يزاوج الأديب طالب المعمري بين الكتابة الشعرية والكتابة النثرية، وهو في كلا الصنفين الأدبيين يجيد تكثيف العبارة وشحنها بالرموز الدلالية؛ حتى تغدو اللقطة ذاتها تفصيلا معتما للقضايا الجوهرية التي تعتمر الذات برمتها، وتصبح الكتابة ملكوتا من الكلام لا يقبل النهاية. وللكثافة غاياتها وأسرارها العميقة التي لن تتكشف إلا بتطويع مرموز اللغة العطشى وتفكيك شفراتها عبر ولوج منطق الكتابة والغوص في سرائرها وغياباتها. وفي نظري، تتأتى لطالب المعمري ميزة اختصار عوالمه، والقدرة على القبض على الكون، انطلاقا من حركية الخيال الجامح التي يتوفر عليها ودقة الملاحظة لديه، وانخراطه العميق في التواصل مع عناصر المحيط الذي يحفه، بتأمل فلسفي وحدس شعري. إن طالب، حتى وهو يختار تجنيسه لهذه النصوص بـ«قصص»، فهو في الواقع لا يبتعد كثيرا عن الشعر، إذ غالبا ما يستعين باللحظة الشعرية القوية لرسم مشهدية عالمه الكثيف، وغالبا ما يستدعي انفتاح النص الشعري على الآفاق المشرعة للذات والعالم ليقدم حدوسه للقارئ، وهي حدوس تدمج بلحظيتها الشعرية في عالم القص، وبالجملة نقول إن طالب وهو يكتب قصصه هاته ظل شاعرا بامتياز ولم يستطع التخلص من أسر كثافة الكائن الشعري. وهذه المقدرة لن تتأتى إلا لكاتب يجيد ارتياد الصنفين معا، بنفس الحماس ونفس الحب، إنه يكتب نصا مفتوحا على الدوال، مشرعا على الأجناس الأدبية، مشحونا بالآفاق الرؤيوية، وهو حينما يفعل ذلك يفعله عن وعي بأن العالم الذي تستبطنه تجربته عالم أوسع من أن يحفه نموذج جنسي، وأكبر من أن ينصرف إلى أحادية الدلالة، وأعمق من يفصح عنه في تفصيل مهما كان صادقا وحقيقيا. وهذا الاختيار في الكتابة الذي انتهجه طالب، له ما يبرره في زمن موت الأجناسية، زمن احتار لنفسه التعدد والانفتاح، زمن الحيرة الذي لم يعد الإنسان قادرا على ترويضه أو مسايرة نمط خطوه. فالكتابة المكثفة تأتي تعبيرا عن رؤيا، وليست اختيارا من باب العبث، فالقاص يستدعي هذا النمط ليختزل عالمه الفار باستمرار، عالمه المستعصي على القبض، عالمه الذي يتستر خلف ظلال العبارة ويتخفي في المفردة والسياق وبياضات الورق، فالجملة جمل متعددة تتساكن وتتزاوج وتتخصب، ولا تمنح ذاتها لمتلق كسول من الوهلة الأولى. والعبارة تستبطن نصوصا وتفاصيل لا يخطئها الحدس، حيث تتضام الأحداث والمواقف والحوارات الساخنة في أفق معتم لا يفصح عن ذاته بيسر، بل يريد هكذا أن يمتحن قارئه، ويضعه في صورة متخيل شعري مغرق في الرمزية.
إن الحديث عن كثافة النص القصصي لا يتم بمعزل عن المؤشرات القرائية العامة التي تتيحها العتبات المصاحبة؛ ابتداءً بالعنوان الذي يحمل بين طياته مقولتين دلاليتين متباعدتين، فالأولى تحيل على فضاء معروف بسرابيته وفظاعة طقوسه «القفار»، والثانية ترمز إلى التعيين الجنسي المتمثل في «السرد»، وإذا كانت المقولة الدلالية الثانية تفيدنا في معرفة التعاقد الذي يعلنه الكاتب بخصوص طبيعة مكتوبة إذا ما ربطناها بالتعيين الجنسي «قصص»، فالمقولة الأولى لا تقل أهمية عنها، لأنها تعد مؤشرا أوليا لبناء افتراضات المعنى النصي. وبين المقولتين يمتد البياض المشفوع بنقط الحذف التي تدل، فيما تدل عليه، على دلالات معروفة لا داعي لذكرها لدى المتلقي أو دلالات يخاف من ذكرها لأنها من باب الطابوهات، وفي كلا الحالتين لا بد لملء هذا الفراغ من الاستعانة بالتأويل، إذ ما علاقة السرد بالقفار في النص أو خارجه؟ وهل هناك بالمقابل، على الأقل لدى الشاعر، مماثلا دلاليا من قبيل القفار شعرا، القفار مسرحا، القفار تشكيلا، على سبيل التمثيل. والسؤال نفسه يجد مشروعيته في التعلق بصورة الغلاف القاتمة الدلالات، والتي تنخرط، هي الأخرى، في هذه الأجواء المكثفة المحيلة على معان مغرقة في الغموض، غير أنها تفرض، كمؤشر، ذاتها في إمكانية بناء افتراضات، واقتراح سياقات تأويلية ممكنة. إن الصورة التشكيلية المثبتة على ظهر الغلاف تجسد امتداد الرؤى القاتمة لصحراء الوقت المليئة بالأشباح والأوهام والخوف. ففي الوقت الذي يخيم جحيم من الظلام اللجي الدامس على كون اللوحة، كانت هناك ظلال أشباح حائرة تحدق في الفراغ الهائل وترقب أقمارا مطفأة بلا أفق، تلك هي القفار بعينها، وتلك هي هاوية المتاهة السردية التي تؤشر عليها القراءة البؤرية للعتبات المصاحبة، وما البياض الذي يقسم فضاء اللوحة/ النص سوى مفارقة تبعد ما بين الأشباح والبدور المقبورة في قفار ليل قاس ومخيف. ترى أي ليل يجتاح النص؟ وأي سحنة سوداء هاته التي تكرع بهاء عتباته الأولية!!؟
