محمود فرغلي
باحث مصري
تنتمي رواية (باب الشمس) للروائي والأكاديمي الشهير إلياس خوري (1946-2024) إلى ما يعرف بالقصة الشهودية testimonio، وهي عبارة عن رواية أو قصة بطول الرواية القصيرة يوردها الراوي بصيغة المتكلم، والذي هو أيضا البطل الحقيقي للأحداث التي يرويها أو شاهد عليها، وعادة ما تكون وحدة الحكي حياة أو حدثا مهما في حياة ما، بيد أن الجانب التوثيقي والقائم على استنطاق الشخصيات لا ينفي عن أعمالها التخييل بوصفه شيئا انتقاليا يقع بين الواقعي والخيالي، فهو لا يقطع الصلة بالواقع، وإنما يشتغل به من خلال مجموعة من الأفعال تظهر بصورة واضحة من خلال الرواة/ الشهود، وهو ما سنوضحه في هذه الدراسة.
مستويات السرد
في رواية خوري طرفان أساسيان للسرد، خليل الطبيب ويونس الأسدي الغائب عن الوعي، ومن خلال أسلوب الالتفات السردي بضمير المخاطب، وهذا الالتفات من شأنه أن يحدث تذبذبا بين المتلقي والسامع والمخاطب والمستجيب، وينوع الوظائف التي يقوم بها الرواة، ليضيف إلى الراوي وظائف عديدة، تتجاوز وظائفه العادية، أو يبرز وظيفة على حساب أخرى، ويونس بناء على ذلك له أكثر من دور، مثلما كان له أكثر من اسم.
يونس (القصة) السامع
يونس (الخطاب) المستجيب
هذا على مستوى التلقي، أما على مستوى السرد، فيتبدل الحال مع تعدد مستويات السرد داخل الرواية، ليصبح يونس محكيا عنه وحاكيا في الوقت ذاته، فالخطاب السردي يجمع بين المباشر وغير المباشر من خلال الراوي الرئيس خليل الممرض/ الطبيب الذي توافرت له صيغة خطابية شفاهية يلقي من خلالها على مسامع يونس حكاياته وحكايات يونس ذاته، بهدف إيقاظ الحواس واستحضار الذاكرة واستنطاق التاريخ، والحفاظ على توازنه الذاتي قبل استعادة وعي يونس من خلال الحكي الشفاهي، إذ يطرح خليل في إحدى مناجياته ليونس الميت سريريا فكرة الرواية وعدم قدرته على كتابتها مقارنة بقدرته على الحكي1، ثم مستوى آخر كتابيًا لا يقوم به خليل بل يقوم به راوٍ عليم يتماس مع المؤلف الضمني، وهذا الالتفات السردي كما حقق هذا التنوع الأخاذ في مستويات الحكي والتلقي يستدرج القارئ للمشاركة بصورة متدرجة من خلال الانصراف في بدء الرواية عن محور القصة المخاطب فيها، وإنما يحيله إلى موت شخصية أخرى (أم الحسن) يسترسل في وصف وقائع موتها وأثره، “ماتت أم حسن. كل الناس كانوا يعرفون أن صباح هذا الاثنين 20 تشرين الثاني 1995، سوف يكون موعد نبيلة بنت فاطمة مع الموت… ماتت نبيلة زوجة محمود القاسمي… بقيتُ معك حتى الثانية عشرة ليلا… منذ ثلاثة أشهر وأنا عاجز عن الانفعال، فقط هذا الرجل المعلق فوق سريره يجعلني أحس برعشة الأشياء منذ ثلاثة أشهر وهو ملقى فوق سريره في مستشفى الجليل حيث أعمل طبيبا… قالوا إنه أصيب بالكوما، انفجار في الدماغ، نتج عنه عطب دائم… أم حسن قالت في زيارتها الأولى له إن يونس يتعذب، وقالت إنه أصبح في برزخ غير برزخنا، وماذا أفعل؟ سألتها، افعل ما يقوله”، جاوبتني،”بل يحكي”، قالت، “وعليك أن تسمع صوته.. وأنا لا أسمع والله لا أسمع، قل أيها الرجل ماذا يجب أن أفعل أجلس إلى جانبك واستمع بكاء الناس…”2. يسير السرد متدرجا لجذب القارئ شيئا فشيئا، فلم ينطلق من يونس إنما من القابلة أم حسن قابلة مخيم شاتيلا، يقدم فقرة فقرة اسمها وسيرتها، وهي من حضت خليل أن يحكي، فالحكي ولادة من جديد وليس ثمة انفصال بين حكي خليل وميلاد تاريخ يوشك أن يمحوه الزمن، بل لا ينفصل الأمر عن العتبة الأولى التي تروى عن الفقير وبئر الماء وعلاقته بشيخه، وكأن العلاقة بين خليل ويونس هي ذاتها علاقة المريد بشيخه، بها يستطيع المريد أن يصل ويحقق المعجزات.
