حين ندخل فَلَك الشعر العربي بقلبِ العاشق المسكونِ بشهوة البحث عن مكامن الفتنة في جسد هذا الشعر؛ الذي يعبُر الأزمنة بقوةٍ، نجدنا أمام ظواهر فيه تكتنز أسرارا ممعنةً في التخفي،وألوانا ريانةً من القول الأول الصافي، تُمدنا بالضوء لتحمُّل السير في شُعب الحياة وانعطافاتها وتقبُّلِ ما تخلفه فينا من أفاعيل بيضاء أو سوداء.ولم يكن عبثا تقسيم الدارسين لجسد هذا الشعر في زمن نضوجه إلى أجزاء أطلقوا عليها اسم الأغراض،فهم كانوا يريدون بذلك رسم خريطة تُجلي تضاريسه وتُعين على التوغل في أسراره التي ما تنفك تُمعن في الانحجاب ،رغم كل الآليات التي استخدمت في مقاربتها والدنو منها.فالشعر المُتَرَبْرِبُ أسراراً يبقى مندفعا في الزمن،لا تقبض عليه شباك النقد والدراسة مهما أوتيت من حصافة وحِكمةٍ وحِنْكةِ،وذلك لأنه جوهر الإنسان المتدفق في نهر الوجود.
فجسد الشعري العربي الفاتن،والمثمر بالأغراض،هو كذلك مُكتنز بضربٍ من الشعرِ فريدٍ،قلما تمَّت الإشارة إليه أو تم الدنو منه دراسةً داخل هذه الأغراض، نقصد بذلك شعر المقاولة،الذي امتد نبضاً مُعافًى في هذا الجسد الشعري منذ ولادته،واكتسح مساحة مَقول الشعراء على مرِّ التاريخ منذ المُهلهل إلى إيليا أبي ماضي في هذا الزمن. ولنا أن نمثل له بقول امرئ القيس في معلقته:
وَيَوْمَ دَخَلْتُ الْخِدْرَ..خِدْرَ عُنَيْزَةٍ
فَقَالَتْ:لَكَ الْوَيْــــلاَتُ إِنَّكَ مُــرْجِلِي
تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الْغَبِيطُ بِنَــا مَـعاً
عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأَ الْقَيْسِ فَانْزِلِ
فَقُلْتُ لَهَا:سِيرِي وَأَرْخِي زِمَامَهُ
وَلاَ تُبْـــعِــــدِينِـــي مِنْ جَنَاكِ الْمُعَلَّلِ
وبقول عمر ابن أبي ربيعة؛ الذي قلما يخلو نص من نصوصه الشعرية من صيغة قال وقلت:
قَالَ لِي صَاحِبِي لِيَعْلَمَ مَا بِي:
أَتُحِبُّ الْقَتُولَ أُخْـــتَ الــرَّبَابِ
قُلْتُ: وَجْدِي بِهَا كَوَجْدِكَ بِالْمَاءِ
إِذَا مَا مُـــنِعْتَ بَرْدَ الشَّرَابِ
ومع ذلك صمت النقاد عنه ،كأنه غير كائن،أو كأنه لقيط،لا يُشرِّفُ الحديثُ عنه الشعرَ ذا الأغراضِ المرسومةِ الوسيمةِ.
فما مفهوم هذا الشعر؟ وما هي خصائصه الفنية والجمالية والدلالية؟وما الإبدالات التي أضافها كقيمة عُليا في المتخيَّل الشعري؟.
في المفهوم: ينفتح الجذر اللغوي لمادة(قَوَلَ) في المعاجم اللغوية على كثير من الدلالات الخِصبة كالتلفظ والإشارة والسقوط والحُكم والاعتقاد والمخاطبة والرواية والافتراء والمشي والظن والضرب والقتل والموت والإقبال والتهيؤ والاستعداد للأمر،وذلك حسب السياقات التي ترد فيها هده المادة بصيغة (فَعَلَ) المجردِ.أما إذا وردت مزيدة بصيغة (فاعَلَ) فإنها تصير بمعنى بَاحَثَ وَجَادَلَ وفاوَضَ وأعطى وابتدعَ وسَاومَ،فالمفاعلة هنا تستوجب طرفين ماديين أو معنويين يجري الأمر بينهما وفق شروط خاصة. وعليه؛ فإن المقاولة في الميادين المادية تعني اتفاقا بين طرفين، يتعهد أحدهما بأن يقوم للآخر بعمل معينٍ حسب أجر محدودٍ في مدة معينة،كأنْ يُقاول شخصٌ شخصا آخر بمائة مليون ليبنيَ له بيتا في مدة سنة.
والذي يعنينا من هذا التشعُّب اللغوي المدهش في مادة (قول) هو دلالة المقاولة فيها على الظن والابتداع والابتكار(1). فالشاعر في هذا اللون من الشعر يبني نصه على (قال) و(قلتُ) أو(قالت) و(قلتُ)،أي على ضميرين هما بمثابة صوتين مبتكَرين،يتحدث من خلالهما ،ويُجري القول الشعري بينهما في صورة حوار متسمٍ بسمة الحِجَاجِ،حول قضيةٍ (مَا)،بحيث يسعى كل صوت إلى إقناع نظيره بوجهة نظره،مما يجعل من النص الشعري ميدانَ صراع فكري وعاطفي ، يتنامى في خط درامي،يترقب المتلقي خاتمته بشتى الافتراضات.فالمقاولة هنا تنصبُّ على عمل إبداعي تخييلي،لم تُحدَّد له مدة،لأنه مرتبط بمدى قوة المخيلة والبداهة عند كل صوتٍ،ومدى استيعابه للموضوع الشعري الذي تدور حوله المقاولة.إذ الشعر في مثل هذه الحالات ليس لغوا،وإلقاء للكلام على عواهنه،وإنما هو صناعة وضربٌ من النسج،وجنسٌ من التصوير،(2)وتوغلٌ في غير المألوف.
