لا تقرأني كثيراً
لأنك ستصاب بالعمى من كثرة الدخان
ولد «شيركو بيكه س» في بلدة حلبجة، التابعة للسليمانية عام (1940) لوالده فائق بيكه س، وهو وطني معروف، وأحد الشعراء الكرد المشهورين، ومن قادة انتفاضة السادس من سبتمبر عام 1930 التي دخل بسببها السجن، ثم الإبعاد إلى جنوب العراق، وكان والده أيضاً من مناصري حرية المرأة ومتأثراً بطروحات قاسم أمين وشعر الرصافي والزهاوي وشعراء تلك الحقبة، أما الوالدة، وهي في العقد الثامن من عمرها، ولا تزال تعيش وأخته في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان لوالدته دور في تربيته، أورثته معرفة ومحبة اللغة الكردية من خلال الأساطير والحكايات الشعبية التي كانت ترويها له ولأخواته، وعبر الأغاني الكردية التي كانت تغنيها لهم عند حلول الليل.
حمل الشاعر اسم «شيركو» الذي يعني بالعربية، الأسد الجبلي و«بيكه س» أي من: «لا أحد له»، عاش حياته في السليمانية شمال العراق، ودرس في مدارسها الابتدائية والمتوسطة، ثم التحق بثانوية الصناعة المهنية، لكنه أظهر منذ يفاعته ميلاً شديداً نحو الشعر.
أتت تجربة شيركو بيكه س النضالية والشعرية مبكراً عندما التحق سنة 1965 بفصائل المقاومة، وكتب في هذه البدايات الستينية قصائد لها علاقة بالمقاومة والوطنية، متأثراً بالشعر العربي والشعر الفلسطيني بصورة خاصة.
صدرت له أول مجموعة شعرية عام 1968 «هودج البكاء»، ثم في منتصف السبعينيات صدرله «شعاع الشعر» و صدرله بعدها بسنوات «قصائد بوستر»، وبلغ عدد مجموعاته الشعرية أكثر من خمس وثلاثين مجموعة شعرية، وهي تتوزع ما بين القصائد القصيرة ال«بوستر» والقصائد الملحمية الطويلة، منها «قصائد بوستر»، «مرايا صغيرة»، «مضيق الفراشات»، «إناء الألوان»، «ساعات من قصب»، «باللهيب ينطفئ ظمأي»، وغيرها، وكتب مسرحيتين شعريتين، وترجم رواية «الشيخ والبحر» لأرنست همنجواي من العربية إلى الكوردية،وقد كان هناك أكثرمن داع، لترجمة هذه الرواية من قبله، أولها أهمية همنجواي، وثانيها دلالات هذه الرواية التي تنشرروح المقاومة، والتفاؤل، نظراً للظروف التي كان، ولايزال شعبه، يعيشها، تحت نيرالقهر، والاستبداد، ومحاولات محوالهوية.
في مطلع السعبينيات أصدر بيكه س، مع عدد من الأدباء الكرد بياناً دعوا فيه إلى تبني الحداثة، وفتح آفاق إبداعية جديدة في الأدب الكردي، وبعد انهيار الاتفاق المعروف باتفاق (11 مارس) بين القيادة الكردية والحكومة العراقية، عاد بيكه س للالتحاق بالحركة الكردية في جبال إقليم كردستان العراق، وعمل في إعلامها، ففي عام 1974 التحق وللمرة الثانية بالحركة الكردية للمقاومة، وعمل في الإذاعة والإعلام، وإثر انهيار الحركة إثر اتفاقية مارس ما بين صدام حسين وشاه إيران عام 1975 عاد إلى السليمانية، وبعد أشهر قليلة أبعد الشاعر إلى غرب العراق (محافظة الرمادي – قضاء هيت – ناحية البغدادي) وقبع تحت الإقامة الجبرية ثلاث سنوات. في أواخر السبعينيات أعادته السلطات إلى السليمانية، وفي نهاية عام 1984 التحق للمرة الثالثة بالمقاومة الجديدة، وعمل هناك في إعلام المقاومة، وكذلك في اتحاد أدباء كردستان في الجبل.
فرّ الشاعر إلى خارج العراق أولاً إلى إيران، ثم إلى سوريا، ثم إيطاليا بدعوة من لجنة حقوق الإنسان في فلورنسا في عام 1987-1988، ولدى حصوله على جائزة (توخولسكى) الأدبية من السويد عام 1987، سافر إلى هناك وطلب اللجوء السياسي، وفي نهاية عام 1990 سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ومنذ سنة 1988 اختيرت قصيدة له مع نبذة من حياته كي تدرس ضمن كتاب أنطولوجيا، في مدارس كل من الولايات المتحدة، وكندا.
في عام 1991 وبعد الانتفاضة الجماهيرية في كردستان، عاد الشاعر إلى مدينة السليمانية، وبعد أشهرعدة، رشح نفسه على قائمة الخضر كشاعر مستقل فأصبح عضواً في أول برلمان كردي، وعن طريق البرلمان أصبح أول وزير للثقافة في الإقليم، وبقي في هذا المنصب سنة وبضعة أشهر، ثم استقال منه بسبب ملل روحه من الروتين، ليرجع مرة أخرى إلى السويد، وفي عام 2001 منح جائزة (ثيرة ميرد) للشعر في السليمانية، وحصل في عام 2005 على جائزة (عنقاء الذهبية) العراقية.
تفرغ بيكه س للعمل الإبداعي، وأدار منذ عام 1998 مؤسسة «سردم» للطباعة والنشر، التي عنيت بنشر الأدب والثقافة الكردية، وترجمت منتخبات من قصائده، على شكل دواوين، إلى عشر لغات عالمية: الإنجليزية، الفرنسية، الإيطالية، الألمانية، السويدية، الدانمركية، المجرية، الفارسية، التركية، العربية، ومن بينها قصيدة شهيرة حملت عنوان «رسالة إلى الرب» كتبها عن القصف الكيماوي الذي تعرضت له مدينة (حلبجة) عام 1988، وترجمت له سبع مجاميع شعرية إلى اللغة العربية، وثمةَ أُخرى أيضاً قيد الترجمة.
انكب في السنوات الأخيرة على كتابة القصائد الملحمية، وأصدر في هذا الجانب «أنشودتان جبليتان»، و«الصليب والثعبان ويوميات شاعر» «وادي الفراشات» وغيرها، وعايش عبرها الكرد شعرياً في كل تواريخهم، عبر رحلات العذاب والشقاء، والسجون والقتل والتهجير والتشريد.
قام المخرج الكردي العراقي الشاب (سيروان رحيم) بتحويل حياة الشاعر الكردي الشهير شيركو بيكه س إلى فيلم سينمائي ضخم، الفيلم تدور أحداثه حول حياته، وتتجول كاميرا المخرج في كل الأماكن التي ترك بيكه س لمساته وآثاره، وتبدأ من المكان الذي ترك في عمق الشاعر أثراً عميقاً حيث ذكرى الطفولة والصبا السليمانية (كردستان العراق) وإلى «حلبجة» المكان الذي استقرت فيه عائلة «بيكه س» وتحديداً قرب دكان «سورداش».
لشيركوبيكه س ثلاث بنات، إحداهن اسمها «هلبست أي: القصيدة» وابن وحيد، له بعض الاهتمامات الأدبية، حيث يعيشون مع أرملته في السويد التي أصدرمنها مجلة تعنى بالأدب والثقافة الكرديين.
توقف عن النبض قلب الشاعر الكبير شيركو بيكه س يوم الأحد 4/8/2013، في العاصمة السويدية استوكهولم، وذلك بعد معاناة من مرض السرطان عن عمر ناهز 73 سنة (1940-2013).
وتم نقل رفات الشاعر بعد حوالي أسبوع من وفاته، من مملكة السويد، إلى مسقط رأسه السليمانية، في طائرة خاصة، على نفقة رئاسة حكومة الإقليم التي عنيت به أثناء مرضه، وقد زاره قبل أشهر من رحيله، وفد رفيع المستوى من حكومة الإقليم برئاسة نائب الرئيس عماد أحمد،مجدداً له قرار رئاسة الحكومة في تقديم كل ما يلزم للشاعر في محنته، لأنه-كما جاء في التصريح الذي نشرته وكالات الأنباء العالمية- ثروة كبرى بالنسبة إلى شعبه، وإنه رجل الموقف، الملتزم، الملتصق بقضايا شعبه، وشيع جسد الشاعرالطاهر إلى مثواه الأخير في حديقة «آزادي» الحرية، بحضور مئات الآلاف من الشخصيات الرسمية والثقافية والشعبية، و تم إقرار إشادة نصب تذكاري له، أمام مؤسسة سردم للطباعة والنشر التي يديرها، كما أنه ستطلق جائزة إبداعية باسمه، بالإضافة إلى تسمية أحد الشوارع باسمه، وغيرذلك، بل إن رحيله دعا السلطات الكردية للبدء بإقامة «مقبرة العظماء» التي ستنجز خلال عامين، وسيتم نقل رفات الشاعر إليها، مع أعلام كرد آخرين.
ها هو ذا موتي
يزورني كل ليلة
لمرة أو مرتين
ويتكئ على أحلامي
ها هو ذا موتي
ظلّ لي
يعدُّ كل يوم خطواتي
يفتش أوراقي
يبحث عن آخر عناويني.
من نص بعنوان «موتي»
من ديوان «المرايا الكبيرة»
شكل الغياب المفاجىء لأمير الشعر الكردي الحديث شيركوبيكه س، الذي ملأ الدنيا، وشغل الناس، صدمة كبيرة ليس بين أبناء شعبه الكردي- وحده فحسب- في أجزاء كردستان كلها، وهو الأكثر قراءة عندهم، سواء أكان باللهجة السورانية الكردية التي يكتب بها، أو عبر اللغة العربية، أو التركية، أو الفارسية التي ترجم شعره إليها، ضمن قائمة اللغات التي تعرفت على إبداعه، عبر أقنوم الترجمة، وإنما كان لصدى هذا الغياب المباغت أثر كبير في الأوساط الثقافية في العالم العربي، هذه الأوساط التي امتاز بيكه س بتكوين علاقات واسعة مع كبار مبدعيه، من شعراء، وكتاب، ونقاد، وفنانين، ونال محبة واحترام هؤلاءجميعاً، إضافة إلى هاتيك العلاقات التي جمعته مع مبدعين عالميين كبار، حيث يعد من الشعراء العالميين الأكثر قراءة، ما جعل اسمه مقترناً بجائزة مثل نوبل التي- كان من عداد المبدعين العامين المرشحن إليها- وتمنح من من قبل الأكاديمية الملكية للعلوم، في مملكة السويد، التي يعتبر من مواطنيها، ولم تتعد المسافة بين منزله ومقر الأكاديمية في استوكهولم، إلا مجرد كيلومترات، بيد أن طبيعة العلاقات المتحكمة بها، جعلت القائمين عليها يتناسون قامته الأكثر علواً في خريطة الشعرالحديث، أضف إلى كل ذلك المكانة المرموقة التي تحتلها قصيدته على نحو عالمي.
