رشيد المومني
كاتب وباحث مغربي
لسؤال الصمت مكانته المتميزة في أهم الحقول المعرفية، بمختلف تفريعاتها الفكرية والجمالية. ومصدر هذه المكانة يعود أساسا إلى تنويعاته الدلالية المتوزعة على مساحات التلفظ اللساني، الذي لا يمكن بسط إشكالياته وقضاياه إلا ضمن علاقته بإشكاليات غريمه وقضاياه المفارقة والمتشعبة. لذلك، سيكون من الطبيعي أن يتموضع الصمت في مركز مقاربات، يتقاطع فيها المكون الديني/الصوفي بالأخلاقي، وبالسلوكي، إلى جانب تقاطعه بالمكون الفلسفي والفني واللساني. وبالنظر لتعدد التوجهات النظرية المؤطرة لمرجعيات هذه المقاربات، فإن سؤال الصمت يتعدد ويتلون هو أيضا، بانسجام تام مع السياق الذي يوجد فيه. حيث بإمكان الباحث المهتم، أن يتقصى حركيته منذ الخطابات الفلسفية القديمة، إلى ما تحفل به الحداثة وما بعدها من مقولات ومنظومات.
والظاهر أن تعددية أنماط التناول التي يتميز بها المفهوم، هي نتاج الاهتمام الواسع والمتعدد الذي يحظى به من قبل الفضاءات الخاصة أو العامة، باعتبار أن ما يتميز عادة بقوته التداولية على الصعيد المجتمعي، يجد مكانه الطبيعي في الفضاءات المعرفيةالمتخصصة، من محترفات فنية، وحلقات فكرية، ودوائر ثقافية، متحولا بذلك إلى سؤال إشكالي، قابل للتجدد والتنوع، انسجاما مع خصوصية السياق الموجود فيه.
ومن المؤكد أن اتساع حيز هذا الحضور، يسهم بشكل فعال في تسليط الضوء على خصوصيته التكوينية، والعوامل المؤثرة في امتلاكه لتلك الدينامية الاستثنائية المساهمة في تكريسه بوصفه إشكالا متعدد المرجعيات والمسارات. غير أن رؤيتنا للصمت في السياق الذي نحن بصدده ، تستقل بخصوصيتها الشعرية، دون أن تتنكر بالضرورة للمرجعيات العامة المتداولة في شأنه. وتستمد هذه الخصوصية مادتها من معطيات التجارب الجمالية والنظرية، التي عايشناها على امتداد سفريات طويلة، تأملية وعميقة، في مقامات الكتابة الشعرية. وهي في الوقت ذاته، تجارب بحث وتساؤل عن إمكانية صياغة تصور ذي طبيعة باطنية لمفهوم الصمت، يكون مؤطرا بمنهجيته الخيميائية، التي يتعذر معها الاطمئنان إلى دلالة صمت محدد الصفات، أو جاهز للتنميط الآلي والأحادي البعد. فالرؤية الشعرية لا تستقيم ضمن مبدأ تكريس منطق الثنائيات، سواء أكانت ضدية أو تناقضية، كما هو الشأن بالنسبة لثنائيات النطق والسكوت، الصخب والصمت، السكينة والاضطراب، الإطناب والإيجاز، وغيرها من الثنائيات المحيلة على ذلك التعارض القائم بين كل من بنيتي البوح والإضمار. ذلك أن لكل مجال معرفي صمته الخاص به والمستقل بضوابطه وإوالياته. فالصمت الذي ينكتب به العمل التشكيلي، يختلف عنه في العمل الموسيقي، وهما معا يختلفان عنه في الرقص أو في العمل الشعري ، على سبيل المثال لا الحصر. مع الإشارة إلى أن منطق التنوع الذي يحكم حركية كل اختصاص، يتدخل بشكل أو بآخر في تنويع طبيعتها على ضوء مقتضيات السياق الواردة فيه. حيث يتنوع مسار حركية الصمت بتنوع سياقاته ومقاماته، ما يجعله مستقلا بجماليته، وبمرجعيته التنظيرية.
وكما هو معلوم، فإن إشكالية الموسيقى والرقص والتشكيل، تتمثل في كونها إشكالية فنون تتحدث بلغات تقع خارج المجال اللفظي. أي طي فضاء تغريبي تستأصل فيه تلك الملكة المقدسة التي هي ملكة القول اللساني، والتي سبق للكائن أن انتزعها من أصل ما، كي يعتمدها في إقامة علاقة ممكنة مع ذاته، ومع الآخر، والوجود. ويمكن اعتبار فن الموسيقى من بين هذه الفنون الأكثر تورطا، لأنها رغم استنادها في توصيلها لرسائلها على لغة مسموعة، إلا أنها تظل رغم ذلك لغة منتمية إلى صمت آخر، لا علاقة له بصمت باقي الفنون. وكل هذه الأساليب هي ضرب من التأريخ لأزمنة طويلة من البحث الدؤوب، عن تلك العبارة المتخفية، التي يمكن أن تكون بوصلة الكائن المشيرة إلى باب الغيب. كما قدتكون في الوقت ذاته، محض عبارة متماهية مع حالة عابرة من أحوال كينونته.
