جسد الحب يستحيل شفافا، كما لو كان مستعملا بالأيدي. له طبقات من الزمن، ومستودعات من الضوء رطبة ومرجئة. مرآته هي الذاكرة حيث كان يشتعل. أن يأتي إليك، جسد، جسدي، حيث ينام جسدي في كل لعابك. في هذه الليلة المضاءة جسد باتجاه مركزك، لا يبحث عن الفجر ولا يصحو المغني.
في قلب الفساد اليومي للأيام، وفي قلب الخطوة المظلمة للساعات كأوراق ساقطة في منتصف الليل، بين التشنج الرمادي للعاب، رطبة، السائل على جسدك كسفينة مترنحة، لا تعرفين أين أنت ولا النهاية ولا أية بداية لك تحملك إلى الختام وتحلمين، من حلمك نفسه تتمددين إلى البقية الأخيرة الزرقاء للهواء، وفيه، أخيرا، تستسلمين، تغرقين، تئنين في سرادقاته المهزومة.
لا تدعوا الأنبياء القدامى يموتون فقد رفعوا صوتهم ضد الربا الذي يعمي أعيننا بصدأ مظلم، الصوت الآتي من الصحراء، الحيوان العاري الخارج من المياه كي يؤسس مملكة البراءة، الغضب الذي يبسط على العالم أجنحة، الطائر المحترق بالأبوكاليبسيس، بالكلمات العتيقة، بالمدن الضائعة، استيقاظ الشمس كهبة مؤكدة في يد الإنسان.
صبر الجنوب. عظاءاته الهائلة المنتشرة. الدرقة المظلمة لليل وقد عضها الملح. لم يصل السؤال يصل إلى التحول لعلامة. استجواب، لماذا؟ من يجيب علينا منذ الامتلاء الشمسي دون أن يحطمنا؟
***
كان لدى البحر نتف من رقائق الليل. قذف بها النهار. كي لا يتمكن طائر المساء الممدد من نسيان أصله في الآبار الرهيبة الغارقة في القاع.
وأنت؟ في أي موضع كنت في جسدي أيتها الروح، التي لم تنقذني؟
انغمار الصوت. المياه. دخلت في الأصل. أيها الرأس المقطوع بجانب البحر. بعدها لم يتبق أي صمت.
أرى، أرى. وأنت، ماذا ترين؟ لا أرى. ما لونه؟ لا أرى. المسألة ليست ما يرى، لكن فعل الرؤية نفسه. النظرة، وليست العين. الحدقة. اللا لون، وليس اللون. اللا رؤية. الشفافية.
كان الخريف يهبط كلعاب ثخين مصفر على الأسوار الغارقة للروح. وكيف لا يستسلم هكذا للهجمة العمياء للظلال؟
المركز مكان فارغ. المركز مرآة أبحث فيها عن وجهي ولا أجده. ألهذا جئت إلى هنا؟ مع من كان الموعد؟ المركز مثل دائرة، مثل الأرجوحة الدائرية للأحصنة الملونة. بين عرفين أصفر وأخضر تطير الريح طفولتك. – احتجزها، تقول. لا أحد بإمكانه سماعك. موسيقى ورايات. المركز تلاشى. كان هنا، في الموضع الذي كنت فيه أنت. سريعا السهم أصاب الهدف في مركزه. تتبقى الهزة. أما زلت تشعر بها؟
الشخصيات انمحت. تبقى فقط ثفل غير مقروء. الذاكرة كانت ستنهشهم حتى تميز اسمها. صالون فارغ، ضريح مهجور كان ماضيهم، وما لم يكونوه قط، جبس عاطل، باروكات معفرة بالتراب، أشكال كثيفة مقصوصة الشعر في الامتداد اللانهائي للعليات. ذاكرتهم، يقولون؛ وأنت تسال نفسك من أي شيء، لمن، لأي موت.
(ذاكرات مضادة)
التعمد الحزين لما هو مجرب أوهن ما هو مكتوب. كانت هناك نار في حياته، نفترض، فقد أتت النار أخيرا عليه. لكن في الشعر أراد أن يكون أنيقا وقاسيا، دون التنبه أنه أحيانا كان يبحر بين الهواء السوقي وبين الإلهام المتصنع. وداعا صديق المرات القليلة والتقاربات النادرة. الرؤية السيئة لليوم والساعة، سقوط العام، نهاية الزمن، الكتامة المصارعة للوضعاء لن تسمح لنا أن نرى بعضنا ثانية.
كان فخذا المرأة طويلين ورطبين. وزغبها الخفيف كان يلمع ذهبيا في الشمس. أعماق لا تنتهي ودون قاع للجلد. عندما كانت تضحك، تبدو ضحكتها وهي ترجف جنسها وتفك أسرابا في الهواء لطيور جامدة كانت تنبثق هناك، قلت لنفسي، مثل كثير من أشياء الطبيعة الأخرى.
(حديقة النباتات)
تسألينني بينما تسمرين حدقتك الزرقاء في حدقتي.
