة والسكينة..
العاصفة المداريّة، التي توشك أن تتحول إعصاراً تترحّل في أرجاء الفضاءات والآفاق الشاسعة، عدواها تصل إلى الحقائب التي أخذت تحلم بقوة بالرحيل.
رجل يسكنُ في حقيبة
رجلاهُ مفارقُ الطرقات
في كل مفرقٍ سماء مكفهرة.
ذات مرة رأى نعاجاً في الأفق
فتذكر جدهُ
أوقد شمعةً في كهف
ظل يطوف حولها
قرناً بعد قرنٍ
حتى تصدع ظلُه
وفاضت أيامه بالدمع.
* * *
لم يبق أحد على أرض المسلمين والعرب خاصة إلا وزايد على القدس وفلسطين، العرب أو بالأحرى الأنظمة العربية منذ كارثة 1948، حيث فُتح هذا المزاد الكرنفالي الصاخب . الأنظمة كل الأنظمة من مشرقها وخليجها الذي سيكون حضوره لاحقاً، أقوى وأبرز إلى مضارب الأطلس الكبير. توزعت الأدوار والحصص كل حسب هاجسه الأمني والاجتماعي في بلده ومتطلباته، ونصيبه من هذه الكعكة المقدّسة ووفق الشعر والأدب الذي ينتظم في هذا السياق (معظمه رديء) لا يرقى إلى التعبير عن ألم خفيف في الأسنان أو صداع رأس عابر، فكيف عن قضيّة تراجيديّة كبيرة بهذا الحجم وهذا الاقتلاع والشتات المريعين.
لكنه كرنفال المصالح ومزاده في افتراس جسد الضحيّة الذي ما زال طرياً يتفجّر دماً وعويلاً وظل كذلك حتى مع تقادم السنين والعقود.
وحدها السلطة الإيرانيّة بثكنة شعاراتها وقيمها الأيديولوجية المتقنة والتي استوت بعد زمن ليس بقصير، استطاعت التفوق على أنظمة العرب في هذا المزاد اللاسياسي واللاأخلاقي.
قُمعت الشعوب الحالمة بالكرامة والإصلاح والحريّة ودمرت إمكانات التنمية تحت شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» أي المعركة ضد الامبرياليّة الكونيّة وربيبتها الصهيونيّة.
وحين ينظر الناظر إلى ما يجري ويمور على أرض الوقائع والتاريخ، يحسب أن المعركة تجري وتحتدم في كوكب آخر، غير الكوكب الأرضي، وطبعاً غير القدس وفلسطين.
الكل تبنى مصيرياً ووجدانياً على نحو تمثيلي، هذا المزاد واندمج مع مزايديه وزبائنه الذين ضجت بهم بورصات السياسة المحليّة والعالميّة.. فلا نرى ونسمع ونشاهد إلا تلك المزايدات بترجيعاتها الجهنمية الباذخة الكذب والادعاء.
حتى الأفراد «المميزون» بالمعنى المادي الكبير المسروق حتماً، والفقر الروحي وصلت بهم المزايدة ليس إلى التبرعات المتبجّحة فحسب، بل أتبعوها بكتابة شعر ينضح بالثورية والفصاحة حد التطرف في التحرير والاستقلال، وإبادة الأعداء، إبادة لا رجعة فيها..
وحدهم أهل القدس وحدهم الفلسطينيون أو معظمهم، لم يكونوا طرفاً في هذا الكرنفال الذي تقمص روح المأساة واستعار شعار القضية العادلة، لأنهم يعيشون التاريخ والواقع في عمقه وقسوة تفاصيله اليومية، ويعيشون الأخطاء الكبيرة أيضا لأنهم في قلب المشهد العاصف وقلب الممارسة النضاليّة لاستعادة الحقوق المغتصبة، إذ من المستحيل تحقيق الأحلام والطموحات دفعة واحدة في ظل الانهيار العربي الشامل، عدا عند أصحاب البازار والمزايدات، منذ السقوط التاريخي المدوي لفلسطين والذي ساهمت فيه مساهمة حاسمة تلك الشعارات والمناورات والأكاذيب.