هكذا، ومن جديد يتقدم لنا الصمت بوصفه صوتا دالا، بطبقاته المتعددة والمتنوعة، التي هي في انفصال تام عن الطبقات الصوتية لأي خطاب لساني. وضمن هذا الإطار، يمكن إثارة الجانب الدرامي والدامي في الموضوع، المتمثل في التساؤل الإنكاري عن إشكالية أحوال روحية وفكرية، تعجز الألفاظ عن البوح بها، بعد أن آثرت تموضعها خارج القول اللساني؟ أي داخل الغرفة السرية للصمت.
لكن وبموازاة ذلك، ينبغي الإقرار بوجود شيء ما، يتخلل الصخب. “شيء” يكون السمع معنيًّا بالتقاطه منذ بدء الخليقة، متعقبًا أثره الهارب والمحتجب دائما، موقنا ولو على سبيل الوهم أنّه الصوت المُرتجى سماعه، والمنطوي على “السّر”. كما لو أنّ الأمر يتعلّق بالدخول في حربٍ ضروس مع الصخبِ اليومي، من أجل تعطيل وإبطال سلطة النشاز فيه، والحريصة على تخريب مسالك السماع جملة وتفصيلا، كي لا تتوقف أبدا محنة البحث وعبثيته. أي البحث عن حظوة ذلك الإشراق الداخلي، المؤثر في تبديد الظلمة المراكمة من قبل الصخب اليومي وعنفه.
الشعراء الأساسيون، ومعهم الموسيقيون الكبار، اشتغلوا على صمت الزمن حيث لا شيء يحدث، وحيث “الكل شيء” يتخفى في عمق الاستحالة، التي طالما حلمت بها طريقة”الزان”. “الشيء” الذي في حالة تجليه، حتما سيوقظ فيك أقوى حالات الذهول المتجاوزة لحد الإعجاب والحيرة، ما يجعلك واجما أمام ما توهمت سماعه ورؤيته دونما حاجة إلى لفظ أو إشارة .
إنها الحالة التي توقظ فيك وبكل ما في الصمت من إطباق وتكتم، كل اللغات التي يمكن أن يلهج بها الجسد، والواقعة خارج كل لحظة مشهدية أو لفظية، تبوح دون أن تكون قابلة بالضرورة للتوصيف التقني أو الموضوعي. وتلك هي “النصبة” التي نبهنا إليها صديقنا الجاحظ أطال الله في حضوره. النصبة التي تشعرنا بأن جوهر الصمت، هو فرحة التخلص من كافة الأصوات التي تصرفك عن رغبتك الخاصة في سماع الصوت المنسجم مع مدونتك الخاصة بالإنصات. باعتبار أن كل إنصات يمتلك مدونته الخاصة به، وكل صمت بالمقابل، هو ذلك الحاجز الذي يستعين به السماع لصد النشاز/القاعدة، ما يسمح بحضور مساحة كافية لإنضاج أنساق التفكير، التأمل والرؤية، باعتبارها استثناء. وهذا الاستثناء العابر والمؤقت، هو في نفس الوقت، مسلك آخر من مسالك البوح، وصيغة إبدالية من صيغه الاستعارية والمجازية، الساعية للالتفاف على زئبقية المعنى. وبالتالي، إنه الصمت الذي يحدث أن يكون تاما ومطلقا، كما يحدث أن يكون جزئيا ونسبيا، حيث تتموضع ضمن هذه المناوسة، محطات جد متباينة من مدارج القول الشعري.
إيماءة الطرس
حالما يعقد الصمت الشعري لسان الكلام، تتفتح وردة الحبسة التي سيمضي بك عطرها أو لهيبها إلى عتبات القول. وهي الحالة الحارقة التي يتعذر معها التعرف على ما شعشعت أنواره تحت عين الكتابة. وحينما تصبح الذات غير جاهزة للرؤية، وغير جاهزة لترجمة ما تراه وما تسمعه إلى لغة الكتابة، ستكتفي إذاك بالمعايشة الحائرة للحالة، في انتظار توافر شروط الإلمام بأبعادها. وهو وضع مربك ناتج عن إشكالية تمثل حقيقة/ حقائق المعنى الشعري، المتأرجحة تباعا بين دالة الإمكان واحتمالاتها. حيث ما يبدو الآن واضحا لعين القراءة، قد يصبح قابلا للإيغال في التباسه وغموضه. ذاك هو الباب الخلفي الذي يمرق منه التأويل الهادف إلى وصل دلالة العبارة بدلالة صمتها. بمعنى، محاولة ملء البياضات التي عجزت العبارة الشعرية عن تداركها، خلال محاولة تملكها للعوالم اللامرئية الآهلة بالصمت.
