ليس هناك اسم يعادل اسم «شهرزاد» شهرةً، فهي التي شغلت الأدباء شرقا وغربا، فراحوا ينسجون حولها الأساطير، ويُلبسونها من الأثواب ما لم يُلبسوه امرأة في تاريخ الآداب كلّها. والحقيقة أنّ الباحثين الأوروبيّين كانوا أوّل من تنبّه إلى البحث عن أصل راوية «اللّيالي» ( البطلة ) التي استطاعت أن تسيطر على ذلك الملك السّفّاح طيلة ألف ليلة وليلة، وأن تقف في الجهة المقابلة لتمثّل السّلطة المضادّة لسلطة شهريار. فشهرزاد- وإن كانت مستمدّة من نصٍّ مجهول المؤلّف- إلاّ أنّها استطاعت أن تفضح سلطة أبويّة قائمة على الحكم المسبق.(1) وقد بدأ اهتمام الباحثين بهذه الشّخصية بعد الشّهرة التي نالتها ترجمات اللّيالي، فمن تكون شهرزاد؟
أوّل ما ذُكرت شهرزاد كان في كتاب «ألف ليلة وليلة»، وكان ظهورها بعد اكتشاف الملِكيْن خيانة زوجتيْهما، وضربهما في البلاد بحثا عن مخدوع غيرهما قامت باستغلاله مخادعة ماكرة، وبعد اكتشافهما ما أوقعته المرأة المخادعة- الإنسية- بالعفريت- الذي يفوقهما قوّةً وجبروتا وحرصا-، هانت عليهما مصيبتهما، ورجعا إلى بلادهما، لينتهي دور شاه زمان، ويخرج من مسرح الأحداث، لتدخله شهرزاد طالبةً من والدها أن يزوّجها من الملك، ولا يجد الوالد بُدًّا من الرّضوخ لرغبة ابنته تحت إلحاحها الكبير. وهنا تبدأ حيلة شهرزاد، ويبدأ تخطيطها لخوض معركة- تعلم مسبقا أنّ نسبة الفوز فيها تكاد تكون منعدمة-، وعلى الرّغم من ذلك فقد آثرت المغامرة، شعارها: إمّا النّصر فتنجو وتُنجي شعبا كاملا بنجاتها، وإمّا الموت، فتكون فداءً لبنات جنسها. وكانت الخطّة التي وضعتها- هي التي قرأت كتب الماضين، معتمدةً على ذكائها وثقافتها تلك- تستدعي وجود أختها دنيازاد، مثلما كان شاه زمان عونا لأخيه في اكتشاف حقيقة المرأة. وهنا يبدأ العِلاج بحكم أنّ «القصص تخبرنا من الأزمنة القديمة بما يكفي لأن نتفهّم موقفنا ونستوعب العـالم حولنا ونتعرّف على أنفسنا. فأخلاقنا ومناقبنا وسلـوكنا وقيمنا وحسّ الواجب، وحتّى حسُّ المرح تتطوّر عادةً من الحدّوتات والخرافات الطّفولية»(2). ومن باب أنّ الحدّوتات تحدّد الخير والشّر، والصّواب والخطأ، وما هو طبيعي وما هو غير طبيعي، بدأت جلسات شهرزاد العلاجية، لأنّ الحكاية كانت تُسرد على مسامع الملك طبعا، فعملت شهرزاد على أن تجعل تلك الحكاية مشوّقة وتقطعها متى ظهرت خيوط الفجر الأولى عند نقطة تترك الملك شغوفا بسماع البقيّة، فتكون بالتّالي قد ضمنت يوما آخر في عِقد حياتها. إذ تسأل دنيازاد أختها شهرزاد عمّا إذا كانت ستُكمل الحكاية في اليوم الموالي، وهنا تجد شهرزاد الفرصة مواتية لدغدغة مشاعر شهريار، وكيف لا؟، وهي تقول: إذا عشتُ وأبقاني الملك، وكيف لا يُبقيها وهو ذاتُه المتطلّع إلى سماع بقيّة الحكاية؟، وهكذا تستمرّ الحكايات (265) حكاية تستغرق شهرزاد في سردها ألف ليلة وليلة، وتبدع خلالها وتتفنّن في أساليب التّشويق.
وتستبدل شهرزاد لعبة القتل بلعبة أخرى تستهوي شهريار، وتثير فضوله، هي لعبة السّرد وتخييل الصّور، فتُفرغ شهريار مـن إحساسه بالألوهية التي تعطيه الحقّ في القتل، وتعيـد إليه وظيفته الأولى: وظيفة الأب.
وبعد الانتهاء من السّرد، يأتي الجزء الأخير خاتمة سعيدة له، إذ يعلم شهريار أنّه رُزق ثلاثة أولاد، يكافئ «شهرزاد» على ذلك بإقامة حفل زفاف لها. وبهذا تختتم القصّة الإطار.
فأوّل ما ظهرت شهرزاد إذن كان في القصّة الإطار التي كانت منطلقا للباحثين عن أصلها.
وكما كان «المسعودي» أوّل من تحدّث عن نواة اللّيالي الهندو- فارسية، وهي الهزار أفسانة، فقد كان أيضا أوّل من ذكر اسم شهرزاد ودنيازاد- التي جعلها جارية لشهرزاد لا أختا لها-: «..والنّاس يسمّون هذا الكتاب ألف ليلة وليلة، وهو خبر الملك والوزير وابنته وجاريتها، وهما شيرزاد ودنيازاد..».(3)
وقد أرجعها «ابن النّديم» إلى هوماي بنت بهمن، وجعل أمّ بهمن هي استر اليهودية، وذلك ما أيّده الهولندي «دو جويه De Goeje «في بحثه الذي نشره في مجلّة Le Gids سنة 1886 م.(4)
ونلحظ من كلّ ذلك تبايُنا واختلافا في الرّوايات التي تتناول الحديث عن «شهرزاد» وأصلها، حيث في الحين الذي يُرجعها بعضهم إلى أصول فارسية، ويجعل لها حياة في فترة زمنية معيّنة، نجد من يُلغي وجودها نهائيا، ومن هؤلاء الباحثين: لاهي هولباك Lahy Hollebecque التي ترفض فكرة أن تكون شهرزاد شخصية حقيقية وُجدت في زمان ومكان محدّديْن، بل تذهب إلى أنّ شهرزاد ما هي إلاّ شخصية خيالية، مثلها مثل أيّة شخصية أدبية أخرى.(5)
وأيّا كان الأمر، وسواء كانت شهرزاد شخصيّة حقيقيّة أم متخيّلةً، فإنّ أسطورة حقيقيّة قد نُسجت حولها وحول شخصيّتها، وسواء أيضا كان اسمها عربيّا أم فارسيّا أم غير ذلك، فإنّ كتّابا كثيرين قد تحدّثوا عنها بمختلف لغاتهم. فكيف نالت شهرزاد من الشّهرة ما لم تنله امرأة أخرى في جميع الحضارات، وفي جميع الآداب؟
حدّثتنا اللّيالي عن شهرزاد ابنة الوزير التي قدّمت نفسها فداء لبنات جنسها، وسواء انتصرت لهنّ أم عليهنّ، إلاّ أنّها استطاعت أن تُشفي شهريار، وأن تنال عفوه في اللّيلة الأولى بعد الألف، وأن تنتزع منه اعترافا بعفّتها، ونقائها.
وسواء كانت شهرزاد عربيّة أم غير ذلك فقـد مثّلت المرأة العربيّة في المجتمعات الشّرقيّة قديمها وحديثها، وعلى الرّغم من أنّ اسمها غير عربي إلاّ أنّه سار في المراحل التي سارت فيها كلّ حكايات اللّيالي، فرحل معها، وارتبط بها، وتحوّل من اسم غير عربي إلى اسم شرقي عربي قلبا وقالبا. سواء ظهر هذا التّحوّل في الشّخصية- المفتاح- أو في الوظيفة معا. فأصبحت شهرزاد- التي بُهر الشّرق والغرب بموهبتها- شيئا فشيئا شخصية أدبية مستقلّة تُحُدِّث عنها بأساليب مختلفة لدرجة أنّه يمكننا القول إنّ أسطورة حقيقية قد نُسجت حولها وحول اسمها، كما تحوّلت إلى رمز ليس للشّرق الخرافي، ولكن رمزا للأنوثة وسعة المعرفة، ولتصبح كائنا خالدا يفوق الطّبيعة البشرية، فهي التي رسم ملامحها كاتب مجهول، واكتشفها كُتّاب غربيّون يُعدّون من المشاهير.. ومن هنا نشهد نشأة أسطورة تتدفّق في خيال الكُتّاب الرّمزيّين وتُجسَّد بأقلامهم، ومن ثَمّ لم تعد الحدود الزّمنية والمكانية للّيالي محترمة، وأخذت البطلة تعيش خارج الزّمن وفي أماكن غير منتظرة.