ولقد استطاع الدرس النقدي الحديث الإطلالةَ من هذه الزوايا الأربع على مجموعة من المعطيات الفنية التي لم تكن من قبلُ داخلة ضمن معايير نقد النص الشعري،كالسردية والبنية الحوارية،والبنية الدرامية،وتعدد الأصوات،وما سوى ذلك من تقنيات ومصطلحات استعارتها القراءة النقدية الحديثة للشعر من حقول عدة.وتهمنا من هذا كله الحوارية التي هي بنية تركيبية تنطلق دلالتها من دلالات الخطاب بشكل عام.ومن ثمة فإن كل نص منتَجٍ يحتمل ـ من خلال علاقته بمتلقيه ـ دلالة تفاعلية حوارية،وهذه الدلالة لا تتحقق وجوديا إلا في الملفوظ الذي هو ـ حسبَ بنفينيست Benveniste ـ قولٌ يفترض متكلما ومخاطَبا،ويتضمَّن رغبةَ الأول بالتأثير في الثاني بشكل من الأشكال.وهذا يشمل الخطاب الشفهي بكل أنواعه ومستوياته ومدوناته الخطية،ويشمل الخطاب الخطي الذي يستعير وسائل الخطاب الشفهي وغاياته،أيْ كل خطاب يتوجه به شخص إلى شخص آخر مُعَبرا عن نفسه بضمير المتكلم أو غيره. وبهذا يكون النص ـ تبعاً لباختين ـ تضمينا لخطاب آخر، وملفوظا في آخر.وعلى هذا الأساس بُني شعرُ المقاولة،ولحقه ما لحق النص الشعري العربي من تحولات عبر سيروراته التاريخية، وفي كل هذه التحولات تبرز ظاهرة حضور السرد فيه، وما يتعلق به من حوار،وشخصيات ،وفضاء،وزمان.وكل ذلك مبني على قضية يتأسس عليها البناء الدرامي والتصوير المَشهدي، وهو ما ينقل النص الشعري السردي من نظرية نقاء الجنس الأدبي إلى تداخل الأجناس الأدبية،ولو في حدود نسبية،فتفاعل المكونات البنائية المختلفة في النص الشعري الحواري يجعله ينحو إلى الدرامية وما يواكبها من مفارقات منطقية، حيث يجسد أبعادا رؤيويةً في صورة شخصين يتحاوران حول قضية ما، بكل ما أوتيا من سلاح تنخييلي، ومن خلال هذا الحوار ودرجة قوته تنمو القصيدة وتبرز دراميتها،وتتبدى خصائصها الفنية والجمالية والدلالية في مرآة المقابلة الصوتية من جهة،وفي مرآة المعجم اللغوي لكلا الصوتين.
في الخصائص: يكتنز البناء النصي المقاولاتي أحوالا نفسية وحسية وحيوية،كما يكتنز أطوارا ثقافية معرفية مستقرة ومتغيرة،الأمر الذي يرفعه إلى أن يصبح مَعرِضًا إثنوغرافيا،يرصد أساليب الحياة والتقاليد والقيم في مكان وزمان معينين،وعندما يكون النص جَمَّاعاً لكل هذه الأحوال والأطوار،فمن البديهي أن تحضر الصناعة،وأن يؤديَ النسج دوره المنوط به (3)، وأن يتخذ النص هنا صبغة حوارية،خالية من التعسف،تجعله بليغا ومقبولا”تحتضنه الصدور،وتختلسه الآذان،وتنتهبه المجالس،ويتنافس فيه المنافس بعد المنافس”(4)، فهذه العناصر وغيرها هي التي تجعل فصيلة دمه من فصيلة شعر المقاولة ذي الخصائص الفنية والجمالية والدلالية.
1ـ كتابةٌ مُتحرِّشة- بالزمن: فالنصوص في شعر المقاولة ما هي إلا كتابة متحرشة بالزمن،تُكرهه على إعادة ما سبق أن نَهَبَه واختطفه من فضاءات الجسد،ومن فضاءات الروح.فهو في ضوء هذا الاسترداد ملزم بالخروج عن طريقه المعتاد،والسير في الاتجاه المضاد لمساراته الطبيعية،حيث الماضي يُفضي إلى الحاضر،في أفق إطلالة مستقبلية متوقعة(5). وهذه الاستعادة ليست سوى استجابة لنداء حياة كانت قد تعرضت من قبل خلسة للإجهاض،خلال لحظة انبثاقها.فالمُجْهَضُ ضدا على إرادته لا يتوقف عن النداء إلا بعد تحقق فعل استعادته من جديد، وإيلائه حقه في تكريس شرط حضوره ووجوده،بمعنى أن الكتابة الشعرية هنا بقدر استعادتها لما انمحى في الزمن، بقدر ما تعتني به مؤقتا ليتحقق بذلك خروجه من سلطة الإفناء إلى فتنة الإحياء،بوصفه ذاكرة حيةً تعيش حربها المفتوحة مع صيرورتها المدمرة.
وسنمثل لكل هذا بثلاث صورٍ من هذا الشعر:
الأولى: تُبرز الصراع الفلسفي على مستوى فهم الوجود من حيث حركيتُه، وتُكثِّفه قصيدة “ابتسم” لإيليا أبي ماضي،التي يختزل فيها القولُ الشعري القولَ الفلسفي،ويرتقي به إلى أفق إنساني شامل،الأبدُ زمنُهُ ،والإنسانُ غايتُه.كل ذلك في حوار حجاجي بين صوتين ،أو ذاتين مُعَبِّرتين عن تصور خاص للحياة وللوجود،بلغة يسكنها التوتر والانشراحُ معا:(الكامل)
قلتُ: ابتسمْ يكفي التجهم في السما !
قالَ: السماءُ كئيبةٌ ! وتجهما
لن يرجعَ الأسفُ الصبا المتصرما !!(6)
قال: الصبا ولّى! فقلت له: ابتــسمْ
فالنظرة الشعرية هنا منتزعةٌ من ماء التفلسف الصافي،المنحدرِ من أعالي التفاؤل التي لا تحجبها غيوم التشاؤم النتْشَوي، وكِسَفُ السوداوية الشُّوبِنْهَاوْرِيَّة،ولا فلسفات يأْسٍ أنبتَها واقع مأزوم في أراضي النفوس.وبهذا يكون الشعر أُفقاً للحياة حين تتنكر لها بعض الفلسفات..أفقاً للتحاور بين الشيء ونقيضه،وبين الصوت وضده.مما يجعل من النص بناءً موازيا،إذا غاب عنه الصوت الثاني غاب بالضرورة الصوت الأول،فهو متوقف عليه ومستند إليه،إذ من دونه يصبح النص في شعر المقاولة نصا معدوما،فالصوتان في هذا اللون من الشعر هما المبرِزَان لماهيته وجوهره،وهما المجسِّدان لشكله.
