يجدر التّنويه بداءة إلى أنّ مقاربة الخطابات الشّعرية على أساس علمي تجبر الباحث على أن يعدل بمبحثه عن السّقوط في الأغراضية، وذلك بأن يجعل اهتمامه منصبًّا على كيفية انبناء الجميل الشّعري ومآتي الإبداعيّة فيه، وتحديد مستوياتها وتجلّياتها والوظائف المنوطة بها، ومرتكزا حول مواضع القوّة ومناطق الوهن، والمعوّل في ذلك هو الحضور والغياب والوظيفيّة والتّحويل. وبديهيّ أيضا أنّ عمليّة رصد الظواهر الفنيّة ووصفها إنّما هي عتبة دنيا تجسّر المعابر إلى عتبة عليا تتمثّل في التّأويل ومساراته، الّذي يُوفّر للقارئ النّوعي مساحة للخلق والإبداع.يجدر التّنويه بداءة إلى أنّ مقاربة الخطابات الشّعرية على أساس علمي تجبر الباحث على أن يعدل بمبحثه عن السّقوط في الأغراضية، وذلك بأن يجعل اهتمامه منصبًّا على كيفية انبناء الجميل الشّعري ومآتي الإبداعيّة فيه، وتحديد مستوياتها وتجلّياتها والوظائف المنوطة بها، ومرتكزا حول مواضع القوّة ومناطق الوهن، والمعوّل في ذلك هو الحضور والغياب والوظيفيّة والتّحويل. وبديهيّ أيضا أنّ عمليّة رصد الظواهر الفنيّة ووصفها إنّما هي عتبة دنيا تجسّر المعابر إلى عتبة عليا تتمثّل في التّأويل ومساراته، الّذي يُوفّر للقارئ النّوعي مساحة للخلق والإبداع.وفي إلماع ثانٍ موصول ببحثنا الممهور بــ”شعريّة القصيدة الرّومنطيقيّة (إيقاع الخطاب عنصرا تكوينيّا)”، نرجّح أنّ شعرية الأنواع الأدبيّة هذه مسألة سجاليّة، وقضيّة خلافيّة، واقعة في منطقة منازعات، والقول فيها غير محسوم. فبينما يجعل الأسلوبيّ جون كوهين (Jean Cohen) الشّعرية اختصاصا متفرّغا للشّعر ومعقودا على هذا الوجه الفنّي ومقصورا عليه دون سواه من الأفانين القوليّة، غير شامل بقيّة الأنواع الأدبيّة، لأنّها حسب اعتقاده “علم موضوعه الشّعر” (1)، يجعل جاكبسون (Jakobson) الشّعرية أفقا منفتحا على كلّ المنجزات اللّفظية الّتي يقدّر لها أن تستوي أعمالا فنّية، فموضوع الشّعرية في نظر الشّكلانيّ المذكور “الإجابة عن السّؤال: ما الذي يجعل من رسالة لفظيّة أثرا فنّيا” (2).ولكن يجمل بنا أن نشدّد على كون الشّعرية عند جاكبسون رغم أنّها سمة عابرة للأنواع الأدبيّة، تظلّ في الدالّ الشّعري السّمة الأبرز والأقوى والأكثر هيمنة (3). وفي هذا المضمار يقدّم تعريفا لمصطلح “المُهيمنة” (dominante le) يقول فيه: “يمكن تحديد المهيمنة بأنّها العنصر البؤريّ في أثر فنّي مّا. وهي الّتي تتحكّم في العناصر الأخرى وتتمّمها وتحوّلها. وهي الّتي تضمن تماسك البنية” (4).ونقدّر من موقعنا أنّ العنصر البنائيّ المهيمن في الشّعر بعامّة، وفي المنجز الرّومنطيقيّ بخاصّة، يتمثّل في الإيقاع، ومردّ هذا التّقدير استئناسنا بالنّتائج القيّمة الّتي أدركها كبار النقّاد، من ذلك العروة الوثقى التي أقرّتها النّاقدة البلغاريّة جوليا كريستيفا (Kristeva Julia) بين الإيقاع والوظيفة اللغوية، فارتأت بعد تدبّر للنّصوص أنّه خاصّية متلبّسة لزاما بالوظيفة المذكورة (5). وبعبارة ميشونيك (Meschonnic) كلّ صفحة من صفحات الشّعر إيقاع مستديم (6). وتبعا لما تقدّم بان لنا أنّه تشكّل نوعيّ أو كيفيّ ينتظم مختلف البنيات النصّية، ويسهم بصفة مباشرة في حبك الأنسجة النصّية، وبالقدر نفسه تتساند المكوّنات الصّائتة منها والصّامتة في خلق الإيقاع وبعثه في الخطاب، وهذه ديناميّة جدليّة، حاضرة في الخطابات الشّعرية بمختلف عناوينها واتّجاهاتها وإن تباينت مقادير الحضور من حيث القوّة والضّمور وتغايرت.وبما أنّنا في صلب الممارسة الشّعرية الرّومنطيقيّة يجدر بنا أن نعرّج على صلة الشّعرية بالإيقاع من منظور أحد أعلام الرّومنطيقيّة الألمان الّذين سلّموا بوجاهة هذه الفكرة، ونقصد غوته (Goethe) القائل بنبرة جهريّة لا شبهة فيها: “لا وجود لفكرة شعريّة حيّة دون إيقاع” (7). والأرجح أنّ الشّاعر الرّومنطيقي كان في خطاباته منجذبا إلى أزمنة أولى مموسقة، أو هي سمفونيّة كونيّة، ومحفل طبيعيّ بدئيّ، تشارك في العزف على وتيرته كلّ الكائنات، في طقس مقدّس يستدعي خلسة أسطورة الفتى الموسيقي أورفي (Orphée). هذا الحنين إلى زمن البدايات هو بالأساس التفاتة ظمأى للرّقص والإيقاع الّذي ابتدعه الانسان الأوّل بأجراس يقرعها القلب و يدوّنها الجسد، “بالإيحاءات والقفزات، وبالكلمات المنطوقة غالبا والصّرخات الخالية من المعنى، وبالأصوات الاصطناعيّة الّتي تصدرها العصيّ والحجارة” (8).ولئن حملت كلّ الخطابات في أصل بنائها اللّغوي درجة من درجات التّوقيع فإنّ الملفوظ الشّعري على خلاف سواه هو الموقّع بامتياز، وهذا دليلُ تباعدٍ بين المنظوم والمنثور، وأمارةُ مسافةٍ قائمةٍ بينهما، فـــ”الشّعر دائريّ، أمّا النّثر فخطّي”، (9) وتتواتر ذات الرّؤية على لسان ملهارب (Malherbe) وكندياك (Condillac) وفاليري (Valéry) حينما يقولون لنا: “النّثر مشي، والشّعر رقص” (10). أمّا الخطابات العالمة المتفرّغة للدّرس النّقدي والإيقاعي منه على وجه التّحديد والتّدقيق فلم تبرح بدورها التّشديد على أوّلية الإيقاع بل عقدت الأواصر بينه وبين المعطى الإناسيّ الأنتروبولوجيّ وانتهى بعضها إلى أن الوعي الشّعري هو أوّلا وبالأساس وعي إيقاعيّ (11). وتوقيعه سمة مائزة في مستوى حبك العلامات اللّغوية، وسمة دالّة في مستوى المعاني والدّلالات، بل إنّ هنري ميشونيك (Meschonnic Henri) يذهب إلى أنّ “مفهوم التّدلال Signifiance في الشّعر الحديث يرتبط خاصّة بالإيقاع”، (12) ولذلك كان لزاما على الباحث وهو يتدبّر أمر الشّعر ومآتيه الجماليّة أن يعي أوّلية الظّاهرة الإيقاعيّة من جهة المنابت الأصوليّة للشّعر، وطرائق تشكّلها، ودرجة حضورها، وأبعادها الوظيفيّة. وهذا الوعي النّقدي يفرضه منطق الشّعر الّذي جعل من التّوقيع محدّدا من محدّدات هويّته وعنصرا تكوينيًّا لا غنى عنه.وحتّى نتحاشى الصّورية المفرطة نرتئي التّعريج على الوعي النّقدي القديم ثمّ نمكث في لحظة لاحقة عند منزلة الإيقاع في النّظريّة الرّومنطيقيّة ورؤيتها له. فقديما وقع تثمين الموازين العروضيّة الّتي كرّسها الخليل عاليًا حتّى استوت مقدّسا جماليّاً دونه يختلّ الملفوظ الشّعري وترتكس العمليّة الإبداعيّة. والأنكى من ذلك أنّه تمّت التّسوية بين مفهوم العروض ومفهوم الإيقاع ممّا أسهم في تفقير المنجزات الإبداعيّة الّتي أصبحت تقدّ على مقاس إكراهات عروضيّة، أو بعبارة جوليا كريستيفا (Kristeva Julia) الدّقيقة على مقاس “قيد إيقاعي(13) (rythmique Contrainte) سابق على عمليّة التلفّظ. بل إنّ خطورة أسطورة العروض تُعزى إلى سمة الجمود المتلبّسة به، واللاّزمانيّة واللاّتاريخيّة واللاّشخصيّة الملازمة له، ولذلك استقرّ أداة تنميط للأشكال الشّعرية أكثر منه عنصر فرادة ومغايرة. ولقد تواصل التّعويل على مقرّرات الخليل الوزنيّة إلى حدود الممارسة الشّعريّة الإحيائيّة الّتي لم تراهن على حاضر الشّعر ومستقبله بقدر ما راهنت على سلفه الشّعري، فكانت أذنا صاغية إلى أصوات ماضية، ولسانا ناطقا عن تجارب تالدة، وبعبارة مختصرة لقد مثّلت الإحيائيّة بصفة غالبة تجربة شعريّة موضوعة بين قوسين ومتعالية وروح العصر. وإذا كان من حديث عن انقطاع ابستيمولوجيّ في تاريخ الجميل الشّعري عموما، وفي تاريخ الجميل الشّعري العربي خصوصا فهو الحديث عن النّظريّة الرّومنطيقيّة الّتي اجترأت على خلخلة قوانين المنوال الشّعري الكلاسيكيّ، لأنّ الحداثة الرّومنطيقيّة لا تعترف بأيّ مقدّس، إذ أنّ المقدّس في هذا السّياق معادل للثّبات والسّكون والقعود عن التبدّل والتغيّر. والرّؤية الجماليّة الحداثيّة في عمقها حركة عنيفة لا تتهيّب المجهول ولا تخشى المخاطرة والاندفاع، إنّها علامة حياة وتجدّد ضديدة لسيماء الموت والتحنّط. وتندرج الأطروحة الروّمنطيقيّة الانقلابيّة، بالمعنى الإيجابي، في رؤية شموليّة للشّاعر والشّعر. وعلى سبيل الإلماع، نذهب إلى أنّ الشّعر الرّومنطيقي كفا عن كونه إرغابا قاموسيّا يمتح من بطون القواميس وأمّهات الكتب المتقادمة، ليستقرّ صوتا من أصوات النّفس، متنقّلا بين مقاماتها، ولاهجا بمكنوناتها، معبّرا عن تقلّباتها وأطوارها، ولذلك يتوارد همسا وانثيالا دافقا، تعبيرة صادقة عن الإشجائي والعاطفي الّذي لا يمكن أن يقال في لغة العقل، فالعقل مجاله الوضوح والشّفافية والنّهار.وإذا كان الأمر على هكذا نحو، فإنّ الشّعر سيتحوّل عن المنظور النّسقي الّذي يطابق بينه وبين النّظم والصّناعة والقدرة على التّجويد واستنساخ النّماذج ليلتفت إلى منظور النبوّة والرّؤيا، فهو “بحاجة إلى مزيد من الحرّية- مزيد من السرّ والنّبوّة” ، (14) بل الشّعر الّذي يتغيّا الخلود لينتصب صوت الإنسانيّة جمعاء على اختلاف الأزمان والأوطان “يحمل في رحمه طاقة عميقة فيها نفحة نبوّة، دون أن يتخلّى بالطّبع، عن التّعبير عن العصر الّذي ينتمي إليه” (15).ولذلك ستتغيّر مع الرّومنطيقيّة النّظرة إلى الإيقاع، من دراية بفنّ الأعاريض، ودربة على الزّحاف والعلل وعلم القوافي إلى إنصات إلى إيقاعات الباطن المتلوّنة أحاسيس ومشاعر، وإصغاء إلى توقيعات الكون الّتي لا يلتقط تناغماتها إلاّ شاعر موسيقيّ زهد في عالم النّاس الصّاخب فاحتضنه صميم الحياة وعكفت على تربيته الطّبيعة الأمّ. وقد أشارت النّاقدة جوليا كريستفا (Krestiva Julia) إشارة نبيهة إلى تنكّب القصيدة الحديثة على وجه العموم عن المنوال المتقادم، الأمر الّذي “يرهص باحتمال التخلّي عن الوزن التّقليديّ لصالح تنظيم إيقاعيّ مُستحدث” (16).