شعر عماني فـي
مرآة قارئ هندي
العلاقات العُمانية – الهندية عريقة فـي التراث الأدبي كما فـي التجارة
قبل الولوج في الموضوع أود أن اشير إلىعلاقات تاريخية ضاربة الجذور بين سلطنة عمان والهند وخاصة علاقة عمان بولاية كيرالا التي تقع في أقصى جنوب الهند. وسلطنة عمان هي الدولة الوحيدة من الدول العربية التي يعيش فيها مواطنون هندوسيون منذ زمن بعيد، ويوجد فيها معبد لهم يمارسون فيه طقوسهم الدينية. يكتب المؤرخ الهندي الكبير العلاّمة المرحوم سليمان الندوي في كتابه «العلاقات بين الهند والعرب» وهو ينقل ملاحا يقول: «في عام 317م سافرت من « كلا» بالهند إلى عمان في سفينة تحمل كمّا من سلع تجارية، ولما وصلنا عمان فرضت علينا السُلطات العمانية ضريبة جمركية وقدرها 600 الف دينار». و«كلا» قد يكون «كلاي»
(Kallayi) أو «كولام ، (Kollam) المنطقتان الواقعتان بولايةكيرالا. وملوك الهند وخاصة الذين حكموا «كورا ماندهال» (Koramandhal) بمنطقة «شيناي، (Chenney) و«كاليكوت» (Calicut) بمنطقة كيرالا قد استفادوا هم أيضا من هؤلاء التجار العرب كما أشار إليه الرحالة ابن بطوطة.
ونجد الأميرة سالمة بنت سعيد تذكر في مذكراتها عن الهندوسيين و»البانيان» الذين كانوا موجودين في سلطنة عمان التي كانت تمتد حدودها في تلك الحقبة إلىأرض القرنفل زنجبار. ومن قرأ كتب الرحال المغربي ابن بطوطة يجد نماذج كثيرة تدل على تلك العلاقات الوطيدة، وقد قضى ابن بطوطة في كيرالا فترة طويلة يتجول في شتى أرجائها ، يذكر في مشاهداته أنه وجد قاضيا عمانيا في «فرندن». و«فرندن» هذا هو نفس القرية التي لاتزال معروفة حتى الآن باسم «بندالايني» الواقعة قرب محافظة « كاليكوت». وينقل المؤرخ الهندي العلامة سليمان الندوي تفاصيل ما ورد في كتاب تاريخ يمني «الفتح العثماني» مما يتعلق بالملاح العماني ابن ماجد المعروف باسم «أسد البحر» الذي دل أسطول البرتغاليين بقيادة «فاسكودي غاما» في سفرهم إلى شاطئ كاليكوتبالمليبار ولو أن المؤرخ الدكتور الشيخ سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة قد أنكر في كتابه « بيان للمؤرخين الأماجد في براءة ابن ماجد « ما يشاع عن علاقة ابن ماجد بـ «فاسكودي جاما» في هذه الحكاية. وهناك مسجد يعرف باسم «مسجد مثقال» لا يزال موجودا بكاليكوت في معماره القديم. وهذا المسجد قام بتشييده النوخذة مثقال الذي يُعتقد أنه كان تاجرا من أثرياء عمان. وبين العامين 1832 و1921 كانت هناك انتفاضات شعبية ضد الاستعمار البريطاني في منطقة المليباربكيرالا، وأغلبها كانت تحت قيادة سيد فضل من سلالة الحضرميين. وسيد فضل من الجيل الثالث ممن هاجروا من اليمن إلىكيرالا، وبسبب تمرده قامت السُلطات البريطانية في الهند بجلائه فسافر أولا إلى اليمن ثم إلى مكة المكرمة. وبعدئذ أصبح موظفا بالمحكمة العثمانية في إسطنبول ثم عُين واليا في ظفار بعمان في عام 1875م واستمر في هذا المنصب حتى عام 1879م . (Empire Through Diasporas» Eyes: A View From Other Boat by Engseng How)
انعكاسات الثقافة الهندية في الأدب العماني
بينما كان العمانيون يستوردون العديد من المنتجات مثل الفلفل والأحجار الكريمة من الهند كانت الهند تستورد من عمان اللبان والصمغ والجلود والتوابل. وفي العصور المتأخرة كان الهنود يستوردون من ظفار الخيول أيضا. وفي العصور الأولى كانت الحياة الاقتصادية أكثر تأثرا بهذه العلاقات التجارية بين البلدين، والحياة الثقافية أيضا قد ظهرت فيها انعكاستها حين تطورت وازدهرت هذه العلاقات الثنائية النشطة والهجرات المتبادلة في الحقبات المتتالية. فالثقافة ليست لها حدود جغرافية، تتسع آفاقها حسب تطور الوسائل الإعلامية، ومن الطبيعي أن تأخذ الفنون الجميلة والأدب من الشعر والقصة والرواية والموسيقى حصتها من هذا التأثر الثقافي تفاعلا وتلاقحا. فعلى سبيل المثال نرى الروائية العمانية أزهار أحمد حين تكتب روايتها « العصفور الأول» تطلقه إلى الهند. بطل الرواية مقرن النوري بحثا عن ذاته وتسليا من اغترابه