الحكي/ الحياة
إن ثنائية الحكي/ الحياة قديمة قدم ألف ليلة وليلة، وفي زمن الرواية تحولت هذه الثنائية إلى تقنية تتوسل بضمير الخطاب لمخاطبة مريض أو غائب عن الوعي بقصد شحذ الذاكرة أو إيقاظ الوعي، فتلك الثنائية تتولد منها ثنائية مضادة (الصمت/ الموت)، ومنذ قامت إيزابيل الليندي بذلك في روايتها (بولا 1994)3، حيث تناجي ابنتها وهي على سرير المرض بضمير المخاطب، وعدد من الروائيين العرب يستخدم التقنية ذاتها، مثل على بدر في الكافرة، وإسماعيل فهد في روايته (على عهدة حنظلة)، والرواية التي بين أيدينا، وهي أسبق منهما، بيد أن إلياس خوري “لا يجعل من التقنية وسيلة للتعبير عن أثر علاج الغيبوبة بالكلام، أوالتعبير عن الرغبة العارمة في منع الأحباب من الذهاب، وتركنا وحيدين على هذه الأرض؛ بل إنه يتخذ من الحكاية وسيلة للمِّ شتات الحكايات الكثيرة للفلسطينيين في زمن دخول مشروعهم الوطني ما يشبه الغيبوبة التي دخلها المناضل الفلسطيني يونس الأسدي، إن كاتب باب الشمس يجعل سقوط يونس في بئر الغياب ترميزا للشرط التاريخي الراهن”.4
وهذا الالتفات السردي من خلال سرد إلى غائب عن الوعي، حيث يحكي خليل (الطبيب/ الممرض) على يونس الأسدي حكاية يونس ذاته وزوجته وغزواته وحروبه ويصعد به إلى مصاف الأبطال الأسطوريين ويهبط به إلى هوة الجبن والخذلان، كما يحكي عليه حكايته هو ذاته، هذه التقنية هي بمثابة التفات شعري وسردي في الوقت ذاته، شعري في شكله من خلال مخاطبة من لا يرد، وسردي في أنه يقوم بالسرد من خلاله حكايات يونس وزوجته وآله، ويرى فخري صالح أن هذه التقنية كانت ضرورية رغم أنها لا تشكل جوهر الرواية، بل هي مجرد وسيلة لتغريب التعبير المباشر عن قضية الشعب الفلسطيني المشحونة بالسياسي والشعاري والأيديولوجي، وهي عناصر كانت ستفقد باب الشمس شرطها الروائي لو أنها تسربت بصورة مفرطة إلى شبكة الحكايات التي يقيمها إلياس خوري في هذا العمل الروائي المركب”5 والعجيب أن خليل الراوي يشير إلى هذا التوازي بين الحياة والحكي، حيث يقول: “استخدام هذه الأو التي تجعل الذي كان كأنه ما كان، والذي ما كان كأنه كان، فتتساوى القصة بالحياة، فالقصة هي الحياة التي ما كانت، والحياة هي القصة التي ما رويت”6 ولأنه فعل حياة ضد النسيان والموت والتلاشي؛ لذا نجد أن شخصيات الرواية على كثرتها تقوم بفعل الحكي.