ولقد حشدت المدوّنة الرّومنطيقيّة العربيّة دلائل ليست قليلة فيها إجماع على تبدّل الشّعر مفهوما وخصائص، ونخال الإيقاع أدقّ دقائق الشّعر وأجلى سماته. فعلاوة على النّصوص النّقدية الّتي مثّلها ميخائيل نعيمة من خلال مؤلّفة “الغربال” لم تسقط النّصوص الإبداعيّة من اعتبارها الخوض في موضوع الشّعريّة في ما يُعرف بالشّعر على الشّعر أو الخطاب الواصف، ليجد القارئ نفسه أمام قصيدة تفكّر في مآتي جماليّتها ومواطن فتنتها، وتهيّئه للإقلاع عن الطّمأنينة إلى الأشكال الفنّية التقليديّة المكرّسة ودخول مساحة من الرّؤيا والإصغاء والإفضاء تتقاطع فيها الذّات المبدعة مع الذّات المتلقّية في فضاء الخلق على غير منوال، ومكاشفة السرّ الدّفين ومعانقة الجمال الأسمى. ولذلك كان على الشّاعر الرّومنطيقي، وهو المشرّع، أن يلج عالم الشّعر خالي الذّهن من اشتراطات المؤسّسة القديمة، حتّى يتخفّف من سلطان الماضي، ويكفل له هذا التخفّف من ثقل الثّقافة والصّناعة التّبشير بخطاطة مشروعه الجديد المبثوث في الماورا لغوي (Métalinguistique)، أو في الماورا قصيدة (Métapoème)، حيث تحمل القصيدة، كما الشّأن مع إيليا أبي ماضي، قوانين انبنائها وتخلّقها انطلاقا من كيميائيّة ذاتيّة منفصلة عن إكراهات الخارج. يقول في قصيدة “الفاتحة”: (17) (مجزوء الرّمل)لَسْتَ مِنِّي إِنْ حَسِبْتَ الشِّعْرَ أَلْفاَظًا وَوَزْنَاخَالَفَتْ دَرْبُكَ دَرْبِي، وانْقَضَى مَا كَانَ مِنَّافَانْطَلِقْ عَنِّي لَئِلاَّ تَقْتَنِي هَمًّا وَحُزْنَـــــــاوَاتَّخِذْ غَيْرِي رَفِيقًا وَسِوَى دُنْياَيَ مَغْــنَىوأهمّية هذا المقطع الشّعري موصولة بموقع القصيدة الّتي ينتمي إليها وهي “الفاتحة”، إذ تنزّلت من مجموعة “الجداول” منزلة الصّادرة، وقامت في نظر بعض الدّارسين مقام “الدستور” أو “العقد” الّذي يريد أن يربط بينه (إيليا أبي ماضي) وبين قارئه في طوره الشّعري الجديد هذا” (18)، بل ينكث أبو ماضي، من خلال هذا المثال الشّعري، مواثيقه ويفكّ أواصره مع المتلقّي التّقليدي المتشبّع بمراسم إنتاج الأقاويل الشّعرية مثلما قعّد لها أعلام النّقد القديم، والمتعامل مع الحداثة الجماليّة مستأنسا بأحكام ما قبليّة وعدّة مفهوميّة لا تمتّ للعصر بصلة ممّا يجعل تعييره الشّعر تشنيعا اِنطباعيًّا متسرّعًا وسطحيًّا. في المقابل يقترح صاحبنا رؤية ضديدة وجديدة للجميل الشّعري، فيعتبره خلقا منوطا بالرّوحي في الإنسان، واِنفلاقًا باطنيًّا تسعى الكلمات إلى حيازته وامتلاكه ثمّ إيصاله إلى المتلقّي؛ هذا المتلقّي ليس مستهلكا عجولا في معرض التّصفيق القافوي والاستعراض البديعي، بل يتقن فنّ الإصغاء، الّذي يجسّر بدوره تمثّل تجارب الآخرين والالتقاء بهم في مدارات الأنطولوجي. يقول مبرمًا ميثاقه مع متلقٍّ بديلٍ من خلال القصيدة ذاتها (الفاتحة): (19)ياَ رَفِيقِي… أَنَا لَوْلاَ أَنْتَ ماَ وَقَّعْتُ لَحْناَكُنْتَ فِي سِرِّي لَمَّا كُنْتُ وَحْـدِي أَتَغَنَّـــىأُلْبِسُ الرَّوْضَ حُلاَهُ، إٍنَّهُ يَوْمًــا سَيُجْنَــــىهَذِهِ أَصْدَاءُ رُوحي فَلْتَكُنْ رُوحُــكَ أُذْنَــــاإِنْ تَجِدْ حُسْنًا فَخُذْهُ، وَاطَّرحْ ماَ لَيْسَ حُسْنَاإِنَّ بَعْضَ القَوْلِ فَنٌّ، فَاجعل الإِصْغَاءَ فَنَّافمن خلال هذا الشاّهد نستجلي رهانًا رئيسًا تستند إليه الشّعرية الرّومنطيقيّة، جماعه العمل على إيجاد المتلقّي النّوعي المنسجم مع ذاته وذوقه الخاصّ، لا المتلقّي المتماهي مع سنن الذّائقة التّقليديّة. ولذلك اِختار إيليا أبو ماضي أن يكون رفيقه صاحب إحساس مرهف لا صاحب حاسّة مباشرة، بمعنى أن تتدرّب روحه على فنّ الاصغاء لا أن يستجيب لمعطيات الحسّ الخارجي ويتورّط في الحسّ المشترك (Sens commun)، لأنّ ” ثقافة الأذن هي على الدّوام ثقافة سلطة: كلّ سمع طاعة” (20).والاشتغال الرّومنطيقي بالطّرف المقابل في العمليّة التّخاطبيّة يجلو وعي الشّاعر الحادّ بأنّ الإسراف في النّرجسيّة ضرب من التّهافت، وبضرورة الالتقاء بالآخر مدخلا إلى معرفة حقيقة الذّات والعالم، ويستوجب هذا الأمر إنماءه إلى الفضاء الشّعري. في هذا المستوى تحديدا، يرى نعيمة أنّ “العبارة هي أكثر من مجموع الكلمات. (…) والمعنى هو أكثر بكثير من مجرّد الدّلالة على الأشياء بأسمائها. إنّه الشّحنة من الأحاسيس والأفكار والتّأملّات والانطباعات الّتي تحملها الكلمة إلى ذهن القارئ ووجدانه” (21)، ومعلوم أنّ في التوجّه إلى المرسل إليه (Destinataire) تجد الوظيفة الطلبيّة (La fonction conative) تعبيرتها النّحوية الخالصة في النّداء والأمر، اللّذين- من وجهة نظر تركيبيّة وصرفيّة وغالبا حتّى صوتيّة- يعدلان عن بقيّة المقولات الاسميّة والفعليّة (22). فعندما يصبح المتلقّي معنيّا بالخطاب، تستوي الغاية منه (الخطاب) توجيه الآخر نحو الوجهة الّتي يعمل مركّب الكلام على الإقناع بها وترسيخ أركانها. والإقناع لا يكون إلّا حجاجا حاملا على التّصديق. وتستجيب نصوص رومنطيقيّة كثيرة لهذه الوظيفة لأنّها وجدت نفسها في صراع لا بدّ أن تخوضه، حتّى تعتنق الجماهير الذّائقة للجميل الشّعري دعوتها و تؤمن بعقيدتها الجديدة الّتي تعتبر الأشكال التّعبيريّة شيئا من العرض أمّا الحقيقة الجوهريّة الدّسيسة في الثّنايا والانعطافات فهي بوصلة الشّاعر والشّعر، إذ أنّ “الله لا يحفل بالمعابد وزخرفها بل بالصّلاة الخارجة من أعماق القلب، هكذا النّفس لا تحفل بالأوزان والقوافي بل بدقّة ترجمة عواطفها وأفكارها” (23)؛ بمعنى أنّ أزمة الشّعر ماثلة في تسليط الوعي النّقدي القديم ثمّ التّقليدي الضّوء على الشّكليات، والإمعان في تقنينها حتّى ضاع الشّعر الحقّ ليترك مكانه للنّظم باعتباره صناعةً وثقافةً (التّثقيف والتّجويد) على نهج الأب الفنّي، فاختنق الخلق والإبداع وانخرط النظّام في إنتاج المثيل والشّبيه، مثبتا الهويّة الجماعيّة، نافيا شخصيّته وفرادته لصالح المنوال. وعلى حدّ عبارة نعيمة السّاخرة “الّذين جاءوا بعد الخليل فتقيّدوا بزحافاته وعلله ألفا ومائتي سنة فإيّاهم أسدي جزيل شكري. لأنّهم بمباراتهم في معرفة “صحيح أوزان الشّعر وفاسدها” قد أتقنوا الأوزان وأهملوا الشّعر” (24). فالنّظرية الرّومنطيقيّة- وهي ثورة على كلّ الإكراهات المسقطة من الخارج على الإنسان- تمثّل عنوان تمرّد على منظومة القيم الفنّية الموروثة وعلى رأسها منظومة الإيقاع القديمة الّتي شلّت الفعل الإبداعي وقيّدت انطلاقة المبدع حتّى بات عاكفا على إنتاج خطاب يجد الاعتراف من مؤسّسة العروض رغم عدم انسجامه مع رؤاه وتطلّعاته الذّاتية. وهذا الأمر لم يسفر إلاّ عن كساد سوق الفعل الخلاّق والمتفرّد وعن ازدهار الأشكال النّظمية المعدّلة على عقارب الخليل بن أحمد الفراهيدي. وملخّص الإساءة إلى الشّعر جماعها مقول القائل “العروض لم يسئ إلى شعرنا فقط، بل قد أساء إلى أدبنا بنوع عامّ. فبتقديمه الوزن على الشّعر قد جعل الشّعر في نظر الجمهور صناعة، إذا أحاط الطّالب بكلّ تفاصيلها أصبح شاعرا” (25).وحتّى نعدل عن عرض الآراء بخصوص الموقف من جدوى اللّوائح العروضيّة الخليليّة، وهي بلا ريب كثيرة وتصبّ في الخانة ذاتها، يجمل بنا أن نعيّن البديل الرّومنطيقي الّذي يمكن أن يلوح حتّى في مستوى إنتاج المفاهيم؛ هذا الجهاز المبدئيّ من أجل اتّساق أيّ نظريّة والإبانة عن متانتها. فمن يلملم شتات الرّؤى النّقدية الرّومنطيقيّة الموزّعة بين ما هو نقدي صرف وما هو إبداعي في حكم النّقدي يصل إلى مقاربة للشّعر مؤدّاها أنّه نشيد بدئيّ، فطريّ سابق على مكتسبات الحضارة والثّقافة، بل هو لغة النّفس وترنيمة الرّوح المتنصّلة من نواميس التّواطؤ والاصطلاح؛ فـ”العواطف إذا ما استيقظت ونطقت بنفسها بعبارة جميلة التّركيب موسيقية الرنّة كان ما تنطق به شعرا. وإنّ من استيقظت عواطفه وأفكاره وتمكّن من أن يلفظها بعبارة جميلة التّركيب موسيقيّة الرنّة كان شاعرا” (26).والتّشديد على العنصر الموسيقي في الشّعر الرّومنطيقي يؤكّد الوعي بسحر اللّفظ المنغّم وبأنّ “الإيقاع شكل دالّ” (27) (signifiante Forme) فيه من مستويات الخطاب التّركيبيّة والصّرفميّة والصّوتميّة، ومن تجاوب الأصوات الطّبيعيّة، ومن تعاقب الفصول، وممّا هو ذاتي مراوح بين أطوار الذّات المتلفّظة. ولذلك فهو متعدّد، متكثّر، وإذ يستجلبه الشّاعر فلكي يتجاوز خيانة الشّعر مع الإحيائيّين، ويبلسم الجراح المفتوحة في محيطه اليباب. ولعلّ صفة من الصّفات المتواترة والمعلّقة على الشّاعر الرّومنطيقي هي صفة الموسيقي المذكّرة بأورفي (Orphée) الّذي واجه سدنة الجحيم بسحر وتره، وفي ذلك ما فيه من دلالات. يقول جبران خليل جبران:” نحن أبناء الكآبة. نحن الأنبياء والشّعراء والموسيقيّون. نحن نحوك من خيوط قلوبنا ملابس الآلهة ونملأ بحبّات صدورنا حفنات الملائكة” (28). فمثلّث النّبوّة والشّعر والموسيقى يلتقي في برزخ الألم، ولكنّه يسعى إلى بعث عالم بهيج تتعانق فيه الأبعاد وتتقارب المسافات، فتستقرّ الأرض منبتا للجميل، وتفتّحا للإلهي، مثلما يستوي عالم اللاّزورد الأثيري منبعا للحقيقة الّتي ينشدها الإنسان، وهذا الجدل بين الأرض والسّماء من سيماء الرّومنطيقيّ.وتفضي بنا هذه الوقفة المطوّلة نسبيّا عند التصوّر النّظري الرّومنطيقي لمفهوم الشّعر عامّة والإيقاع على وجه الخصوص إلى الاشتغال على مجموعتين شعريّتيْن موسومتيْن بـ”الجداول” و”الخمائل” لعلم من أعلام الرّومنطيقيّة المهجريّة ألا وهو إيليا أبو ماضي. ونطمح من وراء هذا الاشتغال إلى معرفة كيفيّات إجراء الإيقاع في المنجز الفنّي المذكور، ودور المكوّنات التّوقيعية في تكوين هوية النصّ وتشكيل ملمحه النّوعيّ أو الأجناسيّ، لا سيّما أنّ هذا المنجز قد مثّل انعطافة حاسمة في خطّ الشّاعر الشّعري، وأمضى نقلته من الكلاسيكيّة إلى الرّومنطيقيّة، وسنمحّض هذا المبحث مثلما ألمعنا آنفا لدراسة إيقاع الخطاب أو نحو الإيقاع.