وسيكون من الضروري في هذا السياق، تمييز مقامات الاضطراب التي يتصف بها الصمت الشعري، عن دلالة “حكمة الصمت” المحتفى بها في تقاليد التواصل المجتمعي، بوصفها مؤشرا على نشدان السلامة والأمان، كلما تلبدت سحب التواصل بسواد غيومها. إنها دعوة ضمنية للانسحاب من مخاطر كل مواجهة محتملة. بمعنى كبح لجام البوح، والتنازل المتزن عن الحق في المكاشفة .
حكمة الصمت التي تعنينا هنا، تعد صاحبها بالإقامة في فردوس الخلاص، بعيدا عن مزالق الاحتراق بلهب الخلاف والاختلاف. وفي الاستمساك بحبلها -وفق مقولات التقاليد ذاتها- تيسير لسبل الكشف عن مسالك التعرف. وهي اللحظة التي يتواشج فيها الطرفان المتناقضان، كي ينصهرا معا في بؤرة التعرف الأكثر إنارة. فضلا عن كونها بؤرة الجمال والجلال، حيث يتجاور مسكن الشاعر، ومسكن الفيلسوف والصوفي، وكل من وسعت روحه مدارج الفن والجمال.
فمن هذا المنطلق، سيكون التركيز على العمق الدلالي للصمت، في حد ذاته تنويها ضمنيابحالة “ما تعذر الكشف عنه”. أي باعتباره، حجابا تسدله الحبسة بين الكتابة وبين ما تطمح إلى تسطيره على حيز ما من متاهة الطرس. إنه يحجب عن الآخر ما تكون الدواخل بصدد الجهر به. كما يحجب الحركية الخاصة والشخصية للذات. لكن في حالة الكتابة الشعرية، يلاحظ أن الحجاب يحضر دون أن يؤدي إلى اختفاء الكتابة، بما هي خطاب آخر يغيب عن عين القارئ العادي، وليس عن عين الخبير المتمرس بحركية بالكتابة.
الشعريات العالمية الكبرى، كلها مترعة بصريف الصمت، بما هو بوح مغاير لما لا طاقة للواقع بالخوض فيه. واحتماء الشعر بحجاب الصمت، يندرج ضمن منهجية القول الآخر الحاضر في صيغة سؤال وجودي مسكون بالبحث عن اللامرئي واللامتناهي والمسكوت عنه، أي بوصفه الأرض الأكثر استئثارا باهتمام الرؤية الباطنية للأشياء، والمعنية بسبر خبايا ما تحجبه الظلال، سواء أكانت ظلالا لغوية، سلوكية، أو متعلقة بأسرار الكينونة .
فما وراء الصوت، وما وراء الصمت وما وراء الصورة، وما وراء المقولات وحقائقها، هي العوالم المستأثرة باهتمام الكتابة الشعرية. كما أن جماليتها تتضاعف بتضاعف فتنة تقفيها لهذا الأثر المتخفي والمحتجب. هذا الماوراء ككل، يحضر في الشعريات العالمية كملاذ، كحياة بديل، كقناع يحجب الأسئلة اللاهبة عن الأنظار المتربصة، كما يحضر فيها كمنفى، وكقدر قاهر، وسلطة مدمرة.
إنه القارب الذي تتجاذبه أضداد الضوء والعتمة، المد والجزر، نشوة الطفو وأهوال الغرق. حيث تتنوع تموضعاته داخل الذاكرة الشعرية انسجاما مع تنوع ما يتنازعها من أحوال ولطائف. ولعل أقسى تجليات حضور الصمت الشعري، هي المعبر عنها بالتحير المولد للحبسة تجاه الظواهر الغامضة والمستعصية على الشرح والتفسير والقول. وهي المنازل التي تميل الشعريات العالية إلى الإقامة فيها. وبالتالي فإن الذهاب إلى الصمت، هو ذهاب إلى فردوس الخلوة الخاصة، عبر القطع العمد مع كل تواصل مكرس سلفا للعيني وللمباشر. وبالنظر إلى تعدد المسالك المؤدية إلى الخلوة التي لا حدود لتجلياتها، فإن منازل الفردوس تتباين بتباين الغايات والأهداف. هو بهذا المعنى شكل من أشكال الاستئناس بالصمت الأخير، وبالإقامة الأخيرة العالقة بحافة النسيان.
حينما تنفصل ذات الكتابة عن ذاتها، يلجأ الكلام إلى مد مساراته باتجاه ما تجب رؤيته، وما ينبغي سماعه. غير أنها في لحظة تصالحها مع ذاتها، تهيب بزمن الحلم كي “يكون”، حيث يكتمل ذلك التواصل السري والصامت مع أطياف الاستحالة. أي ذلك التواصل الموغل في عمق المواجد، التي لا تكف الذات عن الحلم بالتواجد في رحاباتها. إنها غبطة الانفصال عن زمن الآخر، بما هو زمن تواصل عملي/صوتي، بما يعنيه ذاك من تموضع استثنائيفي اللازمن، ومن خروج تام عن شرط الإكراه وشرط الضرورة، حيث تتعطل حركية الرموز المتداولة، لفظية كانت أو إشارية، كي تفسح المجال لما تستشرفه نداءات اللامتناهي، المتسائلة عن سكنها البدئي. تماما، كما هو الشأن بالنسبة للصمت الموسيقى والتشكيلي، المنفصل عن التجسيدات والتمثيلات الحاضرة في الذاكرة.