وقد كان الكتّاب الغربيّون سبّاقين إلى توظيف هذا الرّمز الذي كان يمثّل بالنّسبة إليهم ذلك الشّرق الخرافي الذي كان قبلة للكثير منهم في القرن الثّامن عشر على وجه الخصوص، وأضحت بعد ذلك منطلقا لاستلهام شخصيتها في الأدب، فأصبحت شخصية أسطورية بما أضفاه عليها الخيال من هالات العظمة والجلال، وبما نسجته أخيلة الكتّاب حول هذه الشّخصية الرّمز- التي يحاولون جعلها تتكرّر في عدد من الصّور-، حتّى وإن كانت رمزا يصعب أن يتكرّر.
وقد عُرفت شهرزاد ابنة الوزير في «ألف ليلة وليلة»، بأنّها:
– أنثى جميلة
– ذكية ومثقّفة، فكانت رمز الخصوبة الفكريّة
– تصدّت للموت، وتحدّت الملك السّفّاح، ووقفت موقفا بطوليا ملحميا
– خلّصت بنات جنسها من تهمة الخيانة
– خلّصتهنّ من بلطة الجزّار المسلّطة على أعناقهنّ، وانتصرت لهنّ.
– كانت وفيّة لشهريار، ممّا جعله يعفو عنها في النّهاية
– أنجبت ثلاثة أبناء ذكور فكانت رمز الخصوبة البيولوجيّة
وهذه هي الموتيفات (أو العناصر الأسطورية الصّغرى ) المكوّنة لأسطورة شهرزاد، والتي سننطلق منها في تحليلنا لقصيدة «رسالة إلى عمرو بن مزيقيا» لعبد العزيز المقالح.
حيث أنّه، وانطلاقا من هذه الصّفات، أخذت شهرزاد طابعا أسطوريّا، وجعلت قرائح الكتّاب تتفتّق، فطفقوا يوظّفونها مركّزين على هذه السّمات أو الخصال التي قلّما تتّصف بها امرأة في تاريخ الإنسانيّة كلّها. وقد رأى فيها كلّ أديب انعكاسا لأمل تهفو إليه إنسانيّته، وهي الصّفات التي يتمنى أيُّ رجل توفرها في أنثاه. فكانت شهرزاد الرّمز الذي مرّر الشّعراء العرب والغربيّونُ خطاباتهم المختلفة عبره، وغالوْا في ذلك تماشيا مع عصرهم ومستجدّاته. وهذا ما سنقف عنده في قصيدة «رسالة إلى عمرو بن مزيقيا».
تجلّيات الأسطورة:
نجد تجلّيا للأسطورة من خلال موتيف «الثّورة والتّحدّي»، حيث جعل الشّاعر من شهرزاد- الطّبيب المتمرِّس الذي استطاع أن يشفي الملك من مرضه المزمن- تختبئ، وتعيش في الظّلام، وبذلك وظّف الأسطورة توظيفا عكسيا، أحال فيه الثّورة إلى جبن واستسلام:
«فلا شهرزاد أطلّت
ولا لاح وجه الصّباح» (6)
وهنا تتجلّى أسطورة شهرزاد تجلّيا تامّا صريحا، وذلك حين ذكر الشّاعر اسم شهرزاد صراحة، كما ربط هذا الاسم بالصّباح، وللصّباح أو الفجر دلالته في «ألف ليلة وليلة»، فالفجر يعني توقّف شهرزاد عن الحكي، كما يعني العفو عنها، فكلّما أدرك شهرزادَ الصّباحُ، ضمنت يوما جديدا في عِقد حياتها، غير أنّ الشّاعر يقول «فلا شهرزاد أطلّت»، فهل لأنّ شهريار أطاح برأسها؟ أم لأنّها ملّت من الحكايا التي لم تعد تجدي نفعا في هذا الزّمن فآثر الشّاعر إسكاتها؟، أم تُراه يرغب في أن يأخذ مكانها ليحدّثنا بقصّة واقعية قد يعجز خيال شهرزاد عن ابتداع فصولها؟، خاصّة حين ربط الشّاعر بين اسم شهرزاد وعمرو بن مزيقيا / شهريار العصر، هذا ما تجيب عنه القصيدة التي جعل الشّاعر عنوانها «رسالة إلى عمرو بن مزيقيا»، فأيّ خطاب أو رسالة يريد الشّاعر أن يمرّر عبر أبيات القصيدة؟ :
«فلا شهرزاد أطلّت
ولا لاح وجه الصّباح»
فلا شهرزاد ابتدأت قصّتها ولا الصّبح آذن بالطّلوع، ولا طبيب أمكنه أن يشفي الملك من دائه في غياب شهرزاد، وفي هذا الظّلام المطبق على المرابع والدّشور، والدّجى ينشر أبراده على كلّ أرجاء المملكة، منتظرا ما يسفر عنه فكر الملك الطّاغية من اختراع جديد لإفناء شعبه، وشجبه من خارطة الوجود.
كما تتجلّى الأسطورة من خلال موتيف «الرّحلة»، حيث أخضع الشّاعر هذا الموتيف- الذي يتجلّى في «ألف ليلة وليلة» في رحلة الملكين بحثا عن الخلاص، ورغبة في الوقوف على حقيقة المرأة، بإدانتها أو تبرئتها-، لما يلائم الجانب التّاريخي لقصّة عمرو بن مزيقيا- الذي ألقى حمل شعبه وراء ظهره وهرب بماله تاركا إيّاه وحده يلاقي حتفه ويتصدّى للمهالك دون قائد يهدي خطاه ويرشده إلى طريق الخلاص، فهو رمز الحاكم المستبدّ الذي لا همّ له سوى إرضاء شهواته ونزواته الشّخصية. في حين نجد أنّ شهريار لم يهرب وإنّما ظلّ حاكما على شعبه قاهرا- حتىّ وإن كان سيفا مسلَّطا على رقاب النّساء دون الرّجال-، في حين كان عمرو بن مزيقيا المتسبِّب في هلاك شعبه- نسائه ورجاله-، فكانت وحشيته بذلك تفوق وحشيّة شهريار، بل وتفوق حتّى وحشية فرعون الذي سُلِّط ورهطُه على بني إسرائيل الذين يذكّرهم الله تعالى بفضله عليهم وبأنّه أنجاهم من آل فرعون، قائلا بأنّهم كانوا }يذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربّكم عظيم{(7)، فقد سُلِّط فرعون على بني إسرائيل ابتلاء لهم من الله سبحانه- حين بغوا في الأرض وابتعدوا عن شرعة ربّهم-، بينما كان تسلُّط عمرو بن مزيقيا على قومه بدافع طمعه ونزواته، وليس بأمر من أحد إلاّ نفسه الطّماعة والأمّارة بالسّوء.