جدل الواقعي والمتخيل
تقول يمنى العيد عن الكتابة في زمن الحرب تعد “مشكلة شائكة، لأنها قائمة في لحظة مفارقة حادة بين المرجعي (الواقع) والأدبي (المتخيل)… هذه المفارقة تطرح على الكتابة، في زمن تغيّرات التاريخ الكبرى، ضرورة انتشال ذاتها بما يعادل ولادة جديدة لها، ولادة قادرة على استنطاق التاريخ وحقيقته في لحظة دماره وتمزقه”7 وبناء عليه يتوسل الكاتب بأمرين على مستوى الخطاب السردي وهي الشهادة والمشهد، وفي هذه المفارقة يبدو لنا توسل المشهد كتقنية معبرة عن الدمار، هو المضمون نفسه. لأن دلالات المشهد بما يحيل عليه من واقع مكاني وعلائقي بشري تشكل إدانة قائمة بنيويا بذاتها”8 وما كان للمشهدية أن تتوافر إلا عبر حضور يبني المشهد بقدر ما يسرده، ورغم اعتماد الراوي الأساسي (خليل) على التاريخ ومساءلته إلا أنه لا يسقط في براثن التسجيل التاريخي التقليدي، فمن خصائص السرد ما بعد الحداثي أن يشكل الوعي بكيفية تمثيل الماضي لا بوصفه أمرا موضوعيا بريئا إنما بوصفه سجلات ووثائق وشهادات نضفي عليها كثيرا من الذاتية والتخييل، وثمة فرق بين الحدث والواقعة، إذ تمثل الثانية إضفاء معنى على حدث ما، من خلال مساعد آخر هو عملية التسلسل القصصي، الحدث الخام يختلف عن الواقعة في كون الأخيرة تضيف له معنى ومن ثم قد يكون الحدث واحدا ولكن الوقائع المحيطة به مختلفة وفقا لتسلسله السردي وموقعه من الحبكة؛ لذا صدق بارت حين قال بأن الواقعة ليس لها سوى وجود لساني، بل إن مفهوم الحبكة ذاته عاد ولكن بصورة مختلفة عن طبيعته الأولى، على عادة ما بعد الحداثيين في استعادة القديم ولكن في قوارير جديدة “فصار ممكنا عودة الحبكة إلى الرواية ما بعد الحداثية، لا كعامل خاضع لتلك الموضوعات، بل كعنصر يعمل على تهميش المواضعات في نهاية المطاف”9. وقد كان أحد هموم الكاتب فيما يبدو هو كيف ينسج عملا أقرب للشهادة الروائية التي تتوسل بالشهادة والوثيقة والتاريخ، ولكن في إطار سردي لا يفقدها طبيعتها الروائية وخصوصيتها الجمالية، فتقرأ دائما بوصفها رواية، وفي الوقت نفسه يتسرب التاريخ إلى فجواتها الدلالية لا ليتصدر المشهد، ولكن بوصفه كناية، حيث ينصرف عن المعنى الأصلي (الحقيقي) إلى المعنى الكنائي مع جواز إرادة المعنى الأول، والسرد في رأي كثيرين ذو طابع كنائي يقوم على التجاور، وإن كانت الكناية في حقيقتها أكبر من مجرد تعبير تم تجاوز معناه الحقيقي إلى لازم معناه، مع توسطه بين الحقيقة والخيال، بل تتسع “لتتوسط بين الوعي والعالم”10
إن ما نقصده في التوقف أمام العلاقة بين التاريخي والمتخيل في الرواية هو أن خلخلة التاريخ وتفكيكه لوحدات قصصية صغيرة يمثل ضرورة سردية تتحلق من حولها، بل تتأسس عليها كل الخيارات السردية وكل الإمكانات الأسلوبية البلاغية المتاحة للكاتب، ومنها الالتفات بصور وأشكال مختلفة، وليس هدفها مجرد كسر السرد أو إيقافه، حيث السرد بطبيعته داخل الرواية متشذر، متقطع؛ إنما الأمر يتعلق بالخروج من أسر التاريخ أو التسجيل الواقعي للأحداث، وحث القارئ على الفعل والمشاركة وليس مجرد التأثر الانفعالي، فرغم أن خوري اعتمد على عشرات الشهادات والوثائق عن تاريخ فلسطين إبان نكستها وتغريبة أهلها الكبرى، إلا إن همه الأساسي كان كيفية تعشيق تلك المعارف والشهادات والحكايات في نسق لا يقبل المنازعة أو الدحض، نسق قابل للاستمرار والمقروئية، دون تشكيك، وهذا فارق أساسي بين الرواية والتاريخ، ولم يجد سوى السرد الروائي ليحقق له مقاصده الفنية وغير الفنية. ولنضرب مثلا بالالتفات الاسمي، فرغم وجود أسماء تاريخية في الرواية بإحالتها للواقع التاريخي، إلا أن تصرفه في أسماء المتخيل منذ اللحظة الأولى للسرد يبرز الجانب التخييلي ويعليه عما سواه، فثمة تنوع واسع في الأسماء والأعلام، يربطه أحد الباحثين بالوظيفة الأيديولوجية للرواي بقصد الإفادة من النعوت والألقاب الراسخة في الموروث الشعبي، وإشارة إلى انتشار الأسماء الحركية وتعددها لنشطاء الثورة الفلسطينية”11