ومع ذلك، ينبغي الإقرار بصعوبة الإقامة في ما سميناه مجازا بـ”المسكن البدئي”، بما هو ملاذ غامض، لا مرئي، ومأهول في نفس الوقت بالعوالم كلها. ففيه يأوي الكلام المؤجل، والقول الذي يبحث عنه الكلام. وأن تحظى بالوجود فيه، يعني فوزك بالقرب من منازلالأرض الأولى. فأن تحيا بصمت الشعر، قراءة أو كتابة، يعني أن تلج العالم من مداخله السرية، التي تسمح لك برؤية ما لا يراه الآخرون. بمعنى، رؤية الخيوط الخفية التي يتشكل منها نسيج الحياة، ليس فقط بصيغتها المعيشة -بل وهذا هو الأهم- بصيغتها المتخيلة، والمرئية بعين الحلم، وبهاجس ما يحتمل أن يكون. وهي الصيغة التي ترتفع فيها الحواجز الفاصلة بين أجساد العناصر وأرواحها. بين الأزمنة وبين الأمكنة، بين العقل ونقيضه، كما بين عتمات الكون وأضوائه.
الذهاب إلى مهبط الحد
يمتلك الصمت جماليته الاستثنائية، بالنظر لقابليته الملموسة للتموضع في مختلف السياقات التواصلية، بصرف النظر عما يمكن أن تتميز به دلالاته المحكومة بالتفاوت والتباعد. إنه يكرس حضوره في تقطعات لغة الحديث اليومية، وبصيغ متباينة، تنسجم مع تباين نوعية السياق، لما يتخللها من تضمينات تعكس خصوصية القيم السائدة، والمتعارف عليها في الفضاءات العامة، حيث نلمس حضوره المتميز في الخطابات السياسية، والحجاجية التي توظفه في بلورة المواقف المتبناة من قبل هذه المنابر أو تلك. وبالتوازي مع ذلك، يمكن الإنصات إلى ثراء ذبذباته التي تسري في تضاعيف المقاربات الفلسفية والجمالية.
إنه ومن هذا المنطلق، حد تعبيري في ذاته، فضلا عن كونه حلقة أساسية في سلسلة العملية التواصلية التي تحتل فيها اللغة المنطوقة مركز الصدارة. غير أنه في كثير من الأحيان، يحتل حيزا هاما وكبيرا منها، ليكون بذلك السند المركزي لعملية التواصل، حيث يصبح موضوعا قائم الذات، وفاعلا مركزيا في مرجعية القول.
الصمت أيضا، هو السياق الذي تتوافر فيه الشروط الملائمة لإنجاز الأعمال الخاصة والمتفردة، وطبعا ضمن مواصفاته الملائمة لسياقه العلمي، الفكري، أو الجمالي. وفي الآن ذاته وخارج إشكاليات الإنجاز، قد يوحي باحتمال “حدوث” شيء ما، بما يفيده فعل الحدوث من ظهور، وانبجاس، وانكشاف. إنه ومن هذا المنطلق أيضا، لحظة توجس بامتياز. لذلك، رأت فيه الفلسفة القديمة مصدرا فعليا للوجود. كما رأت فيه الذات هبة استثنائية، تحيل ميتافيزيقيا على زمن البدايات، حيث لم يكن الصخب الداخلي والخارجي قد استبد بعد بكيانها.
فالصخب هو الصلة التي يتحقق بها الحضور العملي في بوتقة اليومي، كترجمة رمزية لتداخل أصوات الضرورة التي يلهج بها الواقع. بينما يتبدى الصمت بوصفه حائط الغياب الذي يصطدم الكائن بسحريته وجبروته. هكذا يمكن القول بأن الظاهر/الحاضر، هو في الأصل إبلاغ وتوصيل، قوامه اللفظ. فيما الغائب، صمت يسعى إلى استقدام ما تخفى من لغاته. لذلك، فإن الذهاب إلى الصمت، هو ذهاب إلى “ما” يومئ، بدل الذهاب إلى “ما “يقول. أي السير باتجاه من يتحدث لغة خالية من أية إشارة صوتية تطولها أذن الإنصات.
إنه الذهاب إلى مسكن الجماد، حيث اللغات اللابشرية تطبق أجفانها خشية أن تراك. ربما وبسبب ذلك، أمسى بمثابة الخزان الذي تمتح منه اللغات زلال قولها. لقد أمسى أصلا ورحماتتشكل فيه أزمنة الكلام. كما أمسى ملاذا لما كان وما سيكون. لذا كانت جمالية الشعري وستظل، مجسدة في اهتدائها إلى مرابع الصمت الآهلة بالأسرار، وبكل ما هو مسكوت عنه ومنسي، أو مندرج في خانة الطابوهات والمحظورات.