كما نجد المقالح- في الحين الذي لم يرحل فيه شهريار، ولم يخلِّف شعبه خلفه، بل ظلّ سيفا مسلَّطا على رقابه لإفنائه ( لمدّة ثلاث سنوات بعد اكتشاف الخيانة ) أذاق فيها شعبه ويلات العذاب والمذلّة والاستعباد، وأجبر شعبه الذّليل على تقديم القرابين له طلبا للرِّضا والمغفرة، وكأنّ الشّعب كلّه مطالب بالتّكفير عن خطيئة الملكة الأولى التي خانت العهود ولم تحفظ للملك حرمة، فقد مكث شهريار إذن لا رغبة منه في المكوث، ولكن لإفراغ عقده كلِّها في شعبه، وإذلاله ولا شيء يمكن أن يُذِلّ الرّجل غير تقديم عرضه طائعا وسيف القهر مسلَّط على عنقه-، يربطه بعمرو بن مزيقيا- الذي حين بدأت بوادر النّبوءة تتحقّق-، باع أطيانه ورحل إلى وجهة مجهولة، وترك شعبه يواجه مصيره المحتوم الذي كان يدركه هو مسبقا، وكان بإمكانه أن يجنِّب شعبه ويلات انهيار السدّ، لكنّه زيادة عمّا فعله شهريار- الذي أفنى بنات مملكته أو كاد، وأوشك على أن يجعل شعبه ينقرض لولا شهرزاد-، فقد أفنى عمرو بن مزيقيا شعبه كلّه- رجاله ونساءه- بسبب أطماعه الذّاتية، إذ كان بإمكانه إخبار شعبه بالنّبإ الذي أخبرته به طريفة، ولكنّه:
«.. أخفى عن الشّعب فحوى النّبأ
وسلّ لسان- طريفة- بالسّيف أعلن بين بنيه الخلاف»(8)
وقد لجأ عمرو بن مزيقيا إلى حيلة تمكّنه من الفرار دون ان يثير تساؤلات شعبه حول الهرب، وهو أن زرع الخلاف بين بنيه حين طلب من أصغر أبنائه أن يسيء إليه على مرأى من النّاس ومسمع، وطلب من بنيه عدم نهيه، وبذلك لن يجرؤ أحد من الحاضرين على التّدخّل في صمت الإخوة، وهو ما يمنح عمرو بن مزيقيا نفسه حجّة لأن يقسم يمينا لا كفّارة فيها بألاّ يمكث في مكان أهانه فيه أصغر أبنائه، دون أ، يجد من يردّ عليه. وبذلك لن يجرؤ أحد على مراجعة قراره، ولن ينتبه أحد إلى سبب فراره.(9) وهي مسرحية أبدع فصولها لتُعرض أمام شعبه، وهنا يبرز الشّبه بين عمرو بن مزيقيا وبين شهرزاد – على اختلاف الموقفين-، حيث وكما استعان عمرو بن مزيقيا ببنيه لتنفيذ مخطّطه، فقد استعانت شهرزاد بأختها دنيازاد لتحمل معها أعباء مهمّتها الصّعبة، فالقائد بحاجة دائمة إلى جنود.
كما نجد تجلّيا آخر للأسطورة من خلال مويف «الأنوثة»، غير أنّه تجلٍّ جزئي، من خلال الخصائص المميِّزة التي وُظِّفت كموتيفات دالّة، لعلّ أبرزها الاعتداء الذي كان شهريار يمارسه على شعبه، وتحديدا على بنات هذا الشّعب الذي كان يدفع إليه بفلذات كبده تحت التّهديد والوعيد، ليروي شهوته للقتل، وينهش أجساد الصّبايا، ويلغ في دمائهنّ ويشرب من دموعهنّ قبل إراقة ماء حياتهنّ:
«غداة شربت دموع الضّحايا»(10)
فقد قضى شهريار سنوات ثلاثا، أفنى فيها حياة آلاف الزّهور. ويلتقي بذلك في جزء كبير من شخصيّته مع عمرو بن مزيقيا الذي ترك خلفه آلاف الضّحايا، وأنهارا من الدّماء، وجبالا من الجثث المكدّسة، وفرّ مع كنوزه تاركا بلاده وشعبه للدّمار والهلاك، كما ترك شهريار شعبه يئنّ في صمت، وهو يقدّم كلّ يوم قربانا جديدا لغول القصر كالقرابين التي كانت تقدّم لآلهة العصور القديمة.
وقد ظلّ شهريار يستهلك كلّ يوم فتاة تهدى إليه، فيجعل منها ملكة لليلة واحدة ثمّ يدفعها إلى الجزّار
بعد أن يقضي منها وطره، وهنا تلتقي شخصية شهريار مع شخصية عمرو بن مزيقيا الذي كان هو كذلك يضاجع كلّ مساء فتاة من فتيات القبيلة- حتّى وإن لم تكن هناك إشارة إلى القتل- ولكن أيّ حياة تبقى لفتاة حرّة إذا أُكرهت على هذا البغاء المبطّن؟:
«أما زلت في كلّ يوم تمزّق حلّه
وتلبس حلّه
وكلّ مساء
تضاجع واحدة من بنات القبيله
وتشرب يا «شهريار» دماء الجراح»(11)
وهنا تتجلّى أسطورة شهرزاد تجلّيا صريحا تامّا بذكر شهريار اسما، وهنا تتّضح المعادلة التي ربط فيها الشّاعر بين شخصيتي عمرو بن مزيقيا وشهريار حين ناداه باسمه ليجعل الموقف أكثر وضوحا.
فقد كان شهريار يغيِّر النّساء كلّ ليلة كما يغيِّر أثوابه، ويستعرض رجولته كلّ ليلة أمام عذراء جديدة، كما يستعرض أزياءه، وهذا ما يجعله شديد الشّبه بعمرو بن مزيقيا، شبها يكاد يصل إلى التّوأمة بينهما.
كما أنّ عمرو بن مزيقيا زاد في التّجبّر عن شهريار بكون الثّاني كان يكتفي بالنّيل من إحدى بنات شعبه، ويكتفي بتمزيق عروق عنقها بتقديمها في الصّباح طعاما جديدا يشبع بلطة الجزّار، إلاّ أنّ عمرو بن مزيقيا كان- زيادة عن مضاجعة واحدة من بنات القبيلة كلّ ليلة-، يمزّق حلّة جديدة في كلّ ليلة، ويلبس حلّة *، وكأنمّا ينتقي لكلّ قربان الزّيَّ الذي يستقبله به.
كما نجد الدّكتور عبد العزيز المقالح- في حديثه عن عمرو بن مزيقيا- يربطه بشهريار، ويجعل منه تاجرا، فهو لم يكتفِ بمضاجعة فتاة من القبيلة كلّ مساء، ولكنّه زيادة عن ذلك قبض الثّمن تماما مثل كلّ النخّاسين أو أيّ خائن غريب مرّ بالدّيار وخدع أهلها ليفرّ إلى غير رجعة، ولم يعلم أنّ التّاريخ يرصد خطواته، وإن استطاع الفرار من قومه فإنّ خزيه وعاره سيطاردانه أينما ذهب وحيثما حلّ، تلفظه الرّمال التي خانها، وتروي عاره النّخيلُ التي قبض أثمانها، فلا قبر يُعرف له- إن مات في بلاد غريبة-، ولا أهل يذكرونه أو يعرفون كُنهه، كالعنزة الجرباء أفردها القطيع:
«وهل لك قبر على الأرض؟ أم لفظتك الرّمال
لأنّك خنت التّراب
وخنت الرّجال
أخذت نصيبك منها غداة الرّحيل
غداة شربت دموع الضّحايا
تسلّمت أثمان كلّ النّخيل»(12)
كما تجلّت الأسطورة في موتيف «الخيانة» في قصيدة عبد العزيز المقالح التي ربط فيها بين شهريار وعمرو بن مزيقيا الذي ارتبط بصورة الحاكم المستبدّ برقاب شعبه، المستكين لواقع الهزيمة، الهارب من مواجهتها، تاركا شعبه يواجه هذه الهزيمة وحيدا أعزل، ولكن ما العلاقة التي تربط عمرو بن مزيقيا بشهريار؟ وما الصّورة التي حاول الدّكتور عبد العزيز المقالح أن يجعلنا نراها أو نصل إليها من خلال إقامته لهذه العلاقة بين الشّخصّيتين؟
حين نقف عند الفعل: «الخيانة»، تتجلّى الأسطورة تجليا تامّا، من خلال قول المقالح:
«لأنّك خنت التّراب
وخنت الرّجال»(13)
والخيانة شكل من أشكال القتل، وكذا فعل «الأخذ»( أخذت نصيبك منها غداة الرّحيل ). والأخذ شكل آخر من أشكال القتل، أليس أخذ الرّوح قتل لصاحبها وانتزاع للحياة منه؟ أليس أخذ الوردة من غصنها قتل لرونق الحياة فيها؟.
ثمّ تأخذ القصيدة شكلها الأخير، في ذلك التّلخيص المكثّف، هو تلخيص لما تحاول أن تقول، إنّه تلخيص لتاريخ كامل من الظّلم والإقطاع المسلّط على أعناق الشّعوب العربية من المحيط إلى الخليج.