وبتوغلنا قليلا في ثنايا النص الكبير (مادام المنجز وإن تعددت نصوصه فهو في الأخير نص واحد كبير)، نستطيع أن نلملم بعض الضوء الكاشف لمسارب الدلالة النصية العويصة، والتي دون شك تعضد اللبوسات الشعورية التي تبرزها الدوال المصاحبة والمؤشرات النصية الخارجية ((شيئا فشيئا يتحول الممشى نفقا. ستستدرجك إضاءته. ستستدرجك إضاءته.»(٢) هي ذي لعبة السرد تستدرج قارئها صوب متاهتها، إن هذا النص توريط للمتلقي في شعرية الكثافة التي تحدثنا عنها، وجر له لدخول متاهة القراءة المستحيلة التي تضيق ظاهريا لتصبح نفقا، وتتسع دلاليا لتصبح رؤيا تحتوي كون القاص الشاعر، التي يتوحد منذ البدء، منذ النص الأول ليتجرد من فخ التصنيف، ويعلن أن هذا النص مخاتل إلى حد أن المعنى فيه قد يتأبى على مطاوعة القارئ الكسول، الذي يريد أن يصل إلى المعنى بأسهل الطرق، هنا في هذا النص البدئي، يعلن الكاتب عن نوع التعاقد الذي يريد إبرامه مع متلقيه، وعن نوع القراءة الواعية التي يجب أن تتخطى رغبة المتعة المجردة، إلى فتح آفاق النص على احتواء أسئلة الذات في علاقتها بالذات الجمعية، وفي علاقاتها المتعددة مع المحيط الذي تنتمي إليه، وفي نظرة صاحبه إلى الوجود بصفة عامة. ولعل توارد خواطر الآخرين في ذات القاص/ الشاعر، وحضور همومهم وانشغلاتهم اليومية من بين المسوغات التي جعلت المحكي يهرب إلى التكثيف كرؤية أسلوبية تختصر المسافات، وتكدس الأسئلة، في عالم أضحى مستعصيا على القبض.
وإذا ما انصرفنا إلى تأمل العناوين الفرعية، وجدنا أن أغلب هذه العناوين تستدرج القارئ إلى التأمل والحدس والافتراض، فهي تتشكل في الغالب من كلمة واحدة، مقولة مكثفة، وإذا ما تجاوزتها إلى أكثر من ذلك، كان الرابط الدلالي بيت المقولات صعبا، لما يفرق بيتها من قرائن المعنى، وما يفصل بينها من حذف وبياض. الشيء الذي يجعل القارئ مطالبا ببذل مجهودات مضاعفة لفك طلاسم العناوين وإيجاد سبل إقحامها في بناء الدلالة العامة وتأسيس جغرافية المعنى والمغزى والرسالة النصية. كل هذه الفخاخ تنصب للقارئ من أجل استدراجه المحكم صوب هاوية التلقي المتمعن، الذي يدخل في حوار بناء مع النصوص.
أول ما يجعل النصوص تختار كثافة اللحظة هو طبيعة موضوعاتها، التي تتوزع بين التشظي، والضياع، وتفكك الشخصية. أغلب القصص تنصرف إلى إعلان قضية الشخصية المأزومة غير الراضية عن الواقع الذي تنتمي إليه، حيث الفراغ والسكر الدائم، والإحباط التام، في زنزانة واقع يشبه جحيما صغيرا للذات، ومقبرة كبرى للناس والأفكار. في ظل هذا التوتر في الذات أصبح الشخصية تبحث عن موقع خرافي وبطولة مستحيلة، فحتى الموت انتحارا أضحى لعبة مسلية لحصد مجد سرابي، مادامت هذه الشخصية لم تفلح في إثبات ذاتها على مستوى الواقع، وفرض وجودها، وتحقيق رغباتها المطمورة وكفاءاته المغتالة. وأمام سطوة «هاجس السقوط»(٣)، ورهبة «الخوف الذي يأتي بمبرر وبدون مبرر»(٤)، لم يتبق أمام الذات الساردة من ملجأ سوى اقتفاء العبارة العريقة «الهروب نص المرجلة»، غير أن ذلك فعل لن يجدي أمام «الخوف الذي ليس له وجه واحد.. أو مكان»(٥)، إن الأمكنة والفضاءات نفسها تقتاد الذات الساردة في النص صوب المتاهة الملغومة في كثير من النصوص. وتبدو الشخصية مغلوبة على أمرها؛ وليس لها فرصة للاختيار، حتى في الأمور الحميمية جدا، مثل المأكل والمشرب والجنس «انتابته نوبة من الكآبة والقرف. وأحس أن معدته تكاد تخرج من فمه. وقادته رؤية المرأة نائمة بمحاذاته نحو سوداوية المشهد، بشكل لم يتوقعه حتى في أسوأ الأحلام»(٦).
