يمنحنا الشاعر السوري ابراهيم الجرادي (1951 – 2018) مسارب عديدة إلى تجربته
التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي، إلى جانب تجارب أخرى مجايلة أظهر أصحابها انخراطاً من نوع مختلف مع الشعر وأغراض الشعر وحساسياته، سواء كان ذلك داخل مشهدية الشعر السوري، أو داخل المشهدية الأوسع للشعر العربي. كان الشعر بشكل خاص، وإلى جواره الفنون الأخرى كالرسم والمسرح والقصة القصيرة في سوريا، يدنو من انعطافة قوية عما كان يشغل شعراء الستينات وجيل الرواد حينذاك. لقد ظلت تلك المشاغل طبعا، ولكن غالباً ما كان ذلك يأتي ضمن مساجلات الأصوات الجديدة مع تلك المشاغل ومع تجارب أصحابها التي ستبدأ بالانحسار لصالح نص قريب أكثر من الواقع الملموس والتفاصيل الصغيرة والهامشية. كان الهم القومي واليساري جزءا من تلك المساجلات، وجزءا من الكتابة والشعر أيضاً. وكانت القضايا الوطنية والأحلام الكبرى جزءا من التكوينات الشعرية، وحتى من أساليب وتطلعات وانحيازات هذا الشعر الذي ، بدوره، لم يكن متشابهًا، ولكنه بدا كما لو أنه يُكتب في الموضع نفسه، وبدا أكثر أن الجيل السابق استهلك إلى حد كبير كتابة تلك القضايا أو إدخالها إلى النسيح الشعري والسردي وحتى التشكيلي والمسرحي. لم تكن السياسة (بمعناها المباشر وغير المباشر) بعيدة عن هذه الممارسات الأدبية والفنية، بل إن السياسة طبعت معظم نتاج الجيل الستيني، كما ستطبع نتاج الجيل الذي تلاه، أو التجارب التي تلته، وإن اختلفت النسخ المتعددة والمنقحة لذلك النتاج. ولم تكن هزيمة حزيران 1967 بعيدة عن المساهمة المباشرة في إبعاد النصوص التي كان أصحابها صوت الشعب والأمة والوطن، والمساهمة أيضاً في تسريع تلك الانعطافة الموعودة.
بهذا المعنى، وداخل هذه التصورات، كانت تجربة الشاعر الراحل إبراهيم الجرادي تمتلك خصوصية معينة بانحيازها إلى حد ما إلى معجم الستينيين، وخصوصا لناحية جزالة اللغة والبنية الدلالية المتشعّبة، والتنامي الدرامي والعاطفي، ولكن مع جملة شعرية مندفعة إلى ما هو جديد وتجريبي، ومشدودة، في الوقت نفسه، إلى ما هو موروثٌ ومهيمن ولا يزال يمتلك جاذبيته وروحيته غير القابلة للنفاد. ولعل افتتاحية باكورته الشعرية “أجزاء ابراهيم خليل الجرادي المبعثرة” تُفصح عن أجزاء كثيرة من هذا الانتماء المزدوج:
“مرحباً يا إلكترون القلب
ويا عقارات التشهّي
مرحباً يا أكفّ الخائفين
مرحباً يا ابتكار الصداقة، ويا عكازاتٍ تهشّم الشيء ونقيضه
مرحباً أيتها الأقلام
أيتها الصحف
أيتها الإذاعات
(…)
مرحباً أيها الملل يا عملي العظيم
مرحباً بالتي تأتيني ليلاً، تنشر الشهوة في فراشي
وتريدني أن أنام
مرحباً بمن يحمل رأسي ورأسه
“بين قوة الانحناء وموائد السلطة وضيوفها
سينخفض هذ الصوت العالي في مجموعاته التالية، وسيستأنس الشاعر بلغة أقل درامية، ولكن النبرة القوية والمتفجّعة نفسها ستبقى. ستزيد جرعة التجريب في شعره، ولكن مع بقاء هذا الشعر متأرجحاً بين التجريب نفسه، وبين اللغة التي لا تسمح لهذا التجريب بتغيير قواعد وأصول هذه اللغة التي تأخذ من التراث ومن التقليد بمقادير أكثر بكثير مما تأخذه من لغة الحياة اليومية ومشهدياتها التي تمتلك قوتها من قدرتها على التحلّل والعطب والأفول.