ويستمرّ التّصعيد: (شربت دموع الضّحايا)، والشّرب نوع آخر من الأخذ، هو أخذ بالقوّة، وهو نوع من السّلب، وأيُّ سلب، وأيُّ نهب أفظع من شرب الدّموع؟ وأيُّ دموع؟ هي دموع الضّحايا، والذّنب أكبر لو كانت الضّحايا ضحاياه هو الذي خان التّراب والرّجال، وأخذ نصيبه من الأرض التي أرضعته طفلا واستقبلت خطواته الأولى، واحتضنته يافعا، ليشرب دموع أهلها (أهله)، ويتسلّم (أثمان النّخيل)، وأخذ الثّمن يكون نتيجة للبيع، لكنّ نوعية هذا البيع تختلف، قد يكون بيعا مباحا، وقد يكون محرّما، وقد يكون بيع ما نُهب وسُلب وسُرق من أهله ليباع لهم من جديد وما أكثر هذا النّوع من البيوع في كلّ زمان، فيكون بذلك قد استلم الثّمن مرّتين: المرّة الأولى حين استلب الشّيء، والمرّة الثّانية حين باعه، وفي كلتي الحالتين كان نهبا وسلبا لا بيعا.
ويستمرّ الشّاعر في محاولة تفسير عملية القتل ونوعه، فيتساءل عن المكان الذي لجأ إليه القاتل عمرو بن مزيقيا، ويحاول نبش قبره للوصول إلى الحقيقة، ولكنّه يتساءل عمّا إذا كان له قبر على الأرض يأوي إليه، وإن كانت الأرض قد استقبلته رغم فظاعة جرائمه أم لفظته الرّمال ليكون نهبا للوحوش الضّارية-، فقد خان تلك الرّمال وأهلها، وأخذ نصيبه منها ورحل، وشرب دموع ضحاياه فيها، وتسلّم أثمان نخيلها، ولم يترك شيئا يربطه بها بعد أن قطع كلّ صلة له بالتّراب، بل وقطع كلّ حبل يصله بها ويربطه بجذورها.
وهكـذا، وظّف الشّاعر رمـز شهرزاد مـن خلال هذه الموتيفات- التي رأينا-، وحاول إخضاعه
– الرّمز- لرؤيته الشّعرية ومواقفه الفكرية والأيديولوجية، في محاولة لتحميله كلّ الدّلالات الفنّية التي يتيحها وتدركها رؤاه.
جماليات التّوظيف الأسطوري:
تتعدّد أبعاد النّص الجمالية، وتختلف من نصٍّ إلى آخر، ولعلّ أبرز العناصر الجمالية التي تميّز نصّ المقالح:
أوّلا- المحاورة:
تلعب المحاورة دورا مهمّا في القصائد التي توظّف الأسطورة، حيث يلجأ الشّاعر إلى تقنية المحاورة لاستجلاء المشاعر واستكناهها، كما أنّ تقنية المحاورة لا ترد منفصلة، حيث يعمد الشّاعر إلى المناجاة الدّرامية من جديد أو العكس، رغبة في إعطاء القصيدة توتّرها وإضفاء مسحة جمالية أخرى عليها.
وقد لجأ الشّاعر إلى هذه التّقنية في مواضع عدّة من القصيدة.
«أين مكانك يا «عمرو» بين الرّمم؟
وأين الدّيار التي اخترتها موطنا لك قبل انهيار الجدار
وقبل انفجار العرم؟
وهل لك قبر على الأرض؟ أم لفظتك الرّمال
لأنّك خنت التّراب
وخنت الرّجال» (14)
حيث لجأ الشّاعر إلى المحاورة، التي يهدف من خلالها إلى استفزاز المخاطَب، الذي يستدعيه من زمنه ويجعله يقف أمامه في موقف اتّهام.
كما يحاور الشّاعر الشّخصية ذاتها في موضع آخر من القصيدة:
«.. وكلّ مساء
تضاجع واحدة من بنات القبيله
وتشرب يا «شهريار» دماء الجراح» (15)
ومرّة أخرى، يعمل الشّاعر على تذكير المخاطَب بجرائمه، وعاره الذي لا يمّحي، ومن خلاله كلّ صاحب نفوذ في البلاد العربية.
وتستمرّ هذه المحاورة الاستفزازية في قوله:
«أترضى لفأر» صغير
بأن يتحدّاك، أن يهزم «السّبّائي» الشّهير؟
….
أتخشــى منازلـــة «الفــأر» يا ســـيّد «الجنّتين» الشّجاع؟»(16)
وقد يلجأ الشّاعر إلى الحوار غير المباشر، حين يعجز عن المجابهة المكشوفة ذات الطّاقة الثّورية، فيتّخذ «من إيحاءات الرّمز والأسطورة منهجا في إيصال أغراضه السّياسية إلى المتلقّي»(17). ذلك أنّ الرّموز الأسطورية وحدها قد لبّت حاجات الإنسان المعاصر والشّاعر على وجه الخصوص، فقد شكّلتها-كما قال كاسيرر- «حاجات الإنسان وأغراضه (..)، ففي الرّمز تكون المطابقة تامّة بين الذّات والموضوع.»(18) حيث يلجأ الشّاعر المعاصر إلى الرّموز يستنطقها، ويُنطقها بما يريد تمريره دون أن ينتبه إليه أحد. فيختفي الشّاعر أو المبدع عموما وراء رمزه، ليعبرّ به عمّا يريد دون أن يعرّض نفسه للسّؤال، حيث يجعل الرّمز يتكلّم بدلا عنه، ويبثّ بذلك الحياة في رفات هذه الرّموز التي تبدو ميّتة، ويجعلها تشعّ بالحياة، وتعايش الإنسان المعاصر وتشاركه آلامه وآماله، وتتطلّع معه إلى مستقبل أفضل.
ثانيا- اللّغة الشّعرية:
الشّعر تشكيل لغوي جميل، لا يمكن للشّاعر أن يكون شاعرا إلاّ به، ذلك أنّ الأحاسيس والمعاني تظلّ جامدة ما لم يدعمها بناء لغوي خاص، ولا يمكن لموضوع كالأسطورة أن يجد سبيله إلى المتلقّي إلاّ عبر بناء لغوي يتجاوز مرحلة التّوصيل إلى مرحلة الإبداع. فاللّفظة هي التي تفصح عن تجربة الشّاعر، وقدرته على اختزان طاقات دلالية وإيحائية وتعبيرية وموسيقية، فهي التي تحدّد شخصية الشّاعر وأفكاره، وهي التي تعبّر عن حقيقة مشاعره وصدق أحاسيسه من خلال عملية التّشكيل.
ولكلّ شاعر معجمه الخاصّ، ذلك أنّ لكلّ إنسان إحساسه الخاصُّ برموز اللّغة وألفاظها التي ترتبط لحظة بلحظة مع ظلال عديدة ترسخ في النّفس تبعا للأحداث الخاصّة التي تمرّ بها، والتّأمّلات اللاّشعورية التي تتفاعل معها في أعماقه، «فالكلمة لا تحمل معناها المعجميَّ فقط، بل تحمل هالة من المترادفات والمتجانسات. ولا تكتفي الكلمات بأن يكون لها معنى فقط، بل تثير معاني كلمات تتّصل فيها بالصّوت أو بالمعنى أو بالاشتقاق، أو حتّى كلمات تعارضها أو تنفيها.»(19)
ومن الظّواهر اللّغوية السّائدة في هذه القصيدة:
أ- الاستفهام:
قد يورد الشّاعر عدّة صيغ استفهامية في قصيدته، تنبئ عن دهشة أو عن فرحة أو عن استغراب، و قد يأتي الاستفهام مشوبا بالسّخرية والمرارة والإنكار، حين يوظّفه الشّاعر في سياق البحث عن صيغة حضارية للنّهوض بالأمّة، وحثّها على استعادة أمجادها أو للتّساؤل عن أسباب هذا التّخاذل، والخمول، والعمالة. ونجد مثالا لذلك في قصيدة عبد العزيز المقالح:
«أين مكانك يا «عمرو» بين الرّمم؟
وأين الدّيار التي اخترتها موطنا لك قبل انهيار الجدار
وقبل انفجار العرم؟
وهل لك قبر على الأرض؟ أم لفظتك الرّمال
لأنّك خنت التّراب
وخنت الرّجال»(20)
ويستمرّ في استهزائه هذا وسخريته، ليقول أن لا مكان للمرء في غير وطنه، ولا عزّة له إلاّ بين أهله، وأنّ لعنة التّاريخ والنّاس ستطارد كلّ العملاء والمتخاذلين.