والاسم يضفي هوية ذاتية على الشخصية؛ وتنوُّعُه ذو دلالات تتجاوز مسألة الهوية إلى الرمز فهو علامة إيجابية وسلبية، كذا نجده يشير إلى بعد أسطوري يكتسبه المسمى بألقاب وكنى مختلفة بناء على ما صدر من أعمال وبطولات، ولكن من جهة أخرى يشير إلى عدم الاستقرار واضمحلال الهوية وعدم ثباته، ويؤكد المشاكلة بين الدال والمدلول، أوالشخصية وواقعها، نبدأ من أم حسن القابلة التي ماتت في بدء النص حيث تتوزع أخبارها عبر كنيتها واسمها: “ماتت أم حسن… ماتت نبيلة زوجة محمود القاسمي… 20 من تشرين 1995 سوف يكون موعد نبيلة بنت فاطمة مع الموت”12 حيث انتقل الراوي من الكنية إلى العلم وقدم من خلال ذلك بعض الأخبار عن حياتها ووظيفتها وأولادها بصورة تعبر عن عدة استراتيجيات للحكي سوف ينتهجها بطول الرواية، منها التكرار والتشذير ودمج التاريخي بالمتخيل والالتفات، أما الصورة الأوضح للتسمية ودلالاتها فهي شخصية يونس الأسدي (المروي عليه) الراقد على فراش الموت، حيث تشكل الأسماء ضرورة وجود، فما لا يسمى لا وجود له، ومن هنا كان التركيز على الأسماء أسماء الشهداء والأماكن والقرى كجزء من وظيفة السارد الأيديولوجية، ففي لحظة ما يسأل خليل يونس الأسدي “هل نسيت اسمي… ما اسمك؟ في المخيم يسمونك أبو سالم وفي عين الزيتون أبو إبراهيم، وفي المهمات البعيدة أبو صالح، وفي باب الشمس يونس وفي دير الأسد الرجل، وفي القطاع الغربي عزالدين. أسماؤك كثيرة وأنا لا أعرف ماذا أدعوك”13. وفي فقرة أخرى يقول: “طلبت مني تغيير اسمي كما يغير الفدائيون أسماءهم، لكني لم أغير اسمي”14، فكثرة مسميات يونس رغم أنها علامة شهرة ورمز تتسع دلالته لتشمل كل إنسان فلسطيني يحب وطنه ويدام العودة إليه، إلا أنه دال ارتحال ونزوح لا ينتهي، ودال تخفٍ واستتار خوف من بطش العدو، بل صار علامة تفسخ للشخصية حيث تفقد الأسماء دلالتها، وحين سألتك عن اسمك الحقيقي، رفعت يدك، اترك هذه الحكاية قلت: ادعني كما تشاء، وحين أصررت عليك جاوبت أن اسمك آدم “كلنا أبناء آدم فلماذا نتسمى بأسماء أخرى”15 ولأن الأسماء جزء من القضية، بل محور من محاورها الاختلاف على مسميات البشر والأمكنة ونسبتها، كانت تسمية يونس ذاته قضية ملتبسة” إن والدك أراد في البداية تسميتك أسد لكنه غير رأيه بعد يومين خوفا من ابن عمه.. فأسماك يونس كي يحميك من الموت.. لكن أمك لم تحب يونس، فقالت عز الدين.. ثم قرر الشيخ وضع حد للمسألة وقال ان اسم عبدالواحد أفضل.. وذهب إلى الشيخ الضرير مستوضحا، يومها نطق الشيخ نظريته حول الأسماء، وحول سيدنا آدم قال “كل الأسماء مستعارة…”16 إن النزاع على التسمية هو نزاع على المسمى، وهو ما يؤدي الوظيفة الأيديولوجية للسارد، خاصة وأن تلك الأعلام كلها انمحت وانقلبت إلى كنى وألقاب أخرى في الأمكنة التي ترحل بينها، ولم يبق له في النهاية إلا يونس الأسدي. إن الأسماء هي إسقاطات ثقافية ذات مرجعيات مختلفة دينية وأسطورية واجتماعية وسياسية، والأمر نفسه يحكيه خليل عن نفسه: “الاسم ليس مهما، ففي تلك الأيام كانت أسماؤنا كلها مستعارة، أنا مثلا لم يكن اسمي خليل، كان اسمي أبو خالد، رغم أني أردت تسمية نفسي جيفارا”17، فالالتفات من علم إلى كنية إلى لقب رغم أنه تقليد بطولي على مستوى القصة إلا أن دلالته خلاف ذلك على مستوى الخطاب، بل إن الشخصيات في عدم اهتمامها بالتسمية في مرحلة تعبر عن خذلان حين ترى الشخصية فراغها وعدم قدرتها على الفعل، أو إيقاف الهزائم والتغريبات المستمرة، فكلاهما- خليل ويونس- لا يستطيع أن ينسب نفسه للفدائيين ممن تتغير أسماؤهم بتغير بطولاتهم وأماكنها، هنا تفقد الأسماء والألقاب معانيها وتخلو من شبهة الزهو والافتخار لصالح الشعور بالضياع والهزيمة. بل كان اختلاط الأسماء جزءًا من الفوضى العارمة التي أعقبت النكسة، “حتى الأسماء اختلطت، صار الاسم يطير من صاحبه ويغط على إنسان آخر، حتى الأسماء لم تعد تعني شيئا”18 ، وفي مقابل الحركية الاسمية ليونس نجد رسوخا تاما لمسميات الأمكنة والقرى المبادة والمخيمات والجبال بدءًا من اسم المغارة التي عاشت فيها زوجته والمعنون به عنوان الرواية.