ويُلاحظ أن هذه الحوارية فيه تضع قارئه في أفق انتظار لما يُمكن أن يقع،وهذا مجال الخَلْق الفني،والتوجيه الاجتماعي،وذلك لأن المواضيع فيه ـ وإنْ انطلقت من الذات ـ هي كلية عامة،ترمز إلى نماذج بشرية(7). فهاجس الشاعر في هذا اللون من الشعر يكون مُنصَبًّا على ابتكار الصور البِكْرِ ؛التي تكون نابعة مما يتراءى له،لا مما يراه،إذ عينُ حدسه في هذه الحالة تكون أصدقَ من عين رأسه،ولذلك فهو وَفِيٌّ لطبيعته هو،لا يستعير عيون الآخرين ومشاعرهم،(8) وإنما ينغمر في أمواجِ موسيقى روحِه التي تقود وحداتُها الإيقاعية المتكررةُ نصَّه إلى دوائر رحبةٍ متجددة من الدلالة والإيحاء،على الرغم من الإطار والقالب. والتخلي عن وظيفة الإيحاء التي تنهض بها الموسيقى،لا عِوضَ له،إلا إذا ارتضى الشاعر أن يفقد إحدى ساقيه رغبة في اقتناء ساقٍ اصطناعية،وحينذاك تكون بدائلُه واهيةً ومبهمة.
الثانية: وعلى هذا النهج من البناء تسير نصوصُ شعرِ المقاولة منذ ظهورها إلى الوجود حتى الآن.فبعد نص إيليا أبي ماضي الذي هو من الزمن المعاصر،سنصعد إلى الزمن الأموي مع نص آخر للشاعر وضَّاح اليمن. واسمُه الكامل هو عبد الرحمن بن إسماعيل بن عبد كَلال الحِمْيري الخُولاني،المعروف بوضَّاح اليمن.قيل هو من الفُرس الذين قدموا اليمن لُنُصرة سيف بن ذي يزن على الحبشة،وكان من حُسْنه يتقنَّع في المواسم مَخافة العين.وقد رأته في الحج أمُّ البنين زوجةُ الوليد بن عبد الملك،ففُتِنتْ به،وأرسلتْ إليه وإلى كُثير الشاعر أن يتغزلا بها،فأبى كثيرٌ،أما هو فقد صرح بتشبيبه بها،رغم توعد الوليد كل من ذكرها،فبلغ ذلك الوليد فقتله.وذلك في قصة أشبه بالأسطورة،وبخاصة في الجانب الذي يتعلق بدفن الصندوق الذي خبَّأَتْهُ فيه أمُّ البنين.والذي يعنينا من كل هذا هو أن هذه القصيدة التي شبَّب فيها بـ(رَوضة)، وهي امرأة يَمَنِية كان يهواها، تنسج متخيلها من شجاعة العاشق الذي لا يعبأ بالمهالك في سبيل الوصول إلى معشوقه.فهي تتسم بنوع من التكافؤ والتقابل في الحوار،وبالجرأة وقوة البداهة على دحض الحُجج التي تثبط الهمة.يقول وضاح: (السريع)
قَالَتْ : أَلاَ لاَ تَلِــــجَنْ دَارَنَا إِنَّ أَبَـــانَا رَجُــلٌ غَايِرُ
قُلْتُ: فَإِنِّي طَــــالِبٌ غِــــرَّةً وَإِنَّ سَيْفِي صَارِمٌ بَاتِرُ(9)
فتقنية الحوار بارزة في النص، مما يُشكل ظاهرة تضعنا في عالَم حِكائي متكامل،يتجسد فيه معظم أركان البنية الحوارية المُتعارَف عليها،وتمتزج فيه الذات مع الآخر.ففي الحوارية يبرز بشكل جلي مفهوم الأنا والآخر،وتتعرف الأنا على ذاتها من خلال هذا الآخر،وكأنها تكتسب معانيَ جديدة في ضوء تحولاتها داخل زمن القول.فنحن هنا نرى الصور نابعةً من عين الذات وطبيعتها،لا من عين الآخر،كما نوى الشاعر صاعداً في الطريق إلى المعنى،فهو يقطف الفكرة بوسائل فنية ذات شُكُولٍ ،تُؤدي إلى ذلك المعنى،وتُؤدي بالمتلقي إلى قلعته،وتدله على ما تكتنزه من أفكار الوجود،وأسرار النفْس.(10) إضافةً إلى ما تُحَققه وحدتا: (قالت وقلتُ) في تكرارهما وتداخلهما داخل البنية النصية من بواعث المباغتة والتوازن والراحة والتجريد والانشراح في النفس، فتتحول الصورة من البصر إلى السمع،ومن الرسم إلى النغم.فالتكرار والإيقاع عنصران متلازمان في شعر المقاولة،إذ بهما تُشرق دلالة الإبداع،وبخاصة إذا اتخذا صيغة فكرةٍ ترقص على موسيقاها الخاصة،المُتَولِّدة من انتظام حركة النغم خلال الزمان،ومن انتظام انطلاق الكلمات خلال المكان،حيث تتآزر الحركة والتشخيص لإكساب الصورة الشعرية درجةً عاليةً من الحيوية،ترى فيها”المعانيَ اللطيفةَ التي هي من خبايا العقل،كأنها قد جُسِّمَت حتى رأتها العيون، والأوصافَ الجسمانيةَ قد لُطِّفَتْ حتى عادتْ روحانية،لا تنالها إلا الظنون”.(11).
الثالثة: وتتماهى مع قصيدة وضاح اليمن في البنية والأسلوب قصيدةُ الشاعر صفي الدين الحلي(677هـ ـ 752هـ/1276م ـ 1349م) ،وإن كانت تختلف معها في المنحى،فالأولى غايتها إبراز شجاعة العاشق ،وهذه هدفها إظهار مدى تفنن المعشوق في إفناء عاشقه .يقول الحلي:(مخلع البسيط)
قَالَتْ:كَحَلْتَ الْجُفُونَ بِالْوَسَنِ قُلْتُ: ارْتِقَــاباً لِطَيْــفِـــكِ الْحَسَنِ
قَالَتْ:تَسَـــلَّيْتَ بَعْــدَ فُــرْقَتِنَا
فَقُلْتُ: عَنْ مَسْكَنِي وَعَنْ سَكَنِي(12)
فبنية النص هنا سردية قائمة على الحكي، وهي من جملة عناصر بنائية،اشتقت من أجناس أدبية مجاورة،من رواية ومسرح وحكايات.وتتمثل هذه العناصر أساسا في الحدث والحوار والفضاء والزمان،وينتج عن التفاعل بين مختلف هذه العناصر ما يُسَمى بالبناء الدرامي؛الذي من أساسياته ثنائية الصوت،وتعدد المستويات اللغوية، وارتفاع درجة الكثافة نتيجة غلبة التوتر والحوارية.وهكذا نرى أن كل نص في شعر المقاولة له أُفقه وتضاريسه الخاصة التي تنطق بجسده الحكائي، وهذه التضاريس قد تمثل حالات نفسية،أو اجتماعية،أو طقساً غائرا في اللاشعور.فهي تضاريس من نوع خاصٍّ،تُبرز تصدُّعات الذات،وتحولاتها في أقاليم الزمن،وفي أرخبيلات الحياة، يتقوى كل هذا بمنطق الحكي الذي يعرض الأحداث،ويُصور الوقائع،ويُفعِّل مَشْهَديتها وتتابعها،وباتصالِ الإيقاع بالوزن العروضي الذي له صلةٌ كذلك بالدلالة وانفتاحها.فالإيقاع في هذه النصوص ما هو إلا عبارة عن الفكرة وقد أَخذتْ تَرقصُ على موسيقاها الخاصة،وتنتظم إما في إطار التكرار اللفظي وإما في إطار التكرار الصوتي.