النفسي يسافر إلى الهند ويخوض في رحلة طويلة بين مدنها وقُراها بما فيها دلهي عاصمة الهند وآغرة وأماكن مقدسة هندوسية مثل كاشي وفاراناسي، وأثناء ذلك يقع في غرام مع فتاة جميلة هي مرشدته السياحية «انيتا». تكتب أزهار روايتها بلغة موسيقية ساحرة. وكذالك توجد في لغة كيرالا المحلية رواية مثيلة لها كتبها كاتب ذو ميول يساري اسمه محمد علي بعنوان « فندرينا» كتب لها مقدمة «كولادي جوفيندان»أحد قياديي الحزب الشيوعي في كيرالا. تدورأحداث هذه الرواية حول تاجر قادم من عمان في زمان قديم فتزوج فتاة من أسرة تنتمي إلى طبقة المنبوذين فأصبحت هذه العلاقة الزوجية فيما بعد طوق نجاة لكثير من الطبقة المهمشة التي تعاني من تمييز عنصري خبيث كان سائدا في كيرالا ذلك الزمان. ولا تستثنى من هذه الانعكاسات إبداعات أخرى. وفي أحد نصوص الشاعر العماني الكبير المعاصر سيف الرحبي نرى بصمات هذا الانعكاس في شكل «بوذا». يطل «بوذا» رأسه في مكانين في نصه «من يوميات الأفق المفتوح» ، نقرأه هكذا:
« الطائر يحط فوق رأس «بوذا» ، البوذا الذي يقول ( إن الإنسان الحقيقي هو الخبير باللا أذى)، يأخذ الطائر زادا من روحه المعذّب بأهوال العالم، ليواصل التحليق والطيران في الأراضي الشاسعة والقارات»
وفي مقطع آخر نرى «بوذا» بصحبة الشاعر الفيلسوف أبي العلا المعري:
« اتذكرك يا شيخ المعرة من الصقع الذي لا يعرف عنه ربما إلا القليل، رغم ما يتجلى في أسفارك من أرومة روحية وفكرية مع ( البوذا) ذلك ما دُعي بحوار الفلاسفة وتواصلهم، على كتف المسافات والأزمان»
يبدو أن بوذا رمز محبوب لهذا الشاعر حيث نلتقي به متكررا في نصوص أخرى للشاعر. وفي «حرب الأجنة وشذرات أخرى» يذكر الشاعر بوذا مرتين :
« ما زلتَ تُطل برأسك أيها البوذا من غار الجبل الغابي
«أو معبد صغير على قارعة طريق حيث الثكالى والمحرومون يسدون الآفاق مثل دخان تُمزِّقه ريح، حيث الحروب تَبقُر أحشاء الخليقة، حروب الاعداء ، وحروب الأخوّة والأعداء، حروب الأجنة في رحم الأمهات، حروب الأوبئة والفيضانات، حروب القديسين والعاهرات، حروب الكواكب السيارة والأسلحة الجرثومية لا تُبقي ولا تذر. حروب البعض على البعض والكل على الكل، حروب النخيل ضد قصف العواصف، والأطفال الذين تنهشهم هواجس الانتقام، ذاهبين إلى الأضرحة والحلبات، حروب الأدباء الطائفين بعد التبشير بالحداثة والقانون.
«ما زلتَ تُطل برأسك أيها البوذا، دموعك المتحجرة في كهوف الغابات، تأملاتك، تعاليمك التي ذهبت أدراج الرياح الآسيوية والطاعون.
«بالفعل ما الذي يجعلك لا تغادر، لم تذهب، لم ترحل حتى اللحظة؟ … في ثقوب بيتك .. في خلاء الوحشة الدموية عُشش عنكبوت سام وقتلة مأجورون يفتكون بالصغار والكبار…..وعلى مقربة تُلقى التحية كل صباح على مستوطنات البومة البكماء وسط الخرائب والقاعات..»
وبعد سطور يرد ذكر بوذا مرة ثانية هكذا:
«في سماء آسيا يحلب البوذا بقراته السمان طعاما للفقراء، يقفز النمر من تلة نجمية إلى أخرى
هربا من سطوة الصياد»
النص الطويل كاملا يكشف عن وحشية الحرب العشواء بشتى وجوهها بالأذى والدمار الشامل الذي يلحق بالعالم كله، ويُلاحظ التضاد الذي يصور الكاتب بين تلك السطور- نار الحرب التي تأكل الأخضر واليابس وتركع أمامها المبادئ السلمية البوذية….طائفية الأدباء وحروبهم بالرغم من تطور العصر الحديث ومزاعم السيادة القانونية…. صياد وفريسة… نمر يقفز هربا من سطوة الصياد. وهذا العمل الإبداعي يذكرني كثيرا «الغاندي وغودسيه» القصيدة الطويلة التي كتبها كريشنافاريارأحد شعراء كيرالا. يبدأ الشاعر قصيدته :
«الغاندي واقف في الطابور
ينتظر دوره لشراء التموين بالصبر
وفجأةً تتجاوزه سيارة فاخرة
وفيهاغودسيه يضحك منه ساخرا»
مثل الرحبي يحاول هذا الشاعر أيضا تصوير التضاد الفاحش حيث تسيطر مبادئ غودسيه الذي اغتال الغاندي والقيم الغاندية على سائر مجالات المجتمع الهندي المعاصر. الفرق ينحصر في أن الرحبي يستلهم رمزه من الماضي البعيد بينما يستلهمه شاعر كيرالا من الماضي القريب.
