نَعَمْ،
أشرقتْ شمسٌ في قلب الظلام، أضاءت الأرواح،
شربتِ الروحُ نوراً جديداً، مختلفاً، يضيء فقط في أقصى الأرواح.
من يأخذك إلى الأقاصي المظلمة يظنك خائفاُ، لا يعلم أنه أخيراً يجعلك وحيداً وعارياً مع نفسك.
هناك، مع ذاتك:
هل عرفتني؟ تسألك،
فتبكي وتضحك وأنت تعانق أخيراً ذاتك.
بكاؤك إجابةٌ نعَمِيّة: نَعَمْ؛
ضحكك معرفة مشرقة، بعرفان السلام؛ السلام بسبب النور الذي عثرت عليه في قلب الظلام: ذاتك.
وجدتَ نوراً وها أنت ترفع شمعة جديدة هادئة، لهيبها لا يتأثر بالهواء، لا يطفئه الماء؛ شعلةٌ سرمدية متقدة؛ كلما كانت في زمنٍ مظلم، كلما أشرقت أكثر..
أنت الآن في الأعماق الرطبة للظلام، لكنك تضيء،
أنت في الزنزانة التي في أعماق الظلمة، لكنك عثرت على الشمعة،
أنت رأيت شمعة وعرفت أنها ذاتك، رأيت شمعة وعرفت أنها روحك، شممتَ النار، وصلتكَ رائحة النور في الظلام.
وفي وحدتك:
في زنزانتك:
مع ذاتك تنشئ فكرة،
كما في لعبة الكريات الزجاجية لهيرمان هيسه.
الفكرة قصيدة مركّبة: لوغارتيمات شعرية، في خوارزميات موسيقية، بقوة معاني الروح، كلما أضفت إليها إيقاعاً أضاءت شمعتك،
تنهمك بالفكرة النقية، ينطقُ بها فمك في وجه سجّانك، تحيط به دون أن يشعر، يجلس داخلها مطمئناً، غافلاً أنك سجنته وتركت الباب الذهني موارباً في المتاهة وخرجت.
هناك الآن، في تلك الأعماق الذهنية لفكرة في فلج بحريّ، يجلس سجّانك مسجوناً، حبيسَ فكرة نيّرة، يبحث في النور وهو مُغيّبٌ عن ذاته.
تسجن سجانيك في فكرة، الفكرة ليست قضباناً، ليست زنزانة ضيقة مصمتة، بمكيفٍ حبيس، ليست جونيّة سوداء، وليست قيداً. كما ليست تعذيباً صوتياً.
مجرد شعاعٍ من شمعة مفقودة، يضيء، يظل يضيء؛
السجان يتبع الضوء الضئيل المنبعث من الثقوب الضيقة، كي يصل إلى ذاته ويخرج.
أنت الآن خارج الزنزانة، لكنك تفكر في الإنسان الذي خلّفتهُ بعدك، مسجوناً في فكرةٍ، هي عرضة للنسيان، لكن، كلما ازداد نسيانها ازدادت متانة، واتساعاً واختفاء؛ تخاف عليه من السجن الذي وضعته فيه، تظل تفكر أنك كنت قاسياً بفعلتك،
لكن.. تبرر نفسك، كما برر هو نفسه:
سجنتهُ كي أحرِّره.
السجان وحيدٌ الآن داخل فكرة من صنع سجين، كل الفكرة زنزانة ذهنية، وكل خيطٍ ذهني قضبان خلفها شاسع أفقي تسقط عليه الشمس بزاوية مائلة، تتعامد مع مرآة، وداخل المرآة لوحةٌ هي سؤال: من أنا؟
فكرةٌ بلا ضغائن، بلا كراهية، فكرة تجريدية، محفوفة بمشاعر وموسيقى ملونة لقصيدةٍ قوية، غنّاها بحارٌ قديمٌ في عرض المحيط، كلما ارتفع إيقاعها هدأ المحيط، وجاء نسيمٌ قوي راقصاً.
السجن حالةٌ ذهنية، تفك قيدها بفكرة هي معادلة، إذا وضعتها في قصيدة شعرية تأخذك إلى وطن، ذلك الوطن هو نفسهُ: من أنا؟ أين أنا؟ هل عرفتني؟ انظر إلى المرآة..
خيوط:
1. في المرآة ماءٌ إذا لمستهُ يسيل، كلما شربت منه عرفت، كلما عرفت أمكنك أن ترى ذاتك، وكلما رأيت ذاتك وصلت الحرية التي أخرجتك أول مرة.
2. السجن رحمٌ وجودي جديد، تولد منه وحدك، تخرج منه لتشهق شهقة الولادة على هيئة ضحكة وبكاء. يتكرر الضحك والبكاء المعادل لضحك وبكاء كل المساجين.
3. لاحقاً تتبعُ غيمةً لا تراها، أيها السجان اللطيف، تلك الغيمة هي أطراف صحراء شاسعة، على تخوم الظلام.
4. غيمة الشمعة تعبرُ الربع الخالي والمحيط الهندي، في نفس الوقت، بهدوء وسكينة لا نظير لهما.
إبراهيم سعيد
شاعر من عُمان