ويستمرّ الشّاعر في تصوير قمّة المعاناة والفجيعة، يجسّدها هذا الاستفهام الباحث عن الصّدى الباقي من رماد أصوات الأمجاد الغائبة المقبورة تحت رمال التّاريخ، وفي سجلاّته السّوداء. وحتّى لا ينفصل الشّاعر عن الواقع المتحدّر من القمّة إلى السّفوح، يرنو للقمّة كنسر مهيض الجناح، لكنّه فقد الأسباب وضيّع الميراث.
وتتّسم طبيعة الشّعراء المحدثين بالعنفوان القائم على الغضب الممزوج بمعاني القلق والخوف من استمرارية الضّياع، وينعكس ذلك بوضوح في أساليبهم، حيث نرى قصائدهم تزدحم بالأسئلة التي تنبض بالاستنكار والسّخرية والتّعجُّب، وتُجسّد حيرة الشّاعر، وقلقله إزاء واقع الحياة المحيطة به.
ب – النّداء:
وقد يلجأ الشّاعر إلى أسلوب آخر للتّعبير عن تجربته المتأجّجة التي تنبض بالقلق، والإحساس بالرّفض والتّمرّد تجاه واقع العرب، حين لم يجد أجوبة لاستفهاماته التي ظلّت عالقة تنتظر، ممّا دفع به إلى استبدال الأحياء بالموتى، علّه يجد لديهم ما لم يجده عند الأحياء، فيلجأ إليهم على أمل أن يبعث الحياة في رفاتهم، فيُبعثوا من موتهم ليعيشوا بيننا، ويغيّروا هذا الواقع الذي نجحوا في تغييره قبلا، وينعكس ذلك بوضوح في كثرة استخدام الشّاعر المعاصر لأسلوب النّداء في محاولة قلقة لتغيير المسار.
وقد يختار لإيقاظ العزائم وإحياء الضّمائر واستنهاض الهمم صيغ النّداء: «يا»، «أيّها»، «يا أيّها»، التي تُستعمل للبعيد، فتحسّ أنّ هناك بونا شاسعا بين الشّاعر وأمّته. وعلى الرّغم من ذلك فإنّه لا يملّ، وهذا بصيص تفاؤل وطمع في الاستجابة. والحقيقة أنّ الشّعور بهذا البون الشّاسع، لا يقتصر على الشّاعر والأمّة، بل على جميع مفردات النّداء لديه، فنجد مثال ذلك عند عبد العزيز المقالح في قوله:
«.. وكلّ مساء
تضاجع واحدة من بنات القبيله
وتشرب يا «شهريار» دماء الجراح» (21)
فقد أضحى «شهريار» صورة للحاكم العربي المتجبّر الذي لا يهتمّ بغير نزواته، وإن غرقت الأرض بمن فيها بعده، وقد زاد الشّاعر الدّلالة وضوحا حين ربط بين اسميْن عُرفا في التّاريخ كأكبر سفّاحيْن، سُلّطا على
رقاب العباد، وبغيا في البلاد.
ونجد في القصيدة ذاتها أساليب نداء أخرى: «يا عمرو، يا سيّد الجنّتين..»
وهكذا لجأ الشّاعر إلى أسلوب النّداء، في محاولة منه لتحريك الجماد، بعد أن عجز عن تحريك المواطن العربي الذي ألف الخنوع والصّمت، ولم يعد يأبه لشيء. فهل يمكن للّتراث أن يعبّر عن الواقع، وعن هموم المواطن العربي الذي آثر الصّمت بدل تنظيم مظاهرة احتجاجية وإعلان ثورة تقلب الأوضاع؟
ثالثا- التّضمين:
لاحظنا من خلال دراستنا للقصيدة، أنّ التّضمين أحد الخصائص الفنّية التي فرضت نفسها بقوّة في قصيدة يتناصّ في إطارها الخاصّ والعام، من خلال لغة الشّاعر المؤيَّدة بنصوص مساعدة، وذلك في إطار الغائب الحالِّ في الحاضر. ويغدو هذا التّواصل واجبا تحتّمه المسيرة الحضارية التي تجعل الشّاعر عنصرا فاعلا في الزّمن.
وفضلا عن ذلك، فإنّ الواقع يفرض على الشّاعر أن يبحث عن نموذج بديل مؤثِّر يستطيع من خلاله أن يحقّق التّجاوز، وأن يمتلك بصيرة الآتي، ولا يكون ذلك إلاّ من خلال النّموذج التّراثي المشرق الذي يعطي فنَّه مذاقا خاصّا أساسه التّداخل بين الماضي والحاضر.
ففي قصيدة «رسالة إلى عمرو بن مزيقيا»، نجد:
«أترضى لفأر» صغير
بأن يتحدّاك، أن يهزم «السّبّائي» الشّهير؟
بأن يتقيّأ أمعاءه في جبينك
يصول ويمرح خلف عيونك
ألا كنت مزّقته بالحراب
ألا شدت من «سبإ» ألف بوّابة تحفظ السّد
تمنع عنه الخراب
أتخشى منازلة «الفأر» يا سيّد «الجنّتين» الشّجاع؟»(22)
فيتّضح من الأبيات السّابقة، قدرة الشّاعر على تمثُّل الموروث الشّعبي المتمثّل في الحكاية الشّعبية القائلة إنّ سدّ مأرب هدمه حفر الفأر*. ومن خلال هذه الأبيات تبرز علاقة الشّاعر بالموروث الشّعبي، حيث انطلق من الحكاية الشّاملة المتحدِّثة عن هدم الفأر لسدّ مأرب- بغضّ النّظر عن صدقها أم كذبها-، ولكنّه انطلق من المعنى الشّامل للتّعبير عن رفضه للخنوع العربي، وتخاذل السّاسة في منطقة معيّنة من الوطن العربي – وبالضّبط في منطقة سبأ، يمن الشّاعر-. حيث جعل من الفأر معادلا لقوى الظّلم والعدوان في أيّ مكان من الوطن العربي.
رابعا- الصّورة الشّعرية:
تتعدّد أبعاد النّص الشّعري الجمالية، ولربّما تكمن أسرار هذا الجمال في ذلك الشّكل المكثّف الذي يُكتب به أو يُلقى من خلاله، وربّما من خلال الصّور والموسيقى والتّضمينات الشّعرية غير المباشرة..(23) ويكاد اهتمام النّقّاد بالصّورة الشّعرية يطغى على اهتماماتهم الأخرى كاللّغة والموسيقى. ولعلّ ذلك يعود إلى أهميّتها البالغة في القصيدة، ممّا يجعل الشّعر متفوّقا على غيره من الفنون «بالخيال والصّور التي يشتمل عليها ويعرضها، فالخيال عنصر أساسي في الشّعر قديما وحديثا عند العرب وغيرهم من الأمم..»(24). ويُعَدُّ قُدرةً خلاّقة تقلب قوانين الطّبيعة، وتمنحها قوانين خاصّة، وتستنهض ثقافة المبدع، وتسترجع الحالة الشّعورية التي عايشها في تجربته. ونظرا لهذه الأهمّية فقد جعل «نورثروب فراي» الشّعر «لغة خيالية مكثّفة». (25)
يتبع بقية الموضوع على موقع المجلة (الالكتروني)
ولم تكن أهميّة الصّورة الشّعرية محصورة في النّقّاد المحدثين، بل هي الأساس في النّقد الأدبي عند العرب منذ القرن الثّاني الهجري- وإن لم «نجد المصطلح- الصّورة الفنّية- بهذه الصّياغة الحديثة في الموروث البلاغي والنّقدي عند العرب، ولكنّ المشاكل والقضايا التي يثيرها المصطلح الحديث ويطرحها موجودة في الموروث».- (26)
ويكمن الفرق بين الشّاعر القديم والشّاعر المعاصر في استخدامهما لعناصر الطّبيعة، في كون الشّاعر القديم قد استخدمها استخداما جزئيا، مقتصرا على جعلها وسيلة بلاغية تتمثّل فيما استخدمه من تشبيه واستعارة. في حين تمثّل الشّاعر المعاصر الصّورة كاملة، حيث «ترتبط في رؤياه هذه العناصر ارتباطا عضويا يجعل الصّورة كلّها تفرض لنفسها وجودا خلال منطق الخيال هو أكثر واقعية من الواقع نفسه، شأنها في ذلك شأن الأسطورة القديمة.»(27)
وللصّورة الشّعرية عدّة مصادر تغترف من معينها، أحدها الأسطورة والموروث الشّعبي-كما رأينا في عنصر «اللّغة الشعرية»- إذ تُعدّ مصادر أساسية في لغة الشّعراء المحدثين، وهي بذلك مصدر أساسي للصّورة عندهم، سواء ما تعلّق منها بالموروثات الشّعبية أو الإشارات التّاريخية التي تُشكّل المنابع الأولى لثقافة المبدع وتمنحه خبرة مكتسبة في تشكيل الصّورة وطرق إبداعها، أو من خلال إقامة المبدع لعلاقات بين عناصر هذا التّراث وعناصر الواقع المعيش فيما يُسمّى بالمفارقة التّصويرية- وإن كانت لا تتعدّى الالتفاتة الصّريحة العابرة التي تُعبّر عن موقف ذهني دون أن تكشف عن موقف يتطوّر وينمو، ويُصبح فاعلا في تجارب الشّعراء-.
