1 ــ خروج
برد. إنه البرد. ضربة نوفمبر بسوط باكر. الصباح يعكم العقعق بشبكة صغيرة لا مرئية من شاش، ويحزمها صرة منفوشة كئيبة من الحذر والصحو. يضع أعلاها زهرة أوركيد تتبرعم، ويُذيِّلها بخمس ريشات، ويتركها لي فوق سور الحديقة كي أرى. أحيي الصباح فاتح البوابات.
العقعق تنظر إليَّ خارجا إلى المحطة. وشاحي ما تبقى من فلتة الفجر بين الأشجار إلى البحر. كفَّاي في جيبَيْ سترتي. خطوتي عجِلة. وقلبي ينبض أدنى قليلا من الرف الزجاج الذي تضع عليه قواريرها العافية. أتلقى الخارج كله سماء قريرة مندوفة فيما يشبه قطنا شفيفا يعبث به أطفال في شرفة ، وأسير.
خفيف أنا. والطريق التي بدأتها تذهب معي. والعقعق؛ تمثال الصباح المرفوع على السور، خلفي، تتدبر قفزة في الصحو، وصرخةً تمزق الشاش، وتُرجِّع ظلها وصداها المعروفين بين الطير. أعود اليوم إلى هناك. إلى المدينة التي، بين السواري وتحت الأروقة، في صرحها القديم الذي يدخله البحر كي يلمس الجدر والإرهاص، ما زالت تمرح أطياف غزاة برتغاليين، لأتدلى بقامتي على مدماك محزَّز من حجر الكذَّان، وأصرخ في ظلمة البئر التي تركتها قبل خمس عشرة سنة.
بعيدا، ترددت في الحديقة صرخات العقعق. قوارير انتثرت في عبورها الرامح إلى الصحو. الصباح خامل ينفخ في القطن. ولا أحد في هذا الضباب سيعجل بمكنسة كي بجمع النثار الحي الذي يسري صدى في السبل.
2 ــ قبر في قصيدة
قصيدة كتبتها بالفرنسية قبل سبعة وعشرين عاما. فتحت في مطلعها وخاتمتها قبرا. البنت التي قرأتْها من بعدُ في الجريدة ائتلقت في عينيها دمعتان؛ أفقان من الدموع ومن ذهاب الإنسان هادئا وخفيفا وظله معقود بظل القرين. البنت ـ مثلما آمنتُ أني، بجناح واحد، أجدل السراب وأصنع منه سرير «هاماك» يليق بحالتي التي هي نصف طيران، وأترجح به في الظهائرـ جُنَّت بجناحها بعدئذ. اتَّبعتْ نجمها في جهة أخرى بظل واحد، وخطوة ليس فيها ندم، بينما ابتدعت سماء كاملة ومجرة من القازارات، وطريقا كنت أمحوه من خلفي كي لا يتبعني أحد. ترك كل منا في لهاة القرين ضغثا من الريش، كما يحدث في كل القصص المرة التافهة التي يصعد في حوافها صفصافٌ عارٍ وسنديانٌ محروق، ويخجل الرواة أن يغووا بها أحدا من بعد، والتي تنتهي إلى موقد بارد، وسخامٍ على إفريز الموقد، ودبالٍ محروق متلزِّز في نقرة الشمعدان، ولطخاتٍ على الجُدُر تذكّر بكف معزولة، وهُيالٍ يتدلى من السقف. وربما ذُكِرَ خوان عليه جرائد وكتب ومرمدة ملآى بالعذاب والوحشة.