أما الذهاب بلغة الشعر إلى منازلها، فيقتضي توافر الكثير من العمق المعرفي، الكفيل بنقل هباتها من زمن الصمت إلى زمن البوح، وفق ما تقتضيه لغة المقام من إبدالات. حيث تتفاقم حالة الوعي بتمنع اللغة العملية عن البوح، نتيجة تطويحها بحيرة الكتابة، في تلك المنطقة الرمادية، التي تشعرها بإمكانية دنوها من حيث يتطلع اللسان إلى قول ما يتوق إليه هواه.كما لو أنه ريشة ولهى تتقلب على صفاء الطرس.
في السياق ذاته، ينبغي التنبيه إلى حضور تلك الأمكنة والأزمن، التي يطمئن الإنصات فيها إلى ما يبوح به الصمت من تشكيلات روحية وجمالية. ذلك أن حضورها يلعب دورا أساسيا في تحفيز الكتابة على تجريب صياغة قول لا يشبه القول. وهي بامتياز لحظة التملك الفعلي، الذي ليس لأحد أن يتدخل في تغيير وجهتها، بوصفها المحل الأكثر رفعة، والأكثر سرية، والأكثر خصوصية بالنسبة للكائن الشعري. هذا الذي يعيش مكابرة التقاط الإيماءات الصادرة عن العناصر، مدركا بحدسه الجارح، أن شأن العالم هو التحدث أولا من خلال تجلياته العيانية، وثانيا من خلال ما توحي به تضميناته. والتضمين هنا يحيل على الحذف، البتر والإلغاء. وكلها مقومات مندرجة ضمن مقولة المحو المستهدفة لشطب الزوائد، التي تساهم بشكل أو بآخر في تحجيب أطياف المعنى.
تلك هي حركية الصمت الكاشفة لما يتعمد الصخب التعمية عليه، سواء بواسطة الإشارة أو اللفظ. فما يغيب، غالبا ما يكون نتاج متواليات “ما” يهيمن بحدة حضوره. باعتبار أن الحضور الذي يتمكن الشيء من تحقيقه، لا يقارب إلا من خلال تساؤلنا عن العناصر التي تم تغييبها تلافيا لتراكم ما يؤثر سلبا على رؤيتنا وسماعنا. وذلك بالنظر لمحدودية بؤرةالرؤية، التي لا يسمح بظهور كل ما هو مسكون بحظوة الحضور. ونحن نشير في هذا السياق إلى تلك الحرب الضروس، القائمة بين عناصر “الشيء” من أجل الهيمنة على الرؤية، ولو من خلال إضرامها لما أمكن من الحرائق الدلالية. وفي نفس الوقت، ما من غائب إلا ويتربص بالحاضر، كي يستحوذ هو أيضا من جهته على بؤرة الرؤية، التي هيبؤرة الحضور بامتياز. وبالتالي، فإن الصمت هو تلك البؤرة التي تنبجس منها الحركية الملموسة للشيء، والتي يغادر منها بؤرة غيابه باتجاه بؤرة حضوره.
إن الصمت الذي يعنينا هنا، هو صمت آخر، يحتجب بين طيات الصمت. وإذا ما نحن اعتبرنا أن الصخب هو القاعدة الناظمة لعلاقة الكائن بالوجود، فإن اختلاء الكائن بذاته بعيدا عن الأخرين، لا يعني مطلقا حلوله ضيفا على الصمت. عكس ذلك، قد يجد نفسه محاصرا بصخب داخلي، يتجاوز حدود الصخب المجتمعي بما يحتشد فيه من عدوانية أو غبطة. باعتبار أن دوي الصخب الطالع من أعماق الذات، ومن أعماق الصمت، يتجاوز بكثير حدود الصخب المجتمعي. خاصة وأنه يكون مشوبا بالاستعادات الانفعالية، والعاطفية المؤطرة بقيمها.
إنه في نهاية المطاف، خلاصة تداخل حالات متنافرة ومتعارضة، تنوء الذاكرة بخفة وجماليات عنفها، فتمارس فتنة انبجاسها الشعري، حالما تتوافر الشروط الملائمة، للاختلاء بذات الكتابة بعيدا عن فضول الفصول.