1- أنواع الصّورة التي استخدمها الشّعراء:
حرص الشّعراء على تحقيق المعادلة الصّعبة بين الوضوح والواقعية من جهة، والعمق الفنّي في الإيحاء من جهة أخرى، فوظّفوا نوعين من الصّور وفق بنائها، هما الصّورة المفردة الجزئية، والصّورة المركّبة الكلّية. ولعلّ هذا التّقسيم يسهّل علينا مهمّة استقصاء صور شاعرنا- موضوع الدّراسة- من أبسط أشكالها إلى أكثرها تعقيدا.
أ – الصّورة المفردة الجزئية :
تمتلك الصّورة المفردة أهّمية في التّعبير عن التّجربة- وإن كانت غير منعزلة بذاتها عن باقي الصّور-، فما الصّورة الكلّية سوى صور جزئية متجمّعة، تكاملت من خلال تفاعلها فيما بينها. وما الصّورة المفردة الجزئية إلاّ شريحة من القصيدة تحمل سماتها النّفسية ودلالاتها المعنوية، وتبنى بعدّة أساليب ووسائل تنبثق من وجدان الشّاعر، متلاحمة مع أفكاره وأحاسيسه والألفاظ التي ينتقيها والموسيقى التي تحتويها، وذلك:
– عن طريق تبادل المدركات:
قد تُبنى الصّورة المفردة من خلال تبادل المدركات، أي من خلال تبادل الصّفات بين المادّيات والمعنويات، فمن خلال التّجسيم تأخذ المعنويات صفات محسوسة مجسّمة، ومن خلال التّشخيص تدبّ الحياة والصّفات الإنسانية في المحسوسات والمعنويّات، ومن خلال التّجريد تكتسب المادّيات صفاتٍ معنويةً، وتزول الحواجز بين المعنوي والمادّي. وقد يلجأ الشّاعر إلى تشخيص المعنويات والمادّيات، ومن ذلك ما أسبغه المقالح من صفات إنسانية على الفأر الذي تسبّب في هدم السّدّ:
«أ ترضى لفأر صغير،
بأن يتحدّاك، أن يهزم «السّبّائي» الشّهير؟
يصول ويمرح خلف عيونك
ألا كنت مزّقته بالحراب
ألا شدت من «سبإ» ألف بوّابة تحفظ السّد
تمنع عنه الخراب
أ تخشى منازلة الفأر يا سيّد «الجنّتين» الشّجاع؟»(28)
فقد جعل الشّاعر من الفأر رمزا واضحا لفساد الأنظمة العربية، ممّا دفع بالشّاعر إلى الدّعوة إلى منازلة الفأر أو بؤرة الفساد، والاحتجاج على هذا الواقع المرير، وفي ذلك مفارقة واضحة بين التّفاعل مع أسباب الفساد، والإحساس ببشاعة ذلك الواقع وعدم تفاعل الزّعماء مع من يسعون لتدمير حياتهم الوادعة المستكينة الهادئة.
ب- الصّورة المركّبة:
الصّورة المركّبة هي مجموعة من الصّور الجزئية المترابطة، يوظّفها الشّاعر لأنّ الصّور الجزئية لا تستطيع أن تستوعب عاطفته وفكرته بصورة متكاملة، وخصوصا إذا كان الموقف على قدر من التّعقيد أكبر من أن تستوعبه صورة جزئية، ومنها:
– البناء الدّرامي: ويعتمـد على عناصر التّعبير الدّرامي مـن حوار خارجي وحوار داخلي، وحدث
درامي، وبطل، وجوقة. وقد يعتمد البناء على السّرد القصصي الذي يمثّل الصّراع والحركة:
«تحيّرت..
ثار، تهشّم فوق الحروف القلم
إلى أين تكتب؟
أين مكانك يا «عمرو» بين الرّمم؟
وأين الدّيار التي اخترتها موطنا لك قبل انهيار الجدار
وقبل انفجار العرم»(29)
وهكذا يصعّد الشّاعر الحدث من السّكون إلى الحركة، ليجعل قصيدته تتحرّك على مسرح يعجّ بالصّور المنقولة، لتصول وتجول في واقعنا المليء بالمتناقضات الذي تعبّر عنه لغة الشّاعر المضطربة هذه وهي تبحث عن صداها في ثرى الأسلاف.
فقد جعل الشّاعر الحدث يتطوّر ويتنامى مع الحوار شيئا فشيئا حتىّ وصل إلى ذروة التأزّم، التي انكشفت كومضة خاطفة في القصّة التي يريد الشّاعر أن ينوب عن شهرزاد في سردها، وإذا بالنّهاية تكشف عن المفارقة الدّرامية المؤلمة، حيث عبرّ بها الشّاعر عن حقيقة مناقضة لما يمكن أن يدركه المتلقّي، وتمثّلت في تجبرّ هذا الملك الذي لم يكن راعيا في رعيّته بل تركها لقمة سائغة في فكّ الرّدى.
– المفارقة:
اهتمّت البلاغة العربية القديمة بلون من التّصوير البديعي القائم على التّضادّ، وجعلته في صورته البسيطة ( طباقا )، وفي صورته المركّبة ( مقابلة )، لكنّ الواضح أنّ فكرة التّضادّ هذه قامت على الجمع بين الضِّدّين في عبارة واحدة ليس إلاّ، دون أن تشترط وجود تناقض واقعي عميق بينهما، فهي محسِّن شكلي جزئي هدفه التّحسين البديعي الشّكلي الذي لا يتجاوز مداه عبارة الأديب.
– المفارقة ذات المعطيات التّراثية:
المفارقة التّصويرية ذات المعطيات التّراثية تقنية فنية تقوم على إبراز التّناقض بين بعض معطيات التّراث، وبين بعض الأوضاع المعاصرة، وتقوم على ثلاثة أنماط، منها المفارقة ذات الطّرف التّراثي الواحد، والمفارقة ذات الطّرفين التّراثيّين، والمفارقة المبنيّة على نصّ تراثي.
* النّمط الأوّل:
ويقابل الشّاعر في المفارقة ذات الطّرف التّراثي الواحد بين طرف تراثي، وطرف آخر معاصر. ومن أمثلة ذلك:
«يقولون: كان ذكيا
– طريفة- قالت
فأخفى عن الشّعب فحوى النّبأ
وسلّ لسان- طريفة- بالسّيف أعلن بين بنيه الخلاف
وباع على الشّعب أملاكه باع كلّ الإماء
وسار شمالا
فكان الدّمار الذي منه خاف
وكان الفناء
وصرنا أيادي سبأ»(30)
فقد تمثّل الشّاعر الصّورة وصاغها بما يلائم موقفه من السّلطة، ذلك أنّ الصّورة في أسطورة عمرو بن مزيقيا، تتوقّف عند بيعه لأطيانه وجواريه، وجمعه لأمواله ورحيله نحو المجهول. في حين يجعل الشّاعر صورة الهروب تلك صورة لمعاناة المواطن العربي اليوم في ظلّ حكومات متجبّرة لا تعطي أهمية لهذا المواطن، ولكنّها تبيع الأرض والعرض في سبيل ليلة من العيش الرّغيد، وتمنع المواطن من أدنى حقوقه حتّى وإن تمثّل هذا الحقّ في الحلم بغد أفضل، أو الدّفاع عن أعراضه ومقدّساته.
* النّمط الثّاني:
تتمّ عملية المفارقة التّصويرية ذات الطّرفين التّراثيّين على مستويين، حيث تتمّ أوّلا بين هذين الطّرفين من جهة، وتتمّ ثانيا بين الدّلالة التّراثية لأحدهما، والدّلالة الرّمزية من جهة أخرى، وبذلك تزداد المفارقة عمقا وتأثيرا عن طريق هذه المقابلة المزدوجة، إذ لا يستطيع الشّاعر التّعبير عن معاناته واغترابه عن مجتمعه إلاّ من خلال المشابهة بين مواقف الإنسان المعاصر ومواقف سابقيه.