فلسطين شجرة السرد
الوصول إلى الماضي لا يتم إلا من خلال الوثائق والسجلات وشهادات شهود العيان والقرارات، ويتم تمثيلها من خلال عمليات استقراء وتفكيك وربط وحذف، فلم تعد الكتابة التاريخية بريئة من التخييل، ورغم ادعاء الموضوعية لاتخلو من الذاتية، ولم تعد تسجيلا للماضي تسجيلا موضوعيا وبريئا من الذاتية، فهي أكثر منها محاولة لفهمه والسيطرة عليه بواسطة نموذج مساعد على العمل (قصصي/توضيحي)، إنها هي التي تضفي معنى خاصا على الماضي”19؛ لذا يمكن القول إن باب الشمس تقوم بكتابة تاريخ جديد، تاريخ يشبه التاريخ ولا يتمثله، تاريخ يقوم على دمج الشهادات بالمرويات التاريخية في إطار نسق متخيل، ولم يكن الكاتب بحاجة لما يقوله كثير من الكُتاب من عبارات تليدة في مطالع رواياتهم عن نفي أي تشابه بين شخصياتهم والواقع، إذ إنه أعاد تخليق الواقع وقدم الواقع الكتابي على الواقع التاريخي، رغم أن بذرته موجودة وقارة، لكنها في قاع الخطاب، من خلال التكسير المستمر للسياق السردي، والتكرار والنقض والإبرام بحكي القصة نفيها أو التشكيك فيها20 والتفرع الحكائي بصورة شجرية أصلها فلسطين وفروعها في شتى بقاع الأرض، وبناء على السرد الالتفاتي المتشذر تضيف الرواية للتاريخ ذاكرة أخرى وثائقية فنية؛ لتتحول حكايات يونس ونهيلة إلى حكايات العرب الفلسطينيين الذين كانوا يحاولون العودة إلى فلسطين بعد تهجيرهم إلى بيوتهم القديمة التي سكنها آخرون. إن الأمر يتعلق بالتوازن بين التاريخي والمتخيل الروائي، ولم يكن التاريخ عائقا إلا بقدر التزام المؤلف بما يعرف بالحقيقة التاريخية التي هي قراءة سطحية لأرشيف ووثائق دون غوص فيما وراءها، وليس من شأن الرواية أن تسفِّه من ذلك، وإن كان لا يخدم فلسفتها الجمالية الإنسانية القائمة على سد الثغرات وقول المسكوت عنه في تلك الوثائق، “فلا يسبب الربط الرسمي بين الرواية والتاريخ عبر المهيمنات المشتركة من التناصات والسردية في العادة اختزالا أو تقليصا في أفق وقيمة الرواية، بل على العكس تماما، إنه يمنح توسعا وتمددا في الأفق والقيمة، أما إذا نظر إليه على أنه محددات مقيدة لما هو مسرود دائما، فإن ذلك يضاف إلى قيمته الابتدائية”21، لذلك ينفي هايدن وايت أن يكون الفارق بين التاريخ والتخييل يكمن في واقعة أن المؤرخ يجد قصصه؛ في حين أن كاتب التخييل يبتدع قصصه. هذا التصور لمهمة المؤرخ يحجب الدور الذي يؤديه الابتداع في أعمال المؤرخ”.22
إن أول أثر للالتفات السردي هو الخروج من ربقة التاريخ تماما، فالتاريخ التقليدي لا يقوم على المخاطبة وضميره الأثير هو ضمير الغائب، في حين يظل السرد مصطبغا بالصبغة الذاتية، وباب الشمس لا تهمش التاريخ ولا تسترجعه، إنما تعيد إنتاجه من خلال الشهادة، فهي بمثابة توثيق أدبي. التخييل لاعب أساسي في التشكيل والتاريخ هو بذرة الأحداث، ونواتها الشهادة بوصفها تحولا من العين إلى الأذن وهو تحول من المفرد إلى الثنائي والمتعدد، فالشاهد لديه ما يقصه أو يسترجعه وهو ما يستدعي مستمعا يقص أمامه ما يقول إنه شاهده، ربما كان فاعلا فيه أو ضحية من ضحاياه، لكن الغريب أنه في لحظة الشهادة يقف في موقع شخص ثالث بالنسبة لكل المشاركين في العمل لكي تكتمل الشهادة، ومن الطريف أن يونس في هذه العملية هو شاهد في الحكاية ومشهود في الخطاب، حيث يبني خليل ردود فعل يونس وإجاباته على متخيل أو بناء على مواقف سابقة يفترض من خلالها رد فعله “أسمع رنين ضحكتك تكسر حاجب موتك. تضحك وتشفط سيجارتك إلى كعبها وترفع يدك إلى الأعلى، علامة اللامبالاة، ويعلو صوتك: البهدلة، أنت يا خليل تكلمني على البهدلة، ماذا تعرف عن البهدلة”23 فيونس يتحاور ولكن وفق اشتراطات خاصة بأف تذكر خليل وتوقعاته .