يوفّر البحث في إيقاع الخطاب فرصة توسيع مفهوم الإيقاع ليشمل المسموعات ويتّسع للمرئيّات، وهو لذلك لا يخلو من دلالة صريحة وأخرى موحية مبطّنة، متحفّزة للظّهور. فزيادة على كونه محدّدا تكوينيّا من محدّدات النّوع الشّعري، وربّما أهمّها، فهو أيضا “المادّة الثّابتة للمعنى” (29). كما أنّه يجذّر مقولة التّدلال المرتبطة رأسا بالحداثة الشّعرية ويؤصّل حضور الذّات في الخطاب المبدع بقدر حضورها الإبداعيّ. وتذكّرنا ثلاثيّة الإيقاع والمعنى والذّات بأطروحة ميشونيك (Meschonnic) الّذي يقول:” تحرّر الآصرة بين الإيقاع والمعنى والذّات، في الخطاب، الإيقاع من مجال العروض” (30)؛ فهو ما انفكّ يلحّ على أنّ الإيقاع أشمل من العلامات، بما أنّه في تصادٍ مع الذّات، حتّى أنّها استوت تقريبا وحدة إيقاعيّة تنظّم وتيرة الملفوظ ويقتفي القارئ آثارها في الحيّز النصّي. وقد أجاد كبايدي فارغا (Varga Kibédi) التّعبير عن فكرة الالتقاء بين الشّاعر والقارئ في مؤلّفه “ثوابت القصيدة” حين ذهب إلى أنّ الإيقاع في الشّعر مرتبط متينا بنيّة الشّاعر والقارئ على قدم المساواة (31). بما يؤكّد ملاحظاتنا بخصوص لا تاريخيّة الأوزان الشّعرية بوصفها أشكالا سابقة على العمليّة الإبداعيّة، وباعتبارها من بنية النّظام المشتغل على الكلّيات دون الالتفات إلى الإنجازات الفردية المخصوصة. وفي مقابل ذلك إذا افترضنا أنّ المعنى هو نشاط الذّات والإيقاع تنظيم للمعنى في الخطاب فهذا يعني أنّ الإيقاع هو بالضّرورة تنظيم أو تشكيل للذّات في خطابها. بما يفيد أنّ ايّ نظريّةً للإيقاع في الخطاب هي إذن نظريّة للذّات في اللّغة، وليس بالإمكان، بعدئذٍ، امتلاك تصوّرٍ للإيقاع خال من تصوّر للذّات ولا تصوّر للذّات دون تصوّر للإيقاع، ذلك أنّ اللّغة عنصر من عناصر الذّات الأكثر حميميّة، والأكثر حميميّة في دائرتها بلا منازع هو الإيقاع (32).ونحن لم نستنفر هذه النّقاط إسرافا في القول ولا إرهاقا للبحث بل رفعا للبسٍ رأيناه طال في وقت من الأوقات مفهوم الإيقاع، واعترافا بدوره الخطير في إنتاج شعريّة النّصوص وتكثير أبعادها الدّلاليّة. كما أنّ حضور الذّات والمعنى في الإيقاع يجعل الإيقاع تشكيلا للتلفّظ بقدر ما هو تشكيل للملفوظ، ما يرشّحه لأن يكون الدّال الأكبر أو الغالب (Le signifiant majeur)، حيث يضمّ إضافة إلى الملفوظ كذلك التّحت- معنوي (L,infra-notionnel) والتّحت- لساني (L,infra-linguistique)، لنخرج إلى أنّ الإيقاع ليس العلامة (33)، بل يشملها ويفيض عنها بل “ناكف الإيقاع تعريفا جامدا كان يثبّته في العلامة وفي أوّلية اللّغة إلى أن أمكن له ولوج الخطاب” (34). ونتخيّر منهجيّا أن ندرس نحو الإيقاع في محطّات خمس:1. إيقاع الصّوت المفرد: الممارسة الشّعريّة هي بالأساس ممارسة مبدعة في إطار المادّة اللّغوية، بما يعني أنّ جميع البنى اللّغوية وأوّلها البنية الصّوتميّة متدخّلة في بناء الخطاب الشّعري. ينضاف إلى هذا المعطى أنّ الرّسالة الشّعرية تتأسّس على قوانين مباينة للرّسالة التّواصليّة، فالإبداع الشّعري ” توفيق بين ما يريد الشّاعر وما يريد الشّعر منه وسعي إلى تبرير العلاقة بين الدّال والمدلول وبين اللّفظ والمعنى وبين الشّكل والمضمون وعمل على وزن الأصوات وإيقاعها…” (35). والرّاجح أنّ الاشتغال على إيقاع الأصوات يجد تجلّيه الأمثل في “مبدأ التّصحيف” (36) الّذي يفترض أنّه ” تواتر صارخ لبعض الصّواتم الموزّعة على طول النّص، ولو وضع بعضها بسبب من بعض، لشكّلت دالًّا معجميًّا، يكون مدلوله الكلمة أو الكلمات المفاتيح في النّص” (37).ويشفّ تصفّح مدوّنة البحث عن أنّ أبا ماضي لجأ إلى تكرار الصّوت من الأصوات بكثافة في مواضع معيّنة، كما لجأ أحيانا أخرى إلى ترجيع بعض الأصوات المتقاربة في الخصائص الرّئيسة والثّانوية، وربّما أحيانا أخرى متقاطعة من حيث المخرج، ومن دلائل توظيف الصّوت نقتطع من قصيدة “في القفر” (38) مقطعا نستدّل به على ادّعائنا:وَكِتَــــابِي الفَــــــضَاءُ أَقْرَأُ فِيــــهِ سُـــــوَرًا مــا قَــرَأْتُـــهَـــا فِـي كِتَــــــابِوَصَـــــلاَتِي الَّذِي تَقُول السَّوَاقِـي وِغِـــنَــائِــي صَــوْتُ الصِّبَــا فِي الغَــــابِوَكُؤُوسِي الأوْرَاقُ أَلْقَتْ عَلَيْهَا الشـَـــــمْـــسُ ذَوْبَ الــنُّضَارِ عِنْدَ الغِيَابِوَرَحِيقِي مَا سَــــــالَ مِنْ مُقْلَةِ الفَجْـــرِ عَــلَـى الــعُـــشْبِ كاللُّجَيْنِ المُذَابِوَلْتُكَحِّـــلْ يَــــدُ المَــسَـــاءِ جُـــفُوني وَلْتُــــعَــانِـــقْ أَحْـــــلاَمُـــــهُ أَهْدَابِــــــيوَلْيُــقَـــبِّـــــــلْ فَـــمُ الصَّــــبَاحِ جَبِينِـي وَلْــيُـــَـــطِّــرْ أَرِيــجُـــهُ جِـــلْبَابِــيوَلأَكُنْ كالغُرَابِ: رِزْقِيَ فِي الحَقْـــلِ وَفِي السَّفْحِ مَجْثَمِي وَاِضْطِرَابِيسَاعَةٌ فِي الخَلاَءِ خَيْرٌ مِنَ الأَعـــــوَام تُقْضَى فِي القَصْرِ، وَالأَحْقَابِنلاحظ من خلال هذا الشّاهد تعاود صوت “القاف” بكثرة بدليل المفردات التّالية: أقرأ- قرأتها- تقول- السّواقي- الأوراق ـ ألقت- رحيقي- مقلة- تعانق- يقبّل- رزقي- الحقل-تُقضى- القصر- الأحقاب. وتقدّر نسبة تشغيل “القاف” في المثال المتقدّم بـ 27%، وهي نسبة عالية قياسا على تداول الصّوت المذكور- وهو الانحباسي المهموس- في مجرى الرّسالة التّواصلية.ويمكننا أن نعلّق بهذا التّوظيف دلالتين مختلفتين: الأولى موصولة بحالة الضّجر والملالة الّتي اكتنفت الذّات الشّاعرة، وجعلتها تتبرّم من الموجود، وتختار طريق الانفصال. والانفصال اجتثاث قهري من صلب الجماعة والمحيط و إقامة في العراء (القفر) ممّا يجعل المجاهدة في الحياة إجهادا في الإفضاء بالشّعر. ولهذه الأصوات المتطابقة والمتراسلة وظيفة نغميّة في تجاوب مع البعد التّعبيريّ (l,expressivité) (39). فالجميل الشّعري مثلما هو معلوم توتّر بين الأنين والرّنين، وتردّد بين المعاني والمغاني، وكثيرا ما كشف التجلّي الإيقاعي عن الوجه الشّقيّ للشّاعر الرّومنطيقيّ، هذا الآدميّ الشّقيّ الذي جُبل من حمإ مسنون، فخبر ضيق المحبس الطّيني، وهفت روحه إلى التّجنيح في أوساع السّماء، وأمداء الفضاء.أمّا الدّلالة الثّانية فنصلها بدعوة الشّاعر إلى القفر وتلبيته النّداء. وتتجلّى التّلبية بداءةً في إرغام النّص الشّعري على احتضان دوالّ لغوية تحاكي القفر من حيث بنيتها المعجميّة، ومداليل سياقيّة متقاربة ترتدّ في النّهاية إلى القفر الذي اكتسب شعريّا معانيَ ثرّة تناقض الدّلالة القاموسية المعهودة. وعلى أساس ذلك ينهض تعاود صوت القاف بلفت نظر القارئ إلى تتبّع الصّورة الأيقونيّة (Image iconique) الموشومة بنيةً صوتيّةً فيها تبئير على تحوّل متعدّد الأضلع: تحوّل نفسي بالنّسبة إلى الشّاعر، وتحوّل دلالي بالنّسبة إلى المكان، وتحوّل إدراكي بالنّسبة إلى المتلقّي بخصوص تصحيح فهمه المرتبط بتسييق المفرادات بدلا من ارتباطها بالقوائم. ومن بين القصائد متوسّطة النّفس الّتي نهضت على إيقاع الأصوات نجد قصيدتين قد اشتغلتا على صوتيْ “السّين” و”الصّاد” وهما صوتان مهموسان صفيريّان الأول مرقّق والثّاني مفخّم موسومتين “بالأسرار” (40) و”عش للجمال” (41).فقد تضمّنت القصيدة الأولى تسعة أبيات شعريّة وقامت على نسق جدولي انتقائي يحتوي خمس عشرة مفردة تكرّس البنية الصّوتية الّتي ذكرنا، وهي: “لصّ”، “أسرق”، “سرّ”، “النّسيم”، “السّاري”، “أجسّ”، “إصبعي”، “السرّ”، “السّحر”، “الخصيب”، “صولة”، “سدوله”، “أسرار”، “بصري”، “ستار”.أمّا قصيدة “عيش للجمال” فقد تأسّست على عشرة أبيات شعريّة، وطالها الإيقاع الصّوتي المهموس الصّفيري هي الأخرى خمس عشرة مرّة تكشف عنها المفردات التالية: “البساتين”- “نصبت”- “الأصيل”- “سُرادق”- “المساء”- “سرابيل”- “السّواقي”- “ابتسامات”- “الحسن”- “يقاس”- “سربال”- “أسمال”- “مسكين”- “أحسّ”- “سرّ”.نلاحظ أنّ القصيدتين تحومان حومة معنى شعري واحد جماعه التغنّي بقداسة الطّبيعة: أي بتراسل عناصر الطّبيعة، ومن ثمّ بتجانس الأصوات وتجاوبها بما أنّ كتاب أبي ماضي من كتابها. وليس إيثاره إيقاعيّة الصّوت الصّفيري المهموس إلّا بحثا عن موسيقى مضافة إلى موسيقى العالم من حوله، ومحاولة تقصد إنتاج نصّ شعريّ فيه من الدقّة واللّطافة ما يحاكي اختلاس أسرار الجمال وإيقاظ القارئ إيقاظا ليّنا خفيفا وإدخاله في محفله الطّقوسي المرتّل لقيم الجمال المقدّس والحبّ الأزلي الذي هو جوهر تلتقي حوله جميع الإرادات الجزئيّة في مهرجان يساهم الشّاعر ما شاء في صوغه لغة مقطّرة سلسة تجبل أذن القارئ من جديد وتوحي إليه بسرّ المعاني إيحاء.وفي سياق غير السّياق كان للتّجاوبات الصّوتية الحاصلة صلب الأبيات الثّمانية الأولى من قصيدة “الكمنجة المحطّمة” (42) موقع مركزيّ في بلورة الإيقاعيّة النّاظمة للنّص والنّاسجة لديناميّته. والجليّ أنّ هذه القصيدة قد تناوبتها معان شعريّة نواتها الأصيلة الحزن والجزع والشّجون؛ معان راشحة عن الإحساس بالفراغ والشّغور رديفا لانحسار عالم الموسيقى إلى حدّ التّلاشي والانعدام. وسوف يكون للعنوان بوصفه النّص الأصغر إشعاع على امتداد القصيدة، وحينئذ ستؤدّي الأصوات دورا مهمّا في تأطير إيقاع الأدب المنكسر ومعانيه. هذه الأصوات فرّعناها ثلاثة أفرع؛ هي “النّون” و”الشّين” و”الرّاء”.1- النّون: أكفانه- سفينة- منبوذة- نسجت- العنكبوت- بانت- كأنّها- حسن- حزنك- حزين- إنّها- تنشر- انقض- المنى- النّفس.2- الشّين: شاهدتها- الشطّ- شيء- يشجيها- مشدوهة- مشدوها- شوق- تنشر- الشّكوى- يشفيها.3- الرّاء: عبرة- أذريها- مهجورة- وراءه- الغبار- يطربها- ترى- تراها- ارزح- تنشر- يرديها.