ستنطلق الدراسة في تحليلها لبنية العنوان وشعريته ووظائفه المختلفة من ضرورة مقاربته أفقيا بهدف معرفة المكونات التركيبية لهذه العناوين، من خلال الكشف عن مدى تعالقاتها مع بعضها البعض بقصد الكشف عن التحولات التي يمكن أن تطرأ على استراتيجية إنشاء العنوان، وبيان الدور الذي تلعبه في تشكيل المعادل الرمزي للعمل، وعموديا بحيث تتيح الدراسة إدراك مدى التشابه والإختلاف الذي طرأ على هذه العناوين في مراحل زمنية مختلفة. تتنوع عناوين الأعمال الشعرية التي ستكون موضوعا للدراسة من حيث بنيتها اللغوية والدلالية والتناصية، لكنها ستكون من حيث شعريتها وبنيتها الدلالية متصلة اتصالا وثيقا بمضمون التجربة الشعرية التي تقدمها تلك الأعمال، وتشكل رمزا ذا دلالة بديلة للمتن الشعري فيها.
فالعناوين تشكل علامات دالة تلخص مدارات التجربة والأبعاد الرمزية لها، فهي تمثل مفاتيح دلالية تؤدي وظيفة إيحائية، ويمكن أن نجملها بداية في مجموعة من السمات يأتي في مقدمتها أن تلك العناوين تتألف في أغلبيتها من جملة إسمية (مركب إسمي)، أو من كلمة واحدة هي إسم علم مذكر، ثم يأتي العنوان الذي يتألف من جملة فعلية تاليا، بينما يأتي العنوان الذي يتألف من شبه جملة في عدد قليل جدا من العناوين. أما على مستوى البنية اللغوية فتتميز تلك العناوين باقتصادها اللغوي الواضح وبالحذف الذي يولَّد الإيهام. وينحو عدد قليل نسبيا من تلك العناوين نحو الطول، لكن تلك العناوين على المستوى التناصي تستدعي عددا من الأسماء الأدبية والدينية والتاريخية بأسمائها الصريحية الكاملة، أو هي تحيل على مفهوم فكري وجودي أومصطلح ثقافي/ ديني، وفي عدد محدود منها نجد إحالتها على عنوان شعري سابق تستذكره، وتقيم تناصها معه على المستوى الجمالي والدلالي.
2/1 المقاربة الأفقية:
يتميز العنوان باقتصاده اللغوي الشديد، وتعدُّ العناوين التي تتميز بطولها النسبي في الأعمال الشعرية السورية الحديثة محدودة نسبيا، كما في عناوين دوواين نزيه أبو عفش التي تتميز ببنيتها النحوية التي تتألف من جملة إسمية ذات بنية إخبارية أو وصفية، أو من جملة منادى (وشاح من العشب لأمهات القتلى- بيروت1976- أيها الزمان الضيق أيتها الأرض الواسعة- دمشق 1978- هكذا أتيت..هكذا أمضي- بيروت 1978). وفي ديوان خالد محdي الدين برادعي ذي البنية الإسمية الإخبارية (تداعيات المتنبي بين يدي سيف الدولة- دمشق 1976) وديوان فايزخضور (الرصاص لا يحب المبيت باكرا 1988) وديواني محمد عمران (الدخول في شعب بوان1972- دمشق، وأغان على جدار جليدي1965) وديوان الشاعر علي الجندي الذي يحمل عنوانه طابع الثنائية الضدية على المستوى المكاني (بعيدا في الصمت… قريبا في النسيان- بيروت1980) وديوان نوري الجراح(القصيدة والقصيدة في المرآة- بيروت 1995) وعنوان ديوان رياض الصالح الحسين (بسيط كالماء واضح كطلقة المسدس- دمشق 1981) وعنوان ديوان الشاعر نزار بريك الهنيدي(البوابة والريح ونافذة حبيبتي- دمشق1977) وعبد النبي التلاوي(إلى آخر الليل تبكي القصيدة- لندن 1989)، وعنوان(أجزاء إبراهيم الجرادي المبعثرة- دمشق 1981)لإبراهيم الجرادي، وعنوان(قصائد مشرفة على السهل- دمشق دون تاريخ) لصقر عليشي، وعنوان ديوان منذر المصري(مزهرية على شكل قبضة اليد- بيروت1997) وعنوان(كرزة حمراء على بلاط أبيض- تونس1997) لمرام المصري.
بالمقابل نجد عناوين أخرى شديدة الاقتصاد في بنيتها اللغوية، وتتألف من كلمة واحدة هي اسم علم مفرد أو هي صيغة جمع مؤنث، كما في دواوين فايز خضور(سلماس 1982 وآداد 1986ومصادفات1999) وديوان علي الجندي(الرباعيات 1979) والشاعر بندر عبد الحميد(احتفالات- دمشق1979) والشاعر نوري الجراح(الصبي– بيروت 1995) ونزار بريك الهنيدي(الطوفان- دمشق2001) وعنوان ديوان ممدوح سكاف(انهيارات- دمشق1985). لكن أغلب عناوين الأعمال الشعرية الأخرى تتميز على المستوى النحوي ببنيتها الإسمية ذات الطابع الوصفي، وهي غالبا ما تكون معرَّفة بالإضافة أو بلام التعريف وأحيانا قليلة باسم الإشارة. كما أن هذه العناوين تبدأ باسم غالبا ما يكون خبرا لمبتدأ محذوف. ويظهر التناص في تلك العناوين بصورة كبيرة ما يجعل العنوان يتطلب فهم معناه أثناء تلقيه العودة إلى المرجعية التاريخية أو التراثية أو الدينية أو الشعرية التي يتناص معها، ويستدعي معها فضاءها الوجداني والتخييلي عنده. ويمكن القول إن الغالبية الكبرى من عمليات التناص في هذه العناوين تتم مع مرجعيات تراثية ودينية بصورة تكشف فيه عن الفضاء الثقافي الذي كانت تتشكل فيه رؤية الشاعر الفكرية والجمالية، وعن السياق الفكري والسوسيولوجي والتناصي الذي تندرج تلك العناوين فيه، إلى جانب ما تكشف عنه من علاقة الإتصال مع هاتين المرجعيتين، والتي تدل على السياق التاريخي الذي كانت تتشكل فيه وتكشف من خلاله عن عمق حضورهما في وجدان شعراء مرحلة تاريخية بعينها، هي مرحلة الستينيات التي شهدت أكبر هزيمة في تاريخ العرب المعاصر هي هزيمة عام 1967 التي استدعت من هؤلاء الشعراء العودة إلى التاريخ والتراث العربيين لاستحضار رموزهما الكبرى بهدف إبراز عنصر المفارقة الصارخة بين الماضي المشرق والحاضر المنكسر والمهزوم، أو للاحتماء به بسبب الشعور بالعجز والضعف والخوف من مواجهة الحاضر، والحاجة إلى ما يحفِّز الذات على استرداد الثقة بالنفس والقدرة على مواجهة هزيمة الواقع. ومن تلك الرموز والأسماء التي استدعتها عناوين العديد من الأعمال الشعرية طرفه بن العبد- قطري بن الفجاءة عند الشاعر علي الجندي وشِعْب بوان عند الشاعر محمد عمران ومجنون ليلى ويوحنا الدمشقي عند شوقي بغدادي، وسامراء الجديدة عند سهيل إبراهيم وشخصية السيد المسيح ويهوذا ويوسف وزليخا عند نزيه أبو عفش وفايز خضور. ومع تجربة جيل السبعينيات اتخذت إستراتيجية العنونة منحى جديدا ترافق مع التحول الذي أصاب الرؤية الشعرية وبنية الخطاب الشعري ومقترحاته الفنية والجمالية، فقد بدا التباين في تلك الإستراتيجية واضحا عبر بنية العنوان الدلالية التي عكست في بنيتها التكوينية التحولات التي طرأت على بنية اللغة الشعرية، وما تمثلته من حساسية شعرية جديدة، لكنها على مستوى بنيتها اللغوية ظلت تتسم في الغالب بتكثيفها واقتصادها اللغوي الشديد باستثناء بعض العناوين التي تميزت بطولها النسبي كعنوان ديوان بندر عبد الحميد الأول (كالغزالة كصوت الماء والريح 1975) وعنوان ديوان عادل محمود الأول (قمصان زرقاء للجثث الفاخرة 1978) وديواني نزيه أبو عفش(أيها الزمان الضيق.. أيتها الأرض الواسعة 1978– وشاح من العشب لأمهات القتلى- بيروت1976) ورياض الصالح الحسين (بسيط كالماء واضح كطلقة المسدس1981) وعنوان ديوان فؤاد كحل (العشق في الزمن الضحل- دمشق1976). ومن تلك العناوين التي تميزت بتكثيفها الشديد عناوين (صعود إبريل- بيروت – 2000- طفولة موت- بيروت 1995 لنوري الجراح) و(القيد البشري- دمشق 1978- أربعون الرماد – دمشق 1992- مهرجان الأقوال- دمشق1997) للشاعر احمد يوسف داود، و(الحزن رفيقي- دمشق1995) لممدوح سكاف، وعنوان(احتفالات- دمشق1979) لبندر عبد الحميد، وعنوان(أساطير يومية- دمشق1980) لرياض الصالح الحسين، و(شهوة الضد- دمشق1985) لإبراهيم الجرادي، و(تتويج العشب- بيروت/ دمشق1998) لمحمود السيد، و(جمهورية الأرض- دمشق1978) لمصطفى خضر، وعنوان(هذا الخوف- بيروت2004) للشاعرة هالا محمد.