أغلب ما كتبه الجرادي كان موجوداً هناك، في تلك اللغة التي لا مهرب لها من الانحياز إلى ماضيها الثري ,، وليس بوسعها القطع مع كلاسيكيتها وأوزانها وإيقاعاتها وأغراضها. كانت تجربته تتحرك وتراوح في المنطقة الفاصلة، أو لعلها الواصلة، بين جيلين وبين عالمين، عالم يتراجع إلى حد ما، وعالم يتقدم ويحاول أن يُدير ظهره للعالم المتراجع، مع ملاحظة أن هذا التراجع لم يكن بمفعول مباشر وفوري إلى الوراء بقدر ما كان ذلك انحسارا هنا وخفوتاً هناك. تزامن ذلك مع تصاعد انحياز التجارب الجديدة إلى لغة النثر وإلى قصيدة النثر في تصوراتها الأكثر شفاهية ويومية وصولاً إلى ما يمكن تسميته “نثر النثر”، ومع سطوة متمادية لما سُمّي وقتها “القصيدة اليومية” و”القصيدة الشفوية” و”شعرية التفاصيل”، و”قصيدة الانسان الصغير”، وهي مصطلحات ظهرت بقوة وبشكل متزامن في النص النقدي أيضا، وخصوصا لدى الناقد محمد جمال باروت في كتابه الطليعي “الشعر يكتب اسمه”، ولاحقاً في أطروحته عن “الحداثة الثانية” التي آل إليها الشعر العربي بعد حداثة الرواد وحداثة من تلاهم.
أصدر الجرادي مجموعته الشعرية الأولى “أجزاء ابراهيم خليل الجرادي المبعثرة” (1981) في تلك الحقبة أو لنقل المنعطف الذي بدأ بالتشكل وقتذاك، والذي سيصبح حاسماً وشبه نهائي فيما بعد. وكان قد سبقه مجايلوه ومن ظهروا معه في تلك الفترة إلى إصدار بواكيرهم، ومنهم على سبيل المثال : رياض الصالح الحسين (خراب الدورة الدموية- 1979) ومنذر مصري (بشر وتواريخ وأمكنة- 1979) وعادل محمود (قمصان زرقاء للجثث الفاخرة -1979) ، ويمكن في هذا السياق إضافة اسمين آخرين هما نزيه أو عفش وبندر عبد الحميد، حيث أصدر الأول – المحسوب عمرياً على جيل الستينات – عدة مجموعات شعرية تنتمي إلى الحيز اليومي وشعريته ومناخاته ذاتها، بينما انتقل الثاني بشكل شبه كامل إلى الحيّز نفسه في تلك الفترة الخصبة من أواخر السبعينات السورية.ذلك الحيّز الذي سيتحول بسرعة إلى متنٍ كامل، وإلى نص مُهيمن لا يزال يمتلك نفوذه حتى اللحظة.
مقارنة مع تلك العناوين، لم تكن باكورة الجرادي مختلفة كثيراً، بل إنه زاد على هؤلاء بوضع صورته على غلاف مجموعته، وبدا ذلك نوعاً من مزج الاعتداد الشخصي الطريف مع المزاج الشعري، ونوعاً من التجريب الفوتوغرافي الذي سيزداد في مجموعاته التالية، وخصوصاً في “رجل يستحمّ بامرأة” و”موكب من رذاذ المودة والشبهات” بالاشتراك مع الروائي السوري ابراهيم الخليل، حيث ستتجاور النصوص الشعرية مع الصور الفوتوغرافية واللوحات ورسومات الكاريكاتير والكولاجات، إضافة إلى صور عن وثائق ومراسلات شخصية، وتجاور ذلك أيضاً مع إصدار بعض المجموعات الشعرية مكتوبة بخط اليد.
بهذا التجريب المحموم، كتب الجرادي ما سمّاه “مانيفيست القصيدة التشكيلية”، وبنفس الروحية سمّى بعض نصوصه “ريبورتاجات شعرية”. خلط الوزن مع النثر، والموضوع مع المضمون الشعري، في سعيٍ حثيث إلى تطويع القول والوزن والصورة، واللعب بهذه الطواعية إلى حدود المجانيّة أحياناً.