وتأتي أهمية بيكه س، من أنه-وبحق-شاعر الكرد الأول- وأحد واضعي مشروع الحداثة الشعرية، منذ بيان روانكه- المرصد الذي أصدره مع آخرين في العام1970، ودعا إلى تجديد الشعر الكردي، وإن كنا أن قصيدته، رغم التزامها بروح الحداثة، إلا إنها بقيت قريبة من متلقيها، لاتترفع عليه، وهذا هوالسرفي تميز هذا الشاعرالذي احتل موقع الريادة الشعرية، لدى شعبه، وإن قصائده التي تم إقرارها في المناهج الدراسية في إقليم كردستان، يرددها الصغار والكبار، على حد سواء.
مجلة «نزوى» التقت عدداً من النقاد والشعراء والباحثين والكتاب الكرد الذين كانت تربطهم، بشيركو، أوقصيدته، علاقات حميمة، حيث قدموا جميعاً شهاداتهم حول تجربة الشاعر، وإبداعه، وحياته، ودوره، ليس في الشعرية الكردية، بل والشعرية العالمية، لاسيما إن الشاعر بيكه س لم ينغلق في دائرة لغته، وأهلها، وحدهم، وإنما كان من هؤلاء الذين وضعتهم خصوصيتهم في لجة العمومية، ما يذكر إلى حد بعيد بمقولة شاعر داغستان رسول حمزاتوف «العالم يبدأ من عتبة بيتي»، وقد نالت القضية الفلسطينية، مساحة لابأس بها من قصيدته، كيف لا؟، وهوالذي نشأ وترعرع في أحضان الحزب الشيوعي العراقي، وولد في تلك الأسرة التقدمية، فقد كان إنساناً في المقام الأول، كما كان كردياً، كما أن علاقات وثيقة، دافئة، تربطه بالمبدعين العرب، الأقرب إليه. في مايلي شهادات قدمها للملف عدد من هؤلاء الكتاب والمبدعين الأقرب إلى تجربة شيركو:
كان كالشعر الذي ليس له حمولة ثابتة
() إبراهيم محمود
يموت الشخص ويبقى اسمه، يبقى الرجل الذي لا يعود مرئياً إلا من قبل المهتم بأمره، ولا بد من القول بأن الذين اهتموا به كانوا على دراية ملحوظة بما كان يتركه وراءه، وبالتالي فهم كانوا مشغولين بما كانوا ينشدونه أو يتمنونه فيه، بقدر ما كانوا ينتظرون المختلف من خلاله.
ذلك ما يمكن التشديد عليه بالنسبة للراحل شيركو بيكه س.
ما يقوله أحد المعنيين بالشعر يعنينا هنا وهو( قد يفلح الشعر أو قد لا يفلح بتفعيل خلاصه في الآخرين، لكنه قد يهبط فقط على أولئك الذين هم في حاجة تخييلية ماسة إليه، رغم أنه قد يهبط عليهم على شكل رعب فحسب).
لا بد أن في علاقة الشعر بمن يهتم به سراً ما لا يذاع بسهولة، طالما أن الشعر، أي شعر فعلي يشترط في بقائه واستمراريته نوع من السرّية التي تجدد في روحه وتفتن من يصغي إليه، وهذا السر هو قدرته على تفكيك العالم، على بث رؤيا مرغوبة، حيث يعيش الشاعر تجربة وجد لها مرارتها، كما لو أنها أضحية مقدمة برضىً ذاتي، دون ذلك يستحيل تذوق حيوية الشعر، سواء لحظة ظهور الشاعر أو مرور زمن ما على رحيله، حيث تُكتَشف أهميته في فتوحها الحياتية.
ثمة عامل الرؤيا الذي يقود كائن الأدب أو الشعر وهو مبدع صوب الآتي، صوب اللامتوقع دون أن يسمّيه بدقة كاملة، لأنه يتعامل مع الرموز، ولعل من خاصيات الإبداع الأولى هذا التجلي النفسي الخاص والمزكَّى لما يصدم الآخرين، وما في ذلك من وفورة جماليات تميّز قائله هنا، أي ما يدخل في باب «الرهافة» بتعبير با «اللطافة» أو الرهافة» ليست في متناول الجميع، إنها معرفة وممارسة وامتياز خاص بما يمكن تسميته أرستقراطية القلب».
ولبيكه س كما هو شأنه الأدبي: الشعري يتحدد باع طويل في لقيا المختلف، وفي تاريخه الطويل نسبياً مع القول المختلف، وربما كان ما أودعه مجموعته الشعرية الأخيرة (استعجل.. ها قد وصل الموت2013) ما يشبه النفير العام، كأني بالذات الشعرية فيه قد نبَّهت ذاته اليومية بلزوم السعي والاستعجال إلى كتابة ما كتب، رغم أن كائن الشعر ليس لديه حمولة ثابتة، بقدر ما يعيش دفقات الشعر، وحالات تترادف، وتأتي اللحظة الدافعة إليه للدخول في مخاض ولادة نوعه الإبداعي.
كيف يفسَّر هذا الضغط على الجسد من قبل مرض بات يُعرف بـ«العضال»، أي السرطان؟ والعضال من المعضل، كما لو أنه يعضّل الجسم، أي يعرّضه لخلل ما، فلا تعود عضلاته قادرة على أداء مهامها العضوية كما يجب، وأن يكون هذا المرض استثناء بـ«العضال» فلأنه الوحيد القادر على حيازة الجسد في كليته، واكتساح أي عضو فيه وتصفيته عموماً من خلاله، لعله عبر بوابة المعضل الصغيرة جداً ولكنها المؤثرة جداً عايش فعْل الموت، كما اختبر حس الحياة في الطرف الآخر، ولا بد أن شعوره بهذا العضال محوَّلاً إلى طاقة يجري استثمارها قبل فوات الأوان كُرمى قصيدة أو أثر أدبي كشاهد عيان على أن للإبداع تاريخاً مع هذا المرض.
كأن الكتابة لا تتم إلا في مناخ مأسوي، أن هناك أكثر من فريضة تؤدَّى لقاء كل حدث يجري، حدث تجلي الأثر الإبداعي، ولعل هذا المرض من بين الحالات الجديرة بالدراسة جهة التقابل بينه وبين ذات الكاتب وما يلي الإصابة، إذ تبرز درجة القابلية للتفاعل أو الاستقراء القاعدي للعنف المتضمن فيه من الداخل: عنف صامت، غير مستقر، استنزافي، يتهدد كامل الجسد، وما يتبع ذلك من انتقال بالذات الحية إلى اعتماد طريقة تعامل أخرى مع الحياة، حيث الموت وشيك.
لعله، مجدداً، يحيل ذاته اليومية إلى لائحة كبيرة ودسمة بالمقابل، من الروائح التي تلخص حياة كاملة، تصله حتى بأسرار الكائنات، وبالموت وما يجعله أكثر شخصانية، وما الرائحة التي يعتمدها الشاعر إلا بعضاً أثيراً مما يعتبره عاملاً مؤثراً في الكتابة أو في البقاء شاعراً، بقدر ما تكون مجموعة الروائح، وما أضخمها، تلك التي يطلقها على الوجود، دالة على توحده معها:
الرائحة طريقي وبوصلتي
تأخذ بيدي
تحدَّرت من جبين ذلك الجبل قطرات النور
فاحت من الحقيقة رائحة الإله
خرج شيطان من أحشاء الجحيم
وفاحت من الجحيم رائحة الكذب
شحذ «قابيل» كراهيته
وفاحت من الحرب رائحة الموت
وفياً لقضيته وشعره
لرفع الظلم عن الانسان
()هيثم حسين
ربّما يكون النصّ المفتوح الذي كتبه الراحل شيركو بيكه س بعنوان «الكرسيّ» من أنضج نصوصه الشعريّة، إذ سرّب فيه تصوّراته الفكريّة والفلسفيّة للشعر والحياة والسلطة والصداقة والتواصل، سرد فيه العبَر بطريقة لافتة، كان الكرسيّ شخصيّته الشعريّة التي منحها أبعاداً روائيّة وملحمية وواقعية. التفت إلى أطوار البشر من خلال ذاك الجماد الذي بثّ فيه الروح، وجعله مرتكزاً للانطلاق نحو عوالم الأدب الرحبة. كانت الشاعريّة الرابط الأوّل والأخير بين المكتوب في نصّه المفتوح، الفاصل الواصل بين كلّ من القصّة والرواية والمسرح، وهو بانفتاحه على الأنواع الأخرى وسّع ميدان تحرّكه، وانفتح على الأجناس الأدبيّة الأخرى، كتب على عكس طريقته في كتابة القصائد القصيرة الموصوفة بالومضة أو اللقطة. ولاسيّما أنّه عرف بتلك الطريقة المكثّفة في شعره، اقتصد في الكلمة وكثّف فيها المعاني والدلالات والتأويلات. أثبت بيكه س في «الكرسي» تجذّره بأرضه وتشبّثه بقضيّته وتراثه، وقد ظلّ وفيّاً لقضيّته وشعره وأدبه في المحاماة عن الإنسان ورفض الظلم وطغيان. الروح الشعريّة مبثوثة في كلّ تفاصيل كلماته وتوصيفاته عن الكرسيّ ليغدو على أثرها إنساناً، يحزن، يفرح، يبكي، يضحك، يغضب، يتآمر، يتبختر، يستذلّ، يشي، يخون، يهرم، يكبر، يصغر، يحلم، يرتبك.. وذلك كلّه من بعض صفات والبشر وأفعالهم. ومن هنا كان «الكرسيّ» ملحمة بيكه س الشعريّة والفكريّة ورسالته إلى الآخر عساه يتدبّر المعاني والمقاصد ويحرضّه على النبش ما وراء الظاهر بحثاً عن الكامن الخفيّ المنشود. استطاع بيكه س أن يوصل صوته، نداء روحه إلى غيره، ليؤكّد ما رمى إليه خورخي لويس بورخيس في محاضراته المجموعة في كتاب «صنعة الشعر»: «يمكن التفكير في أنّ الشعر هو فنّ نغِل، هجين»، ومزج بذكاء بين مختلف الأجناس الأدبيّة ليبدع نصّه المتميّز الذي شرح فيه أحوال شعبه، وغيره من الملل، مترجماً بالشعر ما ينتاب الإنسان في عالمه المعاصر من هموم ومآسٍ، فاضحاً المستبدّين، منصفاً المظلومين، مؤكّداً أنّ الخلاص في الحرّيّة، وأيّ حيرة تسبقها يجب أن تبدّد طالما يلوح في الأفق بارق يبشّر بها.. ».