لم يكن هذا التحول في العنونة وقفا على الأعمال الشعرية للجيل الجديد، لأنه ترافق أيضا مع اتجاه العنونة عند الجيل السابق نحو الاقتصاد اللغوي الشديد في الغالب حتى وجدنا بعض الأعمال الشعرية التي صدرت في النصف الثاني من السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، يتصدرها عنوان خارجي يتألف من كلمة واحدة، كما هي الحال في عنوان ديواني علي الجندي (الرباعيات وقصائد موقوتة- بيروت1980) ودواوين فايز خضور(سلماس وآداد ومصادفات). ومن العناوين التي تميزت بذلك الاقتصاد اللغوي الشديد عناوين أعمال فايز خضور(ثمار الجليد- دمشق 1984-غبار الشتاء1979- قداس الهلاك- بيروت1995) وعنوانا ديواني ممدوح عدوان (يألفونك فانفر- دمشق1977 وهذا أنا أيضا-دمشق1984) وعناوين دوواين محمد عمران (كتاب الملاجة- دمشق1980- اسم الماء والهواء- دمشق 1986- كتاب المائدة- دمشق 1990)، وعنوان(قناع لوجه القمر- لندن1995) لسهيل إبراهيم، وعنوان(ليلى بلا عشاق) لشوقي بغدادي وعنوان ديوان(أزهار القلب- دمشق1989) لفؤاد كحل. ومن الملامح المميزة للعنونة الرئيسة أنها لا تتوفر على عنوان إضافي أو فرعي لكي يكتمل المعنى الصريح للعنوان.
على مستوى البنية النحوية يأتي العنوان الذي يتألف من جملة اسمية في طليعة العناوين الخارجية لأعمال الشعراء السوريين المعاصرين. ويتميز العنوان على مستوى البنية التركيبية هنا بالحذف الذي يولِّد نوعا من الغموض على المستوى الدلالي، فالجملة الإسمية غالبا ما تبدأ بخبر لمبتدأ محذوف تقديره هو أو هي أو هذه كما في العناوين التالية:
أغنية ثلج- دمشق للأحمد يوسف داوود1970.
الأرض مداي الصغير لمحمد وحيد علي1991.
مصباح علاء الدين- دمشق 1986 لبيان صفدي.
مغامرات الأصابع والعيون1981 لبندر عبد الحميد.
غرفة بملايين الجدران-بيروت 1964 لمحمد الماغوط.
غبار الشتاء 1979 وقداس الهلاك 1995 لفايز خضور.
كأس سوداء 1995 وحدائق هاملت 1995 لنوري الجراح
شهوة الضد- عمَّان1985 لإبراهيم الجرادي.
ماء الياقوت- عمَّان1993 لعبد القادر الحصني.
شيطان الأغنية الأخيرة – دمشق1989 لعبد النبي التلاوي.
لمع سراب- بيروت 2007 لعابد إسماعيل.
قصائد موقوتة- بيروت1980 لعلي الجندي.
كتاب الملاجة- دمشق 1980- كتاب المائدة-دمشق 1998- مرفأ الذاكرة الجديدة- بغداد1975 لمحمد عمران.
وشاح من العشب لأمهات القتلى- بيروت 1876 وحوارية الموت والنخيل-دمشق1972 لنزيه أبو عفش
أساطير يومية- دمشق1980 لرياض الصالح الحسين.
أعراس الهنود الحمر- بيروت 1975 وأبجدية الينابيع- بيروت 2007 نخلة اسمها فاطمة- بيروت 1998 لعلي كنعان.
سيرة الأب الضال- دمشق 2003 لقمان ديركي.
رماد الكائن الشعري1985- دمشق مصطفى خضر.
طيران نحو الجنون- بيروت 1999 وتلويحة الأيدي المتعبة- دمشق 1970 ممدوح عدوان.
تتويج العشب- بيروت/دمشق 1998 ومونادا دمشق- 1978 لمحمود السيد.
صلاة لراحة الطين- 2000 محمود نقشو.
مراثي عائلة القلب دمشق1990- وقت لشهوات المغني- دمشق1998 لعلاء الدين عبد المولى.
صباحات متأخرة- حمص1997 لنضال بشارة.
ويأتي العنوان الذي تتألف بنيته من جملة فعلية تاليا في إستراتيجية العنونة عند الشعراء السوريين، وفي هذه العناوين تتنوع أنواع الأفعال التي يستهل بها العنوان تلك البنية، إلا أن الفعل المضارع يهيمن على أغلب تلك العناوين نظرا للوظيفة الشعرية التي يقوم بها، ويحيل من خلالها على بنية القصيدة الغنائية التي تتميز باستخدام الفعل المضارع المسند إلى ضمير المتكلم والموجه إلى ضمير المخاطب كما هو الحال في هذه العناوين:
صار رمادا- دمشق1987 للشاعرعلي الجندي
ينام في الأيقونة- عمّان 1994 لعبد القادر الحصني.
أنوي وأسميك اتجاها1978 ويذبحونك من عنقي -بيروت 1979 لسهيل إبراهيم.
ويطرح النخيل دما- دمشق 1979 لبيان الصفدي.
أقبل الزمن المستحيل1974- أمي تطارد قاتلها-1975- يألفونك فانفر- دمشق 1979 لممدوح عدوان.
أريدك أن تكوني -دمشق 1979 لمحمد مصطفى درويش.
ويبدأ طقس المقابر- بيروت 1977 لفايز خضور.
أنظر إليك- بيروت1998 لمرام المصري.
وهناك عناوين تبدأ بفعل ماض ناقص(كانت طويلة في المساء- دمشق1980 لبندر عبد الحميد/ صار رمادا- بيروت 1987 لعلي الجندي/ ليس للروح ذاكرة- دمشق 1994 لهالا محمد) أو بحرف ناسخ(كأني أدق بابي- بيروت 2008) لهالا محمد، أو بضمير مكان(بعيدا في الصمت قريبا في النسيان1980-بيروت لعلي الجندي- بين الوسادة والعنق- دمشق1974 لشوقي بغدادي)، أو بمنادى(أيها الزمان الضيق أيتها الأرض الواسعة- دمشق 1978 لنزيه أبو عفش) أو بمعنى اسم موصول(ما لا يعود- دمشق1998 لبيان صفدي). وهناك عناوين تتوافر بنيتها التركيبية على الجمع بين البنية الإسمية والبنية الفعلية، وغالبا ما تكون الجملة الفعلية في محل خبر للمبتدأ(رجل يستحم بامرأة1983- دمشق لإبراهيم الجرادي- قبلة يقطفها السيف- بيروت 1983لسهيل إبراهيم- أنا الذي رأيت – دمشق1978 لمحمد عمران- الرصاص لا يحب المبيت باكر – دمشق 1980 لفايز خضور).