الرافعة العتيدة لشعار الحق والقضية العادلة، يتكرر بأوجه شتى في زماننا وربما كل الأزمنة والشعوب. المزايدات الكرنفالية التي تسِم هذه المرحلة أيضاً، هي قضية الإرهاب والتطرف، وهو واقع لا شك فيه، لكن بدل تحليل وتحديد جذور أسبابه وشروط الحياة البالغة القسوة والسحق التي ولّدته من حروب وقمع وإذلال، تعمد مرجعيات العالم الكبرى وتتبعها الصغرى، إلى تقديمه مفهوماً وكياناً جاهزاً كأنما نزل بمظلات أو بدونها من مجرات وكواكب أخرى على طريقة بعض الأفلام الهوليوودية التجارية (مارس أتاك) وما على نمطه المعهود، بعض كتاب العرب الأكثر سوءا وانعدام أمانة في البحث ومقاربة الحقائق من أسوأ المستشرقين، عزا الإرهاب وأرجعه إلى جذور الدين الإسلامي لا غيره ، وإلى مراجعه الأساسية من قرآن وحديث!
من هذا المنطلق تكتمل الرؤية العبثية الجاهزة لأهل الكرنفال والمزايدات، وتكون الوليمة المشؤومة في قلب المعايير في رفع شعار الحق الذي يراد به باطل…. الخ. إذ ينخرط في مفهوم محاربة الإرهاب أعتى المجرمين والفاسدين، فيختلط الحابل بالنابل، وتُسحق المدن والشعوب أكثر مما هي مسحوقة تحت آلة هذا المفهوم الغامض.
وكما ذهب المفكر ذو الأصل البلغاري (تودوروف): “الاستسلام للخوف كسلوك غرائزي، والتصدي للإرهاب على هذا النحو يتلبّس صورة الارهاب الأساسي…”.
في المستوى العربي خاصة أضحت هناك حشود من الأوبئة والأمراض من شتى الأنواع المعروفة، وتلك التي لم يعرف اليها العقل البشري الطبي الخلاّق سبيل تشخيص وتسمية، أوبئة ليس أقلها الانفصام الأقصى، وفقدان السمات الفرديّة تحت سطوة مفهوم القطيع الجاهز الذي صاغه بإتقان خبراء التفاهة والكراهيات المتناحرة بما يفوق طافة بشر يقاتلون من أجل حد أدنى من عيش وحياة.
أسارع القول وكما أشرت في هذه العجالة كي لا يتَصَيّد المتصيّدون، أن الإرهاب واستباحة دم الآخر بسبب من دين أو عرق أو مذهب، أو بسبب من خلاف أيا كان نوعه ونوازعه، هو الجريمة عينها في كل العصور وخاصة في عصرنا المفعم بالعقل والاكتشافات والمفاهيم الديمقراطية في الغرب الأوروبي الأمريكي أكثر وعلى الخصوص تطبيقاً وسلوكاً في ضوء أوضاع ونظم البلدان الأخرى.. لكن البداهة العقليّة تذهب أبعد من سحق الآلة العسكريّة الضخمة والبالغة الدقة والتدمير وهي البداهة نفسها التي تذهب إلى أن الظلم المتطرف والاستباحة والفساد هو وقود الإرهاب والتطرف وحقله الخصيب.
* * *
أما ما كُتب في حقل الشعر والأدب حول المدينة أو المدن المحتلة والمنكوبة التي ستكون نموذجاً مبكراً لنكبة مدن وبلدان عربيّة أخرى، فيصل إلى أهرامات وجبال من التفاهة والسطحيّة والادعاء، حتى تقمصت فلسطين وأولى القبلتين خاصة، مقولة محمود درويش التي أضحت شهيرة في تاريخ الأدب (ارحمونا من هذا الحب، من هذا الشعر.. من الطفح المستنقعي الذي هو على النقيض الفظ، من نُبل القضية وجلال المآسي الكبرى التي يحفل بها التاريخ، والتاريخ العربي في هذا السياق وفي البرهة القائمة المتشظيّة التي نعيش).
سيف الرحبي