المشروع الشعري بين السياسي والإنساني
()هوشنك أوسي
لم يكن طاغور أكبر من الهند، حتّى يكون نيرودا أكبر من تشيلي وناظم حكمت أكبر من تركيا، وغوته أكبر من المانيا وشيركوه بيكه س أكبر من كردستان. والشاعر، في بدايته، ربما يكرر غيره، تحت سطوة التأثّر بنتاجات سابقيه، وربما مجايليه، ولكنّه، في المراحل المتطوّرة، يبدأ الآخرون – المريدون (المتأثّرون) يكررونه. بالنتيجة، الشاعر هو خلاصة ما قرأ وشاهدَ وسمعَ وأحسَّ. ولا يوجد شاعر، كلّي البراءة من تجارب الذين سبقوه أو عاصروه. وعليه، لا خلاف على أن تجربة الشاعر الكردي المعروف شيركوه بيكه س، تعتبر علامة فارقة في الحداثة الشعريّة الكرديّة، بحيث شكّلت توجّهاً شعريّاً خاصّاً، دون أن يتحوّل الى ظاهرة أو تيّار شعري، يمكن وصفه – إن جاز التعبير – «الشيركوه بيكسيّة في الشعر الكردي الحديث». وهذا لا يقلل من مكانة وأهميّة ووزن هذا الشاعر الذي غادر الشعر جسداً، وسيبقى خالداً نصوصاً وإبداعاً.
وبعد مغادرة أيّة قامة شعريّة للحياة، لا مناص من سقوط بعض المتابعين أو ربما النقّاد، في ما يمكن تسميته بـ«الغلوّ النقدي» من طينة محاولات «أسطرة» تجربة هذا الشاعر، أو «توثينها» عبر «النفخ» فيها نقديّاً. بالتوازي مع ذلك، فان الفضاء التفاعلي – التأثيري للشاعر، لا يضيق أو ينتهي برحيله. ذلك أن إبداعه، وطاقة المجاز فيه، هي الكفيلة بإبقاء نصّه مفتوحاً على التأويل والقراءات التي لا تنتهي. والسؤال هنا: هل كانت تجربة بيكه س من طينة هذه العبقريّة الشعريّة؟!. هذا ما يتعيّن أن يجيب عليه النقّاد والباحثون الجادّون، لا غيرهم من المدّاحين أو المتملّقين للشعراء، في حياتهم، وبعد مماتهم!.
صحيح أن بيكه س، (وبحسب قراءتي المتواضعة لبعض مجاميعه الشعريّة ونصوصه المترجمة، المتفرّقة هنا وهناك) في شعره من الدفق الإنساني الذي حاكى الطبيعة والجسد والجنس وآلام الإنسان والألوان والأرواح، إلاّ أنه تعامل مع الوقتي – الآني، ليس انسياقاً وراء اللحظة الشعريّة وحسب، بل خضوعه تحت تأثير الضغط او الظرف السياسي. ومعلوم أن السياسة، رمال متحرّكة، قوامها مقتضيات المنافع والمصالح والأمزجة الآيديولوجيّة القوميّة منها أو الدينيّة أو الطبقيّة أو الجهويّة. وبالتالي، تناول الحدث السياسي شعريّاً، بالتأكيد سينعكس سلباً على حيويّة النصّ الإبداعي وديمومته، كمنتج إنساني، يحاكي آلام الإنسان في كل مكانٍ وزمان. ذلك أن الكثير من النصوص الشعريّة، تسقط بالتقادم، إن زال السبب السياسي – العاطفي الذي أدّى إلى ولادتها. ولئن السياسة، والخوض في معادلاتها وأحابيها وتوازناتها… من شأنها تلويث الإنسان، بخاصّة منه الشاعر، فإن الشعر، كلما أوغل في تناول الحدث السياسي، بشكل مباشر، ينزلق النصّ نحو المؤقّت، الذي يعكس حالة شعوريّة وجدانيّة وفكريّة محددة بأطر مكانيّة وزمانيّة، ما يقلل من العمق الإنساني المنفتح على آلام البشريّة والبشر، في كل مكان. ولعمري أن النقّاد والدارسين لتجربة شيركوه بيكه س، يمكن أن يجدوا هذا لديه. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، حين تمّ اختطاف واعتقال الزعيم الكردي عبدالله أوجلان، كتب شيركوه بيكه س، قصيدة طويلة، ذات نفس ملحمي عن الحدث. ولكن، حين غيّر أوجلان طروحاته السياسيّة والفكريّة، أثناء وبعد محاكمته، ذكرت العديد من وسائل الاعلام الكرديّة؛ أن بيكه س، تبرّأ من تلك القصيدة، وندم على كتابتها، نتيجة التحوّل الذي أجراه أوجلان في نفسه، والذي أتى بالضدّ من طروحات وطموحات وتصوّرات شيركوه بيكه س القوميّة والسياسيّة!. وهنا، تأثّر وتفاعل بيكه س مع محنة أوجلان، كان وليد نزوع قومي – سياسي بالدرجة الأولى. وحالة التغيير التي طرأت على أوجلان، جعلت بيكه س يندم على كتابة تلك القصيدة، وعلى اللحظة الوجدانيّة – الانسانيّة الشعرية التي دفعته لكتابتها!. بينما لم يعلن كل من مظفر النوّاب أو محمد الفيتوري أو أحمد فؤاد نجم عن ندمهم لأنهم كتبوا قصائد لأوجلان، في تلك الفترة نفسها سنة 1999، لأن الأخير غيّر مشروعه السياسي والفكري. وبقي التفاعل مع أوجلان ومحنته، إنسانيّاً، بالدرجة الأولى والأخيرة، لدى هؤلاء الشعراء العرب، قياساً بشيركوه بيكه س.
ولا يخفى عن أحد أن بيكه س كان ذا خلفيّة سياسيّة، وعمل في الاعلام الحزبي منتصف السبعينيات، ولدى مؤسسة ثقافيّة حزبيّة (سردم التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني)، حتّى قبل رحيله، وسبق له أن استلم حقيبة وزارة الثقافة في أول حكومة كرديّة كانت محاصصة بين حزبين. وعليه، حياة بيكه س وتجربته السياسيّة الحزبيّة منها، والمستقلّة، بالتأكيد سيكون لها وقع وتأثير على نصوصه الإبداعيّة، سلباً أو إيجاباً. والسؤال هنا: إذا كان طبيعيّاً معالجة أحداث سياسية أو أشخاص سياسيين شعريّاً، فهل كانت لغة بيكه س الشعريّة نازعة لقواميس السياسة؟ أم لقواميس الشعر؟. هذا التساؤل أيضاً، هو برسم دراسي تجربة بيكه س.
في مطلق الأحوال، لا يمكن اختزال الحداثة الشعريّة الكرديّة في تجربة شاعر، مهما علا شأنه، وثَقُلَ وزنه. ذلك أن نهر الشعر لدى الشعوب، لا يمكن لبصمة شاعر كبير من وزن شيركوه بيكه س أن توقفه. وإذا كان الشعر الكردي بحراً عميقاً شاسعاً، فان شيركوه بيكه س، هو احد جُزُرهِ أو أحد لآلئه، لا أكثر ولا أقل. وما هو مفروغ منه، أنه ليس كل من التقط صورة تذكاريّة مع شيركوه بيكه س أو أجرى حواراً معه، أو قدّمه بيكه س للوسط الثقافي والشعري…، صار هو أيضاً، من وزن بيكه س، كما يمكن ان يتبادر إلى أذهان الكثيرين من شعرائنا وأدبائنا وكتّابنا الكرد الأفاضل.
موته رحلة قصيرة في عالم البقاء
()جميل داري
«إنه موتي يجيء كل ليلة مرة.. مرتين زائراً يتكئ على كتف أحلامي و موتي الآن ظل يحسب خطواتي كل يومٍ و يفتشني يبحث عن عنواني الجديد!.