التماهي الثقافي
هناك رموز أخرى ملحوظة في سطور الرحبي تدل على تماهي الثقافتين الروحانيتين الهندية والعربية في جذورهما. نجد البوذا هنا وهو يطل برأسه من غار كأنه يمثل نفس رسالة السلام التي خرجت من غار حراء. طبيعي أن يتبادرغار حراء على مخيلة شاعر عربي وهو يكتب عن البوذا في حين يُذكر البوذا في الأدبيات الهندية بصحبة شجرة تسمى الشجرة البوذية التي كان ينشغل تحتها في تأملاته الالهية فأوحى اليه. «البوذا» معناه في اللغة الهندية « الموحى إليه». كان ابنَ ملك،حاكم « كابيلافاستو» (Kapilavasthu) في ولاية « بيهار». ترك عرشه وخرج إلى عامة الناس واختار حياة زهد بسيطة، وكان اسمه السابق « سيدهارتها» (Sidhartha) ، اشتهر باسم « البوذا « بعد أن أوحي إليه. ويلاحظ هنا التشابه بين لفظ «كابيلافاستو» واللفظ الوارد في القرآن « ذو الكفل». هل قد يكون البوذا هو ذو الكفل نفسه أحد الأنبياء المذكورين في القرآن.؟
وما أعجبني أكثر من البوذا هو شجرة النارجيل التي وصفها الشاعر في نصه المذكور أعلاه :
« شجرة النارجيل جوز الهند الصينية، منحت هذه البلاد البركانية البركة، ومنحتها المنافع المتعددة الأغراض والاستعمالات….
«حملتِ في جسدك الرشيق الذي يتمايل في الريح والمطر، كأجمل ما يكون عليه هيف قوام واستدارة نهد، فكان الجمال الأرضي متصلا بأقوى آصرة برحابة المطلق بلطائفه وأسراره. أعطيتِ الشعوب التي تناسلت تحت ظلال غاباتك الخصبة، التأمل والتسامح والأثرة التي عُرف بها مفكرون وقادة روحانينون على هذا الأرض.
«وهبتِ المنافع المادية والروحية يا جوزة الهند الصينية، تشبهين النخيل في تلك البلاد، كونكما تنحدران من عائلة واحدة، شجرة واحدة جادت بها الطبيعة الأم عبر الأزمان والأمكنة المختلفة….تشبهين النخيل بهباته وعطاياه وكرمه الباذخ قبل زحف الحداثة الهمجية التي وُلدت عمياء ومدقعة، تشبهين ذلك السؤدد التليد وروحه التي أوشكت على الغياب والانقراض.» (حرب الأجنة في الأرحام وشذرات أخرى )
ولو أن شجرة النارجيل توجد في البلاد البركانية الهند _ الصينية (Indo- China) كما يقول الشاعر إلا أن أصلها ولايةكيرالا في الهند، واسم «كيرالا» مشتق» من كلمة «كيرا» معناه جوز الهند وكيرالا معناه «بلاد كيرا» أي بلاد جوز الهند. و«النارجيل» كلمة وافدة إلى اللغة العربية من اللغة المليالمية وأصلها « نالي كيرا «، ولا يوجد بيت في كيرالا بدون شجرة واحدة من النارجيل على الأقل، وهي شجرة متعددة المنافع والاستعمالات كما يقول الشاعر، «إن شجرة النارجيل لا تخدعك أبدا» هكذا يقول مثل شائع في كيرالا، وهذا المثل يصدق تماما قول الشاعر « ومنحتِها المنافع المتعددة الأغراض والاستعمالات….» لأن جميع أجزائها من الثمرة والسعف والجدع كانت تستعمل لعديد من الأغراض مثل إعداد الإدام وصناعة الزيت الغذائي وتغطية سقف البيوت وصناعة أبوابها مثلا، وكانت العمودَ الفقري لاقتصاد كيرالا حتى وقت قريب. أما الآن فقد هبط سعره إلى الدرك الأسفل بحيث أصبحت قيمة حبة واحدة منه أقل من قيمة ليمون. والسبب يعود إلى ظاهرة العولمة التي أنجبتها القوات الاقتصادية والشركات المتعددة الجنسية التي تهيمن على اقتصاد العالم وتحاول تهميش الاقتصاد المحلي ومحْوه من خارطة الاقتصاد. وهي كارثة أخرى لا يتسع هنا المجال لحكايتها.