أما العنوان الذي يتألف من شبه جملة فيأتي في المرتبة الثالثة(كالغزالة كصوت الماء والريح- دمشق 1975 لبندر عبد الحميد/ في البدء كان الصمت – بيروت 1965 لعلي الجندي/ لكل حب قصة- بيروت 1962 لشوقي بغدادي/ إلى آخر الليل تبكي القصيدة- لندن 1989لعبد النبي التلاوي/على مذهب الطيف- دمشق1996/ في حضرة الماء- دمشق1983 لممدوح سكاف/ باتجاه متاه آخر – بيروت1999 عابد اسماعيل/ في حداثة الروح- دمشق2000 لعلاء الدين عبد المولى- على ذلك البياض الخافت- بيروت 1997 لهالا محمد).
إن قراءة هذه العناوين على المستوى الدلالي تكشف عن السياقات التوظيفية والتاريخية والنصية والوظائف التأليفية التي تحكم استراتيجية بناء العنوان عند هؤلاء الشعراء، وتختزل قسما من منطق الكتابة بحيث لا تنفصل تلك العناوين في بنيتها ودلالاتها عن خصوصية العمل الذي تسم معانيه وتوسم بها، ما يجعل تلك العناوين بحكم تلك الوظيفة الشعرية التي تحيل فيها الى داخل العمل، كما هو يحيل عليها تعبرعن المضمون الدلالي للعمل، أو الفكرة المحورية التي تهيمن عليه. في الوقت نفسه تستدعي قراءة العنوان توجيه الانتباه نحو المرجعية النصية التي يحيل عليها العنوان لتفسير معناه الدلالي، خاصة وأن الكثير من عناوين الأعمال الشعرية تقيم تناصها مع مرجعيات دينية وتراثية وأسطورية لاسيما في مرحلة تاريخية محددة وبذا فهي تكشف عن السياقات التاريخية والإدراكية والاجتماعية التي تندرج فيها، إضافة إلى الرؤية التي تقدمها للعالم بحكم كونها علامات دالة مشبعة بتلك الرؤية كما يقول رولان بارت. استنادا إلى هذه الوظائف التي تقوم بها العنونة في الشعر السوري المعاصر، والسياقات التي تندرج ضمنها فإن قراءة تلك العناوين التي تمثل نصا صغيرا ملحقا بالعمل تُظهر دور العنونة في منهجة عملية القراءة، وتأويل العمل الذي تسمه، وفي أفق انتظار المتلقي ووسم معاني النص وتحديد الإطار التناصي والثقافي والسوسيولوجي الذي تتشكل فيه، ولعل العناوين التي كثر استخدامها بعد هزيمة حزيران 1967 تدلل على تلك السياقات النفسية والاجتماعية والفكرية والتاريخية التي كانت تتشكل فيها تلك العناوين، وتعكس من خلالها رؤية الشعراء ووعيهم بالواقع والمرحلة التاريخية التي كانوا يعيشونها وكيفية تمثلها جماليا. من هنا لا بد من محاولة تفسير تلك العناوين من خلال عمليات التناص التي تحيل فيها على تلك المرجعيات التراثية والدينية والتاريخية ويمكن تأويل معناها من خلالها، انطلاقا من أن تفسير دلالات العنوان تحتاج إلى توجيه جهدنا القرائي إلى تلك المرجعيات النصية الخارجية، ذلك أن العنوان يحيل الى داخل العمل والى خارجه في الآن معا، ويسهم في إدخال القارئ كطرف أساسي في عملية التأويل من خلال ما يستدعيه العنوان عنده في عملية التلقي من مخزون ثقافي ومن فضاء وجداني وتخييلي، ساعين في الآن نفسه للكشف عن السياقات التي تقدم فيها تلك العناوين والخلفيات التي تحكم توجهاتها من خلال الدراسة الأفقية للعناوين، والتي تظهر التباين في اختيارت شعراء المراحل المختلفة من التجربة الشعرية السورية الحديثة لطبيعة العنونة، ومقترحاتها الجمالية التي تكشف عنها.
المرحلة الأولى التي سوف تتناولها القراءة التحليلية للعنونة هي المرحلة التي تمتد من نهاية عقد الستينيات، أي من المرحلة التالية للهزيمة عام 1967 وحتى أواسط عام 1970 حيث ستظل قصيدة التفعيلة هي المهيمنة على المشهد الشعري السوري، في حين أن المرحلة التالية كشفت عن تحول أخذ يفصح عن نفسه على مستوى شكل الكتابة الشعرية وأدواتها الفنية ورؤيتها ولغتها، ويؤسس لتحول جديد على يد شعراء ما بات يعرف بشعراء السبعينيات، أوتجربة قصيدة النثر ومقترحاتها الجمالية، مما يعكس التبدل الذي أصاب تلك الممارسة الشعرية على صعيد الإختيارات الفنية والجمالية، خاصة أن استراتيجية العنونة ظلت مرتبطة بوظيفتها الشعرية والتناصية مع داخل التجربة الشعرية على المستوى الدلالي واللغوي والجمالي، في الوقت الذي حافظت فيه على استقلالها النسبي من خلال موقعها.
لقد عبرت عناوين الأعمال الشعرية التي صدرت في تلك المرحلة من خلالها كونها نصا صغيرا ملحقا بالنص الأكبر يتضمن العمل ويتصل به على مستوى البنية والدلالة، فيقوم بوظيفة الإعلان عن مضمون التجربة الشعرية أو محاورها الأساسية التي يمنحها هويتها.. لقد عبرت عن مضمون الرؤية الشعرية التي تحرك تلك التجربة وتتسم بالسوداوية بوصفها تعكس حالة من الشعور القاسي والمرير بالهزيمة والخيبة والسقوط التي كشف عنها الواقع العربي، ما استدعى من هؤلاء الشعراء الاتجاه نحو فضح الواقع وتعريته وإدانته بصور مختلفة، تجلت في عناوين الأعمال الشعرية التي صدرت في تلك المرحلة كما ظهر في عنوان مجموعة الشاعر علي كنعان(أنهارمن زبد- دمشق 1970). وقد كشفت تلك العناوين أيضا عن مدى الشعور بالغربة في هذا الواقع المهزوم(الدخول في شِعب بوان- دمشق 1972) محمد عمران، أوعبرت عن الإحساس الحاد بغربة الإنسان الوجودية في هذا العالم الغريب (الحمّى الترابية- بيروت 1969- علي الجندي)، أو الحزن والتعب (تلويحة الأيدي المتعبة- دمشق 1970- ممدوح عدوان) أوالمفارقة التاريخية بين الماضي والحاضر(سامراء الجديدة- دمشق 1972) أو الصراخ لإيقاظ الواقع الغارق في سبات ترديه وضياعه (صوت بحجم الفم- دمشق1974- بين الوسادة والعنق- دمشق 1974 شوقي بغدادي) أوالموت الذي بات يهدد الوجود العربي الذي يرمز له بالنخيل (حوارية الموت والنخيل- دمشق1971 نزيه ابو عفش) حيث تتقدم كلمة الموت على كلمة النخيل لتوجيه انتباه المتلقي إليها من خلال تقديمها بوصف الموت يمثل الخطر الداهم. ولا تختلف صورة الواقع عند فايز خضور عن غيرها من صور الواقع المأزوم والمتردي (أمطار في حريق المدينة- دمشق1973). وعلى الرغم من المناخ النفسي والمعاني الدلالية الموحية والمتقاربة والإطار الثقافي والسوسيولوجي الذي تندرج ضمنه هذه العناوين، فإن ثلاثة عناوين منها تحيل الى مرجعيات نصية مختلفة، هي في العنوان الأول مرجعية دينية/ قرأنية تتمثل في الآية/16/ من سورة الرعد (كذلك يضرب الله الحق والباطل فإما الزبد فيذهب جُفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)(1). كذلك يقيم العنوان تعالقه مع مرجعية شعرية أخرى هي عنوان ديوان الشاعر خليل حاوي(نهر الرماد) ما يدل على تعددية الإحالة التناصية التي يمكن للعنوان أن يقوم بها عبر تناصه مع أكثر من مرجعية نصية. ويحيلنا العنوان الثاني على مرجعية شعرية قديمة هي قصيدة أبو الطيب المتنبي التي قالها عندما كان يعبر بلاد الأعاجم معبرا عن شعوره بالغربة في تلك البلاد رغم سحر طبيعتها وجمالها الفاتن:
مَغاني الشِعْب طيبا في المَغاني
بمنزلة الربيع من الزمان
ولكني الفتى العربيُّ فيها
غريب الوجه واليد واللسان
ويقيم عنوان الحمّى الترابية تناصه مع مرجعية فلسفية وجودية تعبر عن وطأة الشعور القاسي بالهزيمة والاغتراب في الواقع القومي الذي كشفت هزيمته المريعة عام 1967 عن مدى ضعفه الشديد وضياعه الذي أودى بأحلام جيل طامح بتحقيق نهوض قومي وبناء حاضر متقدم. ويستدعي عنوان سهيل إبراهيم سامراء الجديدة رمزا تاريخيا يستدعي معه حقبة تاريخية من تاريخنا الحضاري يقيم الواقع تناصه معها على المستوى الدلالي. وقد حاول الشاعر أن يمنحها دلالة معاصرة على المستوى التاريخي عندما أضاف إلى هذا الاسم صفة الجديدة بغية جعلها تعبرعن تجربة الواقع الراهن الذي انتهى إلى تلك النهاية القاسية. ويحيل العنوان الثاني لشوقي بغدادي (بين الوسادة والعنق) الذي تنطوي بنيته التركيبية على الحذف المتعمد المولِّد للغموض والإيهام على مقولة متداولة، تحمل معنى مجازيا تدل من خلاله على مدى الشعور بالخطر الداهم والخوف والتهديد الشديد الذي باتت تشكله الهزيمة للوجود العربي، وهي مقولة التي يستدعيها ويستدعي معها كثافة حضورها ومعناها الدلالي في الوعي الجمعي،خاصة أنه يستدعي معه عند المتلقي فضاءه التخييلي (السكين بين الوسادة والعنق).
المقاربة العمودية للعنوان
تقودنا القراءة العمودية للعنوان الرئيس في أعمال الشعراء السوريين المعاصرين إلى استيضاح مدى التحول والتبدل الذي أصاب إستراتيجية العنونة عند هؤلاء الشعراء في مراحل تجربتهم المختلفة، ولعل أول ما تقودنا إليه القراءة الأولية لتلك العناوين هو التباين على مستوى بنية العنوان الدلالية واللغوية بين عناوين الأعمال التي حافظت على بنية قصيدة التفعيلة عند شعراء ما عرف بجيل السبعينيات وجيل الثمانينات وما بعد، وعناوين أعمال الشعراء الذين اختاروا قصيدة النثر فضاء للكتابة الشعرية الجديدة، في حين حافظت أعمال شعراء الستينيات على استراتيجية العنونة عندهم، لاسيما نزيه أبو عفش الذي عبَّرت عناوين أعماله التالية عن وطأة الشعور القاسي بالحزن والمرارة والسوداوية وحالة الفجيعة .
لقد ظل الهم السياسي والاجتماعي بوصفهما قضية حاضرة في الوعي الشعري هما المحور الأساس الذي تدور حوله تلك التجربة عند شعراء قصيدة التفعيلة. وبحكم الوظيفة الشعرية التي يلعبها العنوان في تلك التجربة، كانت إستراتيجية العنوان تقوم على تمثل تلك الرؤية والتعبيرعنها، لكنه في نهاية الثمانينيات وما بعد أخذت استراتيجية العنونة تنحو باتجاه مختلف، بات فيه الموضوع الوجودي والجمالي منفتحا أكثر على الحياة وقضاياها الإنسانية كالحب والمرأة، ومتحررا أكثر من ضغط الحالة السياسية، الأمر الذي رافقه ظهور واضح لأنا الذات في تلك التجربة التي تخففت كثيرا من ضغط الموضوع السياسي عليها. وربما ساهم دخول تجربة قصيدة النثر ومحاولة اقترابها من اليومي والعادي والبسيط في الحياة في هذا التحول الذي لعب العنوان دورا هاما من خلال شعريته ووظيفته الإعلانية في الكشف عنه، حيث دخلت إلى بنية العنوان مفردات جديدة كالأسماء التي تدل على عناصر طبيعية أو تحمل دلالة صوفية أوفلسفية أو وجودية أو تجريدية وجميع هذه المفردات تتجاوز في دلالاتها مفهوم الرؤيا والإيحاء بالألم والعذاب والهزيمة والموت، باستثناء عنوان نزيه أبو عفش الذي شكلت تجربته سياقها الخاص الموغل في النزعة المازوخية واستبطان الألم والمعاناة الوجودية للإنسان المهزوم:
– كتاب المائدة / نشيد البنفسج / اسم الماء والهواء 1986 لمحمد عمران
– نخلة أسمها فاطمة/ أبجدية الينابيع لعلي كنعان
– قمر لعرس السوسنة- دمشق1980/ أربعون الرماد- دمشق1992لأحمد يوسف داوود
– على مذهب الطيف – دمشق1996 لممدوح سكاف.
– عشبها من ذهب- دمشق 2002/ مصادفات- دمشق1999لفايز خضور.
– ماء الياقوت – عمان1993 عبد القادر الحصني.
– ما يشبه كلاما أخيرا- دمشق1997
1/3 الدلالة الجزئية للعنوان :
لقد ظلت أغلب عناوين أعمال الشعراء السوريين لاسيما عناوين أعمال شعراء قصيدة التفعيلة ذات دلالة جزئية نظرا لكونها عنوانا داخليا جرى انتخابها بقصد ينبع مما تتسم به من معنى دلالي ذي كثافة تلخص محورا أو أكثر من محاور الديوان الشعري، أو لأنها تشكل بنية جمالية تؤدي وظيفة الإغراء والإيحاء والتعيين التي تجعل اختيارها عنوانا رئيسا يسم العمل ويمنحه هويته هدفا وغاية، وبذا لم يتمتع هذا العنوان بكلية تمثيله لداخل العمل من خلال اختراقه لمجمل نصوصه وتشكيل نواة بنية دلالية أولية، يمكنها أن تكون بمثابة مفتاح للدخول إلى ثنايا نصوص هذا العمل، وبالتالي فقد اتسم العنوان في هذا المستوى بمحدودية دلالته، وإن ظل من خلال كونه عنوانا داخليا على اتصال ببنية العنونة الداخلية للقصائد ووظيفتها الشعرية التي تتعالق من خلالها مع قصائد الديوان، كما تتعالق قصائد الديوان معها أيضا. إن هذه الإستراتيجية في العنونة تدل على نوع من التقليد والنمطية اللذين درج عليهما الشعراء في اختيار عناوين أعمالهم وعدم إيجاد العنوان المحوري الذي يوحي بدلالة كلية للعمل، ويمتلك مقوماته الجمالية والإيحائية التي لا تجعل وظيفته في تشكيل اللغة الشعرية تنحصر في أنه (مكمل ودال على النص ولكن من حيث هو علامة لها علاقة اتصال وانفصال معا اتصال باعتباره يشتغل وضع أصلا لأجل نص معين وعلاقة انفصال باعتباره يشتغل بوصفه علامة لها مقوماتها الذاتية كغيرها من العلامات المنتجة للمسار الدلالي الذي نكونه ونحن نؤول النص والعنوان معا)(2) إن اختيار هذه العناوين لا ينفي وجود قصدية تتمثل في وظيفتها التي تؤديها من خلال قدرتها على تعيين طبيعة العمل والإيحاء بها، أو التعبير عن فكرة محورية في العمل الذي يسمِّه. في ديوان ممدوح عدوان (الدماء تدق النوافذ- بيروت1975) يؤدي العنوان الذي هو عنوان داخلي وظيفة الإيحاء التي تجعله يتداخل مع الرؤية الشعرية للغة نصوص الديوان، لأن العنوان يمثل جزءا من التشكيل اللغوي للقصيدة وفق تعبير جان كوهين . إن البنية الرمزية للغة العنوان هي التي تجعل منه دلالة بديلة عن المتن لأن الدماء التي تقرع النوافذ بعد أن اكتسحت الشوارع والساحات لتوقظ الناس من غفلتهم عما يحدث في الواقع من موت وقتل وخراب توحي برؤية الشاعر للواقع العربي الراهن، وهي التي تحوله إلى كناية عن متن النص الداخلي الذي تعنونه، والذي يمكن أن يعبر على الرغم من دلالته الجزئية عن مناخ التجربة الشعرية المقدمة، وعن الحالة الأبرز التي تهيمن على عالم القصائد في هذا الديوان والمتمثلة بالثورة التي تفجرها دماء الضحايا، إضافة إلى طبيعة بنية هذه العناوين على المستوى البلاغي.