«شيركو بيكه س»
كم زارك الموت ولم تمت وحين مت ظل الشعر نبراس الحياة
وكم كتبت الشعر في الحب وكان الحب صوتك في الجهات
سكبت في عيوننا ضوء الصباح أججتنا بالماء والنار وعلمت القلوب روعة الصلاة
صليت للحب وللشعر وللطير وللأمنيات
يا شاعري
يا سيد القصيدة العصماء يا موعد الأرض مع السماء
لا لم تمت صداك في قلوبنا حقيقة شماء
موتك حلم مزعج فأنت مزروع هنا في الليل وفي النهار وفي النار وفي الماء
نراك في حديقة الشعر وفي أحلامنا الخضراء
من قال: إن الشعر قد يموت وهو طالع ونازل كغيمة السماء
كهمسة لعاشقين في الجنون في مخابئ الهواء
كقبلة مرسومة بين الشفاه والشفاه تمخر الفضاء
كبلسم الطبيب للمريض في دوائه الشفاء
يا أيها الراقد في عيوننا موتك محض رحلة قصيرة في عالم البقاء
موتك كذبة الزمان والزمان كذبة خرساء
ما زلت فينا شمعة لم تنطفئ ما زلت فينا نبضة لم تنكفئ ما زلت شاعر الصباح والمساء
ما زلت عصفورا على أشجارنا تمنحها فاكهة الأشواق والأشذاء
يا شاعري
تلميذك الغر أنا فلا تلمني ميت أنا وأنت في مواكب الأحياء جميل داري
رحيله خسارة للشعر الكردي والعالمي
()مروان علي
فجأة اكتشفنا شيركو بيكه س من خلال ديوان صغير( مرايا صغيرة) صدر في دمشق عن دار الأهالي في أواخر الثمانينيات، قصائد كردية قصيرة ، مكثفة ، باذخة ، تهز القارىء من الداخل وتأخذ بيده نحو جبال ووديان وشمس وصباحات وأنهار وأزهار ونجوم وليل كردستان.. إذا هناك شِعر كردي بعيدا عن الصرخات وبعيدا عن الخطابيةوالإنشائية التي طغت على القصيدة الكردية الكلاسيكية والشعارات وكلمة كردستان التي تتكرر في كل سطر أكثر من مرة بحثا عن التصفيق تجربة شيركو بيكه س كانت مغايرة استفادت من منجز الشعر العالمي والعربي لكنها حافظت على هويتها الكردية ومن هنا أهميتها ودورها الريادي في التأسيس لقصيدة نثر كردية خالصة.. وبينما انحاز مجايلو شيركو بيكه س للشعر السياسي .. ظل مخلصا لروح كردستان .. وهذا ما نراه ونتلمسه ونحن نقرأ قصائد هذا الشاعر الكردي المتفرد.. الذي لم يأسر القارىء الكردي فقط بل القارىء العربي أيضاً الذي وجد شعراً كرديا مختلفا وقريبا منه بحكم الجغرافيا والتاريخ وليس هذا فحسب بل الألم والأمل الكردي هو ألمه وأمله أيضاً بعد ( مرايا صغيرة ) قرأنا بالعربية ( ساعات من قصب) ( سفر الروائح) ( إناء الألوان ) ( الكرسي) ..وأعمال أخرى حتى اصبح شيركو بيكه س شاعراً لا ينتظره القارىء الكردي بل العربي أيضاً رحيل شيركو بيكه خسارة كبيرة للمشهد الشعري العالمي والكردي طبعاً
بوح حزين وشبح متواصل
من الظلم والألم
()إبراهيم حاج عبدي
إن قصيدة «بيكه س» بهذا المعنى هي في بنيتها احتفاء بالطبيعة الساحرة المتنوعة وهي في جوهرها نتاج لجغرافية قلقة وتواريخ دامية. وهو إذ يراقب كل هذه الأهوال ويعيشها لا يجد سبيلاً آخر إلى التغلب عليها أو تجاوزها إلا بالشعر الذي يأتي أشبه ببوح حزين، وأقرب إلى نشيج متواصل لا ينقطع مثلما لم تنقطع مأساة شعبه الكردي، فراح الشاعر يوظف هذا الغبن أو الظلم الذي لحق به وبشعبه «ليرتقي» بالمأساة شعرياً عبر نزعة إنسانية تتجاوز حدود معاناته الفردية ومعاناة أبناء شعبه لتحتضن الألم الإنساني في جميع الأزمنة والأمكنة. ومن هنا، علاوة على أسلوبه الرقيق وصورته الشعرية المتألقة، احتل بيكه س مكانة بارزة في خريطة الشعر العالمي المعاصر فترجم شعره إلى مختلف اللغات، منها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والسويدية والنروجية والدانمركية والمجرية والفارسية والتركية، فضلاً عن العربية حيث ترجم له إليها خمسة دواوين هي: «مرايا صغيرة» و«مضيق الفراشات» و«ساعات من قصب» و«نغمة حجرية» و«سفر الروائح» وكذلك ديوانه الأخير «إناء الألوان»
وحين نقول ان (بيكه س) يتمتع بأسلوب متفرد في الكتابة، فذلك مرده إلى لغته المتدفقة الهادرة حيناً والهادئة أحياناً، لكنها وفي جميع الأحيان تشبه اللوحة التشكيلية، فقوامها الكلمة المكتوبة التي تكاد تنطق بصخب الطبيعة وفورانها. فهي تخبئ في ظلال مفرداتها طبيعة كردستان المزركشة والموشاة بعبق الحياة بكل ما تحفل به هذه الحياة من المرح والرحيل والمعاناة والأمل والحب. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الشاعر يسبغ على كل ذلك وشاح المخيلة الخصبة ورهافة الحلم المشتهاة لتأتي القصيدة مزيجاً من هذا وذاك تروض الأمل المؤجل وتخفف في الآن ذاته من سطوة الموت والقتل المباح.
شاعر يشهد له العالم
()جكو محمد
الشاعر شيركو بيكه س يشهد له الجميع كم من أدباء وشعراء وحتى فناني العالم العربي والعالمي قبل شهاداتنا المجروحة به نحن الكُرد… فقد أقام الشاعر أمسيه شعرية في بيروت وأشرف على الأمسيه الشاعر شوقي بزيع و قد كان بيكه س من قدم افتتاحية أمسيته قبل أن يلقي الكاتب جواد الأسدي قصائده المترجمة الى اللغةِ الغربية… وأتذكر بأن قاعة مسرح بابل في الحمرا قد امتلأت عن آخرها… وفي نهاية الأمسيه وقف الجميع مصفقاً… حيث اجتاحتني في تلك اللحظة نشوةُ الفخر كون هذا الشاعر ينتمي الى بني جلدتي … وقد تفاجأتُ يومها بأن الكثير من المثقفين والمهتمين بالشعر على درايةٍ تامة بهذا الشاعر الرائع.
عِناد ناي يهذّب الجبل القاسي
()خضر سلفيج
الزمن هو معجزة مستمرة. كل لحظة «الآن» تموت وتصبح «ماضي» كي تُخلي مكانة «للمستقبل» في الواقع. عندما نستحضر الذكريات من الماضي، فنحن نُحييه في وعينا. هذا هو الشعور النبيل لأناشيد الغاثا الزردشتية المقدسة (الذكرى الطيبة).
هذا ما قلته لي، في شتاء العام 2004 ، حين زُرتُكَ، في حضرة زهرة «شلير»، الزهرة الجبلية الندية، الزهرة المطمئنِّة، وهي ترضع بتثاءبٍ نُدُفات الثلج بعطره.
وفي الشعر ـ قلت لي ـ ليس اختباراً نجريه على اللغة. انه كلام وليد المعاناة والخبرة. انه لا يبني ، كلمةً، كلمةً، المعْبَر الذي يمكّنه من ترك الأرض التي وُلد فيها ، الأرض التي يمرّ عليها الزمن الذي لا عمر له ولا ساعات ، تحت السماء الكونية. هذا الشعر مؤلَّف من كلمات بكل تأكيد . ولكنَّ هذه الكلمات لا تبحث عن كيميائها ، لا تسجّل صيغتها . انها تقول ببساطة، في نفس واحد، ما عرفته دائما: تبحث عن جرس النبع، نبع الوجود.
ذلك أنني اسمع جرساَ واتعرّف إليه كما اتنشق أريجاَ كلما فتحت دواوينك الشعرية. وفي هذا الجرس كما هذا الأريج تذوب قراءتي. أذوب في صوت الشاعر الساكن/ الهادر، الهامس/ العالي، صوت من يتلو المزامير . فيصبح صوته صوتي، أكون مرتلاَ لا قارئاَ.
ولكن هذا الصوت ـ صوتي وصوت الشاعر ـ هو ذاته صدى لصوت أكثر قدماَ، صوت نبويَ، صوت الجدَ الأول، الذي يرتفع في أعلى الجبل وسط الصقيع، كما يرتفع صوت الله أو على عتبة البستان الذي تركناه حين انفتح العالم أمامنا ، عالم المنفى والندم اللذين لا نهاية لهما.
ها نحن خاضعون كما نخضع للسحر إلى هذا الجرس الذي يثير فينا الدهشة والشجن، إلى هذا الأريج من العنبر والظلال. نرانا مأسورين، غافين قليلا ، خدِرين. كل قصيدة لها ردّة ، لازمة تهزنا. كل قصيدة نافورة ماء تنزل علينا قطرة قطرة. نترك رائحة البخور الخفيفة هذه تسكرنا . القصيدة تشدّنا إليها، لا تلقي بنا إلى الخارج، إلى الفضاء الذي قد يفتحه أمامنا وميضها. وتأتي الصورة «كالنجمة تتلألأ جوعاَ» . تفكّ السحر. نكتشف اننا فعالون، ساهرون. نشير تحتها بخط ضمن إطار القصيدة وننظر خارج القصيدة ، إلى العالم الذي يتضمن مقابلاتها، اثباتا لوجودها. الصورة هي وميض مفاجئ ، ضربة صَنْج، تمزّق حرير، عِناد ناي يهذّب الجبل القاسي. لا أعرف صورا أصدق من صور شاعرنا، تكفي ذاتها بذاتها ، هي جزر صغيرة يعيش فيها الإنسان إلى غير نهاية . لم استطع كتابة هذه السطور دون أن يجد بعض من هذه الصور مكانه فيها. هناك « الطلقة عشقا لعيون السنبلة تضع البويضة في عش الجوع انها عاشقة» ، « تلك المرأة تشبه ضبابا وأنا شارع المساء»، «الآن يتراءى الحصان وحيدا عبثا يعدو ويعود لكن الفارس لا أثر له»، «العازف: عمود من الجمرات اثناء العزف»* .
ألاحظ أن الصورة نادرا ما تنهي القصيدة . ليس هدف النص إيصال الصورة إلينا كما لو كانت غنيمة النصر. لو كانت الصورة كذلك لانفصلنا عن القصيدة، ولاحتفظنا منها فقط بضياء النَصْل نستخدمه في معركتنا.
الصورة في ذروة القصيدة، في نهاية صعودها وبداية هبوطها. لها وميض الموجة المفاجئ، موجة متوسطية في حالتي صعودها وهبوطها. الصورة كنز ، رأس حربة الرؤيا، حلم، بريق لا يستقرّ. وإذا كانت هذه الفترة من الصورة هي فترة القوة والحضور فهي لا تنفصل عن الحركة التي تقودنا إليها وعن الفترة التي تبعدنا عنها . بدء الصورة يتصل بالماضي أو المستقبل أو بفعل له معنى المستقبل.
في شعر بيكه س شيء يجري، يحدث. فم ينطق في الظلام. ماهو إذاَ سرّ جاذبيته؟ من أين يأتي اشراق الندى هذا، رنين البلّور هذا، اللذان يتعرف إليهما كل واحد منّا، من أين تأتي هذه الطراوة ، هذه النداوة العذبة، الممتعة؟ لماذا نلمس شجن القصيدة ثم نترك الشجن في القصيدة؟ السبب أن الكلمات تولد مجدّدا من رمادها. لا بالأحرى، الكلمات لا تترك رمادا . الكلمات تحترق على نار ناعمة دائما، تكّون أكواما صغيرة من الصوان على الجبل، تكوّن سُرُجَ ليل أمينة، ناعمة في ليل البيت. ونرى بوضوح هذا الليل الذي تشير الكلمات إليه . ولكنَّ الحضور الحقيقي ، الاستمرار في الحضور ، حضور واستمرار كل نور نشاهده متعلقان بالكلمات، مرتبطان بها.
وداعا أيها الشاعر …العائد ، القادم من أعماقنا.
شيركو بيكه س
أنت سحابة .. فأمطرك
مختارات شعرية
()ترجمة دانا أحمد مصطفى
أناشيد الغاثا الزرادشتية
إلى شيركو بيكه س في رحيله
نشيد1
الضوءُ، لا أستطيع القول: إنني كنت هناك
بعدَ رحيله؟
لستُ شجرة المعرفة المحرمة في حديقة الفضول. لستُ أفعى ولا إله.
نشيد2
لا تعبث بالنور الذي وهبك إيّاه الآلهة
فالظلام يمْقتك كضحية!