وهذا الصنيع سيزرع لا شك في المتلقي إيقاعات لها علائقُ ووشائجُ بجسده وروحه،مما سيدفع به إلى الانحياز لإيقاعات العالم كتعبير عن اختياره الشخصي لنمطِ حياةٍ،وسيرةِ تجربة.(13) فالإيقاع هو المشترك الذي تتقاطع داخله نصوصُ شعرِ المقاولة كما نصوص الحياة ونصوصُ الكتابة، وتنزاحُ به من مَعْبَر المُشترَك إلى أرخبيلِ المتفرِّد والمغاير الخاصِّ؛(14) الذي يُبرزُ قوةَ حضورِ الظاهر والخفي،وعمقَهما في مختلف أنسجة النصوص التي على هذه الشاكلة.
الرابعة: وتتجسد في ملحمة الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي المسماة بـ””ثورة أهل الجحيم”، التي نشرها عام 1929م ،وبلغ عدد أبياتها 433 بيتا.فهي رحلة من الرحلات الخيالية في الشعر العربي الحديث التي اتجهت إلى عالم الموت والقبر والبرزخ والجنة والنار،لتنسج متخيلها الشعري بلغات خاصة،ورؤى متلونة بأفكار شعرائها،وموقفهم من المجتمع والحياة والإنسان والعقائد.ومن بين هذه الرحلات الشعرية المستمدة أجواؤها من العالم الآخر:رحلة(على شاطئ الأعراف)للشاعر محمد عبد المعطي الهمشري(1908م ـ 1938م)،ورحلة(جحيم النفس)للشاعر محمد حسن فقّي المولود سنة 1912م، و(ملحمة القيامة) للشاعر عبد الفتاح رواس القلعجي المزداد سنة1938م . فهذه الرحلات الشعرية تنقلنا كلها إلى الضفة الأخرى ــــ التي تشتغل فيها حياةُ ما بعد الحياة ــــ حيث ينطلق القول الشعري فيها من لحظة دخول الشاعر إلى القبر.
يفتتح الزهاوي رحلته هاته بقوله: (الخفيف)
بَعْدَ أَنْ مِتُّ وَاحْتَوَانِي الْحَفِيرُ
جَاءَنِي مُنْكَرٌ وَجَاءَ نَكِيرُ
مَلَكَانْ اسْطَاعَا الظُّهُورَ وَلَا أَدْ
رِي لِمَاذَا وَكَيْفَ كَانَ الظُّهُورُ ؟
كُنْتُ فِي رَقْدَةٍ بِقَبْرِي إِلَى أَنْ
أَيْقَظَانِي مِنْهَا وَعَادَ الشُّعُورُ
فَبَدَا الْقَبْرُ ضَيِّقاً ذَا وُخُومٍ
مَا بِهِ لِلْهَوَاءِ خُرْمٌ صَغِيرُ
أَتَيَا لِلسُؤَالِ فَظَّيْنِ حَيْثُ الْمَيْـ
ـتُ بَعْدَ اسْتِيقَاظِهِ مَذْعُورُ
ولا تنفك الأسئلة المحرجة تنهال عليه،وتحاصره من طرف الملكين،حول كل الأمور الدينية والدنيوية،من فرائض وعقائد،وما جاءت به الأنبياء والكتب السماوية عن البعث والنشر والحشر والصراط والميزان والحساب والعقاب والجنة والنار،والجن والشياطين والملائكة، دون اكتراث بضجره ورعبه،حيث يتم سؤاله عن المرأة،وعن رأيه في الحجاب والسفور:
قَالَ: هَلْ فِي السُّفُورِ نَفْعٌ يُرَجَّى قُلْتُ: خَيْرٌ مِنَ الْحِجَابِ السُّفُورُ
إِنَّمَا فِي الْحِجَابِ شَلٌّ لِشَعْب
ٍ وَخَفَاءٌ ،وَفِي السُّفُورِ ظُهُورُ
كَيْفَ يَسْمُو إِلَى الْحَضَارَةِ شَعْبٌ
مِنْهُ نِصْفٌ عَنْ نِصْفِهِ مَسْتُورُ؟
وجوابـاً على سؤاله حول الإيمـان بالله يجيب الميت رابطـاً الله بالكـون الفسيـح وبالطبيعة ،غير أنه يؤكـد في نفس الوقت شكــه وحيرتـه:
قَالَ: مَاذَا هَوَ الْإلَهُ فَهَل
ْ أَنْــتَ مُجِيبِي كَمَا يُجِيبُ الْخَبِيرُ ؟
قُلْتُ: إِنَّ الْإلَهَ فَوْقَ مَنَالِ الْـ ـعَقْلِ
مِنَّا وَهْوَ الْعَزِيزُ الْكَبِيرُ
ويستمر وابل الأسئلة التحقيقية مع الميت حول سلوكه في الحياة:
قَالَ: إِنِّي أَرَى بِخَدِّكَ تَصْعِيـ
ـراً فَهَلْ أَنْتَ يَزْدَهِيكَ الْغُرُورُ ؟
قُلْتُ: مَنْ مَاتَ لَا يُصَعِّرُ خَدّاً
لَيْسَ بِالْمَوْتَى يُخْلَقُ التَّصْعِيرُ
ويشكو الميت من كثـرة الأسئلة التي تحرجه وتزعجــه، فيقول:
اُتْرُكَانِي وَلَا تَزِيدَا عَنَائِي بِسُؤَالٍ فَإِنَّنِي مَوْتُورُ قَالَ:هَذَا هُوَ الْهُرَاءُ وَمَا أَنْ
لِاحْتِجَاجٍ تَلْغُو بِهِ تَأْثِيرُ
قُلْتُ: فِي غُصَّةٍ إِذَنْ فَاصْنَعَا بِي
مَا تُرِيدَانِهِ فَإِنِّي أَسِيرُ
إِنَّمَا سَألَتُمَانِي عَنْ أُمُورٍ
هِيَ لَيْسَتْ تُغْنِي وَلَيْسَتْ تَضِيرُ
وحين ينتهي التحقيق مع الميت، تبدأ رحلة إذلاله وعذابه:
قَالَ : مَا أَنْتَ أَيُّهَا الرِّجْسُ إِلَّا
مُلْحِدٌ قَدْ ضَلَّ السَّبِيلَ كَفُورُ
ثُمَّ تَلَّانِي لِلْجَبِينِ وَقَالَا
لِيَ ذُقْ أَنْتَ الْفَيْلَسُوفُ الْكَبِيرُ
قُلْتُ: صَفْحاً فَكُلُّ فَلْسَفَتِي قَدْ
كَانَ مِمَّا يُمْلِيهِ عَقْلِي الصَّغِرُ
وإمعــانـاً في إذلاله وقهـره يذهب به الملكــان إلى الجنـة كي يشــاهد نعيمهــا،فتزداد حسرته وندمـه في جهنــم:
ثُمَّ طَارَا بِي فِي الْفَضَاءِ إِلَى الْجَنَّــةِ
حَتَّى يُغْرَى بِلَوْمِي الضَّمِيرُ
وَأَسَرَّا فِي أُذْنِ رِضْوَانَ شَيْئاً
فَأبَاحَ الْجَوَازَ وَهْوَ عَسِيرُ
وهذه الجنة التي أُحضِر إليها ليست له ولأمثاله،وإنما أُطْلِع عليها ليدرك الفرق بينها وبين جهنم،حيث لا شيء مما رأى هناك موجود هنا، فهو في كرب وظمإٍ:
وَلَقَدْ رُمْتُ شُرْبَةً مِنْ نَمِيرٍ
فَتَيَمَّمْتُهُ فَفَرَّ النَّمِيرُ
وَكَأَنَّ الْمَاءَ الَّذِي شِئْتُ أَنْ أَشْــرَبَهُ
بِابْتِعَادِهِ مَأْمُورُ
وبانتهـــاء زيــارة الجنـة يتوجه به الملكان إلـى جهنـم ليذوق سعيرَ نـارهـا وألمَ جحيـمها:
أَخْرَجَاني مِنْهَا وَشَدَّا وَثَاقِي بِنُسُوعٍ كَمَا يُشَدُّ الْبَعِيرُ
ثُمَّ قَامَا فَدَلَّيَانِي ثَلاَثاً
فِي صَمِيمِ الْجَحِيمِ وَهْيَ تَفُورُ
ويلتقــي الزهـاوي في جهنم بشخصيــــــات ،قد افتخــر التـاريخ بهـا في ميادين العلم والأدب والفكر والفلسفة والشعر. منهم الفرزدق والأخطل وجريــر،وإلى جـانبهم المعري والمتنبــي وشكسبيـر ودانتــي وغيرهم من المبدعين والمفكرين والعباقرة الكبار:
وَلَقَدْ أَبْصَرْتُ الْفَرَزْدَقَ نِضْواً يَتَلَوَّى وَوَجْهُهُ مَعْصُورُ
وَإِلَى جَنْبِهِ يُقَاسِي الَّلظَى الْأَخْــطَلُ
مُسْتَعْبِراً وَيَشْكُو جَرِيرُ
قُلْتُ :مَا شَأْنُكُمْ فَقَالُواْ دَهَانَا
مِنْ وَرَاءِ الْهِجَاءِ ضُرٌّ كَثِيرُ
وَيَلِيهِمْ أَبُو نُوَاسٍ كَئِيباً
وَهْوَ ذَاكَ الْمِمْرَاحَةُ السِّكِّيرُ
مِثْلُهُ الْخَيَّامُ الْعَظِيمُ وَدَانْتِي
وَإِمَامُ الْقَرِيضِ شِكَسَبِيرُ
وَلَقَدْ كاَنَ لِامْرٍئِ الْقَيْسِ بَيْنَ الْــقَوْمِ
صَدْرٌ وِلِلْمُلُوكِ صُدُورُ
قُلْتُ: مَاذَا بِكُمْ فَقَالُواْ لَقِينَا
مِنْ جَزَاءٍ مَا لَا يُطِيقُ ثَبِيرُ
وَسَمِعْتُ الْخَيَّامَ فِي وَسَطِ الْجَمْــعِ
يُغَنِّي، فَيَطْرَبُ الْجُمْهُورُ
وتستمر رحلة الزهاوي داخل الجحيم ، ولا يخفف من عذابه فيها سوى لقـاءاتـه بالعظمـاء مـن فلاسفة وشعراء وعلمـــاء وأدباء ومفكرين حصفاء. حيث يحدثنا عن تجمهر النــاس حول سقراط وأفــلاطون وأرسطو وكـوبيرنيكوس ودارويــن وهيغــل وسبنسر ونيوتن وروسو وفولتيــر وزارادشت .. وابن سينــا وابـن رشد وابن الراونـدي وغيرهــم ،ويذكر لنا أنه سمع سقراطا يشرح لأهل النار مـاهيتها ومنشأهـا مـُرجعاً تغذيتهـا وسعيرهـا إلى البترول الذي سينضب من بـاطن الأرض فينطفئ سعيرهــا:
ثُمَّ إِنِّي سَمِعْتُ سُقْرَاطَ يُلْقِي
خُطْبَةً فِي الْجَحِيمِ وَهْيَ تَفُورُ
وَإِلَى جَنْبِهِ عَلَى النَّارِ أَفْلاَطُون
ُ يُصْغِي كَأَنَّهُ مَسْرُورُ
وَأَرِسْطَالِيسُ الْكَبِيرُ وَقَدْ أَغْــرَقَ
مِنْهُ الْمَشَاعِرَ التَّفْكِيرُ
ثُمَّ كُوبِرْنِيكَ الَّذِي كَانَ قَدْ أَفْــهَمَنَا
أَنَّ الْأَرْضَ جِرْمٌ يَدُورُ
تَتْبَعُ الشَّمْسَ أَيْنَمَا هِيَ سَارَتْ
وَعَلَيْهَا مِثْلَ الْفَرَاشِ تَطُورُ
ثُمَّ دَارْوِينُ وَهْوَ مَنْ قَالَ إِنَّا
نَسْلُ قِرْدٍ قَدْ طَوَّرَتْهُ الدُّهُورُ
ثم يذكر أسماء الفلاسفة والعلماء والمفكرين،وما قدموه للإنسانية من جلائل الأعمال،مثل:توماس مان، وفخته، واسبينوزا، وهيلبيك، ونيوتن، ورينان، وزارادشت ومزدك، والكندي وابن سينا، وأبي دلامة، وابن الراوندي:
وَجَمَاعاَتٌ غَيْرُهُمْ كُلُّهُمْ جَلْــدٌ
عَلَى نَارِهَا ،وَكُلٌّ صَبُورُ