ولا يختلف الأمر في ديوان محمد عمران(أنا الذي رأيت- دمشق 1978) فالعنوان الرئيس هو عنوان داخلي لإحدى القصائد، وجاء اختيار الشاعر له كونه يحمل معنى الرؤية التي تدل على ما يميز ضمير المتكلم/ الشاعر من قدرة على معرفة الغيب والتنبوء بالآتي الذي يقرأ علاماته فيما يحدث في الواقع، ما يستدعي عند المتلقي الدلالة القدسية المرتبطة بالمعنى والفضاء الوجداني الذي يستدعيه أيضا معنى الرؤية عنده بعد أن اكتسى فعل النبوءة بالقداسة، إلى جانب أنه يجعل من الشاعر من خلال البنية النحوية للعنوان صاحب الرؤية التي يبثها في نصوص الديوان، والتي تتميز بمضمونها السوداوي والكارثي ما يجعل تلك الرؤية الاستشرافية للمستقبل توحي بحالة الخراب والموت والضياع التي يسقط فيها الواقع العربي المتردي. فالاختيار هنا يتصل بمقاصد دلالية يمتحها العنوان من نصوص القصائد، ومن المتلقين الذين يستدعي العنوان عندهم كثافة وقوة حضوره في الوجدان الجمعي إضافة إلى أنه يمتح شيئا من دلالته من مرجعية نصية هي مرجعية النص الأسطوري لملحمة جلجامش والنص التوراتي لرؤيا دانيال.
وقريبا من هذه الرؤية الحزينة يقدم عنوان ديوان نزيه أبو عفش (وشاح من العشب لأمهات القتلى-بيروت1976) الذي هو عنوان داخلي انتخب ليكون عنوانا رئيسا يمتح شيئا من دلالته من مرجعية خارجية هي مرجعية الواقع العربي الذي يحيل عليه، ومن النص الذي يعنونه، فيقدم رؤية مزدوجة تمجِّد من جهة أمهات قتلى الحروب والمعارك العربية الدامية التي تجعل من الشهداء ضحايا لتلك الحروب التي يدفعون إليها دون أن يكونوا مشاركين في قرار بدئها أو نهايتها، أو يعرفوا إلى ماذا ستنتهي، ومن جهة يوحي من خلال بنيته اللغوية بحال شهداء هذا الواقع الذي يتحولون فيه إلى قتلى بدلا من أن يكونوا شهداء يدافعون عن قضايا وطنية وقومية عادلة . ويلعب الاستشهاد الذي يصدِّر به الديوان وهو قول للشاعر الفلسطيني محمود درويش(أيها العرب لماذا تكذبون عليَّ) دورا مساندا من حيث الإيحاء بمضمون الخطاب الشعري للديوان والعنوان الذي يمنحه هويته، ما يكشف عن الوظيفة التي يقوم بها من حيث إكساب القارئ معرفة بالخطاب الشعري وفي تأويله لهذا الخطاب. تدل قراءة عناوين أعمال الشاعر علي الجندي على أن إستراتيجية العنونة تعتمد على انتخاب عنوان داخلي ليكون عنوانا رئيسيا، فهناك سبعة عناوين من عناوين أعماله البالغة اثني عشر ديوانا هي عناوين داخلية تحمل دلالة جزئية، وكلها توحي بدلالات الحزن والموت والعذاب والصمت المعبر تقريبا :
الراية المنكسة – بيروت 1965 / في البدء كان الصمت- بيروت 1965 / البحر الأسود المتوسط – دمشق 1972. / النزف تحت الجلد- دمشق1976 . / الرباعيات- بيروت. / بعيدا في الصمت قريبا من النسيان- بيروت1980. / الشمس وأصابع الموتى- بيروت 1961.
في حين أن هناك أربعة عناوين ليست هي عناوين داخلية وتتمتع بدلالتها الكلية التي تجعل منها جماع الوحدة الدلالية للديوان وواجهته الإشارية. ولا يختلف الأمر بالنسبة لاستراتيجية العنونة عند ممدوح عدوان الذي ينتخب عناوين داخلية لتكون عناوين خارجية للعمل تؤدي وظيفتها التسموية والإعلانية والإشارية إلا في كونها تحيل على مرحلتين متمايزتين على مستوى تلك الاستراتيجية، المرحلة الأولى لا تخرج فيها عن سياق أغلب أبناء جيله من حيث انتخاب العنوان الداخلي ليكون عنوانا رئيسيا، والثانية تحقق افتراقها عن العنونة السابقة من حيث استقلالية العنوان عن العناوين الداخلية التي لم يعد يتم اختيار أحدها ليكون الواجهة الإشارية التي توحي بمضمون العمل، ما يدل على الاختلاف في النظرة إلى وظيفة العنوان وعلاقته بنصوص العمل التي يحيل عليها كما هي غدت تحيل عليه. ويمثل عنوان ديوان (يألفونك فانفر- دمشق1977) بداية هذا التحول في إستراتيجية العنونة لأن جميع الدوواين التالية التي بلغت عشرة دواوين تنحو في عنونتها نفس المنحى على خلاف عناوين أعماله الخمسة السابقة بدءا من ديوانه الأول (الظل الأخضر) وحتى ديوان (أمي تطارد قاتلها).
وتهيمن على استراتيجية العنونة عند الشاعر محمد عمران اختياراته للعنوان الداخلي ليكون عنوانا رئيسيا نظرا للدور المحوري الذي يقوم به على المستوى الدلالي والقيمة الجمالية التي تنطوي عليها بنيته الشعرية، ففي أعمله البالغة تسعة أعمال يتقدم العنوان الداخلي المنتخب ليكون العلامة التي تسمِّي العمل وتمنحه هويته بشكل لافت فيبلغ عدد تلك العناوين عشرة عناوين مقابل عنوانين يتمتعان بدلالتهما الكلية على العمل والتي تجعلهما يخترقان بنية القصائد ويشكلان(نواة بنية دلالية كبرى وأولية) تحيل على العمل كما هو العمل يحيل عليهما:
أغان على جدار جليدي- دمشق1963/ مرفأ الذاكرة الجديدة- بغداد 1975 / الجوع والضيف- دمشق1965 / الأزرق والأحمر- دمشق 198 / نشيد البنفسج- دمشق1999 / كتاب المائدة- دمشق1998 / أنا الذي رأيت- دمشق 1978 / اسم الماء والهواء –دمشق1986
ولا تختلف استراتيجية اختيار العنوان عند نزيه أبو عفش عن الشعراء السابقين، فهي تعتمد غالبا على انتخاب عنوان داخلي ليكون العنوان الرئيس، ويقوم هذا الاختيار على قصدية تنبع من الوظيفة الحملية المتأتية من قدرة العنوان على تكثيف واختزال الفكرة المحورية والإيحاء بها، إضافة إلى وظيفته الجمالية التي تجعله يمارس وظيفة الإغراء. لذلك نجد أن أغلب عناوين أعماله هي عناوين داخلية تمَّ انتخابها لتقوم بوظيفة العنونة التي تمنح العمل اسمه وهويته، وتشكل بؤرته الدلالية الأولية:
ما يشبه كلاما أخيرا-دمشق1978 / وشاح من العشب لأمهات القتلى-1976 بيروت . / حوارية الموت والنخيل- دمشق 1972. / هكذا أتيت…هكذا امضي- بيروت .1989.