نشيد3
الطيورُ
على وشكِ أن تلغي وظائف أجنحتها
لتصنع ظلا لليراع العليل
نشيد4
لا تُحاذي الألم في شيخوخته
شاسعٌ معبده الغامض
يحيل دون تجولك فيه
غداة الفرح!
نشيد 5
لا تَمُرَّ بالزنبق
كجدول متهالك لا يملك
من العشق
سوى ضفة واحدة.
نشيد6
شَالُ ومْضتكِ، أيتها الحياة، منهمك
دائما بإضاءة الممر
في انتظار العاشقين.
نشيد7
الموتُ هو وردةُ الفكر،
أبيض، أبيض يصل بنا
إلى أعماق الديمومة.
شيركو بيكه س
()بدل رفو المزوري
كانت صدمة كبيرة جداً برحيل الشاعرالكردي الكبير، فهو أحد رموز الحداثة الشعرية، كردياً، وعربياً، وعالمياً، وقد استطاعت قصيدته أن تسجل حضورها، وتصل إلى قارئها عبر العديد من اللغات الحية في العالم، ما إن تناهى إلى مسمعي هذا الغياب المفجع، والمرير، حتى وجدتني عاجزاً عن أية كتابة عنه، لذلك فها أنا أقدم مساهمتي-هذه- للملف الذي أعدته نزوى، بمثابة شهادة، ووفاء، ودين لهذا المبدع الكبير الذي كان خير سفير لشعبه وإنسانه.
نصوص من
شيركو بيكه س
طريق مسدود
كل مرة لكي أقابل الله
أقف… أصطف…أقف
أنغرس…أنبت… أنّفض
الطابور طويل…
رأسه يبتدىء من أنفالي
ورأسه الآخر عند صليب المسيح
ولا ينتهي،
ولمّا يحين دوري
بعد الجميع
وعلى وشك الوصول
إلى عرشه المقدّس ،
إذا به ينهض ويغادر
وهو يقول لي:
ـ أعرف من أنت
ولمذا أتيت،
اعذرني
لاحلّ للقضية الكُرديّة
حتى عندي!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- من النفض ، أي أتساقط كأوراق الأشجار.
رسالتا حب إلى كركوك
1
لم يكن عمداً..ولا أدري لماذا؟
في كتابة قصة شجرة
نسيت غصناَ مذبوحاً
كي أذكره
ليلاً وفي حلمي
جاءت الشجرة إلى داري
قالت: أخي عتاباً
أنْ تكتب عن شجرة
دون غصنها
الكبير الضحيّة
أشبه ما يكون
بأنْ تتحدث عن ( كركوك)
لكنْ دون أن تذكر ( انور)!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(أنور) أحد شهداء الكرد في كركوك
2
في سماء( الشورجة)
فلتت أغنية من منقار
طائر عاشق
وسقطت على شجيرة شائكة
بنغمة ميتة
فاحمرّت الشجيرة الشائكة
وفي فصل مقبل
صارت الشجيرة الشائكة
في مكانها نفسه
وردة عشق
ورحت ترقص على صوت (مردان)!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشورجة : أحد الأحياء الكردية في كركوك
مردان: هو الفنان الكردي الكبير علي مردان
شيركو بيكه س
لايليق بك الغياب..!
()إبراهيم اليوسف
جاء الرحيل المفجع لرائد الشعر الكردي شيركوبيكس”1940-2013” ويعني اسمه بالكردية «أسد الجبال الذي لا أحد له: والذي أغمض كلتا عينيه، قريباً، في أحد مستشفيات ستوكهولم، عاصمة السويد، بلده الثاني الذي يحمل جنسيته أيضاً، ولجأ إليه بسبب ملاحقته من قبل النظام العراقي السابق. كي ينتشر النبأ بسرعة البرق:”رحل شيركو بيكس”!، يهز أوساط المثقفين، والكتاب، ومتابعي إبداعه الاستثنائي، الذي ينبثق عن روح استثنائية لاتتكرر. وشيركوبيكس الذي ولد في مدينة” السليمانية” وهو ابن الشاعر الكردي الكبير، فائق بيكس أحد رجالات انتفاضة 6 أيلول ديسمبر 1930، يعد ليس مجرد أحد أكبر عمالقة الشعرالكردي المعاصر- فحسب- وإنما هومن أوائل الشعراء الكرد الذين دعوا إلى الحداثة الشعرية عبربيان روانكه الشعري، الذي صاغه ومجموعة من شعراء جيله الكرد في ستينيات القرن الماضي، وكان أول بيان تجديدي من نوعه، سيظل أثره في تاريخ الشعرية الكردية، بعد أن كانت القصيدة الكردية تقليدية، في سائر أجزاء كردستان، وكانت قصائد الشاعرالكردي جكرخوين، أحد نماذجها، مع أن القصيدة الكردية، وجدت نفسها أمام مهمات كبيرة، وفي مقدمتها الدفاع عن شعبه الكردي، ممزق الخريطة، ومهدد التاريخ بالمحو، ناهيك عن أن أية عودة إلى الشعر الكردي ستبين الروح الإنسانية لدى هذا الشاعر، وانشغاله بقضايا الشعوب التي يعيش معها شعبه، بل قضايا المعمورة كلها، كأحد الشعراء الإنسانيين، وتحتل قضية فلسطين مكانة واضحة لدى هؤلاء الشعراء.
أصدر شيركو بيكس مجموعته الشعرية الأولى«هودج البكاء» في العام 1968، كي يواصل كتابة الشعر على امتداد نصف قرن من الزمان، وليسهم في إغناء المكتبة الكردية والإنسانية بالعشرات من النتاجات الإبداعية المطبوعة، على صعيد الشعر، والشعر الملحمي، والقصصي، بالإضافة إلى المسرحية، كأحد المبدعين العالميين الأكثرحضوراً في عالم الشعر الحديث..
وإذا كان شيركو قد فتح عينيه في أسرة ثقافية عريقة، مناضلة، فإنه دفع ضريبة ذلك غالية، فقد تم تهجير الأسرة في العام إلى الأنبار، وهو ما سيتكرر معه في العام 1975، حيث سيعود إلى محافظة الأنبار، كي يعاد في نهاية السبعينيات إلى السليمانية، بيد أنه يرفض الخنوع في مدينة السيلمانية في ظل «الأمن الأحمر» أمني سوركان” الذي يعد الآن متحفاً يبين مدى بشاعة آلة القتل- بحق الإنسان- ولذلك فقد التحق بالمقاومة التي نشطت، آنذاك، في العام 1984، حاملاً البندقية في جبال كردستان، كي يبقى هناك، إلى أن تنسد الدروب أمامه، فيسافر وأسرته إلى مملكة السويد، ليقيم هناك، إلى أن تندلع انتفاضة شعبه في مطلع تسعينيات القرن الماضي، حيث يعود إلى مسقط رأسه، وينخرط في العمل السياسي، كي يتم إعطاؤه حقيبة وزارة الثقافة، في أول حكومة كردية في إقليم كردستان، بيد أن الرجل الذي ضاق به مكتب الوزارة، والرتابة المطلوبة في أي موقع رسمي، لذلك فقد قدم استقالته، طوعاً، واعداً، ألا يتورط مرة أخرى، في التنطع باستلام أية مسؤولية، خارج دائرة الثقافة، والإبداع، حيث أسندت إليه إدارة دارنشر «سردم» للطباعة والنشر، الدار التي تصدر عنها، مجلة بالاسم نفسه «سردم»، أي العصر، ويشرف عليها الشاعر لقمان محمود.
ويعد شيركو حقيقة، من كبار شعراء العالم المعاصرين، فقد ترجمت دواوينه إلى العديد من لغات العالم، ومن بينها اللغة العربية، التي ترجم بعضها إليها الكاتب الراحل صلاح برواري، وقد نال جوائز عالمية عدة، وكان من عداد المرشحين إلى جائزة «نوبل» بيد أن اسمه، لم يستطع تحقيق ما هو مطلوب في المعادلات النوبلية، ليس نقصاً في خطابه الإبداعي الفريد، وإنما نتيجة موازينها السياسية، كما أنه كان على علاقة وثيقة بكبارشعراء العربية والعالم، ومن بينهم: الجواهري- محمود درويش- سعدي يوسف وغيرهم… كثيرون، يقول معبراً عن حالة اغتراب عالية:
غربة:
لست غريب الدار وحدي
فالدار أيضاً غريبة حارتها
الحارة غريبة مدينتها
المدينة غريبة بلادها
البلاد غريبة العالم
والعالم غريب الكون
ويقول في نص قصة رجل:
نسج النساج حتى مماته
نسج السجاد ..ونسج الورود
ولكنه لم يملك لنفسه
سجادة واحدة
ولم يضع أحد
على قبره وردة
حقيقة، إن رحيل شيركو بيكس، يعد خسارة كبرى للمكتبتين الكردية والإنسانية، حيث كرس حياته من أجل قصيدته، هذه القصيدة التي تقرأ الآن بالكثير من لغات العالم، ناهيك عن أن شاعرنا كان رجل موقف، لم يستسلم أمام آلة الخوف، وظل يواجه القبح بالجمال، سواء أكان ذلك من خلال كلمته، أو من خلال البندقية التي حملها، مع البيشمركة، في أعالي الجبال، كي يسهم مع مناضلي شعبه، في إنقاذ أهله من بين براثن الظلم، وهو لعمري يستحق وقفة طويلة متأنية في خصوصية قصيدته التي تغنى في المناهج المدرسية، بلغته الكردية الأم.
حين يكون العالم ناقصاً..!