ثقافة التعددية
يُشبِه الشاعر شجرة النارجيل بشجرة النخيل «تنحدران من عائلة واحدة، شجرة واحدة جادت بها الطبيعة الأم عبر الأزمان والأمكنة المختلفة»، وفي عبارة أخرى الهنود والعرب بل العالم كله أهل تراث مشترك. وقدماء الهند قد عبروا عنها هكذا: «العالم كله أسرة واحدة (Vsudhaiva Kudumbakam). ثقافة التعددية واضحة في شعر سيف الرحبي بكل جمالها وأريجها، وقد اغترف غرفة من مناهل كل ثقافة عالمية. وهو مطلع على المدارس الفكرية القديمة والجديدة، يلتقي في شعره فلاسفة ومفكرون من جميع القارات المختلفة، حين نرى البوذا من الشرق في «حرب الأجنة وشذرات أخرى» نرى في «سنة أخرى من تلك الأعوام المتقادمة» حين يصور بؤس العالم فلاسفة ومفكرون من الغرب، مثلا «سقراط في «مولات» الإغريق و«هيجل فيلسوف التاريخ ينظر من شرفته إلى نابليون بونابرت» و« محادثة بين سارتر و ارمون آرون» وانتونيين آرتو ونيتشيه. ولكن لا يحاول فلسفة شعره، و بالرغم من معرفته الواسعة بشتى المذاهب الفكرية يمتلك موهبة فنية عالية ووجدانا زاخرا، فلذلك نجد إبداعاته لا يغلب عليها طابع مفكر، وهو شاعر قبل أن يكون مفكرا. مع ذلك نجد روائع شعره مزيجا من أفكار سامية بانسجام تام فنيا وجماليا. يقول الرحبي « لا أميل إلى جر المعارف المنجزة كالفلسفة وبقية الحقول المعرفية الأخرى إلى ساحة الشعر، إنما أميل إلىأن على الشاعر أن يخلق أدواته وتصوراته الخاصة بنفسه وعبر نزوعه الخاصة وحريته اللامحدودة بالتقاط أشياء العلم»
والقصيدة الجديدة عنده كما وضح هو نفسه انحراف المركز عن وهم الاكتمال. إنها مفتوحة على الاحتمالات كلها بما فيها من النقصان. إن خبراته الوجدانية كما يرى الشاعر اللبناني محمد العبد الله توجز دائما في زمنين الماضي والحاضر أو الغربة والحنين. وشعره « هذيان الجبال والسحرة « خير دليل على هذه المقولة. يتخيم على هذا الشعر عموما فضاء سحري جذاب، يظهر فيه الربع الخالي ، أكبر الصحارى الخليجية ، بجماله المرهب. الشاعر هو ابن الربع الخالي، يملأ « ربعه الخالي» بالشعر. « تدركه الظهيرة في الربع الخالي» هناك بدلا من سيارة كاديلاك إنما «يقود بعيره إلى شجرة الغاف». يقف الشاعر حزينا أمام شجرة الغاف شاهدة الحياة البدوية البسيطة التي «هجرها البدو منذ أزمنة» والتي « أبيدت بقوة الحضارة». يسمع «نفير الأقوام قادما من فجاجه البعيدة»، يسمع «نحيب الصفرد تحت الصخرة الكبيرة التي كانت ظلالها تغطي البلدة بكاملها»، «جِمال فقدت صحراءها غارقة في الوحل»، وسؤال مطروح إلى المسافر الأسود في النوم «أي الطريق تؤدي إلى اليمن» مهد الحضارة العربية ومصدر اللغة العربية، صراخ في المنام «مات دليلي وتقاطعت بي الطرق، الصحراء ماضية في غيها». وهذه المقاطع كلها تبدو كأنها ترمز إلىشدة الأزمة الثقافية التي تعاني منها حياة المجتمع العربي المعاصر. «حين تخلع الريح أبواب العالم وترتجف القبائل من الذعر» «من السيل الجارف» يقع الشاعر في مأزق لا يستطيع النزول من جبله. ونقرأ في ختام الشعر « لن أنزل من جبلي، فلا عاصم إلا الله» فيصل إلينا طوفان من عهد نوح. هذان السطران الأخيران يبدوان كالتناص القرآني من حوار جرى بين نوح وابنه المتغطرس. يصور مأساة حبيبته الصحراء في الوقت الحاضر في نص آخر هكذا:
« أيتها الصحراء .. الصحراء
ماذا تبقى من قلبك الذبيح؟
من مدافن قتلاك ونفطك؟
وتعاويذ أقوام هلكوا.
ماذا أرى ،أيضا في جروفك
ومخلوقاتك، بمساقيها وعطورها
وأيامها الخاوية؟
أيتها الصحراء
غادرك الركب تحت شمس ترضع أطفالها
بأضواء سامية
غادرك الحق والباطل
وغادرتك الملحمة
غادرك الحرب والسلام
غادرك الخريف والأكثر رأفة
من ربيع المدن
غادرتك النجوم الأولى والأيائل
وضفاف الأودية
غادرك الزمان،
وما يظنونه كنزا سوى آلة حتفك الرهيبة
غادرتك رغبة المسافر في تفتحاتها الأولى
غادرتك أحشاؤك
يجرجرها التجار في أسواق البورصة
غادرتك شفافية الغياب
وذكريات المحارب،
بماذا أصفك:
أرملة العصور
أم مستودع نفايات العالم ؟ «من أزمنة القوافل إلى القطارات والطائرات».