الملاحظة الأولى مؤدّاها أنّ الأصوات الثّلاثة المرصودة في تقلّباتها النّظرية المختلفة لا تسعفنا إلا بجذر/ ن ش ر/ على سبيل الإنجاز. ثمّ إنّ القائمات الثّلاث لا تتقاطع إلّا في مفردة وحيدة هي “تنشر” الّتي وردت منفيّة في الملفوظ الشّعري بدليل قوله:فَارْزَحْ بِحُزْنِكَ يَا حَزِينُ فَإِنَّهَا : لاَ تَنْشُرُ الشَّكْوَى ولاَ تَطْوِيهَا بما يفيد أنّ الشّاعر قد أخذ موقع الكمنجة المعطوبة، دون وعي، مضطلعا بفعل نشر الأحزان والتّباريح صلب خطابه الشّعري، وهو نشر يذهب في اتّجاه “الغنّة” مع صوت “النّون” فيكون الأنين والنّشيج والوجع، ويذهب في اتّجاه “الشّأشأة” مع صوت “الشّين” فيكون التّعطّل والتقطّع تواؤما مع مقام يتهجّى فيه أبو ماضي سفر الآلام، ثمّ “تكراريّة” “الراء” بما تضمر من ترجيع يحاكي تسارعه غرغرة الاحتضار، وهذا يشي بكون “الإيقاع هو حركة التلفّظ (l?énonciation de mouvement le)) (43) بمعنى أن نولي موسيقى الشّعر شطر النّظر في صلة بالمعنى وبالذّات الباثّة، هذا المسار يجنّبنا العبثيّة والاعتباطيّة، ويدفع بالفعل الشّعري نحو القصديّة القائمة إلى حدّ بعيد على منطق التّرميز والتّبرير. ومن ثمّ فإنّ توظيف الأصوات، أو بعض خصائصها، مُخبر عن كون الإيقاع تجربة تعاش قبل أن تقال: إذْ زيادةً على تحقيق الانسجام الدّاخلي للنّص، والتّرفيع من درجة شعريّته، يدعو القارئ إلى تملّي المعاني الممكنة والدّلالات الكامنة الّتي لا يُعنى بتفجيرها إلّا القارئ المتفاعل مع النّص المقروء تفاعلا خلاّقا، باعثا إمكانات المنجز الإبداعي الخبيئة في كلّ قراءة. ويجمل بنا في هذا المستوى التّحليلي أن نشير إلى نتيجة أخرى نعتقد أنّها على قدر من الأهمّية، وهي في صلة بالبنى الصّوتية ووظائفها التّوقيعية، مُحصّل هذه النّتيجة أنّ “إيقاع الأصوات ليس متّصلا، وهو لا يتدخّل، ولا ينخرط في اللّعبة إلّا في بعض اللّحظات المائزة” (44). بمعنى أنّه يحضر على نحو موضعيّ متميّز، ويتجمهر في شكل تجمّعات إيقاعيّة دالّة، ولكنّه لا يمسح كلّ المنجز، ولا يعترض سبيل القراءة في مختلف تعرّجاتها.وبما أنّ الإيقاع جمع في صيغة المفرد، وبنية لغويّة متراكبة، نتخيّر أن نقف على تحقّقه في مستويات إضافيّة نقدّر أنّها على قدر من الأهميّة كبير منها:2. إيقاع التّرديد: إنّ أوّلية ظاهرة التّرديد في استراتيجيّة الخطاب الشّعري قد حتّمت على باحث في قامة جون كوهين (Jean Cohen) أن يفرد لها بحثا دقيقا موسوما بــ ” الشّعر والتّرديد” “Poésie et redondance” (45)، حيث افترض أنّ الاختلاف شعر/اللاّ-شعر يُبحث في مستوى ثنائيّة دلاليّة مقابلة لنمطين من المعنى: المجرّد أو الاصطلاحي والإشجائي أو الانفعالي. هذان المعنيان متعلّقان تبادليّا بالأبعاد الفينومينولوجيّة: وضوح/غموض وكثافة/ حياديّة؛ فكلّ مفردة من اللّسان حائزة بالقوّة على الصّنفين من الدّلالة المسجّلين، والجملة النّحويّة ببنيتها الاسميّة- الفعليّة تحيّد بالضّرورة المعنى الإشجائي وتخنق الكثافة.أمّا الاستراتيجية الشّعرية فهي تتأسّس على مسارين متكاملين: الأوّل هو المحور الجدوليّ أو عبر تشغيل أشكال متحوّلة وهو الّذي يبعث المعنى. والثّاني هو المحور النّسقي حيث تتقوّى الكثافة بتنسيق التّرديد. بالتّالي فإنّ الشّعر يتجسّد بصفته الخطاب لذاته، أو الخطاب اللّازم الّذي تُنشد فيه المتعة لا المنفعة.والمطّلع على نظام اللّغة يعلم يقينا أنّ تنسيب التّرديد، (نسبة محدودة منه)، ضروريّ لضمان التّواصل بيد أنّه عندما يتعدّى التّرديد هذا الحدّ فهو يؤسّس خرقا لأهمّ مبادئ اللّغة وهو مبدأ الاقتصاد (d?économie principe) الّذي يسوس اللّسان. (46)هذه الإشارة يدعّمها اللّساني أندريه مارتنيه (Martinet A.) الّذي افترض أنّ التطوّر اللّساني محكوم بالتّناقض المستمرّ بين حاجات الانسان التّواصليّة ونزوعه إلى اختزال نشاطه الذّهني والفيزيائي إلى الحدّ الأدنى، وهذا يجرّ إلى تكريس مبدأ جوهريّ هو خانة البدائل Classe des substitus، استجابة لكلفة الرّسالة Coût du message . (47)ينبّه هذا الحديث إلى مبدأ الاختصاص في اللّغة الّذي يفترض اختصاص كلّ دالّ بمدلول محدّد. ولكن بقدر ما يكون الخطاب شعريّا يشتغل الدّال بصفته مؤشّرا على ترديد دلالي يؤسّس الانسجام الدّاخلي للخطاب الشّعري. وفي السّياق ذاته عمدت جوليا كريستيفا (kristeva Julia) إلى تمييز لغة الشّعر من لغة التّواصل (48) ؛ فإذا كان تكرار وحدة دلاليّة في لغة التواصل لا يغيّر دلالة الرّسالة بل له أثر رجعيّ على النّحويّة فهو ليس كذلك في اللّغة الشّعرية، ها هنا الوحدات غير قابلة للتّكرار، وبعبارة أخرى الوحدة المكرّرة لم تعد هي ذاتها، أو هي تسجّل حضورا فريدا.وليس إلماعنا إلى التّكرار في هذه اللّحظة من البحث إدراجا له في خانة التّرديد بل تدعيما للمنظور القائل بمفارقة لغة الإبداع لغة الخطاب التّواصلي، ومباينة الاستراتيجيّة الشّعرية للاستراتيجيّة المتحكّمة في الرّسالة النّفعية. أمّا بخصوص تثمين مكانة التّرديد مقارنة بالتّكرار فلا نجد أفضل من مقولة كوهين (Cohen) ” لكن يبقى التّكرار بالمعنى الحصري- على الرّغم من تواتره- ظاهرة هشّة. فما يسعى هذا التّحليل إلى البرهنة عليه هو أنّ التّرديد هو القانون التّكويني للخطاب الشّعري ” (49)، ويأتي هذا الحكم منسجما مع تعريفه للشّعر بأنّه ” في جوهره عوْد على بدء Retour” (50)، وبتعبير هوبكنز Hopkins إنّه ” خطاب مكرّر كلّيا أو جزئيّا للصّورة الصّوتيّة ذاتها” (51).وقد درس التّرديد في مستويات ثلاثة:مستوى العلامة (Signe).مستوى الدّال (Signifiant).مستوى المدلول (Signifié).
1.2. التّرديد العلامي:ترديد العلامة حسب كوهين (Cohen) هو التّكرار بالمعنى الحصري الذي يمتدّ من المفردة إلى المقطع الشّعري (52)، أي تكرار الدّال مع المدلول في ذاته الآن. وقد رصدنا في مدوّنتنا مثل هذه الظّاهرة الإيقاعيّة الّتي من شأنها أن تنشئ في الخطاب ضربا من التّجاوب وتسهم في خلق انسجامه الدّاخلي ناهيك أنّ ترديد العلامة قد اتّخذ له موقع الصّدارة من الأبيات الشّعرية في شكل لازمة شعريّة ذات بنية إيقاعيّة واحدة، ومن الأمثلة الشّاهدة على ذلك نذكر:الشّاهد الشّعريالقصيدةالصّفحةلَمْ أَزَلَ أَلْمَحُ طَيْفَ المَجْدِ حَتَّى فِي السَّرَابِلَمْ أَزَلْ أَسْتشعرُ اللَّذَّةَ حَتَّى فِي العَذَابِلَمْ أَزَلْ أَسْتَشْرفُ الحُسْنَ وَلَوْ تَحْتَ نِقَابِ.العلّقية609أَنَا نَهْرٌ لَمْ أُتَمِّمْ فِي الأَرْضِ انْسِيَابِيأَنَا رَوْضٌ لَمْ أُذِعْ كُلَّ عَبِيرِي وَمَلاَبِيأَنَا نَجْمٌ لَمْ يُمَزِّقْ بَعْدُ جِلْبَابَ الضَّبَابِ.العلّقية631وَقَدْ سَأَلْتُ السُّحُبَ فِي الآفَاقِ هَلْ تّذْكُرُ رَملَكْ؟وَسَأَلْتُ الشَّجَرَ المُورِقَ هَلْ يَعْرِفُ فَضْلَكْ؟وَسَأَلْتُ الدُرَّ فِي الأَعْنَاقِ: هَلْ تَذْكُرُ أَصْلَكْ؟الطّلاسم651سَائِلِ الفَجْرَ أَعِنْدَ الفَجْرِ طِينٌ وَرُخَامْ؟وَاِسْأَلِ القَصْرَ أَلاَ يُخْفِيهِ كَالكُوخِ الظَّلاَمْ؟وَاِسْأَلِ الأَنْجُمَ وَالرِّيحَ وَسَلْ صَوْبَ الغَمَامْ؟الطّلاسم657-658قَدْ رَأَيْتُ الشُّهْبَ لاَ تَدْرِي لِمَاذا تُشْرِقُوَرَأَيْتُ السُّحُبَ لاَ تَدْرِي لِمَاذَا تُغْدِقُوَرأيت الغَابَ لاَ تَدْرِي لِمَاذَا تُورِقُالطّلاسم661أَتُرَانِي كُنْتُ يَوْمًا نَغَمًا فِي وَتَرِأَمْ تُرَانِي كُنْتُ قَبْلًا مَوْجَةً فِي نَهَرِأَمْ تُرَانْي كُنْتُ فِي إِحْدَى النُّجُومِ الزُّهُرِالطّلاسم662أُرِيدُ دُنْيَا فِيهَا شُعَاعُ يَبْقَى إذا غَابَتِ النُّجُومْأُرِيدُ دُنْيَا تَحِسُّ نَفْسِي فِيهَا نُفُوسًا بِلاَ جُسُومْأُرِيدُ خَمْرَا بِلاَ كُؤُوسٍ مِنْ غَيْرِ مَا تُنْبِتُ الكُرُومْأُرِيدُ عِطْرًا بِلاَ زُهُورٍ يَسْرِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَسِيمْأمنية إلهة691-692وَأَحَبُّهَا نُورًا جَمِيلًا صَافِيًا مُتَأَلِّقَا فِي النَّفْسِ وَالوِجْدَانِوَأَحَبُّهَا سٍحْرًا يَرِفُّ مَعَ النَّدَى وَيَمُوجُ فِي الأَلْوَانِ كَالأَلْوَانِوَأَحَبُّهَا ذِكْرَى تَطِيفُ بِخَاطِرِي لأَخٍ هَوَيْتُ، وغَادَةٍ تَهْوَانِيذكرى750شاهد الصُّبْحَ فَائِضًا فِي مُروجِ الزَّبَرْجَدِأُشْهِدُ اللَّيْلَ لاَبِسًا طَيْلسَانَ التَّمَرُّدِأُشْهِدُ الغَيْثَ مُعْطِيًا أُشْهِدُ الحَقْلَ يَجْتَدِيأنت والكأس777
يمكننا أن نعقّب على هذه الشّواهد بجملة من الملاحظات، من أهمّها:* إنّ التّرديد الدالّي يُعطّل نموّ القصيدة وتقدّم حركتها، بل يوقظ عين القارئ على قراءة بصريّة مشهديّة فضائيّة مبنية على منطق التّزامن والثّبات في منطقة فنّية بعينها، وهذا يكرّس على نحو من الأنحاء هويّة النّوع الشّعري، ويعدل بها عن سواها من ضروب الأفانين القوليّة. إذ أنّ الإيقاع مثلما تشكّل في الأمثلة المقترحة “راشح عن قوّتيْن متضادّتين: الأولى تجنح إلى الحركة والتقدّم، والثّانية تجنح إلى اعتراض تلك الحركة بوقفة” بل إنّ “الكلمة المُكرّرة توقفنا وتدعونا في الآن ذاته إلى مواصلة الحركة” (53).* تأطّرت الغالبيّة العظمى من التّرديد العلامي في نسق ثلاثي (54) له دلالة تحيل على مرجعيّة فنّية موصولة بالمسرح الإغريقي وأخرى دينّية لها بالمسيحيّة تعلّق، وثالثة فلسفيّة، نفسيّة حديثة العهد تكشف عنها منجزات فرويد وبحوث ماركس وأنجلز (55).* إضافة إلى ما ذكرنا ارتبط النّسق الثّلاثي في المخيال الجمعي بالأقانيم المقدّسة الثلاثة: الدّين والجنس والسّياسة، وانشدّ في المخيال الإسلامي إلى التّثليث في ممارسة عديد الشّعائر الدّينية وكأنّنا بأبي ماضي الشّاعر الرّومنطيقي يريد أن يلبس حلّة القداسة وينطبع بطبع الأنبياء لا بما يصرّح به مضمون شعره فحسب وإنّما كذلك بما يلوّح به أسلوبه وينبئ به توقيعه.