* النّمط الثّالث:
تعتمد المفارقة المبنية على نصّ تراثي، على تحوير الشّاعر في النّص المقتبس أو المضمون، رغبة منه في توليد دلالة معاصرة تتناقض مع الدّلالة التّراثية للنّص الذي ارتبطت به في وجدان المتلقّي، ومن خلال المقابلة بين المدلولين التّراثي والمعاصر تنتج المفارقة.
ونجد مثالا على ذلك فيما أورده عبد العزيز المقالح في القصيدة:
«فلا شهرزاد أطلّت،
ولا عاد وجه الصّباح»(31)
حيث جعل شهرزاد الشّجاعة المقدامة تلتزم الصّمت، وتحجم عن التّغيير وعن إحداث الثّورة التي قلبت بها تفكير مجتمع كامل، وأنقذت مملكة كاملة من الفناء، فجعلها الشّاعر جبانة تختفي ولا تثور، وذلك لعرض موقفه من عرب اليوم الذين يرضون بالعيش الذّليل، فلا كفٌّ لهم تبدو، ولا قدمٌ لهم تعدو.
وبذلك يكون الشّاعر قد جمع بين صورة تراثية، وبين واقعنا العربي المعاصر الذي يحتضر مـن شدّة
القهر، ومن هول ما يسلّط عليه من صنوف كبت الحريات ومصادرتها، ليلجأ الشّاعر إلى أنماط التّعبير هذه المتمثّلة في التّعبير بالصّور. فالصّورة الشّعرية «رسم قوامه الكلمات المشحونة بالأحاسيس والعاطفة..»(32) وقد جاءت هذه الصّور أقرب إلى النّفس، ذلك أنّ النّفس التي تعيش الاغتراب حتّى في وطنها وأرضها، تحتّم على الصّور أن تكون معبّرة عنها حاملة لحقيقتها الدّاخلية، تغوص إلى ما تحت التّعبير اللّفظي لتكشف عن اللاّشعور. ولمّا كانت الصّور هي الوسيلة المثلى لنقل الأحاسيس، فلا بدّ أن تجيء ملائمة لما تعانيه هذه النّفس من غربة وعزلة وخوف.
خامسا- الموسيقى:
تتشكّل موسيقى القصيدة من ثلاثة أقطاب أساسية، لا غنى عن أحدها في التّشكيل الشّعري، وهي: الوزن والقافية والإيقاع.
1- القافية :
يجعل بعض الدّارسين أهّمية كبرى للقافية لدرجة أنّ بعضهم قد ينزع صفة الشّاعرية عن شاعر ما، ما لم يلتزم بقافية معيّنة، ذلك أنّ الشّاعر يتمتّع بمخزون يغترف منه، وهذه هي المادّة التي «يتعلّق الأمر باستعمالها من أجل نظم كلّ بيت، وعقب التّصوُّر يبدأ الإنجاز الحقّ. في هذه الأثناء، يختار الشّاعـر عاملين هامّين، أي عاملين ثابتين ومتماثلين بالنّسبة لكامل القصيدة، هما القافية والوزن» (33)
وقد وقع كثير من الشّعراء في عيوب القافية، ومنهم شعراء الطّبقة الأولى في الجاهلية والإسلام، ولكنّ ذلك لم يخدش حاسّتهم الموسيقية المرهفة، ومن ثمّة لم يعنهم أمر تصحيحها ولا تجنُّبها- علما بأنّ الشّاعر صاحب الأذن الموسيقية والحريص على موسيقى القافية، لا يعقل أن ( يرتكب الإقواء مثلا )، ويزلّ إلى هذا الخطإ الواضح الذي يدركه حتّى المبتدئون في قول الشّعر- كما يقول الدّكتور إبراهيم أنيس-.
كما أنّ تردّدها في أشعار هذه الطّبقة، لم يتأخّر بمنزلة شعرائها عند متذوِّقي الشّعر العربي على مرّ عصوره، ولم يكن أبدا مطعنا جادّا في جمال أشعارهم وجودتها، وقد تداولها الرّواة على تلك الصّور من العيب دون تغيير، مّما يومئ إلى عدم تحرّجهم من روايتها على صورتها المعيبة، وكأنّهم يميلون إلى قبولها !
وقد رخّص النّقاد بعض هذه العيوب لفحول الشّعراء وأتوا لهم بتبريرات ورخص كثيرة وأباحوا القليل من هذه العيوب، وذهب بعضهم إلى أنّها تزيد النّص جمالا (34).
وزاد عليهم النّقاد المحدثون الذين ذهبوا إلى أنّ المحافظة على وحدة الإيقاع والوزن، والتزام قافية واحدة في جميع القصيدة «مدعاة ملل لو كانت تامّة كلّ التّمام (.. )، ثمّ إنّ الموسيقى في البيت ليست تابعة للمعنى، والمعنى يتغيرّ من بيت إلى بيت على حسب الفكر والشّعور والصّورة المدلول عليها، ولا يتلاءم مع هذا التغيّر أن تكون هذه المساواة في النّغم تامّة رتيبة، علما بأنّ هـذه المساواة التّامّة الرّتيبة قلّما توجد في
الشّعر القديم نفسه». (35)
ويرى جمال الدّين بن الشّيخ أنّ القافية «تفرض نفسها على الفور، وترسِّخ من تلقاء ذاتها وفي ذاتها، المعنى الذي يراد التّعبير عنه. وذلك لأنّ الأمر قد لا يتعلّق بمجرّد تنظيم مظهرها. ففي هذه المعمارية الصّوتية يتقرّر المعنى. إنّ البيت في تقسيمه المطّرد إلى وحدات متزايدة الصّغر، لا يكتسب انسجامه إلاّ بفضل تقارب هذه الوحدات».(36)
وقد استخدم الشّاعر القافية استخداما تقليديا، حيث تختتم القافية السّطر الشّعري. وقد وردت القافية على الشّكل الآتي:
«تحيّرت..
ثار، تهشّم فوق الحروف القلم
إلى أين تكتب؟
أين مكانك يا «عمرو» بين الرّمم؟
وأين الدّيار التي اخترتها موطنا لك قبل انهيار الجدار
وقبل انفجار العرم»(37)
فنجد القافية: (..ف القلم،..ن الرّمم،…ر العرم ) في نهاية كلّ سطر شعري، يقف الشّاعر عندها ليأخذ نفسا جديدا يدفعه إلى مواصلة استجوابه لـ «عمرو بن مزيقيا» الذي يبدو لنا واقفا أمامه مطأطئ الرّأس يستشعر الخجل، ويستمع إلى التّوبيخ.
2- الوزن :
تتعدّد أبعاد النّص الجمالية، وقد تكون أسرار هذا الجمال في البناء الموسيقي أو التّشكيل بالصّورة أو البنية اللّغوية أو الإحساس بالزّمن، وكلّ الأبعاد السّابقة «تنبثق من الطّاقة الشّعورية المتدفّقة من كيان النّص، وهو بدون هذه الطّاقة يُعدّ نهرا جافّا، وحديقة يابسة، وأفقا منطفئ النّجوم»(38).
والعلاقة بين الموسيقى والشّعر، أو بين الصّوت واللّون تقوم على ارتباطات وجدانية نفسية، ومدلولات فزيولوجية، تخضع لظاهرة العلاقة بين التّزامن في الصّوت واللّون، أو الارتباط والتّنسيق بين نوعين مختلفين من الأحاسيس. لأنّك «إذا تأمّلت الشّيء، ونظرت إليه بعمق وتفحّصته، فإنّك حتما ستستمتع بموسيقيّته، لأنّ النّغم يكمن في قلب طبيعة الأشياء.»(39)
وقد يلجأ الشّاعر إلى تقنية التّدوير، لأنّه يستوعب فنّيات المناجاة ( المونولوج)، والحوار ( الدّيالوج )، والتّداعي. يقول الشّاعر:
«تحيّرت..
ثار، تهشّم فوق الحروف القلم
إلى أين يكتب؟
أين مكانك يا «عمرو بين الرّمم»؟
وأين الدّيار التي اخترتها موطنا لك قبل انهيار الجدار
وقبل انفجار العرم
وهل لك قبر على الأرض؟ أم لفظتك الرّمال
لأنّك خنت التّراب
وخنت الرّجال
أخذت نصيبك منها غداة الرّحيل» (40)
فيمزج الشّاعر بين تفعيلات بحرين هما المتقارب والوافر.