ويلاحظأن الصحراء «ثيمة» أساسية فيما يكتب هذا الشاعر كما وضح هو نفسه. يقول: « ليس فقط لأنها تقع جغرافيا في محيط مكاني الولادي في عمان والجزيرة العربية، وإنما كهاجس وجودي يختزل وحشة العالم وضياعه وترحله في المجهول المظلم النائي، وهي لا تشبه تلك الصحارى الأيقونية، أمثولة الشعر والخلود والرسالات السماوية الطاهرة، إنها صحراء ملوثة ومأهولة بجشع التجار ونفايات العولمة».
أصداء من وادي عبقر
حين نصغي إلى « هذيان الجبال والسحرة» للرحبي نحس كأننا نسير في «وادي عبقر»، المذكور في أساطير العرب. كان العرب قبل الإسلام كما يقال يؤمنون بكائنات مستورة لا تُرى، جنس يتنقل بغمزة العين من مكان إلى مكان وبعضها يقيم في «وادي عبقر». مكان لا تحديد لمكانه أي «لامكان»، واعتقدَ العرب أن جن هذا الوادي هي التي تملي الشعر على أي شاعر. فسُمي الشاعر عبقريا بصلته الخفية والغامضة بوادي عبقر وبكائنات مستورة. ويبدو كأن الشاعر يحذف أصوات الإنس من عالمه. وكأن حبه كله منصب على الجبال والأشياء ليس الناس. كأنه يستأنس البراري وأحاديث الحجارة والسنابل والطيور كما يقول الروائي الفلسطيني حسين البرغوثي في روايته « الضوء الأزرق». و»هذيان الجبال والسحرة» يأخذ بنا إلى هذا الوادي فتتضح لنا جليا عبقرية الشعر. إن حداثة الشاعر سيف الرحبي كما يشير إليه الشاعر اللبناني الراحل يوسف الخال ليست حداثة افتعال، ولو كانت كذالك فلا تستحق دمعة حبر، إنها انفجار الوعي والحساسية الجديدة في تعبيرهما عن شقاء الإنسان وفي غربته وفي منفاه».
نستطيع أن نسمع أصداء من وادي عبقر في أشعار شعراء عمانيين آخرين وفي مقدمتهم زاهر الغافري والدكتور هلال الحجري وعبد الله الريامي وأمثالهم.
وفي شعر الغافري بعنوان «مرثية الشمال البعيد» نقرأ «دم الماضي الذي يفيض من صدر» الشاعر، يسير نائما «أسيرا بين نهرين معذبين» «يمشي بمرآته المحطمة في ضوء أحلامه المراوغة وفي كفه رماد الندم وعلى ظهره كيس من الأسرار يلمع كالذهب» ولكن لا يعرف كلمة المرور لأحلامه فيتعلمها من كاهن ويتْبع سيره إلى «حيث يستيقظ الفجر على طفولة الصحراء بحثا عن خاتم غريب في يد غريبة» «يظهر الزهاد المنفيون في جبال بعيدة، يُذكرونه بالمرأة التي حلُمت بفردوس حياتها في أرض الأموات، تظهر مثل حيوان جائع يأكل عشب ماضيه» ويسمع في بلد بعيد مرثية عن نفسه كأنما «القدر يعود إلى الوراء». وهذه الصور ومثيلاتها البارزة في الشعر يحس منها القارئ بشدة الغربة والحرمان من الذات يعانى منهما الشاعر في منفاه الداخلي. وحالته حالة الإله جانوس ذي الوجهين في الأسطورة الإغريقية- وجه يتجه إلى الأمام ووجه آخر يتجه إلى الوراء.
يبدوا كأن الشاعر هو نفسه ينعكس في قصيدته بعنوان الغريب. «من مدينة إلى أخرى/عبر بقاع العالم» يخوض « في أنهار خالية / من الصداقات/ يستعين «بالخوف والتعاويذ بسحر الأيام الخوالي / ويعرف « بأن «السهم لن يكف عن الانطلاق في أية لحظة». ويقوم بجولات تمتد مدة طويلة ليكتشف عن ذاته فيبكي : «يا رب أكلما نظرت إلى نافذة
لا أرى غير يد بيضاء في النهر
لا الأب ولا الأم ولا سريرا يقول لي :
نم تحت شمس العافية
الخسارة أكيدة في ما ملكتُ
وما ملكتُ منزلا ولا بصيرة الآلهة
على الأرجح أنني كائن مفقود
تحت نجمة
خلف ضوء ستارة ما».
«الجالسون لا يأبه « هذا الغريب الذي لا يزال يشرب نبيذ شقائه، وفي الأخير يعرف أن مصيره الحتمي أن يموت وحيدا، يسمع صوتا «كنسمة تحط على اليد» يقول له :
«لا الحياة ولا مرضعة الأسلاف
اذهب إلى هناك، إلى تلك الغابة
دليلك شُعلة
في عين النمر
اذهب ومت وحيدا خلف
قبة مطمورة في الضباب».