كَانَ سُقْرَاطُ أَثْبَتَ الْقَوْمِ جَأْشاً
فَهْوَ ذُو عَزْمٍ فَائِقٍ لَا يَخُورُ
قَالَ مِنْ بَعْدِ شَرْحِهِ مَنْشَأَ النَّارِ
وَفِي قَوْلِهِ إِلَيْهَا يُشِيرُ
سَوْفَ يَقْضِي فِيهَا التَّطَوُّرُ أَنْ نَقْــوَى
عَلَيْهَا وَأَنْ تَهُونَ الْأُمُورُ
إِنَّ فِي ذَا الْوَادِي السَّحِيقِ عُيُوناً
ثَرَّةً لِلْبِتْرُولِ فِيهَا يَغُورُ
وَلَقَدْ تَنْضُبُ الْعُيُونُ فَلَا نَا رٌ
وَلَا سَاعِرٌ وَلَا مَسْعُورُ
ثُمَّ لَمَّا أَتَمَّ خُطْبَتَهُ عَجـُّـواْ
لَهُ هَاتِفِينَ وَهْوَ جَدِيرُ
وبعد أن تباحث الشعراءُ والفلاسفة في النهـاية السيئة التي آلت إليها أوضـاعهم، تبادلوا الآراء والمقترحات لإيجـاد حل يريحهم من عذاب النار، فخرج منهم حكيـم اخترع آلاتٍ عديدةً وعتـاداً حربياً وآلـة تطفئ السعيرَ وتُحرِّض على الثورة:
مَكَثُواْ حَتَّى جَاءَ مِنْهُمْ حَكِيمٌ
بِاخْتِرَاعٍ لَمْ تَنْتَظِرْهُ الدُّهُورُ
آلَةٌ تُطْفِئُ السَّعِيرَ إِذَا شَاءَتْ
فَلَا تُحْرِقُ الْجُسُومَ السَّعِيرُ
وَأَتَى آخَرٌ بِخاَرِقَةٍ يَهْــلَكُ
فِي مَرَّةٍ بِهَا الْجُمْهُورُ
وَاهْتَدَى غَيْرُهُ إِلَى مَا بِهِ الْإِنْــسَانُ
يَخْفَى فَلَا يَرَاهُ الْبَصِيرُ
وقد دفعت هذه الاختراعات كل المظلومين والمقهورين والمعذبين الذين امتلأت نفوسهم حقداَ إلى أن يتكتلوا تحت صوت واحد:
قَالَ يَاقَوْمَنَا جَهَنَّمُ غَصَّت
ْ بِالْأُلَى يُظْلَمُونَ مِنْكُمْ فَثُورُواْ
قَالَ يَاقَوْمَنَا أَرَى الْأَمْرَ مِنْ سُوءٍ
إِلَى الْأَسْوَإِ الْأَمَضِّ يَسِيرُ
فَهَلِ الْحَقُّ أَنْ يُخَلَّدَ فِي النَّارِ
عَلَى الْكُفْرِ ساَعَةً مَجْبُورُ؟
فتأخذ المعري العزةُ بالثورة، فيندمج فيها قائدا ومتصدرا وصائحاً بقوة:
غَصَبُوا حَقَّكُمْ فَيَا قَوْمُ ثُورُواْ
إِنَّ غَصْبَ الْحُقُوقِ ظُلْمٌ كَبِيرُ
فيرد عليه الثوار:
غَصَبُواْ حَقَّنَا وَلَمْ يُنْصِفُونَا
إِنَّمَا نَحْنُ لِلْحُقُوقِ نَثُورُ
ولما عمت الثورة أطـراف جهنــم سارعت قوات الزبانية بمواجهتها،فاندلعت حرب بين الثوار وزبانيـة النــار:
وَلَقَدْ أَسْرَعَتْ زَبَانِيَّةُ النَّارِ
إِلَيْهِمْ وَكُلُّهُمْ مَذْعُورُ
يَالَهَا فِي الْجَحِيمِ حَرْباً ضَرُوساً
مَا لَهَا فِي كُلِّ الْحُرُوبِ نَظِيرُ
كَانَتِ الْحَرْبُ فِي الْبَدَاءِ سِجَالاٌ
مَا لِصُبْحِ النَّصْرِ الْمُبِينِ سُفُورُ
ثُمَّ لِلنَّاظِرِينَ بَانَ جَلِيّاً
أَنَّ جَيْشَ الْمَلَائِكِ الْمَدْحُورُ
هَزَمُوهُمْ إِلَى مَعَاقِلِهِمْ فِي الَّــليْلِ
حَتَّى بَدَا الصَّبَاحُ الْمُنِيرُ
وَلِأَهْلِ الْجَحِيمِ تَمَّ بِإِنْجَادِ
الشَّيَاطِينَ فِي الْقِتَالِ الظُّهُورُ
فَاسْتَرَاحُواْ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي كَانُواْ
يُقَاسُونَهُ وَجَاءَ السُّرُورُ
ولــما انتصر أهل الجحيــم على عدوهــم ،ساروا إلى الجنة لاحتلالها ممتطين ظهور الشياطين ، وذلك لأجل طرد البُله والمجانين منها :
ثُمَّ طَارُواْ عَلَى ظُهُورِ الشَّيَاطِيــن
خِفَافاً كَمَا تَطِيرُ النُّسُورُ
يَطْلُبُونَ الْجِنَانَ حَتَّى إِذَا مَا
بَلَغُوهَا جَرَى نِضَالٌ قَصِيرُ طَرَدُواْ مَنْ بِهَا مِنَ الْبُلْهِ وَاحْتَلُّــواْ
الْقُصُورَ الْعُلْيَا .. وَنِعْمَ الْقُصُورُ
فَرَّ رِضْوَانُ لِلنَّجَاةِ وَمِنْ أَتْـ ـبَاعِ
رِضْوَانَ مُسْرِعاً جَمْهُورُ
وَأَقَامُواْ لِفَتْحِهِمْ حَفْلَةً أَعْــقَبَهَا
مِنْهُمُ الْهُتَافُ الْكَثِيرُ
إِنَّهُ أَكْبَرُ انْقِلَابٍ بِهِ جَا دَتْ
عَلَى كَرِّهَا الطَّوِيلِ الدُّهُورُ (15)
من هذه النماذج الأربعة نستطيع أن نستخلص المعايير التي كُتبت وفقها نصوص شعر المقاولة، وأن نحدد مميزاتها في التالي:
أ ـ انها جاءت في قالبٍ جمالي ثنائي الصوت، مُفعمٍ بالمشاعر والأحاسيس الكاشفة عن خاصية كل صوت.