« بعدما كبرت
رأى معصم يدي اليسرى الكثير من الساعات
لكن قلبي لم يفرح لواحدة منها
مثلما كان يفرح وأنا طفل
حين كانت أمي تترك بأسنانها ساعتها على يدي»
كثرت الألقاب التي أطلقت على الشاعر الكردي الكبير شيركو بيكس، حيث لم يترك محبوه لقباً إلا وأسبغوه عليه، فهوبوشكين الكرد، وحمزاتوفهم، ومايكوفسكيهم، ووايتمانهم، وإليوتهم، وناظمهم، وازرا باوندهم، وبودليرهم، ولوركاهم، ونيروداهم، وكافاكيسهم، ودرويشهم، وهي جميعها نابعة من المكانة التي يعرفها هؤلاء للشاعر لدى قومه، ولدى قرائه باللغات التي ترجمت إليها، حيث مايظل يرافق الترجمة من النكهة الكردية- وهوما يمكن لقارىء اللغتين الكردية والعربية معرفته-باعتبار العربية هي اللغة التي وصل عبرها إلى قرائه من كرد البادينية الذين قد يحول حاجزاللهجة بينهم والشاعرالمنصرف إلى الكتابة باللهجة الصورانية، إذ طالما اعتبرت هذه اللهجة حاملة نصيبها من عذابات الكرد، وأحلامهم، من خلال ريِّها بالتراث الكردي الواحد، الذي لاتحول حواجزاللهجة من تماهيه، وتوائمه، كي يكون تنويعاً على أبجدبة واحدة، وروح واحدة، وهوما عكسته قصيدة شيركوالتي كانت مدركة لكل هذا، فانصرفت للإخلاص لروحها، على اعتبارأن هذه الروح هي الأخرى، عصية على التمزق، رغم مشتركها من الجراحات، والآلام، والانكسارات التي تكاد تكون عقاب صاحبها الذي انصرف لاستعادة ملامح العالم كي تشبه أرواح الناس وأحلامهم، فحل عليه الاضطهاد، ومحاولات اقتلاع الجذور، والاغتراب، ماكان بحاجة إلى صوت الشاعركي يقف في وجه كل هذه المحاولات التي باتت القرون تتبادل رايتها، على امتداد شريط زماني طويل، هوعمرغربة هذا الإنسان، واغترابه:
لااسم مدينة
ولا حارة
ولاشارع
لارقم هاتف
أو صندوق بريد
أملك
ولكن
كل يوم
وبامتداد الطريق
تجيئني رسائل خضراء
من البعيد والقريب
لأن شعري
هوساعي البريد للمحبة
وتأتي منزلة بيكس لدى إنسانه الكردي، كأحد أهم من كتبوا باللغة الأم، في العصرالحديث، وهوابن المكان الذي تهيأ له، لاعتبارات تتعلق بنضاله، أنه جاء بعد الرعيل المؤسس في ظل خرائط الدول الجديدة في المنطقة، الرعيل الذي لجأ إلى اللغة- كمعادل للوجود- المهدد بالمحو، وكان لابد من امتداد الكتابة، أبعد من عوالم الكتاتيب، كي تتفاعل مع اللحظة الزمنية، وإن كان الشاعرالتقليدي سباقاً لوضع يده –سابقاً على عصره- على بعض مكامن الجرح، يشير إليها، وإن كان الجرح قد اتسع على الآسي، وبات لتقادمه، وتقيحه، وتناسل وجعه، ما يدفع لأن يكون هناك صوت بحجم كل هذا الإرث الثقيل، يعيد تشكيله، عبر لغة جديدة، وهوما استطاع الشاعر أن يكون أحد أهم أعمدته التي ارتفعت عليها عمارة القصيدة الجديدة، وهي تنفتح على المديّين: العالمي، من جهة وما حققته نظريات الشعرالجديد من إنجازات ، باتت تشكل ثورتها، والعربي، من جهة أخرى، في امتداده على شساعة الخريطة في العواصم الأكثر تأثيراً: بيروت- بغداد- دمشق- القاهرة، وهي أقطاب التأثير في مغنطة الفضاء الزمكاني، حين كان سؤال الحداثة، على أشده، حيث كان لهاتين النافذتين أثرهما الكبير على مسار القصيدة الحديثة، هذه القصيدة التي جاء بيان» روانكه» التجديدي، كمعبر عنها، وذلك لأن هذا البيان، وهو المتفاعل مع أسئلة الشعرية في لحظتها المعيشة، كان تتويجاً لأكثر من نزعة لدى عدد من الشعراء السابقين على محطة العام1970، لأن رياح التغييركانت تجتاح مفاصل كثيرة من الحياة، بعد أكثرمن صدمة: الإنجليز، مقابل الفرنسيين في الجهة الأخرى، والتقاء الشرق والغرب في سياق ترجمة سايكس بيكو، ورسم ملامح المنطقة، حيث المعادلة الجديدة، والإجهاز على الخصوصية، في سياق استنهاض الإطارالعام، في سلوك انتقامي، لايصعب اكتشافه، لمن يقرأ عقد الغرب، منذ هزيمة فلوله، وتحرير القدس على يدي صلاح الدين الأيوبي وحتى اسم الضريبة التي كانت لما تزال في أذهان كثيرين من الأوربيين، وكانوا يرون ضرورة ألا تقوم قائمة لمن دحرهم، وألظى الحلم الإفرنجي، ليكون مجرد أضغاث وانكسارات:
طويل هو دخان هذه الغابة الحزنة كقامة خارطتي
طويل هودمع هذه الجبال، بل أطول من من «دجلة» و«الفرات»
طويل هو احتراق أوراق العشب على مدى رؤية عيني جراحي
طويلة هي عذابات ألفبائي، من هنا، حتى «خاني»
طويلة..طويلة ..طويلة هي غربت
أطول من كل سكك الحديد في أوربا
لذا، لا أعرف ما الذي سأرويه لكم
لا أعرف ما..
لا أعرف..
لا..
تناقضات هائلة: وطن مفتوح على الجبال والينابيع، غيوم تمشط الأمكنة، أشجار عالية، أطيار، كواكب في أوج بهرجاتها، أغاني الرعاة تشق صمت الجهات، أنسام تبدو كأنها نتاج فردوسها الأرضي، أناس بسطاء بوجوههم مقروءة القسمات، نساء حسناوات، خوف يكون نفسه، يكبر تدريجياً ككرة الثلج، آت من منحدر الماضي إلى الحاضر، كلما انقلب صانعه على عقده الاجتماعي، مايجعل القصيدة تؤول على نفسها اداء أكثر من وظيفة، متجهة إلى الجبل، ترصد العلاقة بين علوه والغيوم التي تكلله، وسط مباركة: الشمس والقمر، وبحضور حشود النجوم، تستنهض الأغاني من مهادها، وهي تزاوج بين جراحات التاريخ، والواقع، مخضبة بنزيف روحه، دون أن تتوقف على مساحة الفضاء من حوله، كي يعرف أنه الناطق الرسمي باسم الألم والأمل، ومن هنا، فإن لغته المدعوة إلى أن تسجل انبثاقها، وهي تعيد الروح إلى معجم اللغة، وتمنحه أبعاداً جديدة، كي يكون بمستوى كل هذا الظلم الواقع عليه:
أنا العاشق
لابدَّ أن أندف
بأصابع أنفاس
قطن هذا الزمن
لتحلق الكلمات
وتستحيل العبارات ريشاً
للرياح التائهة المشردة
التي لابيت لها
ولا معجم
أنا حلاج آلامي البيضاء
في صوتي تحفظ الغربة جسدها
في عيني شعاع القرابن
في خيط شعري
عشبة حنين هذا الوطن
الشعر- بهذا المعنى- ليس مجرد ترف، وليس مجرد امتياز، أو مرتبة- وهو هكذا في الأصل- بيد أنه لدى الشاعر، وهوفي هذا الحال، عرَّاف أهله، حادي أوقاتهم السرمدي، صاحب النبوءة الأعظم، حامل مفاتيح الغد، وهو ما يدفعه ليجد أن حجم المهمة المنوط به كبير، مايدعوه ألا يكتفي بكتابة القصيدة، إلى جانب ترجمة الآخر، أو مسرحة الشعر، أو كتابة القصيدة: وامضة، وملحمية، بل أن يحمل بندقيته، كي ييمم وجه قصيدته إلى القمة، حيث هناك من يصنع كل ذلك، من دون أن ينبس بكلمة، وهويرابض في عليائه، يقود الرياح، والثلوج، إلى جهاتها، مبوصلاً قلبه ودمه لها، يحرس الذراري من الحتِّ، والرياح من شوك الأقدام، والينابيع من النضوب، ويسند الأفق، كي يبقى شامخاً كهيبة الجبل وعلوه:
ها هنا
هاهنـــا الليلـــة
الجبــــل شاعـــــــر
الشجــــرة قلــم
السـهـب ورق
النهر سطر
والحجرنقطة
وأنا
علامة تعجب
لم يكن يغيب عن بال الشاعر-هنا- وهو محمَّل بأثقاله، كلها، يدوركعقرب الساعة، في ميناء الدائرة من حوله، بانتظام لايعرفه إلا شاعر كبير، ماجعله يهندس قصيدته، يعرف متى يخيط أرديتها بإبرته وحرير إبريسم الكبد، كي تكون تارة بمثابة إيماضة لاتفتأ تترجم في دم المتلقي كهرباء، تترك أثرها، فيه، عميقاً، من دون أن ينسى في لحظات أخرى، أن ثمة ظمأ إلى نص أطول، مادامت هناك مسوغات كثيرة لذلك، فلا يفتأ يترجمها، كي تكون-بذلك- كتاب أهله، الكتاب الذي ينوس بين ماض وحاضر ومستقبل، في دورة لاتنتهي، بد أنه سيكتشف- عما فجاءة في مراياه- أن ما اعتبره ألماً بلغة قلبه، إنما هو ألم سواه، حيث الأنا كل، والكل أنا، ولا فصام بين هاتين الدائرتين المتداخلتين، وهما تصنعان مجرَّد لغة، هي لغة الشعر، تشكيل الروح، موسيقاها، حيث هي مدى الذات/ الآخر، كي يجد من حوله جمهرات الناس، بلغاتهم، يرددون قصيدته، ويجسرون بين جبالهم وجبله، بين سهولهم وسهله، بين أنهارهم ونهره، بين أناسيه وأناسهم، بين أحلامه وأحلامهم، وتلك هي معجزة الشاعر:
محبرة خضراء
رمت بنفسها من فوق رف
وبعد دفنها
عثروا في علبتها على قصاصة
كتب عليها:
«لقد قتلت نفسي لأن أحد الأقلام
امتلأ بحبري عنوة
كي يأسر سرباً من كلمات نيرودا المحلقة»
إن الشاعر، يقدم أوراق اعتماده، سفيراً فوق العادة، منذ أولى قصيدة يعانق خلالها قلب أهله، والأهل هنا المحيط، والأهل هنا كل من تنوب هذه القصيدة عنه، كي تصلهم، تسمي وجعهم، ترفع الغبار عن أناشيدهم، وأعاصيرهم، وهي تنهض بكل ما لدنها من مفردات، وجمال، وإعجاز، وسحر، وألق، يغدوالأقرب إلى كل هؤلاء، مادامت قصيدته يسمعها الطفل، وهو يتأتىء، يشكل من خلالها أدوات تواصله وتبوصله مع كل من حوله، بل يرددها وهو تلميذ مدرسة، ويقرأ من خلالها تضاريس المكان، وهو يكبر عليها، جندياً، أومعلماً، أو رساماً، أو ممثلاً، أوعاشقاً، أو عاملاً، أو مهندساً، أينما كان موقعه في لجة الحياة، مايجعل الشاعر، في المنزلة ذاتها، في موقع من لاغنى عنه، في موقع من فيما إذا غاب، بدا العالم أقل منه، وإن كانت ثمة قصيدة للشاعر، تعيد التوازن إلى الحياة، وتترك الطمأنينة في العالم، كي يغدو الاوكسجين بنقائه، وتبدو القلوب بطهرانيتها، كما يليق بانعكاس رسالة الشاعرالكبير فينا جميعاً:
أنا كاتب هذا الص
عتيق في المدينة
مجنون كالريح
حاف
رث
حائر
آتي وأغدو
حيناً أستحيل شعراً ثملاً في حانة
وحيناً في خلوة صوفية
أمسي قصة حدباء
أو خطيئة هائمة
نثرعلى منازل السهوب
مسرح للجثالة.