وينحو فايز خضور في عنونة أعماله الشعرية نفس المنحى السابق، فيختار العنوان الداخلي الأبرز من حيث دلالته المحورية وبنيته الجمالية وقدرته على الإيحاء ليجعل منه عنوان الديوان، بحيث يكون رمزا ذا دلالة بديلة للمتن الشعري لهذا الديوان، كما في أغلب أعماله التي بلغت سبعة عشر ديوانا :
ويبدأ طقس المقابر- دمشق 1977 / غبارالشتاء- دمشق 1979./ صهيل الريح الخرساء- دمشق 1970./ سلماس- دمشق1986./ مصادفات-دمشق 1999./ حصار الجهات العشر- بيروت1993./ عشبها من ذهب- دمشق2000.
ومن بين شعراء الستينيات ينفرد الشاعر علي كنعان في كون استراتيجية العنونة عنده تقوم على أن يكون العنوان الخارجي للعمل بمثابة مرسلة موازية ومحمولة على العمل ككل بحيث تحمل دلالة كلية، تلعب دور التكثيف والإيجاز للبنية الدلالية لنصوص العمل الشعري، ولذلك لا نجد سوى عنوان واحد كان عنوانا داخليا جرى انتخابه ليكون العنوان الرئيسي للعمل وهو عنوان ديوان (مرايا لآخر المماليك- دمشق1982). في حين يشكل عنوان ديوانه (أنهار من زبد- دمشق 1970) جزءا من عنوان محوري داخلي هو (اللؤلؤة وأنهار الزبد).
وفيما يحاول شعراء ما يعرف بجيل السبعينيات الافتراق عن الجيل السابق على مستوى إستراتيجية العنونة التي لا يمكن فصلها عن سياقاتها الشعرية الأخرى، فإن شعراء قصيدة التفعيلة على اختلاف أجيالهم ظلوا في الغالب في دائرة إستراتيجية العنونة عند أصحاب التجارب السابقة من حيث استخدام العنونة المتمثلة في اختيارعنوان داخلي بقصد دلاليّ أو جمالي يحفِّز عليه ليكون العنوان الرئيسي، وفي العناوين التالية ما يدل على ذلك:
(في حضرة الماء وانهيارات لممدوح سكاف/ ما لا يعود لبيان صفدي/ هذا الدم ذاك الفرح لفؤاد كحل/ إلى آخر الليل تبكي القصيدة لعبد النبي التلاوي/ الرحيل نحو الصفر لنزار بريك الهنيدي/ رماد الكائن الشعري وجمهورية الأرض لمصطفى خضر/ أريدك أن تكوني لمحمد مصطفى درويش/ أربعون الرماد لأحمد يوسف داوود……).
عتبة التصدير : الوظيفة الدلالية المحورية
إن التباين في استراتيجية العنونة بين ما عرف بجيل الستينيات والأجيال التالية لا يقتصر على بنية العنوان اللغوية من حيث الطول النسبي والاقتصاد الشديد في اللغة، أو الدلالة الكلية للعنوان، بل يتجاوز ذلك بسبب التحول الذي طال بنية اللغة والرؤية الشعرية إلى عتبات الديوان الأخرى ممثلة بصورة خاصة بالتصدير الذي يشكل مع العنوان عتبة قرائية ومفتاحا دلاليا يساعد المتلقي في تأويل العمل، واكتشاف طبيعة الرؤية الشعرية التي تحكم التجربة المقدمة. ولذلك لا يمكن قراءة التحول في هذه الإستراتيجية خارج الرؤية الجديدة لوظيفة العنوان الشعرية، والتي تمنحه القدرة على تضمن العمل الذي يسمِّه والتقاطع مع مكوناته ومراتبه القولية إضافة إلى الإعلان عن مقاصده كما يرى جيرار جينيت. يغيب التصدير عن الأعمال الشعرية لجيل ما عرف بجيل الستينيات بشكل كبير في حين استخدم في تقديم بعض القصائد في أعمال متفرقة ما جعل هذا التصدير يحيل على نص القصيدة الذي يتناص معه، ويكون شرحا أو تمثلا أو محورا يدور حوله هذا النص على خلاف ما تقوم به العتبة النصية (التصدير) من اختزال لمنطق الكتابة في العمل الشعري من خلال وظائفها التأليفية وسياقاتها التاريخية والنصية التي تقدمها وتكشف عنها. ومن الشعراء الذين أهتموا بوظيفة هذه العتبة/ التصدير الشاعر علي الجندي الذي صدَّر أكثر من ديوان بها، وهي تتراوح بين العتبة التي تحمل دلالة فنية أو العتبة الدلالية التي تختزل فكرة رئيسة تهيمن على نصوص تجربة الديوان الذي تقدِّمه. في ديوانه (في البدء كان الصمت) يتضمن التصدير دلالة فنية توضح طبيعة العمل الفنية المقدمة في هذا الديوان (قصيدة سيمفونية ذات ثلاث حركات). وكما هو واضح فإن الشاعر يحاول على المستوى البنائي الفني أن يتعالق مع البناء الموسيقي السيمفوني الذي كما نعرف يتألف من أربع حركات متتالية تبلغ ذروتها في الحركة الرابعة. ويأتي التصدير الذي نجده في مطلع ديوانه (الحمَّى الترابية) موضحا حقيقة الرمز التراثي الذي يستدعيه الشاعر في هذا الديوان وهو الشاعر قَطَري بن الفجاءة أحد شعراء الخوارج (سيرة حياة داخلية في أناشيد) فالتصدير الذي يستدعي تلك الشخصية يكشف عن حقيقة الذات العميقة التي تكتسبها شخصية الشاعر التي تستخدم شخصية قطري قناعا لها وتحاول أن تتماهى بها، كما تشير إلى طبيعة النصوص الشعرية التي تأتي على شكل مجموعة أناشيد، يقوم العنوان الداخلي للنصوص بتمثلها والإحالة من خلالها على نشيد الأناشيد التوراتي الذي تتعالق معه، وتحدد بنية النص الشعري الفنية التي تأتي على شكل مقاطع شعرية متتالية. ويستدعي الشاعر مرة ثانية في ديونه (طرفه في مدار السرطان) شخصية الشاعر طرفه بن العبد أحد شعراء المعلقات الذي عاجلهم الموت وهم في ريعان شبابهم، ورغم ذلك احتلوا مكانة هامة في الشعر العربي القديم من خلال موهبتهم الكبيرة، لكن المميز في سيرة حياته هو العبث الوجودي والبحث عن الملذات الحسية التي استغرق فيها، ويكشف التقديم الذي يصدِّر به الشاعر ديوانه عن محاولة استعارة قناع هذه الشخصية وإقامة نوع من التناص بين سيرة حياته وسيرة حياة الشاعر القديم بشكل يمنح فيه الشخصية القديمة دلالات معاصرة، تعبر من خلالها عن تجربة الواقع الجديدة (كان طرفة بن العبد البكري شاعري النموذجي منذ أن عرفته وأنا بعد في مطلع شبابي، وظل كذلك حتى اليوم بالرغم من أنني رأيت نفسي أحيانا في شعراء آخرين خيِّل إليَّ أنهم أكثر تجسيدا لي عبر رمال التاريخ…فحينا عروة بن الورد وحينا قطري بن الفجاءة، ور…بما