ب ـ أنها حوارية التركيب والبناء،يرتبط الصوت الثاني فيها بالصوت الأول ارتباط تَجْدِيلٍ،بحيث إذا انخرس واحد منهما سقطت بنية النص كله.
ج ـ انها مَكْنَز إيحاءاتٍ تُعَبِّرُ عنه كثافةُ صورها الشعرية،ومنبَعُ إحالات نَضَّاخٍ بالرموز ذات المنحى التاريخي والأسطوري والديني والخرافي.
د ـ انها بناء درامي متميز، يتم فيه استدعاء شخصيات إما خرافية أو فوق طبيعية أو تراثية،مما يرفعها إلى درجة الازدواج،أيْ أن النص فيها يَتَضَمُّنُ نصين بضميرين مختلفين في المرجعية.
هـ ـ ان المفاعلة والمشاركة هي دالُّ شَكلِها الحواري،إذ بهذا الدالِّ تتبين طريقةُ الشاعر في التعبير عن فكرته،وتتضح الصيغة التي يصوغ فيها هذه الفكرة.وهو ما عبَّر عنه المبدع الفرنسي فلوبير بقوله:(لا شكلَ من دون فكرةٍ ،ولا فكرةَ مجردةً عن الشكل).
و ـ ان الصنعة فيها دالة على الدربة وسعة الاطلاع،وشساعة الأفق الثقافي.
ز ـ ان النص الشعري فيها موضوع في صورة قابلة للفهم والإدراك،باعتباره أثرا أدبيا يتغيا السباحة بجمالياته في المُخيلات والوجدانات.فالرصف الحسَن فيها دال على كون الشاعر قد فكَّر في وضع الألفاظ في مواضعها المطلوبة من البناء،بحيث لا يتعَمَّى المعنى،ولا يضطرب، ولا تتشوه البنية العامة للنص.
في ظل هذه المميزات يتمدد شعر المقاولة مستقرئا الذات والعالم بلغة تُلغي بقية الخطابات الخارجية،مكتفية بذاتها،ومُبقيةً الصلةَ بين الكلمة والموضوع لا غير،دون أن تُعير أهميةً لما هو متموقع خارج السياق.
2 ـ استقراء الذات والعالم: فنحن حينما ندخل إلى نص شعري من لون شعر المقابلة أو غيره لا نتغيا من ذلك إلباسَه أفكارنا ومحلوماتنا واستيهاماتنا،وإنما نروم أن نستقرئ فيه العالم،ومن ورائه ذواتنا، عن طريق لغته التي تحمل الخفي من الوجود،وذلك لأن وراء البحث في كلماته وأساليبه بحثاً عن المرامي الإنسانية والاجتماعية.إذ كل نص له تأثير مضاعَف يُخلِّفه في قارئه،وهو إما تأثير مخالف ومختلف،وإما تأثير مؤالف ومؤتلف.ومن ثمة فإن قراءته معناها الفهم،والفهم ما هو إلا إنتاج معنى،والمعنى ليس سوى تموضُعٍ بين معنى الشاعر المبدع،والمعنى المسبَق للقارئ.فما يُكسِب هذه الشعرية المقاولةَ ميزةً خاصة هو لغتها التي تُضفي على موجودات الداخل والخارج جماليةً لم تكن لتمتاز بها في غياب البلورة الجمالية، دون أن يعزب عن بالنا كون هذه الموجودات تتضمن عناصر شعريةً وشاعريةً لا تطولها اللغة الجمالية.إنها شعرية وشاعرية الكامن فيها من تجانسٍ.أما حين يأتي دور اللغة فإنه يضيف إلى هذه الشعرية،كما يُميط اللثام عن هذه الجمالية التي لولا اللغة لما كنا قد أدركناها بالصورة التي أحالتها إليها اللغة في ذاكرتنا.فاللغة تُعطي ما هو أحسن وأجود،وليس هذا الأحسن والأجود غير الشعر السامي،والشعر السامي ـ تبعاً لمالارميه ـ لا يُصنع بالأفكار،وإنما بالكلمات.وغير خافٍ أن نظام الكتابة هو بالأساس غير نظام اللسان،رغم أن اللسان يتلبس الكتابةَ ويتجلى بها،فهي له إمكانَ ظهورٍ وتجلٍّ،لا إمكان وجود،فاللسان أو الصوت في الكتابة يكتفي بإعلان حضوره دون التنازل عن شفاهته،أما المكتوب فإنه يتبدَّى ويُعلن عن حضوره بالكتابة ذاتها،ويخوضها كشرط وجود.(16) ولأجل هذا فإننا حين نكون بصدد قراءة النص فإننا نحتكم فيها،لا إلى ما هو مكتوب فقط،بل إلى دوالَّ أخرى أصبحت من شروط وعي النص وقراءته،ونعني بذلك فضاءه الداخلي،والتوزيعات المختلفة لخطه.
وبهذا نستطيع أن نفصل بين الكلام الذي يمس النفس، والكلام الذي لا يمسها،فحين تنعدم علاقة الكلام بالنفس،ينعدم كذلك حدوثُ التأثير،بمعنى أن الصيرورة لا تحدث ولا تتم،بل تبقى واقفةً في نفس مكانها،حيث اللغةُ المدهشة في صوره، وفي تراكيبه،وطرق بنائه هي ما كان يَضَعُنا أمام أنفسنا ،ويعود بها إلى شغاف ذواتنا،وإلى دمنا البعيد،أي إلى ذلك الخطأ الذي ما زلنا نزاوله.فكل ما نستشعره من أفكار ومعانٍ،يأتينا من خلال اللغة،من تلك المجازات والتراكيب التي وضعتْنا في مفترق كلام،لم نكن ألِفْنَاه،لأنه غيَّر مَجرى قُدُومِه،وأعاد ترتيب الأنساب والعلائق،بطريقة جعلتنا نرى الحياةَ من منظور لم نتوقعه.(17) ووجودنا في مفترق كلام لم نألفه هو الذي يُحَسِّسنا بضرورة مقاومة ما يعتقلنا من خطابات.