مختارات من شعر
(شيركو بيكه س):
ليس في الكرسيِّ غيري
يلعبون بوحدتي أطفالُ قلبي
لا أرى من فتحةِ الموج الستائرَ والبنفسجَ
كلما كلمتُني زوَّدتُ خوفي وانتظرتُ
أنا اليتيمُ من المتيَّم
لم يعدْ آباءُ عشقي يبحثون عن الغريب أو الحبيب
حقيبتي في القارب المثقوب
والأمواجُ تبحث في الكراسيِّ الأخيرة
عن صدى اللحن الذي ترك المكان
عن الحنين
وإنه يعدو على الأشياء كالظلِّ الطويل
ولو بشيءٍ من غِرا الذكرى
فتلتصقُ التفاصيلُ الصغيرة في جيوب القلب
كنت أقول : يا وحدي أنا مجموعُ ما يبقى
وتلك حبيبتي هذا أنا
من منهما غيري ومن وحدي ؟
ومن وضع الحقيقة في الخرافة ؟
إنني أبكي كمن يمشي
ويسقط خلفه مطرُ المسافة
من أنا لو عاد وحدي ، أو أتمَّ غيابَهُ ؟
من هذه البنت التي لحستْ دماغي
ثم قالت : أيها الموزونُ ؟
من وضع المستحيل في الحقيقة ؟
أنا (الأسد) في عش اسمي
لكنني لا أرغب بجهرة الأسد
لأنه شرس وعدواني
كنت أود أن يكون في اسمي
الغزال أو الجدي
أو المهرة أنا لقبي أيضا بلا أحد
وهذا أيضا لا يعجبني
أقل من غمضة عين
أقل من غمضة عين
أقل من نأمة حمل
أقل من ارتعاشة ورقة
لا نوم لي و لكنني أحلمُ
المطر لم ينم , و لم أنم
و كل قراءة للأمطار تصعد بي سماءو
و كل كتابة بالضوء
تلبسني الأفق و توحدني مع الله
حين أولجت أصبح الحجر في أول ثقب
صادفته في جسد اللغة , بدأ أول خيط
للانفصال يظهر في رحم العبارة الجديدة
الآن مزقت القناعة كورقة يانصيب خاسرة
و كسرت الزمن مثل ساعتي العتيقة
و من عجينة ضوء هذا الصباح
صنعت خبزا لحب معدم و أرض منفي
اليوم حررت اليد لكي تكتب الريح
دون وصاية من هذا الرأس
تركت الأصابع
رافقت الحلم في ممرات الليل المجهول
حين تلتقي بالمستحيل , بالعالم السفلي
راحت اليد تكتب مطر الحلم
في عنفوان رؤياه
شاعر غلبه النعاس
و لكن القصيدة
كانت يقظة
أما الثالثة
كأسك رفعتها
لأشربها
وإذا بنفسي أذوب فيها
أكتب بورقة عشب
وأقرأ غابة
أرى قطرة مطر
وأسمع زمجرة بحر
على كفي حبة قمح
وفي روحي بيادر
عندي الآن
بيت واحد من شعر نالي(1)
ومعي كردستان كلها
دون أن أدرس على يد أي نهر
أستطيع أن أكتب بلغة الماء
لم أدخل مدرسة أي جبل
ولكنني أقرأ الأحجار والأشجار
لم يكن الغيم أستاذي
ولم أدخل دورة الشتاء
ولكنني أحفظ
قصائد المطر والثلج والريح الصرصر جميعها
لم أتخرج من معهد الزمهرير و العواصف
والرياح المزمجرة
ولكنني أفهم فرق موسيقى أو سمفونيات
الفصول كلها
أنا رؤيا آخر في
أكوان الشعر
عالم كردستان
أردت أن أبعث إليكم
بقبلة عن طريق هذه القصيدة
ولكن حين ترجمت
شوهوا قبلتي
فأصبحت كنسمة عرجاء
جبال من الأسئلة المستعصية
تطفو على وجوه الكرد
هناك في كردستان تعب النهر من الركض
وراء البحر
وتعبت الكلمة من الجري
وراء القصيدة
و الشاعر
يشبه حصانا أسود وحيدا
عرفه . . خصلة نار
وصهيل مبلل بالإنكسار
يجري في دوران دائم
الرماد أصله كرد
لماذا ؟
الله هو الوحيد الذي
! في استطاعته أن يجيب
لا تقرأني كثيراً
لأنك تصاب بالعمى من كثرة الدخان
في تاريخي
إياك أن تعبر هذه القصيدة حافياً
فهي مليئة بشظايا الزجاج
فقبل قليل سقطت من بين أصابعي رؤياي
إحدى مرايا الحزن
وتهشمت على الأرض
وإذا غادرت هذه القصيدة
إياك و الخروج دون مظلة
أنظر فمن الجنوب المرارة
تتقدم سحابة صوت أسمر
وحين تصل إلى السماء فوقنا
أعرف أن مراثيها ستنهمر مدرارا
لم أنتق إلا عشق تراب كردستان
وعشق عيون أمي
والعشق لن يكون بليغاً
لأن ناراً تتأجج في أعماقه
فقط السكون بمقدوره
أن يصفه ويعبّر عن أصواته
إذا مت في يوم عاصف
ربما تتجسد روحك في نمر
وإذا مت في يوم ضبابي
ربما تتوزع روحك في أحد الوديان
أنا حي لم أمت
و أقرأ لكم القصائد
وعلى رغم ذلك منذ زمن بعيد
دخلت روحي في جسد كردستان
و لكن يا لاورا لا تنسي كردستان
لا تنسي كردستاني يا لاورا
حين أحرقت تلك المرأة
نفسها للحرية
كتبت دخانها ملحمة سرمدية
لكل بلادي من أقصاها إلى أقصاها
(طريق مسدود ) ..
كل مرة لكي أقابل الالهة … أقف… أصطف…أقف.. أنغرس…أنبت… أنّفض .. الطابور طويل…
رأسه يبتدىء من أنفالي … ورأسه الآخر عند صليب المسيح ..ولا ينتهي، ..
ولمّا يحين دوري .. بعد الجميع .. وعلى وشك الوصول .. إلى عرشها المقدّس ،
إذا به ينهض ويغادر
وهو يقول لي: أعرف من أنت ولماذا أتيت،
حب
حين وضعت أذني فوق قلب الأرض
سمعته يحدثني عن عشقه الأمطار
وحينما وضعت أذني فوق قلب الماء
سمعته يحدثني عن حبه للينابيع
وحين وضعت أذني فوق قلب الشجرة
سمعته يحدثني عن حبه للغصينات
وحينما وضعت أذني فوق قلب الحب نفسه
سمعته يحدثني عن الحرية
أغنية
لم أكن أعرف الغناء
ولكن الفقراء علموني إياها
ولم أكن أعرف الغضب
ولكن الظالمين علموني .. أن أغضب
لم أكن أعرف الحب
ولكن الأنهار علمتني أن أحب
ولم أكن أتقن كتابة الشعر
ولكن العشاق
والأيدي والأصابع المتشققة الخشنة
والأقدام الحافية للفلاحين
علمتني إياها
ولو لو يكن هناك موت
فإني كنت من أجلهم أموت ..!
الشاعر
من ذا يقول : أن ليس للأنهار هم
إنها إن لم تكن حزينة , فلماذا تئن إذن ؟!
ومن ذا الذي يقول : أن ليس للنهر حبيبة
إنه إن لم يكن يحب
فلمن يجلب كل هذي الزهور ؟! ..
ومن ذا الذي يقول : إن النهر لا يغضب أبدا
إنه إن لم يكن يغضب ..
فلماذا يهشم رأسه بصخور الضفاف
ومن ذا الذي يقول : إن الشاعر
لا يصبح نهرا
أليس هو الذي يجمع دمه
قطرة فقطرة في غيمة القصيدة
كي يجعل منها نهرا كبيرا ؟!
نجمة ما
كانت النجمة تضحك قرب قمة الجبل
فجاء الضباب الأسود والتف حولها
حينذاك تململت النجمة الرقيقة وقالت :
ـ لا تقتلني أيها الضباب الأسود
علني أستطيع أن
أضيء نافذة غرفة فتاة وحيدة
كسرت العواصف الهوجاء ـ ذات ليلة ـ
زجاج سراجها فأطفأته .. !
مختارات
طار الطائر إلى أن أصبح قطرة من الدمع في عيون السماء
طار الطائر إلى أن وصل الميلاد الثاني للسماوات الهاجرة
والطفل المجرد من الأجنحة أيضا طار مع الطائر
كانت عيون لا تبصر
ولكنه كان يقتفي أثر الطريق الممتد بين مدى أجنحة الطائر والميلاد
الأخير لأجنحة السماء
لم تكن لعيونه أجنحة
ولكن كان يصيره مع الطائر
ومع الطائر كان يطير
أطلقوا عليّ اسمي مباشرة
وأطلقوا الأسماء على كل شيء
كان الجمال عندهم حورا
كان الجمال عندهم شرسا
لم يكذبوا
تجددوا أمام عيوني
حتى الأوراق كانت تستيقظ من النوم , من شدة الهلع
ومنحت أحلامهم البعيدة لي
شجرة ما كانت تغني
أوراقها أصبحت غيوما
وجذورها صارت رداء الليل
ولونها ديوانا من الشعر
من شدة جمالها
أصبحت عيناها شعاعا ومطرا
وقامتها قاموس الجبل
شجرة ما
كانت تغني
فتناثرت أوراقها
نهر مفعم بالأمواج
كان ينشد بناية للشمس
سحابة غريبة ذات عيون سوداء
ذبحت الأضواء
في تلك اللحظة
كانت أنغام التراب
تهدهد مهد الحزن
لرضيع الفجر.