طبعا، لا يمكن فصل لغة الشعر عن لغة التفاعل اليومي، ما داما معا معنيين بتوصيل رسالة محددة، على أرضية قوانين مشتركة، يتكامل فيها المكون المعجمي بالنظمي. والتركيز على جمالية اللغة الشعرية بوصفها استثناء تعبيريا، يتمثل في قدرتها على حفر مسارها الخاص، الذي قد يوحي للبعض باستقلاليتها المطلقة، عن لغة التفاعل اليومي. وهو أحد الأخطاء الفادحة التي يقع فيها الكثيرون من ممارسي النقد الشعري، كلما جمح بهم افتتانهم بخصوصية لغته، إلى حد فصله جذريا عن لغة التخاطب، دون الانتباه إلى أن الإلحاح على هذا الفصل المجحف، من شأنه إفراغ اللغة من رهاناتها الأساسية، المتمثلة في ترويضها للغة العادية، كي تكشف عن جوهرها المتخفي. كما أن تكريس هذا الاعتقاد، من شأنه أيضا وضع كافة الكتابات الشعرية في سلة واحدة، بحجة انتمائها إلى لغة قائمة بذاتها، يطلق عليها وضمن منطق تعميمي “اللغة الشعرية”. والحال أن اللغة الشعرية تستمد سلطتها من تلك المسافة الدلالية التي قد تنجح أو تفشل في مدها بينها وبين اللغة العادية. بمعنى أن جمالية وجودها لا تتحقق إلا انطلاقا من ذلك التوتر الحاد الناتج عن تطلعها لانتزاع كينونتها من عمق اللغة التواصلية، التي لا تعترف بأية مبادرة من شأنها هدم الجسور الطبيعية المعتمدة عادة في تبادل الرسائل المشتركة والعامة. وإذا كان لنا أن نتوقف عند أحد الخروقات الجمالية التي تمارسها اللغة الشعرية، فسيكون حتما توغلها الممعن في “صمت” القول، من خلال استبعادها المنهجي لكل البنيات النظمية، الموظفة عادة في استكمال شروط الإبلاغ العملي، كلما تعلق الأمر بأولوية تحقق التفاعل الوظيفي والمشترك.
والمقصود بصمت القول، هو انكفاء اللغة الشعرية على ذاتها، وتنصلها من مهمة الوساطة التي تلزمها بمراعاة قوانين التواصل العملي، من بساطة، ووضوح ودقة في إقامة ذلك التوازن القائظ عادة بين القول ودلالته المتعارف عليها في الفضاءات العامة. وإذا كانت قيمة اللغة العملية تتمثل في استيفائها لكل مواصفات التبليغ، الذي لا يتخلله الحد الأدنى من الغموض، فإن اللغة الشعرية وفي سياق احتفائها بذاتها، تتميز بانتظامها ضمن المنظور الخاص بها. أي باعتبارها غاية في ذاتها، دون أن يعني ذلك انصرافها عن توصيل أية رسالة محتملة، باعتبار أن مفهوم “غاية الشيء في ذاته” هنا، يحيل على تجربة الانكفاء/ الصمت الذاتي للغة، والذي يفتح لها المجال كي تصيخ السمع إلى ما سهت عن قوله اللغة العملية، في سياق الارتقاء به/ إعادة صياغته، بما يساهم في انبجاس وانبثاق “الشيء”. والقدرة على التقاط أصوات الصمت هي التي تسمح بالتقاط خفايا الصوت. أي صوت الحرف المترنح فوق برزخ القول، والأنين المائل نحو الجهتين، وما تحدثه القبضة من رضوض، في خلقة الديجور.
ذلك ما يسمى بطمس الأثر، حيث تجنح اللغة الشعرية إلى محو زوائد اللغة العادية. وفي ذلك محو لفائض القول، ولما هو أبدا ثابت فيه، وإيذان بظهور مغايره. فما تشاهده عين اللغة الشعرية الآن، لم يسبق له أن احتل بؤرة الرؤية. لذلك فإن التعبير عنه لا يتم إلا بلغة الصمت التي هي لغة الشعر بامتياز. وكل ما سبقت رؤيته، والحكم عليه، وابتذاله في شبكة التداول العام، فهو مندرج سلفا ضمن ممتلكات اللغة العادية، المنتهية صلاحيتها عند حدود “الموضوع”. وهي الحدود ذاتها التي تباشر عندها اللغة الشعرية إعلانها عن حضورها، بما هي نقطة تراجع أصوات الدلالات المألوفة، وبما هي انبجاس لأخرى مؤطرة بخيمياء الصمت. أي اللغة الناطقة بالدلالات التي تتأبى على نقيضتها الاهتداء إليها. حيث تتعطل إمكانية الترويج لمنتوج الحقائق، وتعميمها، أسوة بما هو متعارف عليه في أسواق الكلام الشائعة والمتداولة. وذلك هو المجال الفعلي لاشتغال خاصية التأويل، الذي تتقد شعلته بموازاة مقاربته للدلالات المشتغلة خارج دائرة العرف والمعيار. ونعني بها الدلالات الموحية باحتمال توارد سلسلة لا متناهية من المعاني، التي تتبادل فيما بينها أدوار الظهور والغياب، دون أن تغامر بترجيح أي منها. إن/ التأويل “في هذه الحالة ” يغتبط بمواكبة حركية الصورة المنذورة لصمتها، مختلفا بذلك عن آلية اشتغال التفسير، المهتم أساسا بتثبيت هوية ما هو واضح سلفا، وما “هو” في حكم المعطى. أي ما هو مؤطر سلفا بميزان العرف. كما أن البنيات الصامتة المدرجة في السياق الشعري، لا تعتبر بديلا للبنيات الناطقة الواردة في سياق الكلام العادي. كما أنها ليست محض فاصلة تتخلل البنيات النظمية لغيرها من اللغات. بل إنها تتمتع بوجودها في ذاتها، باعتبارها عالما متكاملا وقائم الذات. وبالتالي فإن الصمت من هذا المنظور، يكون بمثابة الصفحة التي ينكتب عليها الكلام، والذي لن تكون ثمة كتابة بدونه.