تعالج النصوص موضوعاتيا تمزق الذات، وانشطارها بين لحظة ولحظة، وتوزعها شظايا بين أكف الزمن العربي الرديء. تسلط الكتابة ضوءها على دواخل الشخصية؛ فتفتت أعماقها المفعمة بالأسى والحزن والتذمر تارة، وتقفز تارات أخرى إلى ربطها بموضوعات المحيط وسلطة الواقع. هذا الواقع المتردي الممتد في الزمان والمكان العربيين، من المحيط إلى الخليج، ليس هناك ما يعتمر الذات سوى الخوف والتمزق والانهيار. الراوي أحيانا يخاف من نفسه، فيسقط خوفه الرهيب ويقين مواجعه على الطبية «تساقط أوراق شجرة «البيذام» وتحركها كريشة في الفضاء ثم استقرارها أرضا ثم تطايرها من جديد، لتسقط وتتطاير، تثيرني بحيث أكاد ألحظ فيها ذبول الحياة وتحولاتها»(٧). ليرسخ هذا النكوص، المتجذر في الذات، الاعتقاد بموت الحياة نصيا ودلاليا «انقاد سعيد إلى حتف اللحظات»(٨). ولم يتبق لنا إلا أن نعلن مع «سعيد» هذا القول: «البقية فيكم، وأنا الراحل»(٩).
وتتعزز هذه الرؤية الدلالية للواقع والأشياء من خلال نظرة النصوص القصصية إلى الزمانين السردي والخطابي، إذ تعلن الكتابة أن أزمنة الأفعال في شكلها الوجودي والتجريبي لا تؤدي معنى الزمن المعبر عنه في النص، وإنما غايتها تكثيف الواقع وتجميعه بواسطة الربط المنطقي(10). ويستدعي الرواة لتحقيق هذه الكثافة الزمنية تقنيات الخلاصة والتسريع accélération واللقطة بسبب طابعها الاختزالي الماثل في أصل تكوينها والذي يفرض عليها المرور سريعا على الأحداث وعرضها مركزة بكامل الإيجاز والتكثيف(١١)، وقد ساهم بناء التفضية السردية بمرجعيتيها الواقعية والمتخيلة في تعميق هذه الكثافة الدلالية والشكلية، إذ أن الراوي سواء كان شاهدا أو مشاركا، فإنه لا يستغرق وقتا طويلا في تحديده للمكان، وإن كان المكان أو الفضاء يحضر مشحونا بحمولته النفسية العميقة، التي تلمح للوقع الذي يحدثه المكان على نفسية العامل الذات الذي يتراوح فعله بين الحكي والمشاركة في الأحداث أو يجمع بينهما معا. لذلك فالشخصيات، سواء كانت تتجول في الرباط أو القاهرة أو بيروت أو أي مكان حقيقي أو مفترض على وجه الأرض، تصف هذه الفضاءات من خلال إحساسها بالزمن والمكان. فزمن النصوص وأمكنتها، وإن كانت ذات مرجعية في الغالب واقعية، تختلف عن صورة إدراكنا لها بالسند البصري، لأنها تتشكل من خلال اللغة والمتخيل والذاكرة، فهي مشبعة بالذاتية العميقة للرواة والشخوص الذين يتواشجون فيما بينهم بعلاقات متشابكة ومتداخلة.
إن الكثافة الرمزية والجمالية التي تقترحها المجموعة تتلاءم وخصوصية المحكي الذي يغوص في أعماق الذات، ويختزل اللحظة بتفرعاتها وتفصيلاتها المعقدة، ويلم شتات الزمكان العربي الرديء. الهوامش
١ – طالب المعمري، القفار.. سردا، قصص، منشورات كتاب نزوى، مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان، عمان، 2006م.
٢ – نفسه، ص ٩.
٣ – نفسه ص:23.
٤ – نفسه، ص:23.
٥ – نفسه، ص 24.
٦ – نفسه، ص 73.
٧ – نفسه، ص 21.
٨ – نفسه، ص 41.
٩ – نفسه، ص 41.
10 – Roland Barthes; le degré zéro de l écriture. Ed. seuil. 1953.pp.25-26.
١١ – حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 1990م، ص145.
إبراهيــم الحجـــري
ناقد وقاص من المغرب