ومن عرف طفولة الغافري وأيامه الخوالي في المنفى عرف كنه شعره. كان يتيما قضى صباه في أحد دور الأيتام في بغداد، كان الشعر له طوق نجاة من هموم يُتمه، ومن أعماق بحر الهموم الزاخر باللآلئ يجمع دُرات يتيمة من الشعر. وفي بغداد أتيحت له الفرصة أن يتعايش مع تيارات الشعر الجديد وعمالقة الشعراء الذين قاموا بتجارب في الشعر مثل السياب ونازك الملائكة، وتتفاعل مخيلته الشعرية مع هذا الجو المفعم بالإبداعات الفذة، وفي الوقت ذاته كان وطنه الأم وقريته تتجاوز مرحلة تطورات هائلة، أما هو فمغتربا يحرم من كل هذه المستجدات، وبالإضافة إلى بغداد عاش فترات في القاهرة واستولكهوم ونيويورك وباريس مصدقا قول الشاعر القديم «وطولُ مقام المرء في الحي مخلقٌ / لديباجتيه ، فاغترب تتجدد». هكذا تجدد شعره مع تجدد شخصيته، وكانت حلقة صداقته واسعة تشمل مفكرين مثل إدوار سعيد كما تشمل مثقفين مثل هومي جيه بهابها، العالم الذري الهندي، وغايتريسبيفاك الناشطة والباحثة في دراسات التابع، وإقبال أحمد الكاتب الهندي المرموق. وبعد عودته إلى الوطن تستمر غربته كمصير كل شاعر يقدر أن يعيش في منفاه الداخلي حتى وإن كان في وطنه الأم، منفى اللغة أو منفى في اللغة كما يقول أدونيس. تنهمر في بوتقة شعره التجارب في حياته المغتربة الأولى ويملأ فيه الحنين إلى الماضي. يقول الغافري في لقاء أدبي أجراه معه صديقي الهندي شاه جهان وتم نشره ملحقابنسخة اللغة الملايالامية لـ « مختارات من الشعر العماني الحديث» للدكتور هلال الحجري. يقول فيه : حتى الآن عندما أصل ريفي الصغير يصيبني هم وحنين، ولكن الهم هو المصدر للكتابة، ومن كثافة التجربة الناتجة من العودة إلى أحشاء الرحم تولد الإبداعات».
وفي أشعار الدكتور هلال الحجري أيضا تعشعش هذه الهموم والحنين والشعور بالعُزلة كقدر مشترك من «ثيمة» في صورة مختلفة. قريته «الواصل» تصوده كظل لا تفارقه، هي تتمثل أمامه «كحصان طروادي جامح دون لجام». يسأل:
« كيف لي أن أمسك حتى بذيله
وأنا الأعزل الذي إحدى رجليه في الوحل
والأخرى تنوء بكبرياء المعرفة».
يحب أن يهرب من العزلة إلى العزلة، يأوى من غابة المدينة إلى الصمت المقدس في الصحراء:
« وداعا….. سأغرق في الصحراء
سأتشبث بهذا الصمت المقدس».
حين يحاول أن يعبر عن معاناة الغربة وسط الزحمة وعن عبثية وضياع الحياة المعاصرة نجده يستمد من أساطير عمان ، أساطير مرتبطة بالنبي سليمان الذي يُعتقد أن جيوشه من الجن هم الذين حفروا الأفلاج الموجودة في بطون جبال عمان. يقول:
«مساء الزمان الذي قُدّ من صرح بلقيس (تحسبه لجة)
مساء الخرافات التي لا شيء غير الخرافات
نبتدئ الحب منها ونختتم القُبلة الآخرة..
مساء الزمان الذي قد مضى
مساء الزمان الذي لن يجيئ
مساء بحجم الخيانات في « ألف ليلة»
حزنه حزن لا جذور له كما يوضح هو نفسه في «هذا الليل لي». من أعماق الغربة» يفزع إلى الله كالبدوي إلى سيفه وينحني إلى كثبان ربه الدموية باحثا عن طفولته السحيقة». «يعتصم بالحزن داخل مخيلة الشعر».