* إن ظاهرة التّرديد من أهمّ الظّواهر الّتي يتقاطع فيها عمل الشّاعر مع عمل السّاحر، وهي تدعّم التّقارب النّظري بين الشّعر والسّحر، فهي إحدى الطّاقات الّتي عُلّقت بـ” استهلاك العزم كله عبر استنفاد كامل الأثر المرجوّ من اللّفظ أو الصّيغة من خلال تسليطها على العنصر أو الشّيء أو الشّخص وتكرارها عددا من المرّات كفيلا باستغلال كامل ما يناط بها من أهداف النّجاعة…” (56).* بيّن التّرديد العلامي أنّه الإطار المناسب لانبثاق الذّاتية في اللّغة من خلال حضور الأنا اللّغوي في مواضع عدّة ضميرًا منفصلًا مرّة ومتّصلا أخرى ممّا يرفّع من غنائيّة النّص الشّعري ويسند مقولة التّمركز حول الذّات Égocentrisme التي تعني في ما تعنيه غياب التّمايز بين الواقع الشّخصي والواقع الموضوعي. وفلسفيّا مثلما اُعتبرت اللّغة مسكن الوجود اُعتبر “الأنا” مسكن اللّغة، خاصّة أنّ الضّمائر هي” حجر الأساس (la roche primitive) في خلق اللّغة” (57).* ارتبط التّرديد العلامي مثلما الحال في الشّاهد الأوّل بوحدات معجميّة (ألمح، أستشعر، أستشرف) تجعله خديما لإيقاع الرؤيا ومولّدا من مولّدات شعريّة النّبوّة الّتي فيها إقامة على تخوم المجهول، ومرور من المعنى العقلي إلى معاني الحدس والبصيرة، وقول الغياب وإيماءة إلى غائب أزلي.* من زاوية أخرى كان للتّرديد العلامي دور مهمّ في إحكام بناء مطوّلة “الطّلاسم” وتحقيق انسجامها الدّاخلي، ثمّ إنّه دلاليّا انغرس في السّؤال وتركّز في اللاّأدريّة، فعاضدت الشّكل الأسلوبي المتعاود نواة دلاليّة مردّدة هي الحيرة الّتي تعدّ سمة من سمات الأنبياء والصّدّيقين (58).* في الشّاهد الشّعري قبل الأخير المقتطع من قصيدة “ذكرى” العلامة المردّدة صيغيّا هي اسم تفضيل (أَحَبُّ)، وهذا الولع بأسماء التّفضيل كاشف عن هويّة الشّاعر- النّبي الهاجس بالأفضل واللاّهج بما يجب أن يكون، وتظهر حينئذ شخصيّة أبي ماضي الحالم الّذي لم يجد أرضا تتحمّل أوساع أحلامه وتحمّلتها القصيدة، فالحلم الّذي لم يتثبّت واقعةً موضوعيّةً هاهو يتبلور واقعةً شعريّةً بحكم إلحاح المبدع عليه ترديدًا. يمكننا أن نختم هذه الملاحظات بالإبانة عن التّرديد في علاقة بالتّلقّي، ونحن لا نخاله في هذا المضمار إلا ناهضًا بـ” الوظيفة التّأثيرية للكتابة إذ غاية المتحدّث الإقناع مضطلعا بذلك بدور الشّاعر النّبي” (59). لقد بيّن البحث أنّ للتّرديد العلامي في مدوّنتنا أهميّةً كبرى إن في مستوى حبك إيقاعيّة الخطاب الشّعري وإن على صعيد إكسابه دلالات ما كانت لتكون في غيابه، ولكنّه يبقى فاعلا من بين فواعل أخرى تؤلّف مجتمعة الإيقاع يجب التّمحيص فيها.1.2. التّرديد الدالّي:يفرّق كوهين في التّرديد الدّالي بين ضربين منه: (60)كلّي totale: وهو الجناس المحدّد باِعتباره تطابقا للدّوال واختلافا في المداليل.جزئي partielle: وهو مجموع السّمات العروضيّة البانية للبيت الشّعري من قافية وبحر وغير ذلك. وقد حدّ أبو هلال العسكري التّجنيس بقوله:” التّجنيس أن يورد المتكلّم كلمتين تجانس كلّ واحدة منهما صاحبتها في تأليف حروفها على حسب ما ألّف الأصمعي كتاب الأجناس. فمنه ما تكون الكلمة تجانس الأخرى لفظا واِشتقاق معنى ومنه يجانسه في تأليف الحروف دون المعنى ” (61)، ثمّ يذهب في توسيع دلالة المصطلح ليشمل كلمتين متجانستي الحروف مع تغيير في ترتيبها، أو بزيادة حرف أو نقصانه (62). وما نؤكّد عليه هو كون التّرديد الكلّي ممثّلا في ظاهرة الجناس يعتبر أساسا من أسس الشّعرية الحديثة، والرّومنطيقية على وجه الخصوص، خاصّة أنّها محتفلة بمآتي الموسيقى في النّصوص مناكفةً للشّعرية الكلاسيكيّة الّتي غمطت حقّ الجناس في الحضور بأن عقدت قرانا بين الإكثار منه وبين التّصنع والتكلّف وتعطيل نسيب الفهم، بما أنّ الجناس عنصر مؤثّر في خلق الكثافة الإيقاعيّة وجعل الملفوظ الشّعري قائما على التّشابه حدّ التّطابق في مستوى البنية الصوتية لدوالّه؛ الأمر الّذي يرفضه النّظام اللّساني ولا تقبله قوانين الرّسالة التّواصلية الهادفة إلى الإبانة والإفهام والإفادة. وقد ارتأينا دراسة هذه الظّاهرة العاملة في ديناميّة الإيقاع الدّاخلي في قصيدة “المجنون” (63) دون سواها اختزالا للجهد ووقوفا على وظيفيّتها متحقّقة بكثافة في النصّ الواحد. وقد أثبت لنا البحث أنّ وحدات معجميّة ليست قليلة قد اشتغلت صلب القصيدة إمّا راجعة إلى ذات الجذر، وإمّا خاضعة لجذر معتلّ أسّه التّضعيف، أو قائمة على إبدال صوت من أصواته، أو على تغيير في رتبتها.* الجذر الموحّد: (ي ل ي)ليل
اللّيالي(ج و ر)جار
جيراني(ع ر ف)عرفتُ
ما عرفتُ(س ت ر)اِستترتْ
لم تستترْ(هـ ر ب)أهرب
مهرب(د غ ل)الأدغال
الأدغال(ع ل و)عال
الأعالي(ج ل ل)جلال
جلالي(ج م ل)جمال
جمالي(ش و ق)شوق
شوقي(ء ن س)أنسي
النّاس(هـ ج ر)أهجر
اهجر(ع ل م)العلم
العالم(س ي ر)سائر
سرت* الجذر المضاعف:الشّلال(ش ل ل)تردّد(ر د د)التّلال(ت ل ل)أغلالي( غ ل ل)الهلال(هـ ل ل)جلال)ج ل ل)كفّي(ك ف ف)الضّلال( ض ل ل)دليل( د ل ل)* الجذر القائم على إبدال صوت:خلعتخ + ل + (…)عخلصت
صالكاسي(…) + س + وكالحاسي
حجلاليج + (…) + ل لجمالي
مأمالي(…) + م + لءكمالي
كالشّمالش + (…) + لمأشكال
كيرقبُر + (…) + بقركب
ك إضافة إلى ما تمّ بيانه هناك جذور أخرى العمدة فيها تغيير في مراتب أصواتها، مثال “الأوحال” (و ح ل) و”المحال” (ح و ل). وجذور أخرى زادت على ذلك بإبدالات صوتيّة من قبيل: “سهول” (س ه ل) و” الأهوال” (ه و ل)، “ترى” (ر ء ي) و”البرايا” (ب ر ي)، “أدهشني” (د ه ش) و”الشّهب” (ش ه ب). ما يمكن أن نخرج به هو أنّ الجناس أو التّرديد الدّالي الكلّي يعتبر في هذه القصيدة وقصائد أخرى غيرها يضيق المجال عن حصرها مهيمنا أسلوبيا مولّدا للإيقاعيّة بل معزّزا الكثافة الإيقاعيّة في اِستراتيجيّتها الشّعرية. فالجنون بوصفه انفلاتا من سطوة النّظام وكسرا للكوابح يتجلّى أساسا في حرّية المبدع في خلقه الفنّي وتجديفه ضدّ التّيار الغالب، ولا نشكّ في أنّ مركزة التّجنيس في الخطاب الشّعري ثورة على نظام البلاغة التّقليدية ومحاربة لسننها. فهو ضرب لمبدإ الاقتصاد الّذي يسوس النّظام والرّسالة المتأطّرة حسبه، بما يطرح إمكانيّة اعتبار تكرار الملفوظات ذاتها بمثابة الأثر لاضطراب مرضي (Trouble pathologique) (64). من ناحية أخرى يعرب هذا التّوليد الاشتقاقي، والإقامة عند بعض الجذور أو الكلمات بعينها، عن ضرب من العشق النّاشئ بين الذّات المتلفّظة وملفوظها الشّعري، وعن لون من اللذة الّتي يستعذبها صاحب الخطاب، ويستدرج إليها القارئ، فيشاركه لذّة القراءة، ألم ينبّهنا ماكس جاكوب (Jacob Max) إلى أنّ عشق الكلمة إنّما يكون بتكرارها والتّغرغر بها (gargariser sen) ؟ وهو في هذه الحال يتصادى مع ريمون كونو (Queneau Raymond) في مقولته: “يكفي أن نعشق الكلمات لنكتب قصيدة” (65). ولقد استطاع أبو ماضي في المثال الّذي فكّكنا أن يشتغل على الجذر اللّغوي بأن يفجّره مرّة وفق صيغ اِشتقاقية مختلفة، أو بإخضاعه لقانون التّبادل والتّغاير مواقعًا، إيمانا منه بأنّ اللّغة هي بيت الشّعر والشّاعر الحقيقي الّذي يفرض على المبدع أن يرقص في إطاره تجديدًا وتثويرًا وخلقًا فريدًا.3.2. التّرديد المدلولي:على غرار ترديد الدّال قام جون كوهن بتقسيم التّرديد المدلولي إلى قسمين (66): – كليّ totale: وهو التّرادف الّذي يحدّ بكونه تطابقا في المداليل واِختلافا في الدّوال. ويمكن أن يتحوّل إلى إطناب أو تماد في الملفوظ على أساس تكديس جمهرة من المترادفات لتصوير الفكرة عينها، أو الشّيء ذاته بأكثر قوّة.- جزئي partielle: هو ترديد معنم sème من معانم مفردة تحت صورة مفردة أخرى.مثال ذلك: الصّعود إلى الأعلى. وقد رأينا في الصّنف الأوّل القدرة على تقوية الإحساس بالإيقاع أكثر من الثّاني، مثلما كان حظّ حضوره في مدوّنة البحث أوفر لذلك سيكون مركز اِهتمامنا دون سواه، ومن أمثلته قول الشّاعر في قصيدة “في القفر”: (67) فَإِذَا بِي أَقلِي القُصُــــورَ وَسُكْنَا هَا وَأَهْلَ القُصُورِ ذَاتِ القِبَابِفَهَجَرْتُ العُمْرَانَ تَنْفُضُ كَفِّي : عَنْ رِدَائِي غُبَــــارَهُ وَإِهَابِــــيوَتَرَكْتُ الحِمَى وَسِرْتُ وَإِيَّا هَا وَقَدْ ذَهَّبَ الأَصِيلُ الرَّوَابِــــي إذ يتّضح لنا من الشّاهد الشّعري ترديد ثلاثة أفعال تحوم حول نواة دلاليّة واحدة هي الرّحيل والاِنفصال؛ هذه الأفعال هي “أَقلي” و”هَجرتُ” و”تَركْتُ”، وترديد ثلاث مفردات أخرى مركوزة في حوض دلالي واحد هو المجتمع المتفسّخ، وهي “القصور” و”العمران” و”الحمى”. وبناء عليه يمكننا أن نبلورها في ترسيمة على النّحو الآتي: المدلول الأصليّ: 1 الانفصالالمدلول الأصلي: 2 المجتمع الجوريّأقليهجرتتركتالقصورالعمرانالحمىترديد المداليلترديد المداليلإنّ تفجير المدلول وإلباسه دوالّ مختلفة للتّعبير عن فكرة أمٍّ هي القطيعة الحاصلة بين الشّاعر والمجتمع الجائر هو سبيل الملفوظ الشّعري الّذي ينقال بطرق شتّى تبدو مطبوعة بميسم الفوضى في الظّاهر ولكن التّدقيق يثبت العكس، بل يكشف عن نظام عميق خفيّ هو سرّ الإبداع ومأتى أدبيّة الخطاب الشّعري. ومن ناحية مغايرة يمكن تأويل سلسلة المترادفات الممتدّة بين الفينة والأخرى بالقصور اللّغوي الّذي يزجّ بالشّاعر في مخزونها باحثا عن إمكان من إمكاناتها المعادلة لما يعتمل في باطنه من إحساس غريب لم يجد له قناة بعدُ. ومن الأمثلة الدّالة على التّرديد المدلولي في قصيدة “الأسرار”: (68) وَإِذَا الدُّجَى أَرْخَى عَلَيَّ سُدُولَهُ : أَدْرَكْتُ مَا فِي اللَّيْلِ مِنْ أَسْرَارِفَلَكَمْ نَظَرْتُ إلى الجَمَالِ فَخِلْتُهُ : أَدْنَى إلى بَصَرِي مِنَ الأَشْفَارِفَطَلَبْتُهُ فَإِذَا المَغَالِقُ دُونَهُ : وَإذا هُنَالِكَ أَلْفُ أَلْفِ سِتَارِنلاحظ جملة من الدّوال الشّعرية الخاضعة لقانون التّرادف أو موحية به، وبمستطاعنا أن نرسمها على نحو يكشف مساهمة التّرديد المدلولي في بناء جماليّة النّص الشّعري.