البنت ذاتها، التي صارت امرأة تمشي في النسيان، ما زالت تدفع عربة أطفال. على فمها فراشة حمراء جريئة فوق قناع من تطرية يكاد يشبه أقنعة الغايشا. كذا رأيتها منذ اثني عشر عاما بعدما اقتسمنا الطائر ودفنا ما تبقى من سمائه تحت جناحيه، وكلانا أخذ عينا واحدة ونصف منقار، ولم نوزعه على الجبال، ولم ندْعُه كي يجيء مجتمعا إلينا فنعرف أننا في المعجزة. وكنا نسوي التراب بأقدام تسرف في النكران والقسوة، وتخلط السبل كلها هناك في القبر الخفي كي لا ينهض الطائر من بعد. تحت الصيف، تدلت المَوْزات وجنبات الإبيكيا بأوراق من معدن، في الميدان الضيق، حيث تتهتك الفسيفساء في حوض يشبه جفنة مهملة أرسل فيها الماعز حوافره منذ دهر في حقل مشاع. النافورة كانت يومئذ تهذي بالماء، ولا تزين الميدان، ولا تحاكي انهمار الموزات في معدنها . رأيت المرأة هناك، في ظل الموزات المزدحمة، قبل أن تدفع العربة. كان لها جناحان، فكرت أنها تخاف أن تبقى وحدها مع مرآتها، وأنها تتعلق بفراشتها كي تختبئ. ولم تتكور في لهاتي ندف الريش. ولم تُثِر قدمي، إذ مضيتُ، غبرة في الحنين. أدركت حينئذ أني نسيت الطائر الدفين في مشتبك السبل.
أردت التفكير في القبر الذي في أول القصيدة وآخرها. فكرت في المرأة التي ما زالت تدفع العربة في الميدان، مُهْطِعةً وظلها يسقط على العربة. وفي فمها فراشة كبيرة.
الموت إذا مد جناحيه صوبنا ودفَّ، أتانا في حفيف جناحيه دائما ريحُ حديقة صغيرة مهملة مهجورة عن عمْد، كنا نتوهم أنها الفردوس، ولا نريد أن نرى ما خلف سياجها.
3 ــ التميمة
كفها على جبهته. أنملة سبابتها ، خَدِرة، تتقرّى الأخاديد الثلاثة. الزمن يعلم الجميع قراءة « براي» على المرايا والوجوه والأثاث القديم الذي يُحفظ في العليات والغرف، وعلى جذوع الأشجار المحفورة والجُدُر. يكفي أن يصيروا عميانا.
تردُّ كفَّها مضمومة إلى صدرها وتتنهد.
هو؛ الرجل المستلقي على الأريكة، الذي تلقّى بالجبهة ذاتها، قبل سنتين، رفسة الصاعقة، يحبس اللمسة عميقا ويدّخرها تحت الجلد، ويهدأ. تميمتُه التي يجتاز بها صحراءه المزمنة تَكْبر وتتدلَّى في لبَّته.
4 ــ تاج
أنا قاتل الطيور في غابة السنديان المنكسفة. رأيت المرأة الفرنسية المتشردة تطعم الدوري والحمام في الحديقة التي تحد ميدان « البيضةuf – œL’ « في مونبوليي. كنا على طرفي المقعد. وكان ذكر دُوريّ يتردد قافزا على ساعدها بين المرفق والرسغ، وهي قابضة على فتات خبز أو بُرٍّ. الطائر، حذرا من الكف المقبوضة ومسعورا، يدلي رأسا تزدحم فيه الألغاز والعالم، وينقر الأصابع التي تحفظ الرزق في القبضة. أحيانا كان يُعمل منقاره اللجوج بين فروج الأصابع المنطبقة ويتولى، وكنت أضحك. يرف كندفة كبيرة من صوف أغبر، ويقع على قبعة المرأة المجدولة من ألياف البوص. تبسط كفها كي ينزل، ثم تقبضها. «مفتاح عاج للطائر. امرأة حالمة. إغواء غريمين. مباهاة الكائن بالضوء الذي اختزنه. الأرض أضيق من الأطياف، والظهيرة لي. الظهيرة مائدتي، والروح ضيفي». ـ فكرت.