فالمتقارب بتفعيلاته ( فعولن فعولن فعولن فعولن ) المناسب لوصف الانفعالات السّريعة المتلاحقة، أو التّصوير النّابض بالحركة والفعل، وكذا الوافر بتفعيلاته ( مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن ) حينما يتزايد نشاط الانفعال، حيث ينطلق الشّاعر في مخاطبة «عمرو بن مزيقيا» الخائن متسائلا عن مدى ما أوصلته إليه خيانته، إلى أن يصل انفعاله إلى أقصاه، لأنّ الخيانة كانت كبيرة، تعدّت خيانة الرّجال إلى خيانة التّراب والأرض.كما نجد شذرات نثرية في ثنايا القصيدة.
ونكون بذلك، قد تتبّعنا حضور أسطورتيْن هما «شهرزاد وشهريار»، و«هدم الفأر لسدّ مأرب»، وقد مزج الشّاعر بين شخصيّتي «شهريار» و«عمرو بن مزيقيا» في براعة كبيرة جاعلا منهما نموذجا لكلّ صاحب نفوذ في البلاد العربيّة يبيع الأرض ومن عليها لتحقيق مطامعه الذّاتية، كما استنجد براوية العرب «شهرزاد» علّها تنقذ بلاد العرب كما أنقذت بلاد الألف ليلة وليلة زمن شهريار.
الهوامش والإحالات:
(1)Chemsddoha Boraki: Le nom d’une femme..Shéhérazade. @ Yahoo mailto, marocanféminin , nomade. fr.
(2) مارلين ستون: يوم كان الرّب أنثى،- نظرة اليهودية والمسيحية إلى المرأة-، ترجمة: حنّا عبّود، الأهالي للطّباعة والنّشر والتّوزيع، سوريا، ط1، 1998، ص: 32.
(3) المسعودي: مروج الذّهب ومعادن الجوهر، المجلّد 2، دار الأندلس للطّباعة والنّشر والتّوزيع، بيروت، لبنان، ط5، 1983، ص: 251.
(4) سهير القلماوي: ألف ليلة وليلة، دار المعارف بمصر، ط4، د. ت، ص: 55 – 56.
(5)Aboul Hussein Hiam et Charles Pellat: Chéhérazade personnage littéraire, Société Nationale d’édition et de diffusion, 2ème éd, 1981, p: 15.
(6) عبد العزيز المقالح: قصيدة «رسالة إلى عمرو بن مزيقيا»، مجموعة «لا بدّ من صنعاء»، الأعمال الكاملة، دار العودة، بيروت، ط2، 1980، ص: 106 – 107.
(7) سورة البقرة، الآية: 49.
* طريفة الخير: هي الكاهنة التي تنبّأت بالهدم، وأخبرت «عمرو بن مزيقيا» بالعلامات التي تسبق الهدم، ويقال كانت زوجته، وفي معجم البلدان ( الجزء الأوّل ص: 155 ) تدعى: ظريفة الخير
انظر : – المسعودي: مروج الذهب، المجلد: 2، ص: 167.
– حسن مغنية: ديانة العرب- سلسلة أخبار العرب-، مؤسسة عز الدين للطّباعة والنشر، بيروت، لبنان،
1981، ص: من 40 إلى 47، حيث يرد ذكر لحادثة الهدم.
(8) د. عبد العزيز المقالح: الدّيوان، ص: 107.
(9) المسعودي: مروج الذّهب، المجلّد 2، ص: 167 وما بعدها.
(10) عبد العزيز المقالح: الدّيوان، ص: 106.
(11) المصدر نفسه، ص: 106.
* ولذلك سميّ مزيقيا، لأنّه كان يلبس في كلّ يوم حلّة جديدة ويمزّقها، انظر الدّيوان، هامش ص: 106.
(12) عبد العزيز المقالح: الدّيوان، ص: 106.
(13) عبد العزيز المقالح: الدّيوان، ص: 106.
(14) عبد العزيز المقالح: الدّيوان، ص: 105- 106.
(15) عبد العزيز المقالح: الدّيوان، ص: 106.
(16) عبد العزيز المقالح: الدّيوان، ص: 108- 109.
(17) عبد الرّضا علي: الأسطورة في شعر السّياب، دار الرّائد العربي، ط 2، 1984، ص: 104.
(18) وليم ويمزات: الأسطورة والنّموذج البدائي، ترجمة: محي الدّين صبحي، مجلة «الأقلام»، بغداد، العدد الثّامن، أيار 1976 ص: 18.
(19) رينيه ويليك وأوستن وارين: نظرية الأدب، ترجمة: محي الدّين صبحي، مراجعة: د. حسام الخطيب، المؤسّسة العربية للدّراسات والنّشر، بيروت، 1987، ص: 225.
(20) عبد العزيز المقالح: الدّيوان، ص: 105-106.
(21) عبد العزيز المقالح: الدّيوان، ص: 106.
(22) عبد العزيز المقالح: الدّيوان، ص: 108-109.
* توجد في التّراث الأدبي أيضا: حيث يقول محمد اليمني الملقّب بنجم الدّين، المتوفي سنة 569 هـ:
لا تحقِرن كيدَ الضّعيف فربما تموت الأفاعي من سموم العقارب
وقد هدَّ قِدما عرشَ بلقيس هدهد وخرّب حفر الفأر أسوار مأرب.
انظر: السّيد أحمد الهامشي: جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب، المجلد 2، منشورات مؤسّسة المعارف، بيروت، لبنان، د.ط، د. ت، ص: 447.
(23) N. Frye & al. The Harper Hand- Book of literature. N. Y Harper & Raw Publishers, 1985, p: 457.
(24) د. أمين محمود صالح العصمي: الغربة والحنين في الشعر الفلسطيني بعد المأساة، منشورات جامعة قاريونس، بنغازي، ط:1، 1995، ص: 374.
(25) N. Frye & al : The Harper Hand- Book of litérature, p 457.
(26) د. جابر عصفور: الصّورة الفنية في التّراث النّقدي والبلاغي، دار الثقافة، القاهرة، ط1، 1974، ص: 7.
(27) عزّ الدّين إسماعيل: الشّعر العربي المعاصر- قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية-، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، ط5، 1994 ص: 200.
(28) عبد العزيز المقالح: الدّيوان، ص: 108- 109.
(29) عبد العزيز المقالح : رسالة إلى عمرو بن مزيقيا، ص: 105.
(30) عبد العزيز المقالح: الدّيوان، ص: 107.
(31) عبد العزيز المقالح: الدّيوان، ص: 106- 107.
(32) دي لويس: الصّورة الشّعرية، ترجمة: د. أحمد نصيف الجناني، دار الرشيد، العراق، 1982، ص: 23.
(33) جمال الدّين بن الشّيخ: الشّعرية العربية- تتقدّمه مقالة حول خطاب نقدي-، ترجمة مبارك حنون، ومحمد الولي، ومحمد أوراغ، دار توبقال للنّشر، ط1، 1996، ص: 267.
(34) انظر : ابن سلاّم الجمحي: طبقات فحول الشّعراء، ص: 58.
وقدامة بن جعفر: نقد الشّعر، ص: 208- 209.
(35) د. محمد غنيمي هلال: النّقد الأدبي الحديث، دار النّهضة العربية، القاهرة، ط: 4، 1969، ص: 464.
(36) جمال الدّين بن الشّيخ: الشّعرية العربية، ص: 236.
(37) عبد العزيز المقالح: رسالة إلى عمرو بن مزيقيا، ص: 105.
(38) د. صابر عبد الدّايم: موسيقى الشعر بين الثبات والتّطور، نشر مكتبة الخانجي، القاهرة، د. ط، 1992، من ص: ( 25 – 51 )
(39) انظر :- يوسف السّيسي: دعوة إلى الموسيقى، سلسلة عالم المعـرفة، عدد 46، نشـر المجلس الوطني للثّقافة والفنـون
والآداب، الكويت، د.ط، د. ت، ص: 45.
– صابر عبد الدّايم: موسيقى الشعر بين الثبات والتطور، ص: 15.
(40) عبد العزيز المقالح: الدّيوان، ص:105.
ناقدة وأكاديمية من الجزائر