?
الرّؤية : الرّؤيا فالتّقابل بين المدلول النّواة ماثلا في الرّؤية وبين نواة مدلوليّة أخرى هي الرّؤيا، قد توزّع بين دوالّ متكاثرة ممّا سيشحن القصيدة بأبعاد إيقاعيّة ويكسبها أبعادا إيحائيّة تناكف المباشرة في الخطاب. خاصّة أنّ الملفوظ الشّعري، وقد شغّل التّرديد المدلولي، بات بمثابة طيّ داخلي يفرض على قارئه الوقوف على نسب التّناسل الذي يحكم بناءه والمسالك الخبيئة النّاسجة لتوارداته المشتغلة كمعاودات واستئنافات مطلبها الرّئيس هو الجمالي البحت.ومن القصائد الأخرى الّتي استجابت لمبدا التّرديد المدلولي ولوجزئيّا نذكر قصيدة “العميان” (69) من خلال مقطعين على الأقلّ:1) لَوْ دَخَلْتُمْ هَيَاكل الإِلْهاَمِوَسَرَحْتُمْ فِي عَالَمِ الأَحْلاَمِوَاِجْتَلَيْتُمْ سِرَّ الخَيَالِ السَّامِيوَعَرَفْتُمْ كَمَا عَرَفْنَا اللَّهَ : لَخَرَرْتُمْ أَمَامَنَا سَاجِدِينَا2) عَاشَ “مِلْتُنْ” فَلَمْ يَكُنْ مَذْكُورَاو”هُو مِيرُوس””كالشَّيخِ” كَانَ ضَرِيرَاوَلَقَدْ مَاتَ”ابْنُ بُرْدٍ” فَقِيرَاأَرَأَيْتُمْ كَمَا رَأَى العِمْيَانُ؟ : أَفَلَسْتُمْ بِنُورِهِمْ تَهْتَدُونَا؟وبالإمكان هندسة المثاليْن على النّحو الثّالي:* المدلول الأصليّ: النّبوّة
* المدلول الأصلي: النّـــبــي
محصّلة القول إنّ التّرديد المدلولي، منضافا إلى الظّواهر السّابقة، قد أسهم إسهاما واضحا في ترفيع درجة الشّعرية في النّصوص، وفي تقوية الإحساس بالتّوقيع الدّاخلي المؤطّر للبنى النّصية المجهريّة منها والجزئيّة. ثمّ إنّ التّرديد المدلولي مصاحبا للتّرديد العلامي والتّرديد الدّالي من شأنه أن يجعل الخطاب الموقّع بمثابة الكتلة الواحدة الّتي لا فكاك بين حلقاتها، أو بالأحرى بمثابة الدّال الأكبر الّذي تتحرّك في تجاعيده دوالّ صغرى بشكل اِسترجاعيّ فيه عود على بدء وانفتاح الجزء على الكلّ والتقاء الوحدات الدّنيا في مركز جامع ينتشل النّص من التّفكّك بنائيًّا ودلاليّا. ولكن للإيقاع الدّاخلي في مدوّنتنا ملامح أخرى لا يمكننا بحال السّكوت عنها، لعلّ أهمّها المتواليات الإيقاعيّة.3. المتواليات الإيقاعيّة:يعرّف محمّد الهادي الطّرابلسي المتواليات الإيقاعيّة بأنّها” سلاسل من الوحدات الكلاميّة الدّنيا أفعال أو أسماء عادة، تقوم كلّ سلسلة منها على ثلاث حلقات متجاورة موصولة برابطٍ معنوي تارة وبرابط لفظي تارة أخرى، ساقها الشّاعر في المقامات الّتي رام فيها تأليف صورة أو تكميل نظام، أو إجمال معنى أو إيجاز كلام” (70).قبل الانكباب على دراسة هذه الظّاهرة الإيقاعية نسوق ملاحظتين مهمّتين:- لم نشأ التصدّي لهذه الظّاهرة ترفا أو بذخا وإنّما ما رصدناه من تواتر لافت للانتباه لها في مدوّنة البحث هو الدّاعي العلمي الّذي حفّز الباحث على الوقوف عندها.- انبنت بعض السّلاسل على النّسق الثّلاثي ولكنّ كثرة أخرى منها تجاوزته إلى ما هو رباعي وخماسي وحتّى سداسي أحيانا. وسيكون منهجنا نصّانيا يبدأ برصد الظّاهرة وإكسابها دلالة وإعطائها وظيفة صلب العمليّة الإيقاعيّة فالإبداعيّة بشكل عامّ.الصّفحةالقصيدةالأمثلة الشّعرية567السّماءكُلُّ مَا النَّفْسُ تَشْتَهِيهِ مُبَاحٌ لاَ صُدُودٌ، لاَ جَفْوَةٌ، لاَ اباء578الحجر الصّغيرحَجَرٌ أَغَيْرٌ أَنَا وَحَقِيــــــرٌ لاَ جَمَالًا لاَ حِكْمَةً لاَ مَضَاءَ573تعاليْفَنَسْتَيْقِظُ لاَ فَجْرُ، وَلاَ خَمْرُ، وَلاَ كَاسُ606الزّمانمَهْمَا تَلاَطَمَ فَهْوَ لَيْسَ بِمُغْرِقِي أَوْ مُخْرِجِي مِنْهُ وَلاَ بِمُبَدِّدِي680الدّمعة الخرساءوَبَنُو الهَوَى أَحْلاَمُهُمْ وَرُؤَاهُمْ لاَ أَعْيُنٌ وَمَرَاشِفٌ وَنُحُورُ573تعاليْوَيَذْوِي الحُورُ وَالصَّفْصَافُ وَالنّرْجَسُ وَالآسُ578الحجر الصّغيروَهَوَى مِنْ مَكَانِهِ، وَهْوَ يَشْكُو الــ أَرْضَ وَالشُّهْبَ وَالدُّجَى وَالسَّمَاءَ625الأشباح الثّلاثةفَتَضَايَقَ قَلْبِي وَاضْطَرَبَـــــــا وَاِرْتَجَّتْ رُوحِي فِي صَدْرِي678الدّمعة الخرساءوَجَمَتْ فَأَمْسَى كُلُّ شَيْءٍ وَاجِمًا النُّورُ وَالأَضْلاَلُ والدّيْجُورُ672الشّاعر والملك الجائروَالرَّوْضُ؟ إِنَّ الرَّوْضَ صَنْعَةُ شَاعِرٍ سَمْحٍ طَرُوبٍ رَائِقٍ جَــــــــزِلِ683الفيلسوف المجنّحغَنَّيْتَهَا فَاسْتَيْقَظَتْ وَتَرَنَّحَتْ وَتَأَلَّقَتْ كَالكَوْكِبِ المُتَوَقِّدِ601الأسراروَالسِّحْرُ فِي الأَلْوَانِ وَالأَنْغَامِ وَالـ أَنْدَاءِ وَالأَشْذَاءِ وَالأَزْهَارِ690أمنية إلهةوَشَاءَ فَشَاعَ العِطْرُ فِي المَاءِ والضِّيَا وَفِي كُلِّ صَوْتٍ أَوْ صَدًى مُتَجَاوِبِ721لم يبق غير الكأسالحُبُّ فِيهَا بُلْبُلٌ وَخَمِيلَــــــــةٌ وَنَدًى وَأَضْوَاءٌ عَلَى الأَغْرَاسِ728كتابيفَكَمْ هَشَّ لِلأَنْسَامِ وَالنُّورِ وَالنَّدَى وَآوَى إِلَيْهِ الطَّيْرَ وَالذَرَّ والنَّمْلاَ
الملاحظة الأولى جماعها أنّنا لم نورد كلّ الأمثلة المؤشّرة على حضور المتوالية الإيقاعيّة وإنّما أوردنا أغلبها واِكتفينا بها لأنّها في تقديرنا تفي بالغرض. أمّا ثاني الملاحظات فتتعلّق ببنية القصائد الّتي اِحتضنت السّلاسل الكلاميّة ومفادها أنّ القصائد القائمة على نظام الشّطرين هي الإطار المناسب والمهيمن لورود المتوالية. بما يعني أنّ الشّاعر (إيليا أبا ماضي) على وعي بضرورة طيّ مساحة الصّمت القائمة بين الصّدر والعجز، ويبدو أنّ المتوالية كانت في كثير من المواضع خادمة لهذا المسعى لأنّها تجبر المتلفّظ على الاسترسال ومواصلة القراءة أو الإلقاء دون انقطاع. ونؤكّد على أنّنا نسجّل هذه الملاحظة مع كثير من التّحفّظ نظرا إلى كون نسبة تواتر المتواليات الإيقاعيّة في النّص الشّعري الواحد ليست بالكثافة المطلوبة الّتي ترشّحها لأن تؤثّر في نظام الوحدات التّلفّظية للقصيدة الكلاسيكيّة اللّهم جزئيّا. ودلاليّا توطّنت هذه المتواليات الإيقاعيّة في معان شعريّة مركزها الاِنفعال، فكان حضورها سندا أو حاملا إيقاعيّا لأبيات شعريّة يسكنها السّلب من خلال القرائن النصّية تارة (لا النّافية، ليس) والحمولات الدّلالية لبعض مفردات المعجم طورا (يذوي، يشكو، تضايق، وجمت)،هذا من ناحية. وعلى ضفّة نقيضة تعاقدت المتواليات في الشّواهد الستّة الأخيرة من الجدول مع الطّرب والفرح والنّشوة والاِنتشاء. ما يؤدّي بنا إلى القول بأنّ هذه الظّاهرة الإيقاعيّة قد اِرتبطت رأسا في مدوّنتنا بمراسم الحزن والفرح على حدٍّ سواء. حيث يستحيل السّياق الانفعالي للشّاعر الرّومنطيقي أفقا شعريّا مؤاتيا لتسويق الكلمة الحيّة إلى المتلقّي وتسييقها في تضاعيف النصّ. ورغم ذلك تبقى الذّات الشّاعر الحبلى بالمعنى في طيّ للمعنى بقدر نشر الكلمات، وحينئذ لا نشكّ في أنّ كثرة توارد المعطوفات وتتاليها وفق نسق أفقي هي في حكم اللّغو الاعتباطي ما دام العمق يسوده الصّمت.ولكن الوعي الإيقاعي الرّومنطيقي- إضافة إلى ما رصدنا- هو وعي موسيقي بامتياز العمدة فيه وفرة المسموعات وربّما فاض عنها فتجسّد في المرئيّات من خلال اِلتقاط الإيقاع من تجانس الفصول ومن تجانس عناصر الطّبيعة. ونرى تبلور هذا التّجاوب خاصّة في اشتغال المنجز الشّعري على استعارة الأصوات المحاكية لأصوات الطّبيعة، وفي توظيف الأصوات المفهومة بشكل لافت.4. الكلمات المحاكية لأصوات الطّبيعة: ما يجب أن نضعه في الحسبان بخصوص هذا التجلّي الإيقاعي هو أنّه إمعان في انتهاك القانون المتحكّم في العلامة اللّغوية القائمة على علاقة بين الدّال والمدلول العمدة فيها الاعتباط، أمّا نزوع البنى الصّوتية إلى محاكاة الوقائع الصّوتية الطّبيعية فهو في عمقه ميل عن مبدأ الاعتباط وانغراس في التّبرير والتّرميز. وهنا بالتّحديد تتوطّد المصادرة القائلة بأنّ نشاط الدّوال الشّعرية ليس مضارعا لنشاط اللّغة التّواصلية، بل أكثر من ذلك هو نشاط واقع تحت منطق تبريري فيه تكفّ العفويّة وتنحسر رقعة الاعتباط ليكون التّرميز نسيبا لمبدأ القصديّة الّذي يكشف عنه نسق التّبادل ونسق التّوزيع، كما تكشف عنه إجراءات أخرى من بينها الإجراء الصّوتي المحاكي، هذا الإجراء هو استثمار الشّاعر الرّومنطيقي لحضور المكوّن الطّبيعي في ملفوظه الشّعري، وهو لا يستدعي مكوّنات خرساء بل ناطقة بالإيقاع، باعثة على الشّعور والاحتفاء به حتّى أنّ القصيدة في أحايين كثيرة تنقلب لوحةً فنّيةً يتقاطع فيها السّمعي والمرئي، وتكون فيها الأصوات إحضارًا فوريًّا لمداليل ناطقة بالإيقاع ضرورة. ولنا في مدوّنتنا دلائل على استدعاء الأصوات المحاكية وجعلها ممكنًا إيقاعيًّا ومكوّنًا مكينًا في العمليّة الإبداعيّة:الصّفحةالقصيدةالأمثلة الشّعرية592المساءلَمْ يَسْلُبِ الزَّهْرَ الأريجَ وَلاَ المِيَاهَ خَرِيرَهَــــا592المساءمَازَالَ فِي الوَرَقِ الخَفِيفُ وَفِي الصِّبَا أَنْفَاسُهَا596الكمنجة المحطّمةوَلَكَمْ سَمِعْتُ خُفُوقَ أَجْنِحَةِ المُنَى وَحَفِيفَهَا فِــــــي نَغْمَةٍ تُوحِيهَا597الكمنجة المحطّمةوَلَكَمْ سَمِعْتُ دَبِيبَ أَشْبَاحِ الأَسَى عِنْدَ المَسَا فِي أَنَّةٍ تَزْجِيهَــــــا597الكمنجة المحطّمةمَا إنْ سَمِعْتُ أَنِينَـــــهُ وَنَشِيجَهُ إلاّ وَيعْرو النَّفْسَ مَا يَعْرُوهَا651الطّلاسمأَحَفِيـــــفُ المَـــــوْجِ سِــــــــرٌّ ضَيَّعْنَــــــاهُ؟661