إنه الطرس الفعلي الذي تستمد منه سلطة القول مشروعية حضورها، واللوح الذي يستضيف كل أشكال الكتابة والمحو. علما بأن سيرة المحو هي سيرة الدفع بالملفوظ باتجاه منطقة الصمت. ذلك ما يحدث تحديدا في زمن الكتابة الشعرية التي هي النأي الصامت عن كل ما يتنافى معها، أي باعتبارها تتشكل على لوح المحو. أي تقنية محو ما تم إنهاكه وابتذاله، من فرط إخضاعه للاستعمال المؤثر سلبا على كل ما كان يتمتع به من بريق دلالي وجمالي. ذلك ما يساعد على إيقاظ القراءة من سبات عاداتها، كي تتفاعل أكثر مع ما تم حذفه، وما تم إجلاؤه وصرف الكلام عنه. لأن ما تم صرف الكلام عنه لا يلبث أن يستعيد حضوره بصيغة أخرى، هي صيغة نبض دلالي، تتصاعد رنات موسيقاه من قلب هاوية الصمت، حيث يفضي الإلقاء فيها بمتاع الملفوظ، إلى تجديد ديناميته وسيماه.
فالصمت هنا ليس فقط أداة ربط بين الملفوظات، وليس مجرد لحظة استعادة الملفوظ لأنفاسه، قبل أن يستمر من جديد. بل وعكس ذلك، هو الدلالة الفعلية -رغم غيابها- لحقيقة الملفوظ. الشيء الذي يقتضي توافر شروط قراءته وفك ما يتخلله من شوائب.
لكن في حضرة الشطحات التي تأخذنا إليها شعرية الصمت، سيكون بإمكاننا استعادة علاقة الذوات البسيطة بـ”هدأة” الصمت، بوصفها لحظة النسيان المؤقت لأزمنة الفقد، والإقبال على غبطة الاندماج الحميمي في لحظة حلم هاربة، وغير معنية بالضرورة بأي إشكال فكري أو فلسفي، وحيث لا يكون ثمة من حجاب يخفي سرا أو معنى، بقدر ما يكون ثمة الملاذ المؤقت للاغتسال من أدران اليومي وإِحَنه .
ولأن الشيء دائما يستدعي نقيضه، فحضور الصخب، يعني أساسا، الحلم باستحضار لغة الصمت، بغية إسكات لغة اللسان مؤقتا، والإنصات إلى لغة الحلم. بما هي لغة دهشة واستحالة. ولأنها لغة مترعة بمكابراتها وافتتاناتها، فإن تلقيها يحتاج إلى نسبة عالية من المران، خاصة وأن الكتابة الشعرية من خلال تكليمها للصمت، تكون بصدد الارتقاء بأنساق اللغة إلى منتهى مدارجها اللامنتظرة.
على حافة الصمت البرزخي
من نافل القول، إن حدود الكائن المعرفية والوجودية مقيدة بطبيعة حدوده اللغوية. فوجوده يتماهى عمليا مع خصوصية رصيده اللغوي، وما يقع خارج مدار اللغة، يقع حتما خارج مدارات الكائن. وهي المعادلة التي يستمد منها الصمت أهميته، حيث يتطلع الكائن إلى الاستجارة بملاذاته، من خلال تمرده على سلطة اللغة العملية المتحكمة في صياغة مواثيق تواصلاتها المشتركة.
مع العلم أن اللغة هي أيضا تعاني من متاعب التوصيل، حيث تعيش باستمرار حالة ارتباك مزمن، كلما ألفت نفسها بصدد نقل ما يتعذر نقله، سواء أكان منتميا إلى الحياة اليومية، أو الحياة التأملية، كما هو الحال بالنسبة للحظات الحلم والاستبصار الداخلي. حينها تكون مجبرة على خيانتك، إما من خلال قيامها ببعض التمويهات والمراوغات التعبيرية المؤثرة سلبا على الوظيفة التوصيلية، أو من خلال تنصلها جملة وتفصيلا من مسؤولية التواصل، كي تتركك وجها لوجه، أمام حائط الصمت، أو في ضيافة حدائقه.