أَقرأ «هذا الليل لي» فأتذكر مقطعين من قصيدة أحد شعراء كيرالا «أكيتام»: «النور يا ولدي حزن/ والظلمة فيها السكون والأمان». وللحجري قصائد قصيرة في شكل الـ«الهيكو» الياباني مثل «الصداع»، و«بذخ أنثوي» و«تفاؤل» و«قصة قصيرة» تتردد فيها مفردات من العُزلة – العزلة المكتهلة والعزلة النيئة – ونكران الذات والضياع والحرمان وعذابات الدنيا. يرى مخلفة أيامه «جثة تنبهها العزلة وجلد الذات» «يأس». وبحكم تخرجه من جامعة وريك (Warwick) وعمله الحالي أستاذا في الأدب المقارن بجامعة السلطان قابوس من الطبيعي أن يكون واسع الاطلاع على الأدب العالمي شرقا وغربا. فليس من الغريب أن نجد شكسبير ولوركا وعمر الخيام يطلوا رؤوسهم من خلال سطور أشعاره. يقول إن «صلعة شكسبير / لم تعد كافية / ليشرب فيها أنخاب عمره» «بذخ انثوي» حين نقرأ «لم تكن نساءً/ ولم أقل غزلا/ لقد/ كنت/ أغطس/ في رباعيات الخيام» «صداع» نشعر بيد نسيم فكاهي تربت أعماق وجداننا. والشاعر داخل هلال يتفاعل مع كل بلاد يمر عليها ويستلهم من ظروفها الثقافية بحيث يتقولب شعره تلك البيئة. فنراه في إسبانيا يكتب شعرا بعنوان «رسائل مختصرة إلى جارسيا لوركا» و«معلقة محارب فينيقي مجهول». وخلال فترة إقامته في «كمبريدج» يتأثر ببيئة انجلترا فيكتب «قصائد بين مسقط وكمبريدج». يكتب فيها عن البدوي الضال ونهر «تيمز».
اللون السياسي في شعر الريامي
وأما عبدالله الريامي فهو ليس مجرد شاعر بل تتجاوز مواهبه وأعماله إلى مجالات أخرى من المسرحية والصحافة ونشاط الحقوق الإنساني. فمن الطبيعي أن يكون شعره ذا لون سياسي، ولكن الريامي لا يجعل الشعر هتافات جوفاء، إن كانت في شعره سياسة فإنماهي في صورة دقيقة وبعضها يغلب فيه طابع الغموض ولكن لا يفقد الملامح الجمالية. حيث أنه ينتمي إلى مجموعة « الشمس» المسرحية، التي تمثل « افانت –غارد» كانت الحداثة من عقائده الراسخة في كل فنون. مثل الغافري كان صباه أيضا خارج عمان، هو من مواليد القاهرة. كان والده من السياسيّين اللاجئين، اضطر لللجوء إلى القاهرة إثر انتفاضة شعبية قامت ضد الاستيلاء البريطاني في عمان. قضى الريامي طفولته في القاهرة مثلما قضى الغافري في الخارج. إنما عاد إلى عمان بعد فترة طويلة. صراع الهوية الذي ترتب عليه من ثنائية الحياة في مكانين يتضح جليا في بعض قصائده، وفي «رجاء لا تلدي « يقول:
«لم يكن بالحسبان
يومُ مولدي
والنهد الذي أرضعني
جرة نسيان…
ما إن ألمس شجرة
حتى اُصبح
فجأة في أملاك الآخرين
وإذا جلست على صخرة
ينمو جناحان وتطير
أين أذهب
أين أترنح..
رجاء لا تلدي هذه المرة عمانيا
يسألني
كم عاما دام هذا القرن
ويدعوني إلىأعياده
اشرب الطاعة في فنجان…..».
وفي «فراشنا القديم» يصور مصيره هكذا:
«نأتي إلى الشاطئ
لنُعلم الفجر الوقوف على قدم واحدة
ونذهب إلى الغمامة
لنحتطب أشجار الاحتمال
الحجر يلد الحجر
وأنا دائما أنتظركِ
خلف لا شيء
يوقف كرة الأرض
المتدحرجة من جبل الكون».
أعتقد أن خلفيته المسرحية التجريبية أيضا قد لعبت دورا بارزا في مكونات شعره.
وهذا القارئ البعيد جغرافيا معذور في حدوده للقيام بتحليل شامل عن الشعر العماني، تلك مهمة لا يستطيع إنجازها إلا من يعيش في بيئة عمان حيث تتاح له فرصة لسبر أغوار شعرها. أما أنا فمعرفتي بالشعر العماني لا تتجاوز حدود ما تمكن لي من قراءة ما نشر في مجلات عربية و«مختارات من الشعر العماني» التي قمت بترجمتها باللغة المليالمية. ارهاصات ما بعد الحداثة والحنين إلى بريق الحياة القبائلية البائدة والهواجس الناتجة من تعقدات الحياة المعاصرة هي كانت، كما بدا لي، الملامح المشتركة في مختارات الشعر العماني الحديث. وأكثرها تتميز بخاصية التجارب التي عاشها هؤلاء الشعراء، لايفتح بابها إلا من يمتلك مفتاح معرفة تراث عمان وجغرافيتها وخصائص الحياة القبائلية السائدة فيها. كانت عمان الإمبراطورية الوحيدة في المنطقة تمتد جذورها إلى زنجبار الأفريقية. وبجانب آخر لها جذور تمتد إلى ما قبل التاريخ وترتبط بوطن يسمى «ماجان» التي لا وجود لها الآن في خارطة العالم. ولكن وثائق الآثار البابلية القديمة تشير إلى مملكة كانت باسم ماجان قبل 2300 من السنة الميلادية. وقد أثبتت الحفريات التي جرت في القرن الماضي أنها نفس عمان الحالية. نجد « ماجان» تخلع نقابها في شعر ناصر البدري بعنوان «هل»: «هل أرض ماجان/ استعادت سطوة الإسم القديم / وهل نوارس بحرنا ستعود تبحر كالنوارس». وقبل هذه السطور يعبر البدري عن ثنائية الحياة المعاصرة هكذا: «هل خمرنا التمري / يستطيع التعايش / مع خمور الآخرين».