الطّلاسم
لَذَّةٌ عِنْدِيَ أَنْ أَسْمَــــــــــعَ تَغْرِيدَ البَلاَبِـــــلْوَحَفِيفَ الوَرَقِ الأَخْضَرِ أَوْ هَمْسَ الجَدَاوِلْ679الدّمعة الخرساءوَمِنَ القُلُوبِ الخَافِقَاتِ صَبَابَةً قَصَبٌ لِوَقْعِ الرِّيحِ فِيهِ صَفِيرُ680الدّمعة الخرساءأَوْ جَدْوَلًا مُتَرَقْرِقًــا مُتَرَنِّمًا أَنَا فِيهِ مَوْجٌ ضَاحِكٌ وَخَرِيرُ680الدّمعة الخرساءأَوْ نِسْمَةً أَنَا هَمْسُهَا وَحَفِيفُهَا أَبَدًا تُطَوِّفُ فِي الرُّبَا وَتَدُورُ740شاعر الشّهوروَبَاعِثَ المَــــاءِ ذَا خَــــرِيرٍ وَمُوجِدَ السِّحْرِ فِي الخَرِيرِ761حديث موجةأَنْتَ الفَتَى، لَكَ فِي النَّسِيمِ حَفِيفُهُ، وَلَكَ الغَدِيرُ صَفَاؤُهُ وَخَرِيرُهُ760حديث موجةفَشَجَا الخِضَمَّ نَشِيدُهُ وَهُتَافُــــهُ فَسَهَا، فَضَاعَ هَدِيرُهُ وَزَئِيرُهُ هذه الأصوات المتواترة في نصوص كثيرة من مدوّنة البحث فيها إلحاح على التّناسب بين المباني والمعاني، بل تفصح عن حضور للإيقاع مضاعفٍ، في مستوى البنية الصّوتية للمفردات الّتي قامت في الغالب على التّضعيف، وفي مستوى الشّحنة الدّلالية الّتي ليس بالإمكان أن تكون إلّا شحنة إيقاعيّة. زيادةً على ذلك لاحظنا تشغيلا للمفردة من هذه المفردات على أساس من التّجاور مع إحدى أخواتها في ذات الصّدر شأن المثال الشّعري الخامس، أو في عجز البيت كما الحال في الشّاهد الأخير، وقد تشتغل وفق نسق ردّ الأعجاز على الصّدور شأن الأمثلة الشعرية: العاشر والثّاني عشر والثّالث عشر، ممّا يجعل النّصوص الشّعرية ملتقًى لتناغم ناسل من تراسلات منابتها عدّة ومراجعها متوزّعة بين ما هو مدلولي وما هو صوتي وما هو أسلوبي.ولكن الإيقاع مع الحداثة الرّومنطيقيّة هو كذلك لحنٌ وموسيقى، شدو وغناء، نشيد ورقص. فتتداخل هذه الفنون وتتوالج خالقة طقوسا اِحتفاليّة بميلاد الشّاعر-النّبي، فيها يتأصّل النّص الشّعري في قاع ميثيولوجي يذكّر بقصّة الخليقة وحادث التّكوين، حتّى نستأنف فعل التّأسيس باستمرار لنتخطّى ثقل البدايات وننفذ إلى الحياة. وربّما وجدت هذه التّجاوبات الموسيقيّة أحد تعبيراتها المثلى في الأصوات المفهومة.5. الأصوات المفهومة: الأصوات المفهومة ” هي الأصوات الّتي تدلّ عليها الموادّ اللّغوية دون أن تحكيها أو تكون صيغها دالّة عليها” (71)، وبعبارة أخرى، إنّ الإيقاع لم يعد فقط نتاج البنى الصّوتميّة للدّوال الشّعرية، وإنّما توحي به العلامات الشّعرية عن طريق شحناتها الدّلاليّة. وليس خافيا أنّ الجماليّة الرّومنطيقيّة قد بلورت رؤية بخصوص الإبداع الشّعري تُولي المقامات الإيقاعيّة من لحن ونشيد وموسيقى الأهمّية القصوى، ما يجعل النّبوة عند الرّومنطيقيين إيقاعيّا على صلة متينة بنبوّة أورفي (Orphée)، ألا وهو نبيّ الوتر والشّجن كما حدّثت الأسطورة اليونانيّة. ولم يكن الشّاعر من وراء فعله هذا قاصدا إرهاق نصّة أو إلزامه بما لا يلزم، وإنّما مركز اهتمامه بعث روح جديدة في النّصوص الشّعرية، حتّى تتجاوز رتابة القصيدة الكلاسيكيّة، وجمودها الإيقاعي، إذ أنّ الحداثة الرّومنطيقيّة تبحث عن الانسجام والتّناغم والتّجانس، وإزالة النّفور والتّناقض من العالم، ومن الخطاب الشّعري صنيعة العلامة اللّغوية. فما هو أثر الأصوات المفهومة في الخطاب الشّعري عند إيليا أبي ماضي تجلّياتٍ وأبعادًا فنّيةً؟الصفحةالقصيدةالأمثلة الشّعرية
555
الفاتحةيَا رَفِيقِي..أَنَا لَوْلاَ أَنْتَ مَا وَقَّعْتُ لَحْنًاكُنْتَ فِي سِرِّي لَمَّا كُنْتُ وَحْدِي أَتَغَنَّى572
تَعَالَيْوَهَذَا الطَّيْرُ تَيَّاهٌ فَخُورٌ بِالأَغَارِيدِفَمَنْ ذَا عَنّفَ الزَّهْرَةَ أَوْ مَنْ وَبَّخَ الشَّادِي؟588في القفروَصَلاَتِي الَّتِي تَقَولُ السَّوَاقِي وَغِنَائِي صَوتُ الصِّبَا فِي الغَابِ596الكمنجة المحطّمةكَمْ هَزَّنِي الشَّدْوُ الرَّخِيمُ فَسَاقَطَتْ نَفْسِي هُمُومًا أَوْشكَتْ تُبْلِيهَا680
الدّمعة الخرساءفَسَتَرْجِعِينَ خَمِيلَةً مِعْطَارَةً أَنَا فِي ذُرَاهَا بُلْبُلٌ مَسْحُورُيَشْدو لَهَا وَيَطِيرُ فِي جَنَبَاتِهَا فَتَهِشُّ إِذْ يشدو، وَحِينَ يَطِيرُ683الفيلسوف المجنّحيَا أَيُّهَا الشَّادِي المُغَرِّدُ فِي الضُّحَى أَهْوَاكَ إن تُنْشِدْ وَإِنْ لَمْ تُنْشِدِ690أمنية الهةوَشَاءَ فَشَاعَ العِطْرُ فِي المَاءِ وَالضِّيَا وَفِي كُلِّ صَوْتٍ أَوْ صَدًى مُتَجَاوِبِ711الفراشة المحتضرةوَكُلَّمَا نَوَّرَتْ فِي السَّفْحِ زِنْبَقَــــةٌ صَفَّقْتِ مِنْ طَرَبٍ وَاهْتَزَّ عِطْفَاكِ739تأمّلاتوَشَدَوْتُ مَعَ أَطْيَارِهَا، وَسَهَرْتُ مَعَ أَقْمَارِهَا، وَرَقَصْتُ مَعَ شَلاَّلِهَا750
ذكرىإنِّي امْرُؤٌ لاَ شَيْءَ يُطْرِبُ رُوحَهُ وَيَهِزُّهَا كَالزَّهْرِ وَالأَلْحَانِاللَّحْنُ مِنْ قُمْرِيَّـــــــةٍ أَوْ مُنْشِـــــدٍ والزَّهْرُ فِي حَقْلٍ وَفِي بُسْتَانِهَذَا يُحَرِّكُ بِي دَفِيـــــــــــنَ صَبَابَتِي ويهزُّ ذَاكَ مَشَاعِرِي وَكِيَانِي
هذا النّزر القليل من مدوّنة تعجّ بالأصوات المفهومة دليل قاطع على أنّ أبا ماضي قد أزمع الرّحيل عن عالم التّناقض المنفّر، موجّها كلّ حواسّه وأحاسيسه نحو الموسيقى وقد تحقّقت في شعره نتيجة تراكب مستويات عدّة، منها خاصّة ما هو ملتقط من عالم الطّبيعة، ذلك أنّ الرّؤية الرّومنطيقية اشتدّ عودها في محضن القداسة والبراءة حيث الانسجام البدئي والتّناغم الأصلي والوحدة الكونيّة، وهذا يلتئم فقط في أفق الطّبيعة العذراء في صمتها وفي نطقها: صمتها مدعاة إلى التفكّر والتّدبر ونطقها إيقاع فطري مثالي وكوّة منفتحة على مدائن الشّعر الحقّ، أفليس أبو ماضي هو القائل في بعض ما قال: (72)وَاسْتَمعْ للشِّعْرِ مِنْ بُلْبُلِهَا : فَهْوَ الشِّعْرُ الّذِي لَيْسَ يُضَاهَىفجوهر الشّعر حسب التّصور الرّومنطيقي لا تستوفيه البلاغة ولا تأتي عليه القواميس، بل هو وحي نفسي يبحث له عن حضور في الخارج، ولا يكون إلّا تهدّجا وتقطّعا، وشقوقا متسرّبة إلى المعاني، وليس الالتجاء إلى وحدات لغويّة من قبيل: التّغريد، البلابل، الألحان، التّصفيق وهلمّ جرّا إلّا تلافيا للارتكاس الإيقاعي الكلاسيكي، وبعثا للشّعر في نفَس حيٍّ لم تستهلكه الذّائقة، ونتيجة آليّة للتّصوّر الرّومنطيقي المقترح بخصوص الجميل الشّعري، وقد عبّر أبو ماضي عن ذلك فتأنّق في العبارة لمّا أعلن موقفه الشّعري: (73)أَنَا لاَ أَسْتَعْذِبُ الشِّعْرَ إِذَا : لَمْ أَجِدْهُ رَوْضَةً وَأُفُقَاممّا يشي بطيّ صفحة الجلجلة والصّخب، وتدشين عهد حادث في الخلق الفنّي يمسي فيه الشّعر كونا مضافا إلى الكون بما يطفح به من منابع في التّخييل والتّوقيع لا قبل للملفوظ الإحيائي بها. لقد كرّسنا هذا المقال لبحث إيقاع الخطاب / نحو الإيقاع ، ومرجع هذا الاختيار أنّ إيقاع الخطاب قد مثّل موطن الإضافة الحقيقيّة في الممارسة الشّعريّة الرّومنطيقيّة، ودلّل بجلاء على أنّ الشّاعر حسب عبارة ميشونيك (Meschonnic) الرّشيقة هو “مبتكر الإيقاعات وهادمها” ( rythmes de briseur un et rythmes de inventeur) (74). فاستوقفتنا، ونحن نباشر الجداول والخمائل درسًا، مآت إيقاعيّة ليست قليلة خلقها كيمياء اللّفظ بدءا بإيقاع الأصوات معزولة مرورا بالتّرديد الّذي تبدّى في حكم اللّازمة مرّةً وجناسًا أو ترجيعًا للدّالّ والمدلول أخرى، ويعني هذا في ما يعني أنّ أيّ حدث لغوي مُخصّب بالإيقاع ومكتنز به. تقول جوليا كريستيفا (Krestiva Julia): “الإيقاع خاصّية مُحايثة للوظيفة اللّغوية وكامنة فيها” (75). ثمّ كانت لنا وقفة عند استخدامات لا تقلّ أهمّية منها المتوالية الإيقاعيّة والأصوات المحاكية والأصوات المفهومة ما جعل النّبوّة الشّعرية التقاطا لموسيقى الطبيعة وبثّا لها في الخطاب بحثا عن تجاوبات تحاكي الانسجام البدئي فتلوح وظيفيّة العناصر الطّبيعيّة حاضرةً في