أو من؟ هل أنت نفسك نيزك، انفجار بركاني؟ هل ماتوا واحدا فواحدا مطعونين أم كانوا ضحايا مبكرة لإبادة فجائية ومحسوبة؟
(تذييل من أجل نهاية قرن)
صور لصور لصور. نصوص ممحوة، معاد كتابتها، مقطعة. علامات، أجساد، أسوار خربتها المياه. أحجار مدكوكة فوق أحجار. مكان يحلق الآن فوقه الغبار. منزل دون ذاكرة. من الذي ملكك؟ زمن جائع لأن يكون ملقى في الليل. كلمات مبذورة وترجع الصدى، صدى فوق صدى في القبة الغامضة للأسى. يمكنني أن أعطي كل الهواء مقابل صرخة، كل المملكة مقابل أنين واحد. فتح العرافون أحشاء الإله وسلموا جسده الممزق للنهابين.
يمتلئ الزمن بأبرص رطبة وقنافذ في فضاء الأسى. ضع لي، قلت، بطاقة من مكان الجريمة. تخترق الريح الأسوار والحجرات الفارغة بين فجوتين؛ تصفر في الحيطان كأفعى تبرم في العظام ضجيجا لوحش هائل ومجفف عبر الشره الجوي للعصافير أو عبر الاختراق القاسي للشمس. لم يبق شيء هنا. مسرح خاو لجثث لا يمكن التعرف عليها تكنسها الهبة الثلجية للمساء الذي يجر الآن الزرع الأخير المتبقي من الحصاد. في الأفق، خرق ضخمة لسحب محمرة تتبع راحة الضوء الغرق المثالي للذاكرة.
الذهب المجهد المغلف بدم أراضي الجنوب. الكلاب الضالة كانت تصل إلى الحافة الباردة للرياح كي تموت. لم يعد أحد يسكن في المكان الملتبس. صدأ. لا أحد. البلورات الصخرية الصفراء المضاءة تشعلها الشمس في هبوطها السريع. بعد ذلك، الظل كأنه شعلة مثلجة في كل الطرق التي تؤدي إلى الفراغ. الوحدة الجائعة تنهش الصور. يصعد الصمت قبالة السماء، هائل، كصرخة كبيرة.
إلى روخيليو
أصابع على الطبلة، الجلد منبسط، الهواء المليء بهمس بصمات الأصابع، ببدايات استماع، بآذان أو بصمت فجائي، بامتلاء الصوت، الصمت هو الامتلاء الخالص للصوت. نقر متسارع. الأصابع. نداء الإله. الأصابع فقط على الطبل الخالص.
التصفية الهوائية للأجساد في شفافية الضوء. دفعت الريح التجاويف المظلمة للبكاء إلى بالوعات باريس. لم تعد هناك فضلات للموت. أنت تهبط هادئا حتى هذا اليوم. تحييه في سلام. ومن بإمكانه الآن أن يخطف صورتك تلك التي لا تنتمي إليك حتى. أن تكون فقط للنسيان، تقول. جسد يختلط بالهواء. في النهاية، ليس لك اسم، بخفة ممحو.
كنت أود أن أكتب Unter den linden. 1
أن أكتب الكلمات في الموضع نفسه الذي تشير إليه. تماما مثل الجرافيتي. وأن أقول أمام جمهور رمزي من الألمان:
Der Tod ist ein Meister aus Deutschland. 2
كما لو كنت أنا نفسي فلاحا من تلك الأرض. أن أقول ذلك بمحبة وبحزن. اليوم الثاني من شهر نوفمبر عام ألف وتسعمائة وتسعين، على وشك نهاية القرن، الهواء هنا خفيف وبارد ومضيء. تعبر طفلة على دراجة، وتقوم بتعرجات طويلة طائشة، آثار الحواف ما زالت ترى للآن.
(برلين)
نحن ليس لدينا وقت كي نتذكر، مثل أولئك الذين سبقونا، ستائر القماش، البرودة الصيفية لزخرفة صورة قديمة، الطفل مع التمويجة الاصطناعية الطويلة على جبينه، كما استطاعوا التذكر أولئك الذين جاءوا من قبل في مراكب طويلة من الكرتون الملون، وبمايوهات مخططة، وأخذوا صورا في الوقت المناسب، لكن نحن تقريبا دون فراغ ولا حتى مكان يرجع الوجه إليه كي يبقى في النهاية كتمثال من الملح، لكن أن نواصل البقاء حيث، الأموات، في كسلهم، دون ذاكرة مضبوطة.
تتشابك السحب في سماء باريس. يشارك الزرق فجأة. أنهار خالية من الضوء ومن الأجنحة. أين تبحث عن رأس الملاك؟ ملائكة مذبوحة بالقرب من الجيتارات، ملائكة، بيض، زرق. من بإمكانه أن يبكي عليك، أيها الميت، في هذا المساء؟
الهوامش
1- بالألمانية: «تحت ظلال الزيزفون» في إشارة إلى البوليفار البرليني
2 – «الموت سيد من ألمانيا بيت شعر شهير للشاعر باول تسيلان».
ترجمه عن الإسبانية: أحمد يماني
شاعر من مصر مقيم في مدريد