لف في الشوارع ودار، كان النهار ألقا، ضجيج المدينة يشتت أفكاره فتوغل في الأزقة الفرعية هروبا هن نداءات الباعة .وأشعة الشمس الحامية . وهذا الصيف الذي كان مليئا بطر ما هو طريف وجارح . لذيذ وشاق . زقاق يسلمه الى زقاق يمشي دونما هدف واضح . ولا من فكرة في رأسه يستقر عليها حتى جاء الى باب فخم ، من حديد مشبك . تسيل منه موسيقى عجيبة، لا تسمعها الأذن . لكنها تسري في الجو. تستوقف الأحاسيس ، وكأنها أياد لا عد لها تتشبث به ، فما كان منه الا أن دخل الباب فاذا به يقود الى درج صاعد الى الأعلى ، درج نظيف بلاطه يتلامع كأنه بركة ماء عند استدارته وضعت مزهريات من الفخار فيها نباتات صغيرة زرقاء أوحت له ببهاء المكان ، الموسيقى الخفية تتصاعد تهب عليه من الباب المزجاجي الذي دخل منه ، صالة فسيحة مغلقة من غير شبابيك ، فيها لوحات غريبة مثبتة على جدران بأحجام مختلفة ، قسم مضاء بأ نوار مخبأة في الجدران وقسم معتم .
شجرة تنمو على هضبة لونها أصفر وأحمر والشمس مائلة للمغيب في المقدمة عتمة تتناغم مع الشجرة المعتمة ، شفق بعيد، تتناثر فيه غيوم توهجت حتى يحسبها الرائي جمانا سائلا. نهار في طريقه الى الزوال ، والأشياء في طريقها الى عالم الليل ، أدخل جسده في العتمة فغزاه الرعب فتراجع هاربا الى دعة الموسيقى وألفة الصالة ، من أين يشع النور؟ ورقة من ضوء زهرة شمس ، ذؤابات الشقائق برق في برية . امرأة تلبس رداء شفافا تتطلع الى نافذة ، النافذة متوهجة باللون والرداء أبيض ، انها تقف متأملة مترقبة ، حبيب يمر أم رجل يمضي ضوء بعيد يتخلل الجذوع. شعاع للحاء للب ، للقشرة التي سر عليها العاشقون اسماء حبيبات وهميات . كن أجمل النساء، ثم يخفت الضوء كلما تقدم الى تموز الراعي . عازف الشبابة في حقول القمح . وقد كأن هو نفسه الذي بيعثر موسيقاه في الرسوم وبين الكراسي وعلى بلاط الدرج مد يده وتناول المزمار من بين شفتي المراعي حاول أن يعزف ملله . وحدته أساه فلم يطاوعه لحن أرجع المزمار واكتفى بالنظر . اذ لا خلاص أمامه من متاهة المدينة . لا ملمس للواعي قبل 0عشرات السنين كان راعيا هو أيضا ، ولا يزال الندم يملؤه لأنه لم يتعلم العزف على المزمار . لن تكون حياته كما هي لو تم له ذلك .
اسطورة بابلية أو دينية حول مكان اسمه الجنة تطوف دانية وجوار واثمار وأنهار من لبن وخمرة وتلك الموسيقى رداء حلم لامرأة في الضوء داخل السرير، باب مفتوح وشاب عار يحمل كأسا ضخمة من النبيذ وثمة وجه قادم من الظلام خيانة سافرة ترتشف منك الكأس وتفكر بثان . التوق الى
وكأن تلك المشاهد مقبلات لما سوف يأتي لذلك العناق الأبدي بين الأنثى والمذكر منه تتناسل الشوارع والأزقة والحانات والأردية الملونة وأزهار الحدائق المنسقة وتلك المسمأة مدينة مضاجعة . هي أصل الحياة حمرة في مكان المتواصل دم لحظة ولوج الرجل في المرأة أو لحظة ولوج المرأة في الرجل . نثيث البذار. والضوء الأصفر يؤطرهما كما لو كانا في رحم . انهما جالسان في شعلة من أضواء خضر وبنفسجية وحمر، من أجل ولادة قادمة امتزاج جسدين ومنظر بحري آخر، غيوم في السماء صفراء وبرتقالية كأن شمسا تشرق عليها. أو كأنها شمس شتتها القدم ، ولا جدوى من الدوران في الفضاء، وثمة زرقة للحظة تمر على كرتنا الأرضية ، لحظة خالدة حيث لا يعرف بفيها من أين مصدر النور أهو من السماء أم هن العين الباصرة الرحم نور والشجرة نور وتلك الصخرة الموشكة على السقوط ، من حافة المنحدر، نور هي الأخرى وتلك ينظرها صالة البهاء .
كانت تميس أمامه وكانت الحبيبة في زمن ما. عشتار الراقصة جدائلها تلتف حولها مثل اخطبوط زهرة بنفسج ، مع نشوة وهناك رأس لمغزالة بقرنين طويلين امرأته تمثل النساء أجمع ، لحظة الانتشاء رقص الجسد بشساعة الابتهاج والحرية ، حين تتكسر الأسرار وتتهاوى القشور القديمة المصنوعة من تعاليم وطقوس وممنوعات وأعراف الجسد ضوء غريب بين الأبيض والأصفر والأخضر ، عازف الكمان شارباه لحظة خروج الموسيقى من الجماد روح الوجود. نافذة دمشقية مقرنصة مع الشبكة الحديدية ، ونباتات متسلقة مع بقع ضوئية صفراء وبرتقالية . بعد قليل سيطل وجه من زمن لا ينتمي الى زمن يتوقع خروجه من بين نسيج القماش وزوايا الاطارات وصفحة الجدار، بل من أرضية البلاط والسقف ذي الثريات والمصابيح لا يرغب أن يرى وجهه لا هو بالذكر ولا بالأنثى مصنوع من موسيقى لا ترى وأطياف وخيالات وغيوم دخل اللوحة وقف جنب المرأة داخل الغرفة المعتمة ثم قال للمدينة حدثيني عن نفسك قالت انك الآن فيها.
شاكر الانباري (قاص وأديب من العراق)