مقاومة ما يعتقلنا من خطابات: إن شعر المقاولة هو ضربٌ من الشعر يخترق آفاقَ النفس بأجنحة ثلاثة؛هي: اللغة والتصوير والموسيقى،ويغرس فيها ظلالا من المتعة والدهشة والثراء أقرب ما تكون إلى السحر.
فبلغته الخاصة المغايرة والمستقْطَرَةِ من اللغة العادية المتواترة يضعنا في بناء جديد لم تدخله أرواحنا من قبلُ،ويجعل لِخطوات ذواتنا صِلَةً بالرقص وليس بالمشي.وبالتصوير يفتح أعين وجداناتنا على المُترائي لا على المَرئي.وبالموسيقى يمنح لكل خفقة من خفقات كياناتنا النغمةَ المطابقةَ لها.
فاللغة والتصوير والموسيقى أقانيم ثلاثة،تقود نصوص هذا اللون من الشعر إلى دوائر من الدلالة والإيحاء رحبةٍ ومتجددةٍ.فهي متضافرةً تَنْهضُ بإيحاءات في النفس لا بديلَ لها،وتترك كل جسدٍ من أجسادها النصية سائراً بساقين سليمتين في طريق الدلالات العذراء.وإذا كانت كل قصيدة لها حقيقة خاصة بها،مُمعنة في الصيرورة،بها تؤسس معرفة مُتَفَرِّدةً،وتنطق بما يختلف عن الحقيقة الراكضة في كلمات أخرى غير كلماتها،فإن حقيق القصيدة في شعر المقاولة أطولُ من زمن إنصاتنا إليها، إنها تَجَدُّدُ التكوين في منعرجات أسرارٍ كبرى،تنفتل من سلطة الإخضاع إلى ما لا حقيقة له،لتقاوم ما يعتقلنا من خطابات،وما يبتر وجداناتنا،وما يُلَوث ذاكرتنا ويُنَمِّطها.فهي تُعلن عن طريقٍ غيرِ الطُّرُق المعتادة،تزجُّ بنا فيه لنعانق ما لا ينتهي بجسدها الشعري الذي هو أحد الأشكال الرمزية الأكثر تأثيراً في وجدان البشر، والأفضل استجابةً لرؤاهم ونوازعهم.
الهوامش
(1) ابن منظور(ت711هـ):لسان العرب،دار صادر،بيروت 1955م،مادة:(قول) ـــ المعلم بطرس البستاني:محيط المحيط،مكتبة لبنان،بيروت1977م ، مادة(قول) ـ المعجم العربي الأساسي،تأليف وإعداد:جماعة من كبار اللغويين العرب بتكليف من المنظمة العربية للثقافة والعلوم،تنسيق:د.علي القاسمي،توزيع لاروس Alecso 1989,Larousse،مادة(قَوَلَ) ــ الطاهر أحمد الزواوي:ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة،ط3،دار الفكر،بيروت،د.ت،مادة(قول) ــ جماعة من اللغويين بإشراف د.إبراهيم مدكور:المعجم الوسيط،،ط2،دار الفكر،بيروت،د.ت،مادة(قول).
(2) أبوعثمان عمرو بن بحر الجاحظ(159هـ ـ 255ه):الحيوان،تح:عبد السلام هارون،لا طبعة،الناشر:دار الجيل،مكتبة النشر،لبنان/بيروت1416ه/1996م،3/132.
(3) د.إيهاب النجدي:منازل النص الأدبي(مقترح) القص الشعري جدلية الشعر والسرد،ى طبعة،(كتاب المجلة العربية 248)،الريا&ض1438هـ،ص:10.
(4) أبو حيان التوحيدي:الإمتاع والمؤانسة،صححه وضبطه:أحمد أمين وأحمد الزين،لا طبعة،لجنة التأليف والترجمة والنشر،القاهرة 1942م،2/147.
(5) رشيد المومني:إيقاعات الكائن،ط1،منشورات بيت الشعر في المغرب،مطبعة البيضاوي،الرباط2016م،ص:146.
(6) إيليا أبو ماضي:الأعمال الكاملة،دراسة وإعداد:إسلام إبراهيم،لا طبعة،دار فاروس للنشر والتوزيع،د.ت،ص:31 ـ 33.
(7) د.محمد غنيمي هلال:النقد الأدبي الحديث،ط7،دار نهضة مصر،القاهرة2007م،ص:54.
(8)د.محمد غنيمي هلال:دراسات ونماذج في مذاهب الشعر ونقده،لا طبعة،دار نهضة مصر،د.ت،ص:83.
(9) محمد بن موسى الشريف:الأخبار العليات من الوافي بالوفيات للعالم الأديب صلاح الدين الصفدي(ت:764هـ)،ط1،دار الأندلس الخضراء ودار ابن حزم،لبنان1431هـ/2010م،مج2،ص ص:895 ـ896.
(10)د.إيهاب النجدي:منازل النص الأدبي(مقترح القص الشعري)جدلية الشعر والسرد،كتاب المجلة العربية،العدد248،لا طبعة،الرياض1438هـ،ص:121.
(11) عبد القاهر الجرجاني(ت471):أسرار البلاغة،تصحيح:الشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا،ط2،دار المنار،القاهرة،د.ت،ص:157.
(12)صفي الدين الحلي(677هـ ـ752هـ/1276م ـ 1349م): ديوان صفي الدين الحلي، تنسيق وفهرسة:د.الشويحي،لا طبعة،دار صادر،بيروت،د.ت،ص:386.
(13)رشيد المومني:إيقاعات الكائنه،مذكور،ص:13.
(14)م.س،ص:12.
(15)جميل صدقي الزهاوي(1863م ـ 1936م):ثورة أهل الجحيم (ضمن ديوان الأوشال للزهاوي)،لا طبعة،بغداد1934م،ص ص:200 إلى330.
(16) صلاح بوسريف:الشعر وأفق الكتابة،ط1،منشورات ضفاف والاختلاف ودار الأمان،الرباط 1435هـ/2014م،ص:21.
(17) م.س،ص:30.
أحمد بلحاج آية وارهام *