_ «Ooh! L’voyou! Oooh! L’malin! T’va c’q’ fait? Reyarde – le. Reyarde ! »
تأكل لغتها. لسانها كان فأرة النجار تقشر بها سطح العبارات فتتطاير من فمها نُشَارة لغوية. أنصت وأبتسم. آخذ المرأة ملفوفة في لغتها المنتهكة. اِستَدْنَتْني بقولها فتدانيت. وكانت تغويني بالطائر الذي هو طائرها، وبالمرح في صوتها، وبالبحة الطفيفة التائهة التي هي أثر من الكحول والتبغ والسير ـ في كمال الوحدة، وحدها ـ في الجهات المنكشفة. دنوت أكثر وحاذيتها حتى شممت رائحة الوحشة في لباسها مضفورة في حبل من رائحة مع بقايا ثمل بنبيذ أحمر. نقرتان متسارعتان. ثالثة ذكية غائرة. والطائر ينبض فوق الرسغ محتفزا ونار في جسمه المقذوف من نار. وكنت أنظر إلى عينيه، وإلى عيني المرأة وفمها الأهتم.
ثم تَنَزَّل الحمام. عند أقدامنا هدر أفق خفيضٌ خُلَّبٌ من الجوع والمباهاة والريش. ذكور الحمام لم تكن تكترث للمكيدة في كف المرأة. كانت زوابعَ صغيرةَ تتهيأ في الريش. صرت في زاوية من مثلث الإغواء الذي كان ألَقاً مُعْديا يتردد جارفا بين عيني المرأة وعيني الدوري، وأصاب عينيّ.
ركْحٌ مرِحٌ عليه ثلاثة أطياف في ظهيرة. والظهيرة لي. كنت أبعدَ من رحابة الميدان.
حينما خلس الطائر الغنيمة من نقرة الكف المقعرة التي انفتحت له، فز إلى أعلى عسلوج من الشجرة فوقنا. أكانت مُرّانة أم أُلْمَة أم روبانية؟ فلذْتُ من جُبنة «كامَمْبير» كانت معي فلذة وأعطيت المرأة إياها. شكرت ممتنة ببحتها التائهة ووضعتها بيني وبينها حيث بقي لسان من الفراغ. بعض الطيور تحمست وحطت على قبعتها المطوية الحافة، الوَدِكَة، وصار لها تاج من الطيور والريش. دُهِشْتُ من الملكة التي لا يراها أحد على الركح، هنا. مملكتها شساعة قلبها وفقر يديها، وسيرها مع ظلها في الجهات الأخرى؛ حيث يكبر الظل، ويقدر السائر أن يكلم نفسه جهرا إن شاء، ولا يخاف أن يتكلم.
انحنت. أولجَتْ يدا في جراب بين قدميها، وحفَنَت منه بُرّا قسمته بين الكفين. ومن فوقنا رأيت سحابة الطيور تهب على المرأة. الحمام والدوري ماجا فوق شخصها إذ بسطت كفيها كلتيهما فوق ركبتيها وأغمضت عينيها كأنما تُشيِّع بهما وتبارك شراعا يمر بعيدا في مدى، ثم ازدحمت الطيور تتنازع هِبة يديها. وكنت أغبطها على الفعل، وعلى ذهابها بعينيها إلى عزلة يولد فيها الضوء، وأضحك من سحابتها ؛ صنيعِها الذي تدبره وحدها بقلب صاف، وفم أهتم، وكف مقبوضة على الطُّعْم.
أنا قاتل الطيور في الغابة المنكسفة، سحابة المرأة صارت سحابتي منذئذ. تمنيت لوأن لي الحجر الخفي الذي تملكه، وتقدر بمغناطيسه أن تجذب الطيور. فكرت حينما استأذنت وانصرفت: «كم أنا فقير، يا الله ! أي طريق أسلكه فأصير الطريق؟».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة : «أرى، كل ما هناك يراني».
عبارة فرنسية مصحفة ومشوهة تعني: أوه ! يا للداعر ! أوه ! يا للئيم ! أترى ما يفعله؟ انظر إليه. انظر !