المتنبي. وهأنذا أكتشف طرفة فيّ اليوم وفي كثيرين، نختلف في كثير من صفاتنا فلقد هوى يافعا وما أزال أهرم إلا أننا نتفق في شيء أساسي هو أننا عرضة للانهيار في أية لحظة وأن «السرطان» يقرض حياتينا أبدا)(3). وكما هو واضح من هذه العتبة فإن الشاعر يعمل على توجيه انتباه القارىء وفعل التأويل عنده من خلال تحديد عناصر التلاقي والاختلاف في الصفات بينه وبين الشاعر، ورغم ذلك يظل يستعير قناع هذه الشخصية التي يكتشف نفسه فيها، الأمر الذي يجعل الطبيعة الجدلية (لمبدا التقنع تتأسس كمبدأ تكويني وكفاعلية إنتاجية على تجربة رؤيا داخلية، ينفتح فيها الشاعر على حركة تفاعل تستمر باستمرار القصيدة مع أنا مغاير أو أكثر)(4). ويغيب التصدير عن أعمال الشاعر ممدوح عدوان باستثناء ديوان (طيران نحو الجنون- بيروت1999) الذي يتضمن قولا للشاعر جلال الدين الرومي يبيِّن فيه العلاقة بين العقل والجنون (كل عقل يطير..إلى حيث الجنون) حيث يتعاضد التصدير/ العتبة مع العنوان في تشكيل المحور الدلالي لهذا النص/ الديوان الذي يأتي التصدير لقول من أقوال الرومي في مطلع كل مقطع من مقاطع القصيدة الطويلة مشكلا تكثيفا واختزالا لمضمونه. وعند الشاعر محمد عمران نجد التصدير يأتي غالبا في مطلع القصائد ما يشير إلى دلالته الجزئية، والديوان الذي تضمن عتبة تصدير هو ديوان (أغان على جدار جليدي) حيث تضمن التصدير قولا عربيا قديما يدل على مدى التعب والانهاك الذي أصاب المقاتل العربي والحاجة إلى الراحة والحياة الهانئة بعيدا عن الموت وساحات القتال (أما آن لهذا الفارس أن يترجل). ويظهر التصدير في أكثر من عمل من أعمال الشاعر نزيه أبو عفش وهذا التدير يتوزع بين المضمون السياسي والذاتي الشعري الخاص بمعاناة الشاعر مع تجربة الكتابة على المستوى الوجودي. يمكن التمثيل للنوع الأول من التصدير بالقول الذي يخاطب فيه الشاعر الفلسطيني محمود درويش العرب بمرارة وأسى تعبيرا عن مدى الشعور بالخيبة الكبيرة (ايها العرب لماذا تكذبون عليّ) حيث تقف الأنا بما تحمله من بعد رمزي في مواجهة حالة تكرسها علاقة العرب به وتتعلق بواقع المعاناة الفلسطينية. أما التصدير الثاني فيتمثل في الكلام الذي يصدر به ديوان (ما يشبه كلاما أخيرا-دمشق1999) ويتحدث فيه عن معاناة الكتابة الشعرية حتى تكتمل في شكلها الذي تقدم فيه للقارئ (…إن قصيدة بسيطة واحدة تلتهم ورقتين صغيرتين من الدفتر ربماتكون قبل ذلك قد التهمت سنتين كاملتين من الحياة) ففي هذا التصدير يقدم الشاعر مكاشفة يسعى من خلالها أن ينبه المتلقي إلى حجم المكابدة والثمن الذي يدفعة الشاعر من حياته ووجوده لكي تكتمل الولادة الأخيرة لهذه القصيدة التي قد يقرأها القارئ في دقائق معدودات. ويحاول الشاعر علي كنعان في ديوانه (أبجدية الينابيع- بيروت 2007) أن يجعل من التصدير بؤرة دلالية تقوم بوظيفة دلالية توحي من خلالها بمضمون التجربة التي تمثل من خلال العلاقة الوجدانية والوجودية عودة إلى أيام الطفولة الهاربة متمثلة في الينابيع الأولى للحياة التي عاشها الشاعر ما يكشف عن السياق الوظيفي والنصي والتاريخي لهذه العتبة التي تتضمن ثلاثة أقوال الأول مأخوذ من لسان العرب حول المعنى المعجمي لكلمة الخريف، والثاني والثالث مقطعان نثريان للشاعر يتضمنان خواطر حول العلاقة بالمكان والزمان على المستوى الوجودي والتجربة الخاصة بعالم القرية (..وسمِّي الخريف خريفا لأنه تخرف فيه الثمار أي تجتنى.- الأطفال لا ينسون كيف تشيّع القرية أبناءها الراحلين بمجامر البخور- لماذا تزداد الطفولة نضرة ومحبة كلما أقتربنا من نهاية الجسر) وإذا كان القول الأخير يأتي بصيغة السؤال الذي يتطلب إجابة عليها، فإن القول الثاني بوصف للموتى بأنهم أبناء القرية الراحلين ينوي على دلالة وجدانية تكشف عن طبيعة العلاقة مع المكان الريفي الذي كان موطنا لتلك الطفولة التي تغدو مع تقدم العمر أكثر نضرة، وبالتالي يكون الحضور النفسي والوجداني للمكان الذي احتضن تلك الطفولة أكثر تعبيرا عن هذا الارتباط الأمومي بالمكان/ القرية.
إن هذا التركيز على المتن الشعري في نصوص القصائد يدل على إهمال دور العتبات أو الحواشي التي تشكل نصا صغيرا يحيل على النص الأكبر/ الديوان ووظائفها التي تقوم بها بحكم وظيفتها الاتصالية المتمثلة في أنها تشكل صلة الاتصال الأولى مع القارئ أو العتبات التي يطل منها القارئ على داخل العمل أومن خلال وظيفة الإغراء والإعلان التي تنهض بها ودورها في تأويل العمل والإيحاء بمضمونه، ما يدل على مركزية النص وإغفال حدوده المتمثلة في هذه العتبات.
وتتمايز تجربة السبعينيات وما تلاها عن تجربة السابق على صعيد الاهتمام بوظيفة التصدير/ العتبة في رسم المحور/ المحاور التي ستدور حولها تجربة الديوان التي ستقدمها نصوصه الشعرية بحيث تضع القارئ في فضاء هذه التجربة وشواغلها الفكرية والجمالية التي غالبا ما تكون مقاطع شعرية مجتزأة من قصائد عالمية أو عربية أو أقوال ونصوص صوفية أو أدبية. وللتمثيل لهذا التوظيف للمرجعيات التناصية سنختار أربع عتبات/ تصديرات لأربعة شعراء مختلفين، العتبة الأولى من ديوان بندر عبد الحميد (إعلانات الموت والحرية- دمشق 1978) وتتمثل في قول للشاعر الانكليزي شلي في رثاء الشاعر الانكليزي الراحل جون كيتس (إنه يحيا…إنه يصحو) وتدل على انتصار الشاعر على الموت بشعره الذي يجعله حيا دوما إذ يوحي الفعل المضارع المستخدم في العبارة بالاستمرارية والحركة. والشاعر أراد من خلال هذا التصدير أن يدلل على قيمة الشعر على المستوى الوجودي والإنساني الذي يقهر فيه الموت والعدم.