البنية الحوارية للشهادة
البنية الحوارية للشهادة تبرز مباشرة بُعد الثقة الذي تحويه: إن الشاهد يطلب أن يصدق. إنه لا يكتفي أن يقول: “لقد كنت هناك، بل يضيف: صدقوني. إن الموافقة على الشهادة لا تكون كاملة إلا عن طريق الجواب كصدى لذلك الذي يتلقى الشهادة ويقبلها”24، لكن في مقابل ذلك نجد أن الأمر لا يتوقف عند مجرد طلب التصديق الذي يتجاوزه أحيانا إلى نوع من التحدي على نحو ما وصفه ريكور، هذا التحدي يتمثل في طلب شهادات أخرى تؤازر الشهادة وتؤكد صدقها، هذه الخطوة الثالثة من شأن الكاتب الذي يقوم بتجميع الشهادات المختلفة عن حدث واحد، وإضافة معنى له من خلال تحويله إلى وقائع ووضعه في سياق حبكة وتسلسل سردي، إن نمط سرد ما بعد الحداثة على وجه الخصوص أسهم في “إعادة التفكير العام الراهن بطبيعة الدليل الوثائقي، فإذا كانت السجلات المحفوظة مؤلفة من نصوص، فهي عرضة لجميع أنواع التوظيف وإساءته.. وحتى ما كان مقبولا كدليل وثائقي قد تبدل. ولا ريب في أن مكانة الوثيقة تغيرت: لأنه صار من المسلم به أنها لا تقدم اتصالا مباشرا بالماضي، لذا يجب أن تكون تمثيلا أو بديلا من خلال إعادة التشكيل النصيّ للحدث الخام، ومع أنه يوجد في الخرافة مابعد الحداثية توجه متناقض نحو السجل، هناك نزاع مقاوم لسلطته”25
إن ما نقصده هنا هو أن الشهادة تقتضي التفاتا وسبق أن أشرنا إلى ارتباطها لدى الغرب بالخطاب القضائي، وهي بمعناها القضائي تستلزم وجود معلومات دقيقة وشاهد ومشهود ومستشهد يتلقاها، ولا يقتصر الأمر على تأكيد الوجود الحقيقي له وواقعية ما يرويه، وإنما يحمل معه تحلل الكاتب من كل ما يروى، إلا كونه متلقيا أو مستمعا للشاهد، وهنا نحن أمام جملة رواة وشهود إلى شهود مستمعين داخل النص (يونس) وخارجه (القارئ)، وعلى أية حال يمكننا القول بأن الالتفاتات المتنوعة من ضمير إلى ضمير ومن راوٍ إلى راوٍ كفلت جدلية خطابية على المستويات التالية:
العين والأذن
الشفاهة والكتابة
الرواي والقارئ
الماضي والحاضر
القصة والخطاب
ضمير المتكلم وضمير المخاطب
بحيث ينفلت النص من أحادية الإنتاج مهما قيل عن مطابقة الشهادة للواقع. إضافة إلى أن كل عودة إلى الماضي هي في ذاتها “مسألة تمثيل، أي مسألة إنشاء وتأويل، وليست مسألة تسجيل موضوعي”26 وهو ما يضطلع به السرد بصورة مغايرة عن التاريخ، حيث يفرض شكلا خطابيا مغايرا على الأحداث، ربما أكثر تفسيرية، وما توخاه الكاتب هو أن يتحرك من خلال تجربته بحرية دون عائق بين الواقعي والمتخيل، والتاريخي والمختلق، والذاتي والموضوعي، لذلك نجد أن السرد يلتفت بخفة من ضمير المتكلم وهو السائد إلى ضمير المخاطب الموجه للشاهد الموثق للشهادة، لأغراض بلاغية منها لفت الانتباه لنقطة ما أو حدث مهم، إحداث فصل بين الأحداث، أو أنه بمثابة وقفة زمنية لالتقاط الأنفاس، وأخيرا جذب القارئ وكسر الرتابة