الأقاويل وتشفّ أسطورة الفتى الموسيقي من وراء الاشتغال على الدّالّ. ومنتهى القول، إنّ إيقاع الخطاب بوصفه حضورا أسلوبيّا كثيفا، وتجلّيا فائضا عن الأسلوبيّ لا يقلّ كثافة، وباعتباره دائرة تقاطع تشهد على تساند الذّات والإيقاع والمعنى، يمكن أن نقرّ بكونه يمثّل من جهة أولى عنصرا مهيمنا لا غنى عنه في حبك النصّ الشّعري الرّومنطيقي، وفي نظم بناه الصّغرى والمجهريّة، وكذلك في بناء المعنى، وترشيحه لأن يتكثّر فيؤول بنا إلى تقصّي المعاني الثّواني، والإفادة من التّدلال على أساس أنّه إغناء للكون الشّعري، وجعله يهجس بأكوان محتملة، وأخرى تسكن في أقواس تأويليّة مشرعة، وتقيم في الأفق المفتوح، وهذا ميسم من مياسم الحداثة والإبداعيّة. ومن جهة ثانية، ندفع بهذا المهيمن، أو المكوّن البؤريّ، إلى أن يتقرّر عنصرا تكوينيّا يحدّد هوية النّوع الأدبيّ الرّومنطيقيّ وثابتا من ثوابت القصيدة الرّومنطيقيّة، وهو في حقيقة الأمر يشقّ الممارسة الشّعرية بمختلف محطّاتها، وعلى تنوّع انعطافاتها، بل أكثر من ذلك إنّه ينتظم الكون بصفته كتابا سيميائيّا مُوقّعا توقيعات دوريّة واستئنافيّة، تُشرعن للإنسان ـ هذا الكائن الإيقاعيّ ـ أن يصطاد الوتر على هدي أورفيوس بدلا من أن يقتنص القمر أسوة ببرومثيوس.
الهوامش:1- Jean Cohen, Structure du langage poétique, ?d. Flammarion, Paris, 1966., p. 7.2- R. Jakobson, Essais de linguistique générale, T.1, Les fondations du langage, ?d de Minuit, 1973, p. 210.3- Ibid.1, p. 222.4- R. Jakobson, Huit questions de poétique, ?d. Seuil, Paris, 1977. p. 77.5- Julia Kristeva, La révolution du langage poétique, ?d. Seuil, Paris, 1974, p. 221.6- يقول هنري ميشونيك:”Une page est toujours un rythme, est un moment du rythme qu?est l?unité-livre”راجع:Henri Meschonnic, Critique du rythme : anthropologie historique du langage , ?d. Verdier, 1982, p. 303.7- نقلا عن: محمّد صابر عبيد، القصيدة العربيّة الحديثة بين البنية الدّلالية والبنية الإيقاعيّة، ص. 18.8- كريستوفر كودويل، الوهم والواقع: دراسة في منابع الشّعر، ص. 18.9- Jean Cohen, Structure du langage poétique, p.95.10- A. Kibédi Varga, Les constantes du poème, Analyse du langage poétique, ?d. A. et J. Picard, Paris, 1977, p. 14.11- هذه الفكرة متواترة في كتابات هنري ميشونيك، وهو المختصّ في الإيقاع ونقده. اُنظر على سبيل التّمثيل قوله:”Il ne s?agit que de comprendre sans dévier, que la conscience poétique est, organiquement, de l?alexandrin au poème en prose, conscience rythmique”.Henri Meschonnic, Pour la poétique I, ?d. Gallimard, 1970, p. 68.12- Michel Pougeoise, Dictionnaire de poétique, ?d. Bélin, 2006, p. 411. 13- اُنظر للتّوسّع: Julia Krestiva, La révolution du langage poétique, p. 214.وفي هذا المضمار أيضا تحدّث ميشونيك عن تحرير الإيقاع من ربقة العروض فقال:”La relation du rythme au sens et au sujet, dans un discours, libère le rythme du domaine de la métrique”. Voir : H. Meschonnic, Critique du rythme, p. 72.14- أدونيس، زمن الشّعر، دار السّاقي، ط.6، 2005، ص. 154.15- فاسيلي كاندنسكي، الرّوحانيّة في الفنّ، ت. فهمي بدوي، تقديم: محمود بقشيش، الجمعيّة المصريّة للنّقاد بالتّعاون مع الهيئة العامّة للكتاب، 1994، ص. 32.16- “…annonce la possibilité d?abandonner le mètre traditionnel au profit d?une nouvelle organisation rythmique”Julia Kristeva, La révolution du langage poétique, p. 239.17- إيليا أبو ماضي، الأعمال الشّعرية الكاملة، الجداول، جمع الشّعر وقدّم له د. عبد الكريم الأشتر، ط.1، الكويت: مؤسّسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، 2008، ص. 556.18- محمّد قوبعة، الرّومنطيقية ومنابع الحداثة في الشّعر العربي، جامعة منّوبة ? كليّة الآداب والفنون والإنسانيّات بمنّوبة، ط.2، 2011، ص ص. 502-503.19- إيليا أبو ماضي، مصدر نفسه، الجداول، ص. 555.20- عبد السّلام بنعبد العالي، ثقافة الأذن وثقافة العين، دار توبقال للنّشر، ط.1، 1994، ص. 8.21- ميخائيل نعيمة، المجموعة الكاملة، مج.7، بيروت، دار العلم للملايين، 1974، ص. 214.22- R. Jakobson, Essais de linguistique générale, T.1, p. 216.23- ميخائيل نعيمة، المجموعة الكاملة، مج.3، الغربال، ص. 425.24- مرجع نفسه، ص. 422.25- مرجع نفسه، ص. 427.26- مرجع سابق، ص. 425.27- M. Pougeoise, Dictionnaire de poétique, p. 411.28- جبران خليل جبران، المجموعة الكاملة، مج.6، العواصف، قدّم لها وأشرف على تنسيقها ميخائيل نعيمة، دار صادر، نوبلس، ط.4، 1996، ص. 33.29- Henri Meschonnic, Critique du rythme, p. 705. “Le rythme est la matière constant du sens”.30- Ibid., p. 72.31- A. Kibédi Varga, Les constantes du poème, p. 16.32- Henri Meschonnic, Op. Cit., p. 71.33- Ibid., p. 7234- Ibid., p. 70.35- محمّد الهادي الطّرابلسي، تحاليل أسلوبيّة، تونس، عالم الكتاب، سلسة “دراسات أدبيّة و نقديّة”، 2006، ص. 37.36- الهادي العيّادي، خصائص الكتابة عند جبران خليل جبران، تونس، دار سحنون للنّشر، 2007، ص. 132.37- نقلا عن: الهادي العيّادي، مرجع نفسه، ص. 132.38- إيليا أبو ماضي، الأعمال الشّعرية الكاملة، الجداول، ص. 588.39- A. Kibédi Varga, Les constantes du poème, p. 111.40- مصدر نفسه، الجداول، ص. 601.41- مصدر نفسه، الخمائل، ص. 699.42- مصدر نفسه، الجداول، ص. 595.43- Henri Meschonnic, Critique du rythme, p. 707.44- A. Kibédi Varga, Les constantes du poème, p. 111.45- Jean Cohen, ” Poésie et redondance “, in Poétique, N?28, seuil, 1976, pp. 413-422.46- Jean Cohen, Op.Cit., p. 414.47- Ibid., p. 414.48- Ibid.,p. 416.49- Ibid., p. 417. 50- Ibid., p. 415.51- Ibid., p. 415.52- Ibid., p. 412.53- A. Kibédi Varga, Les constantes du poème, p. 200.54- اُنظر: الهادي العيّادي، خصائص الكتابة عند جبران خليل جبران، ص. 136 وما يليها.55- مرجع نفسه، ص ص. 137-138.56- مبروك المناعي، الشّعر والسّحر، دار الغرب الإسلامي، ط.1، 2004، ص. 23.57- Ernst Cassirer, La philosophie des formes symbolique, T.1 : le langage tr. de l?Allemand par Jean Lacoste, Paris, les éditions de Minuit,1972., p. 213.58- ورد في الحديث “اللهمّ زدني فيك تحيّرا…” نقلا عن: سعاد الحكيم، المعجم الصّوفي، المؤسّسة الجامعيّة للنشر والتّوزيع، دار ندرة للطّباعة والنّشر، ط.1، 1985، ص ص. 359-360.ولا تقف الحيرة على معنى الاضطراب والتّردّد والتّيه بل تعني أيضًا الامتلاء والكمال إذ ورد في “اللّسان” ” واستحار المكان بالماء وتحيّر: تملّأ. وتحيّر فيه الماء: اجتمع. وتحيّرت الأرض بالماء إذا امتلأت. وتحيّرت الأرض بالماء لكثرته. واستحار شباب المرأة وتحيّر: امتلأ وبلغ الغاية”. اُنظر: ابن منظور الإفريقي المصري (أبو الفضل جمال الدّين محمّد بن مكرم)، لسان العرب، مج. 2، مادّة (حَيَرَ)، بيروت، دار صادر، ط.1، 1997، ص. 196 وما يليها.59- الهادي العيّادي، خصائص الكتابة عند جبران خليل جبران، ص 135.60- Jean Cohen, “Poésie et redondance” , p. 414. 61- أبو هلال العسكري، كتاب الصّناعتين: الكتابة والشّعر، تحقيق محمّد علي البجاوي ومحمّد أبو الفضل إبراهيم، صيدا-بيروت، المكتبة العصريّة، 1998، ص. 321.62- مرجع نفسه، ص. 331.63- إيليا أبو ماضي، الأعمال الشّعرية الكاملة، الجداول، ص. 609.64- Jean Cohen “Poésie et redondance”, p. 415.65- Cité par : A. Kibédi Varga, Les constantes du poème, p. 25.”Les mots il suffit qu?on les aime/pour écrire un poème”.66- Jean Cohen, Op.Cit., p. 414.67- إيليا أبو ماضي، الأعمال الشّعرية الكاملة، الجداول، ص ص. 588-589.68- مصدر نفسه، الجداول، ص. 601.69- مصدر نفسه، الجداول، ص ص. 602-603.70- محمّد الهادي الطّرابلسي، تحاليل أسلوبيّة، ص ص. 32-33.71- مرجع نفسه، ص. 35.72- إيليا أبو ماضي، الأعمال الشّعرية الكاملة، تبر وتراب، ص. 865.73- مصدر نفسه، ص. 938.74- Henri Meschonnic, Critique du rythme, p. 708.75- Julia Kristeva, La révolution du langage poétique, p. 221.
1
محرز راشدي