مَحْبرة
محبرة خضراء
رمت بنفسها من فوق رفٍّ،
وبعد دفنها،
عثروا في علبتها على قصاصة
كُتب عليها:
«لقد قتلتُ نفسي، لأن أحد الأقلام
إمتلأ بحبري عنوة،
كي يأسرَ سرباً من كلمات نيرودا، المحلِّقة».
ها هنا
ها هنا، الليلة،
الجبل شاعر،
الشجرة قلم،
السهب ورق،
النهر سطر،
والحجر نقطة..
وأنا..
علامة تعجب!.
الشاهدة الوحيدة
تقاطعُ شارعين، هو الصليب.
بقعة دمٍ، هي الجريمة الجديدة؛
عصفورة على السلك،
هي الشاهدة الوحيدة،
والتي لن تدعوها أيةُ محكمة، أبداً.
أمي
حين كبرتُ،
رأى معصم يدي اليسرى،
الكثير من الساعات؛
لكن، قلبي لم يفرح،
مثلما كان يفرح،
حينما كانت أمي تعض معصمي الأيسر،
وأنا طفل،
تعمل بأسنانها
ساعتها على يدي.
غرفة
استطاع شعاع، أن يفلتَ
mمن قبضة سنّارة،
هرب..
وفي الطريق، تعثر بنايٍّ،
فوقع، وأُدميَ رأسه،
ثم نهض،
التفتَ..
فرأى باب غرفة «كنفاني»، مفتوحاً،
دخل مع الدم.
حيرة
في هذا الجبل..
حائرة هي الشجرة،
أتهرب، أم تبقى متسمرة؟.
في هذا النهر..
حائر هو الماء،
أيستحيل إلى رطوبة، أم بخاراً؟.
في هذه الدرب..
حائرة هي القدم،
أتتراجع، أم تستمر؟.
في هذا البستان..
حائر هو الطائر..
أينكفىء، أم يحلق؟.
في هذه اللحظة..
حائرة هي كلماتي،
أتكمل هذه القصيدة، أم تتركها لكم؟
فلأتركها لكم.
جيمس جويس
رأسٌ
بحجم حبة جوز هندية،
عوينات مدورة،
جسد لايضاهيه القصب في نحوله،
كانتِ الريح تحيا في تلك الجوزة،
وماوراء العوينات، شمسان،
وفي القصب، سمفونية.
عنوان
لا اسم مدينة
ولا حارة
ولا شارع
لا رقم هاتف
أو صندوق بريد
أملك
ولكن
كل يوم
وبامتداد الطريق
تجيئني رسائل خضراء
من البعيد .. و القريب
لأن
شِعري نفسه هو ساعي البريد للمحبّة
وعنواني
خِندقٌ لآخر شهيد .
هنالك..
هنالك..
يصنع الحزنُ، الآن من قصب المستنقعات،
ساعاتٍ دموية،
لكل منْ لايد له، ليلبسها،
أو عينين لينظر إليها،
أو داراً، ليعلقها.
فتلك الساعات..
تعمل بتوقيت الجلادين،
وتشير إلى الموت
دائماً.
مضيق الفراشات
مقطع من قصيدة طويلة
من هنا.. حين أنظر إلى وطني،
يتثنى، يتثلث، يتعشر. يت..
كلُّ مكان، كل حلم، وكل ذكرى
أمام عيني ذكرياتي،
فماذا أقول لها،
فماذا أقول..
فماذا؟.
كل يوم
تستطيل إحدى عيني،
ترحل إحدى يدي، وتهجرني..
وأنا ـ كل ليلة ـ أرض حزن بور.
في النهار، يحرثني ظمأ شهيد..
جئتُ، لتعلمني الريحُ كيف أخوض في النهر.
جئتُ، ليعلمني الحجرُ كيف أنبتُ عليه.
جئتُ، ليعلمني الجذر من أين أنفذ إلى قلب الأرض.
جئتُ، لتعلمني الوردةُ كيف أجمِّل القصيدة.
جئتُ، لتعلمني الطيور كيف تحلِّق رؤيتي.
بل جئتُ، ليشتعلَ في أعماقي هذا الحريق الهائل لعشق الوطن.
وها أنا، واثق كالحقيقة في هذا العشق الكثيف،
هانىء البال في مضيق الدخان والرعب، كرقصة الحرية.
طيلة عمر الجبال، لم يبقَ منشارُ زمنٍ
إلا وقد ولج دماءَ تاريخكَ.
طيلة عمر الجبال، لم يبق ثمت رأس سهم سلطان،
إلا وقد انغرز في رأسكِ المتمرد وطاف به.
مات السلطانُ،
لم يمتِ الحجر.
مات السيف،
ولم تمتِ الريحُ.
أقيس عمقكَ بجذري،
أصل إلى أعماقكَ كل حين،
أستخرج خميرة تاريخك، وماسة دمُّلكَ.
أقيس شموخك بلهيبي،
فأرتقي قمتكَ كل مرة،
أغرس في بستان الثلج عينيّ،
أنا والشعر انضفرنا معاً،
رحنا نلتف حول قامتكَ يراعتين،
نقدم لك هذه الصلاة ـ المطرة المقدسة،
وكلانا على مصلى حب واحد،
وأفق واحد،
وغيمة واحدة.
مختارات من ديوان «الكرسي»
أنا كاتب هذا النص
عتيق في المدينة
مجنون كالريح
حاف
رث
حائر.
آتي وأغدو
حيناً أستحيل شعراً ثملاً في حانةٍ
وحيناً، في خلوة صوفية،
أمسي قصة حدباء،
أوخطيئة هائمة،
نثر على منازل السهوب
مسرحٌ للجثالةِ.
أنا العاشق
لا بد أن أندف
بأصابع أنفاسي
قطن هذا الزمن.
لتحلق الكلمات
وتستحيل العبارات ريشاً
للرياح التائهة، المشردة
التي لا بيت له
ولامعجم.
أنا حلاج آلامي البيضاء.
في صوتي تحفظ الغربة جسدها.
في عيني شعاع القرابين.
في خيط شعري
عشبة حنين للوطن.
ديلان
صوت سماء ناصعة
جناحا نغم جليل
يتعالى إلى الله
مقامه في هيئة قمة
وانحدار جبل.
مقامه غسقٌ يعبره صف طيور مهاجرة.
ترقط الثلج بظلالها
نقطة… نقطة
بصَفقها الحزين القلق.
مقامه خيال نهر
في السفح يمضي غريباً
وحيداً للبعيد.
يضع على جناحيه
صوت لكاثي
يأخذه، ويأخذه كحلم ليل طويل.
ممعناً في نقطة سوداء،
للحظات استحالت سنونواً حبيساً،
آنئذ رفعتُ رأسي،
حلق السنونو عالياً
أبصرتُ في سطح سماء ناصعة،
غيمة في سيماء كرسي،
نفسه، الكرسيُّ
وُضع قرب عرش الله،
منتظراً
أن تقعدَ عليه.. أخيراً
الحرية.
موتي
ها هو ذا موتي
يزورني كل ليلة
لمرة أو مرتين
ويتكئ على أحلامي
ها هو ذا موتي
ظلّ لي
يعدُّ كل يوم خطواتي
يفتش أوراقي
يبحث عن آخر عناويني.
ورقة بيضاء
منذ متى وأنا جالس
وما زالت ورقتي بيضاء
بيضاء
بيضاء
لم ينبت فيها حرف
جافة وقاحلة
لا ينبع منها ماء
منذ متى وأنا جالس
وما زالت ورقتي
بيضاء
الشجرة التي قرب النافذة
تنظر إلي بمللٍ
وما زالت ورقتي
بيضاء
تحط يمامة عليها
تلعب معها
تهمس مع الأغصان
ثم تطير
وما زالت ورقتي بيضاء
حبكِ
حبكِ زاد النهار والليل ساعة
الساعة الخامسة والعشرون
حبكِ زاد الأسبوع يوماً
اليوم الثامن
حبك زاد السنة شهراً
الشهر الثالث عشر
حبكِ زاد الفصول فصلاً
الفصل الخامس
هكذا وهب حبكِ عمري
ساعةً
يوماً
شهراً
فصلاً
أكثر من الآخرين.
اللصوص
على مرأى من السماء
سرقوا الغيم
على مرأى من الغيم
سرقوا الريح
على مرأى من الريح
سرقوا المطر المدرار
وعلى مرأى من المطر
سرقوا الثرى
وفي الثرى
دفنوا العيون التي شهدت اللصوص!
حيرة
في هذا الجبل
حائرة هي الشجرة,
اتفر؟ ام تبقى متسترة؟
في هذا النهر
حائر هو الماء
ايستحيل رطوبة؟! أم بخاراً؟!
في هذا الدرب
القدم حائرة
أتتراجع؟ أم تستمر؟
في هذا البستان
الطائر حائر
أينكفئ؟ أم يحلق؟
في هذه اللحظة
حائرة هي كلماتي
أتكمل هذه القصيدة؟
أم تتركها لكم؟!
فلأتركها لكم!!
الأعمى
بعيد الدوي بعد رحيل الطائرة
بحث فم الشاة الصغير
عن الحكمة فلم يجدها
بحثت الشاة الصغيرة عن القطيع فلم تجده
آه.. وضيعت طريق العودة إلى النبع ايضاً!
احتراق
على سلالم الخوف
كان الظلام ينزلق كلص بهدوء
الى أعماقي
ولما وصل إلى السويداء رام شيئا ما
وعلى حين غرة
أشعلت حبك
فاحترق الخوف و الظلام فيه
الحية
نفخ لهب على ناره
ليطفئها
عندما لمح حية مقرورة
تجيء لتلتف قربه!
قصة رجل
نسج النساج
إلى مماته
نسج السجاد و نسج الورود
و لكنه في النهاية
لم يملك لنفسه سجادة
و لم يضع احد
على قبره وردة.
____________________ ______________________________
أعد الملف بلفتة كريمة من الشاعرسيف الرحبي صديق الشعب الكردي، كما يعتبره الكرد.
مجموعة من النصوص الشعرية، للشاعر شيركو بيكه س، قام بترجمتها عدد من الكتّاب، وممن تم التعرف عليهم: آزاد برزنجي- دانا أحمد مصطفى-فؤاد عبدالرحمن، – صلاح برواري- بدل رفو المزوري- مروان علي- سامي داوود.
هامش
1- نالي، وهو الشاعر الملا أحمد خضر الميكائيلي, وهو من أكبر الشعراء الكُرد الكلاسيكيين.
ملف أعده: أيهم اليوسف
شارك فيه: إبراهيـم محمـود – هيثم حسـين- هوشنك أوسي -جميــل داري
– مروان علي – إبراهيم حاج عبدي – جكو محمد -خضر سلفيج
– دانا أحمد مصطفى -بدل رفوالمزوري – إبراهيم اليوسف