من السير في اتجاه واحد. والكاتب على وعي بكل ذلك؛ لهذا كثرت تساؤلاته عن التاريخ والحكي كثرة واضحة، باعتباره هما من همومه، ووعيه بأن المنطق الذي يحكم الانتقال “من مستوى الواقعة أو الحدث في الخطاب إلى مستوى السرد، فإنه منطق التشكيل نفسه، أي فن المجاز tropology يتم هذا الانتقال من خلال إزاحة الوقائع إلى أرضية التخييلات الأدبية أو إسقاط أحد أنواع التشكيل الأدبي على وقائع بنية الحبكة، وهو ما يرقى إلى الشيء ذاته تقريبا”27، فالمجازات هي المحدد الرئيس للأحداث التاريخية ولتفسيراتها، وهي عملية تفترض قارئا أكثر فاعلية في بناء المعنى.
ومما يلحظ أيضا أن الراوي الرئيس (خليل) يلح على الطابع الشفاهي للحكايات التي يرويها مباشرة أو غير مباشرة، هذا الإلحاح مبني على الطابع الالتفاتي للسرد، به تتأكد أهمية ضمير المخاطب وإمكاناته الفنية في توزيع الأصوات الساردة، والتأكيد على آنية الحكي في الوقت الذي يتم انفتاحه على ماض مترامي الأطراف، ولأن الراوي يؤكد على طابعه الشفاهي نلحظ أن الالتفات الميتاسردي يتم على هذا المستوى خلافا للميتاسرد الشائع في الرواية العربية المعاصرة، إذ يقوم الميتاسرد على عملية الكتابة وإنتاج نص مكتوب، أما خوري فيركز بالتفاتاته الميتاسردية على الحديث أو الحكي الشفاهي، بل ينفي الكتابية، وهو ما يُطلق عليه Metatalk أي الحديث عن الحديث، وقد توقفت الباحثة شيفرين أمام فاعلية هذا النمط من الحديث، ودوره في تمكن المتكلم من أن ينتقل من دور المشارك في الحديث إلى دور آخر شبيه بدور المنشط الذي يقود الحوار ويوزع تدخلات المشاركين فيه “فيما تجاوز دور هذا النمط من التدخلات والتعليقات لدى هايزلر إلى وضعها في ثلاثة مستويات: تفاعلي ونصي وعاطفي، حيث يرى أن هذا النوع من الخطاب على الخطاب يعد شكلا من أشكال التفاوض الحاصل بين المتحدثين حول المعنى، والهادف إلى إدارة التفاعل وقيادة العواطف وإحكام بنية التدخلات وهيكل المحادثة وما يقوم بينها من علاقات مختلفة تسهم في بناء هوية المتحدثين”28 ، وتزيد من فاعلية القارئ وتفاعله وضمان تواصله، وكلها وظائف قام بها الراوي خليل من خلال حكيه عن الحكي وتعليقاته على الحكايات داخل الرواية، وما أكثرها فلم تقتصر وظائفه على توصيل المعلومات أو توزيع الأدوار إنما كان من أهم أدواره إبلاغ العواطف والمشاعر والأحاسيس التي يشعر بها، وهو وإن وجه حديثه ليونس فإن المعنيَّ به هو القارئ، كذا أسهم الالتفات في تناوب الأدوار بين الراوي والمروي عليه، فكل راوٍ هو مستمع، أي أنه مزدوج الوظيفة (راو/ مستمع) أو مفسر يقوم بإعادة ما استمع إليه وروايته، وهذا الأمر جعل التكرار سمتا من سمات الرواية، أما الأكثر خطورة فهو أمر إنتاج المعنى، حيث يتحول إنتاج المعنى إلى أداء يقوم به أكثر من راو ومستمع، حيث إن فهم الخطاب ثم إعادته هو اعتراف بشكل السرد، “لأن أي مجموعة من الأحداث الواقعية يمكن صياغتها بعدد كبير من الطرق، ويمكن أن تتحمل ثقل أن تتم روايتها على أنها عدد غير محدود من الأنواع المختلفة من القصص.. إن اختيار نوع القصة وفرضه على الأحداث هو الذي يمنحها المعنى”29 ومعنى امتلاك الحكاية والقدرة على الحكي، هو امتلاك المعاني المتضمنة فيها، وتأكيد لديمومة القضية وثباتها أمام محاولات المحو.