لم يخاتل ابراهيم الجرادي في عنونة تجربته الشعرية وفي تحديد هويته داخل هذه التجربة، ولم تُجبره التطورات الهائلة التي طبعت قصيدة النثر في سوريا والعالم العربي إلى تغيير نظرته إلى الشعر. وحتى حين تخففت قصيدته قليلاً من البناء المشحون والمناخات القلقة والمضطربة، وحين تشذّبت بعض نصوصه من اللغة الاقتحامية والصور المباشرة، ظلت تلك الروح المستفزّة في قعر هذه النصوص وهي تستسلم لغنائية أقلّ عويلاً ومائلة إلى لغة ملموسة ومروَّضة، حيث يبقى الطابع النشيدي للغة الشاعر مقابل التخفف قليلاً من استفزازية هذه اللغة وخشونتها البلاغية، كما هو الحال في قصيدته “لستُ محظوظاً لأغفو على وترٍ ونايْ” من مجموعته “دع الموتى يدفنون موتاهم:
أنَّةُ الصوتِ التي أدركتُها في الذئبِ”
قادتني
إلى ما يجعلُ الذئبَ صديقي
وتَرَفَّقْتُ كثيراً
بالذي غادرني “سَهْواً”
وأهداني أسايْ
لستُ محظوظاً لكيْ أغفو على وَتَرٍ ونايْ.
…
لستُ محظوظاً لأنّيْ
كلّما أسْلَمْتُ أسراري لأهلي ساءَ ظني
غادروني
قبلَ ميعادِ الأسى واستدركوني
بالعذاباتِ
وصوتُ اللهِ فيَّ
كلما ملَّحَني الدَمعُ وفاضتْ في عيوني
شهوةُ التابوتِ
أهلي اسْتَعْذَبوني
وأنا
أمشي
إلى
نعشي
وتتبعني خُطايْ
لست محظوظاً لكي أغفو على وترٍ ونايْ”.
بهذه العذوبة الإيقاعية المخلوطة مع نوع من الرثاء الذاتي المبكّر، كانت قصيدة ابراهيم الجرادي تأخذ استراحة أو استراحات متعددة من الطابع الفجائعي والمتوتّر للغة، بل كان ذلك يسمح أحياناً بجرعات من الكتابة المضغوطة والمنضبطة والمتخلصة من الاستطرادات الايقاعية والصور التي تتكرر بدون إضافات جديدة أيضا.
لقد حضر النثر مع الايقاع في تجربة الجرادي، ولكن أغلب هذا النثر عاش في ظل الايقاع والايقاع العالي خصوصاً. ولعل هذا التوصيف يصلح لوصف جزء كبير وأساسي في شعر الجرادي الذي ظل التجريب فيه محكوماً غالباً بالايقاع العالي والمعجم المتين وممارسات البلاغة التقليدية، حيث الانحياز دوماً للغة الفصيحة وليس للكلام المستعمل والعادي، للكتابة الصافية وليس تلك المخلوطة بشعريات مجلوبة من الترجمة والأغنية ومن ممارسات أخرى شديدة النثرية. لقد جرب الجرادي ذلك طبعاً. دعا إلى خلط الأجناس. كتب قصيدة إيقاعية بمزاج النثر، وكتب قصائد نثر بمزاج الايقاع. جمع بين الصورة الشعرية والفوتوغرافية، وبين التشكيل الشعري والتشكيل الفني، ولكن الاشكالية الجوهرية في كل ذلك تمثلت في أن هذا التجريب حدث داخل تجربة الجرادي وحدها تقريباً. كانت تجربة خاصة تزامنت مع تجارب شعراء السبعينات في سوريا الذين ذهبوا إلى منطقة كتابية بعيدة عن النصوص الستّينية، وبعيدة بطريقة ما عن تجربة ابراهيم الجرادي وتجارب آخرين ظلت في تلك المنطقة الفاصلة – الواصلة بين طرفين متباعدين.