الأشعار في هذه المختارات تتميز بتنوعها شكلا ومضمونا، بعضها يصب في وجدان القارئ نبيذ التجليات الصوفية ، كـ «رسالة إلى الله» لفاطمة الشيدي التي تعطي للابتهال بعدا جديدا. وفي لوحة شعر حسن المطروشي «تراتيل في العتمة» ترسم أقداح امرئ القيس وحرب داحس والغبراء وهودج ليلى كما يرتفع فيها صوت خلاخيل العذارى البدويات». ومنها ما يكشف عن مشاهد سورّيالية مثل «أجسادهم ترتفع قنديلا ونصف» و«طاولة ممدودة باتِّساع الصحراء» لـ محمد الحارثي. وهنا نجد أيضا أشعارا «تُعلق كالخفافيش من عقبيها كمثل حدائق بابل» كما تقول بدرية الوهيبي في «نبوءة».
وفي القرن الماضي كانت المدن كالقاهرة وبيروت وبغداد ودمشق تمثل التيار الرئيسي للشعر العربي، أما الآن لا توجد هذه المركزية حيث بدأت تتقدم المحليات المهمشة لتجاوز حدوددها الجغرافية واحتلال مكانها الخاص في خارطة الأدب العربي، إن نشر مجموعة من الأشعار العمانية بلغة محلية ناطقة في أقصى جنوب الهند خير دليل على ذلك.
جمال الشعر
لقد تطورت جميع أشكال الفنون والأدب خلال حقبات القرن الماضي، الشعر هو الأكثر تطورا من هذه الفنون شكلا ومضمونا بما فيه الشعر العربي. الجمال الذي يعتمد على العناصر المادية ليس بضامن لبقاء الإبداعات عبر الزمن.إن تجليات الجمال التي تثير وجدان القارئ وتستقر في داخله هي التي تحدد قيمة الإبداعات التي تدوم عليها الأجيال، ومهمة الشاعر أن يخلق تلك القيمة لعمله، ليس المهم أن يكون الشعر مقيدا بقواعد من البحر والعروض والأوزان أو محررا من هذه القواعد، كون العمل موزونا لا يجعله شعرا إنما يجعله نظما كـ«ألفية ابن مالك»، كما أن أعمال الـجواهري والبردوني لا تُخرج عن دائرة الشعر بكونها على الشاكلة الكلاسيكية. وهذه النقطة تنطبق أيضا على الشعر الحر أو النثر.. الشعر النثر في الحقيقة ليس ظاهرة جديدة بل نستطيع أن نجد جذورها في تراث الشعر الصوفي، ومن قرأ «موافق» لـ عبد الجبار النفري تتضح له هذه الحقيقة. المهم أن تكون في الشعر شاعرية. إن وظيفة الشعر كما يقول كولردج «توصيل سر الحياة» ولكن ما هو الشعر؟ لا شك أنه شيء يصعب تعريفه الدقيق. نعرفه من رائحته التي تُشم من أرجاء العمل ولكن لا نستطيع أن نمسك به لنحدده ونعرّف قواعده، لعل خير محاولة للإمساك به هي تلك التي تُنكر محاولات الإمساك به وتقر قراره وتأبيه، لأنه – كما يقول توفيق الحكيم –ليس النعناع ولكنه روح النعناع، إنه كالعطر في الزهرة، أو الضوء في المصباح، أي انه شيئ لا يقبض عليه بمجرد القبض على المصباح. كل ما يمكن أن يقال هو أن الشاعرية في العمل الفني بمثابة انبعاث شيء غير مرئي ولا ملموس، يُحدِث مجرد انبعاثة تأثيرا غير مفهوم في أنفسنا ولكننا نشعر بُعده كما لو كانت أشعة مجهولة قد كشفت لنا عن عالم مجهول، والقيمة الأدبية تأتي هنا من أن هذا الكشف الشاعري قد أضاف أبعادا غير متوقعة للبعد المادي المتوقع والمنظور. يقول « آنندا فاردهنا « (AnandaVardhana) أحد قدماء علماء الأدب الذي عاش قبل الميلاد في الهند «إن الشعر الأفضل هو ما يوصل القارئ إلى عالم معنى غير المعنى العادي الذي تحمله الألفاظ. وقديما قالأبو تمام : «والشعر فرج ليست خصيصته / طول الليالي إلا لمفترعه»، هذا ينطبق على الشاعر والقارئ سواءا.
وهنا يجدر بنا ذكر قصيدة الشاعر العماني طالب المعمري:
لن
تأتي القصيدة
كما أرغب وترغب
وأنت تعيش
اعتيادات يومك
وبمحاذاتك كُتُب
اللغة والأساطير
القصيدة عصية
أن تكتمل
كنص
وإن برقت
فكرة ماكرة
كابتسامة موناليزية..