الهوامش
إلياس خوري، باب الشمس، دار الآداب، ط 6 بيروت، 2010، ص213
المصدر نفسه، ص10، 11
إلى ذلك أشار فخري صالح في دراسته (قبل نجيب محفوظ وبعده، دراسات في الرواية العربية)، وكذلك عقدت الباحثة أمل أحمد عبد اللطيف مقارنة بينهما في رسالتها للماجستير التناص في رواية باب الشمس يكلية النجاح الوطنية بنابلس- فلسطين 2005 والرسالة مرقونة على الشبكة الدولية (الإنترنت) وفي حديث هاتفي للباحثة مع إلياس خوري، نفى اطلاعه على رواية الليندي قبل كتابة روايته، أمل أحمد عبد اللطيف، التناص في رواية باب الشمس، رسالة على الشبكة الدولية، ص154
فخري صالح، قبل نجيب محفوظ وبعده، دراسات في الرواية العربية، منشورات الاختلاف، ط1 2010، ص 85
فخري صالح، السابق، ص85
باب الشمس، ص32
يمنى العيد، الرواية العربية، المتخيل وبنيته الفنية، دار الفارابي، ط1 بيروت 2011، ص 32
يمنى العيد، السابق، ص33
جيسي ماتز، تطور الرواية الحديثة، ت لطيفة الديلمي، دار المدى، ط1 2016، ص313
محمد فكري الجزار، البلاغة والسرد، الهيئة المصرية لقصور الثقافة، ط1 القاهرة 2012،ص136
الهادي غابري، وظائف السارد في رواية باب الشمس، مجلة علامات، النادي الثقافي بجدة، ج59، مج 15، مارس 2006، ص 348
المصدر نفسه، ص10، 11
المصدر نفسه، ص22
المصدر نفسه ، ص24
المصدر نفسه، ص117
المصدر نفسه، ص118
المصدر نفسه، ص326
المصدر نفسه، ص453
ليندا هيشتون، سياسة ما بعد الحداثة، ت حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، ط1 بيروت 2009، ص 162
من أمثلة ذلك وهي كثيرة زواج كايد من المرأة الكردية، باب الشمس، ص121
ليندا هيشتون، ما وراء القص التاريخي: السخرية والتناص مع التاريخ، ت أماني أبو رحمة، ص8
هايدن وايت، شعرية التاريخ، ت ثائر ديب، مجلة أسطور، مركز الدراسات والأبحاث العربية، قطر، عدد 4 يوليو 2016، ص131
باب الشمس، ص332
بول ريكور، الذاكرة ، التاريخ، النسيان، ت جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1 بيروت 2009م، ص 248، 249
ليندا هيشتون، سياسة ما بعد الحداثة، م س، ص 186
ليندا هيشتون، السابق ص176
هايدن وايت، محتوى الشكل، الخطاب السردي والتمثيل، م س، ص 124
انظر شرحا وافيا لتلك الدراسات في دراسة حاتم عبيد، الخطاب على الخطاب مظهرا من مظاهر التفاعل في الخطاب الجامعي، مجلة كلية الآداب بجامعة القيروان، ع9، 10، تونس 2013، 67، 106
هايدن وايت، السابق، ص117