إشكالية التجريب داخل حدود التجربة ومساحتها المغلقة تقريباً جعلت ذلك التجريب يتغذّى على لغة الأصول والبلاغة وعلى صورة الشاعر التقليدية، وهذا ليس نقيصة أو تبخيساً بقدر ما هو محاولة لتوصيف ما جرى داخل هذه الكتابة الشعرية التي يمكن القول أنها ظلت إيقاعية حتى وهي تخوض في النثر. ليس المقصود من الايقاع هنا أنه محض وزن وتفعيلات، بل المقصود أن هذا الايقاع أخضع معظم شعر الجرادي لنفوذه وسطوته إلى درجة يمكن فيها القول بشيء من المجازفة أنه كتب قصيدة النثر بمواد وخامات الايقاع. لقد ظل هذا الانطباع ينبعث من قصائده حتى وهي تتطرّف في تجريبيتها. لقد كان ذلك مؤثراً طبعاً، ومنح تجربة الجرادي نوعاً من الخصوصية التي كانت نوعاً من الهوية أو الصوت الشعري الذي (قد) نجد فيه تأثيرات من نزار قباني (خصوصا في قصائده السياسية)، وشيئاً من مظفر النواب في بكائياته ومزاجه الشتائمي الغاضب، وشيئاً من محمود درويش الذي حضر في عنوان مجموعة الجرادي “محمود درويش ينهض. ويمكن في هذا السياق اقتباس الكثير من التعبيرات الشعرية التي غالباً ما جمعت بين الكتابة والهموم ، كأن يقول:
كانت الحربُ”
وجاءت الريح بفاطمة إليّ
كان جسدها مثل المقصلة المهجورة
وثدياها كالديك المنتوف على تخوم أظافري
ورحمها كفم السمكة الجائعة، يصهلُ كخيول الأسرى”.
وكأن يقول أيضاً:
“إنني أعرف اليوم
طعم الشهيد تغير
وطعم الدماء تغير
وطعم الجنون تغير
فهلْ أبتدي؟
إذن، فاشهدوا أنني قادمٌ أستعيد اللجاجة
من شفتيّ دمشقَ
وأعطي القرى حقها في الرغيف”.
لعلّ هذه الإحالات والمؤثرات، التي تحولت بالطبع إلى مقتنيات شخصية داخل تجربة الجرادي، تؤكد مرة أخرى أن إشكالية هذا الشعر هو الرهان على البلاغة، والاتكال على الصوت المندفع والعالي غالباً، وعلى لغة مرتبطة بماضيها الخصب والثري، ولكن الذي صار شبه هامشي في تجارب المجايلين الذين ذهبوا أبعد وأبعد في كتابة قصيدة نثرية أكثر من نثرية روادها أنفسهم. ولذلك فإن أي مقارنة بين ما يكتبه شعراء “القصيدة الشفوية” أو اليومية أو “قصيدة الإنسان الصغير” .. سوف تُظهر تلك الفروقات بين الصوت الشعري الذي لا يزال يتحدث باسم الجماعة والهوية والقبيلة، ويحمل أعباء ذلك، وبين الصوت الشعري الذي يريد أن يضمحل ويغيب وأن يكون مجرد عابر بين عابرين. ربما لا يكون هذا التوصيف أو هذه الاستنتاجات قوية وثابتة ونهائية، إذ هناك تفاصيل اصغر داخل النص الشعري يمكنها أن تعدّل بعض هذه الاستنتاجات، ولكنها تظل تحتفظ بوجاهة معينة لا يمكن تجاهلها، مع ضرورة الإشارة هنا إلى أن الفارق بين تجربة ابراهيم الجرادي وتجارب مجايليه، ومن جاء بعد ذلك أيضاً، لا تكمن فقط في شكلانيات الكتابة، الإيقاعية والعالية لديه، والنثرية والخافتة لدى الآخرين، بل إن ذلك يُطاول كيفية مقاربة الحياة ،والنظرة الذاتية إلى العالم ومدى ملموسية اللغة الشعرية ووقائعيتها مقارنةً محلّقة ومجنّحة ومهوِّمة أحياناً وقائمة غالباً على دراما لفظية عالية.
لقد ساهم تطور الشعر في اتجاه واحد تقريباً في إبعاد تجارب مثل تجربة الجرادي عن الواجهة، وفي المقابل ظل الجرادي يكتب ما يراه أكثر ارتباطاً بتراث الشعر وأكثر تمثيلاً لوعيه الذاتي الذي جمع فيه بين الشعر والدرس الاكاديمي والترجمة. التجارب التي جاءت في الثمانينات والتسعينات رسّخت “القصيدة اليومية” أكثر، بحيث تحولت إلى ما يمكن تسميته بـ “النص الإرهابي” الذي يكفّر أي كتابة إيقاعية وبلاغية قديمة.
لقد كانت تجربة الجرادي مقدّرة ومرئية من قبل مجايليه، ومن قبل من قرأوه عن كثب، ولكنها راحت تنحسر وتتهمش مع الزمن، بحيث راحت هذه التجربة تمتلك جزءاً من أهميتها بكونها صارت هامشية أو بعيدة عن الأضواء.
حسين بن حمزة *