ويتوزع التصدير في أعمال الشاعر نوري الجراح بين المقبوسات الشعرية من شعراء غربيين وبين الكتابة التي تكثف وتختزل جانبا مهما وأساسيا من التجربة يجعل منها عتبة نصية، ذات سياقات توظيفية نصيا وتأليفا تؤدي دورا مهما في عملية التلقي وأفق التوقع، وفي اختزال طبيعة الرؤية الشعرية أو مضمون الرسالة التي سيقدمها العمل الذي تتصدره. وللتمثيل لهذين النوعين من التصدير سنختار أربعة أعمال من أعماله الشعرية، يتضمن العملان الأولان مقبوسين الأول للشاعر ريلكه (كل ما أستسلم له يغتني ويهجرني) في ديوان (القصيدة والقصيدة في المرآة) وهو يوحي بمعنى المرارة والفقد والخيبة الناجمة عن الخضوع والاستسلام في العلاقة مع الآخر، وتمثل ذات المتكلم/ الراوي في هذا النص مركزه إذ يكون الخطاب الذي يأخذ طابع المكاشفة حديثا عنها، ما يوحي بموقع الذات الشعرية في هذا الخطاب، وطبيعة التجربة التي تعيشها في علاقتها بالآخر. أما المقبوس الثاني (في ديوان الصبي) فهو للشاعرة الأمريكية إميلي ديكسون (باستطاعتي أن أخوض في الحزن/ في برك لا نهاية لها منه/ اعتدت على هذا/ غير أن أبسط دفعات الغبطة/ تكسر قدمي) وهو يحمل معنى الشعور بالمفارقة على مستوى التجربة الشعورية بين الحزن والفرح وما يعكسه ذلك على مستوى الذات من مكابدة اعتادت عليها النفس في الحياة التي لم تعتد الفرح والقدرة عليه. وفي العملين الآخرين يكون التصدير ذاتيا. ففي ديوان (كأس سوداء) يكون التصدير بمثابة رسالة يحدد فيها الجهة المعنية بالخطاب الشعري في قصائد هذا العمل، وهي تحمل التباسا واضحا في معناها الدلالي الناجم عن طبيعة الصيغة النحوية للعبارة (إليه، هو الذي يعرف) وبالتالي فإن معرفة الضمير الذي يتوجه الخطاب إليه يظل مقتصرا على شخص غير مسمى لكنه حاضر في هذه النصوص، وبالتالي فإن التصدير يمارس لعبة الإغواء مع القارئ للكشف عن الضمير المجهول الهوية والحاضر الدلالة والوجود في هذا العمل الذي يستغرقه. وفي ديوان (طريق دمشق والحديقة الفارسية) يأخذ التصدير صيغة المتكلم المفرد الحاضر الذي يحاول أن يكثف معنى تجربته الوجودية وتحولاتها التي تفاجئه من حيث غرابتها (بدأت بلا أمل في شيء/ حتى لأعجب من الأوهام كيف تطاوعني). ولاشك أن قراءة تلك العتبات النصية المتمثلة في التصدير لا يمكن أن تحقق أهدافها بمعزل عن تناول علاقتها بسائر العتبات الأخرى، لأن حدود تلك العتبات تشملها جميعا وهي تأتي ضمن سياقات توظيفية وتاريخية ونصية ووظائف تأليفية تختزل قسما من منطق الكتابة كما يقول جيرار جينيت في دراسته الهامة عتبات.
ويتضمن التصدير في ديوان(انتبه إلى….ربّما؟-دمشق 2007) للشاعر عادل محمود قولا خاصا بالشاعر يعبر فيه عن رؤيته للعلاقة مع الآخر في الحياة التي يعيشها، وتحمل معنى يدل على الرغبة في المشاكلة والتقارب والتوازن في الوجود والقيمة (لا أريد أن أكون أمامك فأغدو قائدا. لاأقبل أن أكون وراءك فاصبح تابعا، أريد جوارك!! ربَّما). وهي بذلك تكثف رؤيته الإنسانية والوجودية التي تحاول تجربته في نصوص الديوان أن تتمثل ابعادها.
وعلى خلاف التناص مع الذات عند عادل محمود يتخذ الشاعر عابد إسماعيل من ثلاثة شواهد شعرية لثلاثة شعراء عرب من أجيال وتجارب مختلفة عتبة لديوانه(لمع سراب-دمش2006) تتصل على مستوى الوظيفة الدلالية/ الإيحائية مع العنوان الخارجي إذ يشكلان معا بؤرة دلالية أولية تفصح عن تلك العلاقة المراوغة والملتبسة للكائن مع الوجود والأشياء والعالم الذي يحيا فيه:
(إنني أبحث عن أسم، وعن شيء أسميه، ولا شيء يسمّى)
أدونيس.
تاهت على صورة الأشياء صورته
حتى إذا كملت تاهت على التيه
أبو تمام الطائي.
الجمال هو البعيد، البعيد فقط.
وديع سعادة
وتلعب العتبة التصديرية في ديوان (تتويج العشب- بيروت/ دمشق 1998) وظيفة دلالية هامة من خلال المقبوسين اللذين يتضمنان مقطعا من نص لشاعر سوري قديم هو ملاغر وقولا للمتصوفة الكرملية تريز. ويتضمن المقطع الأول خطابا يوجهه الشاعر لشخصية يدعوها بالغريب تتعلق بالعلاقة مع المكان والمعنى الذي تنطوي عليه في سياق الرؤية الكونية الواحدة التي ترى في العالم بلدا واحدا وفي الإنسانية أصلا واحدا انبثقت منه(…فإذا كنت سوريا أين هي الغرابة؟ أيها الغريب إننا نقطن بلدا واحدا هو العالم وشيء واحد أنبت كل البشر)، أما القول الآخر فيتعلق بمفهوم الحب الإنساني وما يحمله من معان كبيرة(نحن لا نحب لنمشي بل لنطير). وهكذا تتعالق العتبة التصديرية مع العنوان دلاليا ووظيفيا من حيث الإيحاء بطبيعة الرؤية التي تمجد الطبيعي في الحياة وتلغي حدود الجغرافيا التي تباعد بين الشعوب والثقافات مؤكدة بذلك على المعنى الإنساني الذي يجمع البشرية ويوحدها والذي يجد تجليه الأجمل والأعظم في مشاعر الحب التي تخلق من الإنسان كائنا جديدا يحلق في سماء المحبة والعاطفة الخلاقة والنبيلة.
والتصدير الأخير للشاعر فؤاد كحل في ديوانه (أزهار القلب- دمشق 1989) ثلاثة مقبوسات الأولى من أدب الكاتب حول ضرورة التكثيف والاختزال التي هي من نوع البلاغة في القول بما يجعله يختزن الكثير من الأفكار في القليل من الكلام. والمقبوس الثاني للشاعر بودلير (إن كل تجاوز الطول الذي يستطيع الانتباه البشري أن يصرفه إلى الصيغة الشعرية ليس قصيدة) والمقبوس الثالث لرسول حمزاتوف (أنا لا أريد أن أشبه أحدا لا عمر الخيام ولا بوشكين ولا بايرون) وتحمل المقبوسات الثلاث دلالات تتعلق بالعلاقة مع اللغة والرؤية إليها وبالتجربة القائمة على التمايز والخصوصية التي تكون تجسيدا للذات الشعرية ورؤاها وتجربتها الخاصة، ما يعكس حرص الشاعر الذي يؤكد عليه من خلال هذه المقبوسات التي يدونها على ضروة امتلاك الشاعر لتجربته ووعيه الجمالي والفكري الذي يمنح تلك التجربة هويتها الخاصة بها، الأمر الذي يدلل على التساوق في الوظيفة الدلالية والإيحائية بين التصدير والعنوان الخارجي الذي يمنح نصوص الديوان معنى جماليا ووجدانيا ذاتيا توحي به عبارة أزهار القلب، وهو ما يكشف- كما يقول جينيت – عن الوظائف التأليفية التي تختزل قسما من منطق الكتابة، والتي لا تنفصل فيها على مستوى البنية والدلالة عن خصوصية التجربة التي يقدّمها الديوان في نصوصه الشعرية ،فهي تكشف من خلال موقعها الأولي الذي تتصدر فيه واجهة الديوان عن المرجعيات التي تتعالق معها رؤيته الشعرية، ويتشكل منظوره الجمالي في تجربة هذا الديوان.
الهوامش
جزء من دراسة مطولة ستصدر في كتاب قريبا.
1- قرآن كريم- سورة الرعد- الآية 16.
2- الشعر العربي الحديث- رشيد يحياوي-دار إفريقيا/الشرق- الدار البيضاء 1998-ص110.
3- طرفه في مدار السرطان- علي الجندي- اتحاد الكتاب العرب دمشق 1975.
4- في قصيدة القناع في الشعر العربي المعاصر-د. عبد الرحمن بسيسو- المؤسسة العربية للدراسات-بيروت1999_ ص56.
مفيــد نجـــم
ناقد من سورية