وإذا كان التواصل مع الآخر، يستدعي ضرورة تجنيد كافة المقومات الحجاجية والتداولية من لفظ ورمز، أو إشارة، بغية إنجاز مطلب الإفهام، فإن التواصل مع الذات كما مع الوجود، لا يحتاج بالمقابل إلى أي من هذه الوظائف. حيث يكون الصمت هو القناة الطبيعية التي تصل الكائن بذاته وبوجوده. فالتفكير في الوجود يتحقق باللغة، فضلا عن تحققه بالصمت، بوصفه تفكيرا يستلزم التعبير عنه تشغيل آلية مغايرة تقع خارج الأنظمة اللغوية. باعتبار أن الهوية الفعلية للوجود، تتموضع أساسا ضمن منطق عوالم الصمت. وهي -إذا صح القول- هوية عوالم مجردة من الإسقاطات اللغوية، المصاغة عادة في قوالب معينة ومحددة. بمعنى أن التفاعل الموضوعي مع حقائق الوجود الخالص وماهياته -والتي هي حقائق متميزة بنكهتها الشعرية والفلسفية- لا يمكن أن تتم إلا بلغة الصمت، التي تبحث باستمرار عن إمكانية تشكلها المؤجل. علما بأن الحديث عما هو في حكم “المؤجل”، ليس في الأصل سوى حديث عما يقع خارج دائرة اليقين. أي ضمن ذلك الـ”حيث”، الذي لا يتوقف فيه مفهوم الوجود عن الانصهار في زئبقية فضاءاته.
ولأن الصمت هو التعبير النموذجي عن لحظة المكاشفة العليا، التي تعيد فيها الذات اكتشاف دواخلها، فإنه قد يكون موضوع ترهيب لهذه الذات التي تميل إلى إبعاده والتخلص منه بغرقها الممعن في متاهات الصخب. وهي الحالة التي يكون فيها صخب الصمت أشد عنفا من صخب الصوت. هنا تحديدا تنقلب الآية، كي تتحول رحمة الصخب إلى حائط إسمنتي يحول دون عبور الصمت المعزز بسلطته. والصخب هنا، هو الأبدية كلها التي تقطع الطريق على ما عداها من أزمنة. وبتعبير آخر، هو الزمن المتكامل الذي لا شأن له بالماضي أو الحاضر.
في الصمت ثمة حياة موازية، مؤطرة بقوانينها. حيث يكون هناك للمكان بنيته الخاصة به، كائناته، علاقاته، وأجواؤه، وحيث تتم إعادة بناء المعيش بصيغ أخرى، وبتنويعات أخرى. فيه أيضا، تستطيع الذات أن تكون سيدة الزمن، و المتحكمة عمليا في إنشاء العناصر. إنها وضمن هذا السياق، تتخذ من المرجعية الواقعية مادتها الخام، كي تتصرف فيها بمشيئتها، حيث تتفاعل حركية علل ومسببات، لا علاقة لها بحركية العلل والمسببات المتعارف عليها في الواقع.
تلك هي لغة الشعر المشتغلة باللفظ، بالإشارة، بالخط، بالعقد، وبالنصبة. إنها تصهر كل هذه اللغات في لغتها، التي هي في نفس الوقت لغة الصمت، من منطلق استبدال قنوات تواصلها العادية واللفظية، بأخرى أكثر تركيبا وأكثر ترميزا. ومن المؤكد أن الأمر يتعلق بإعادة التسمية، وباستعادة اللحظة البدئية لتشكل وتكون البنيات الدالة وأنساقها. علما بأن الصمت الشعري لا يتقيد بمكان وزمان معين ومحدد، إذ بوسع الكائن الشعري أن يتربص به في عمق الصخب، ومن قلب الدوامات الطاحنة للمعيش. إن الأمر يتعلق هنا باستيقاظ الكائن الشعري في الذات، وحينما يستيقظ يستحضر عوالمه الخاصة به، سواء من حيث السمع، الرؤية أو القول. وهي عوالم مؤثثة بكائناتها وبأحوالها وتجاذباتها التي تتجاوز من حيث قوة صدقيتها وتأثراتها ما يحدث في العوالم الواقعية والمعيشة، بفعل صلته المباشرة بالأسرار الخفية التي بها تقوم هوية الكائن .
في الصمت الشعري تنمحي الذات التواصلية وتفنى، وبانمحائها ينمحي كل ما له علاقة بالمعيار التلفظي والنظمي، لتظهر تلك الأرض التي تجدد فيها الذات اللغوية اكتشافها لذاتها. وبتعبير أكثر جذرية، هو المكان الذي تعيش فيه الذات تجربة ولاداتها، باعتبار أن مسار القول الشعري، هو سلسلة متعاقبة ومتتالية من الذوات المتوالدة، والتي لا يشبه بعضها البعض الآخر. وبالنظر لتدرج مقامات الصمت، فإن مستويات بوحه، هي أيضا امتداد لنفس منطق التدرج، حيث ثمة مسافات شاسعة قد تفصل بين عمق جماليات الصمت، كما هو الشأن بالنسبة لجماليات القول. وذلك على ضوء الأهمية الدلالية التي يكتسيها القول القادم بهباته من مجاهل الرؤيا، التي هي في نفس الوقت مجاهل اللاقول. بمعنى أن اللغة تكون عادة من جنس المرئيات والمسموعات القادمة من فضاءات الصمت. تلك المراوحة دائما بين طور التشكل أو الامحاء. وهي الحركية ذاتها التي تستمد منها الكتابة هيبة حضورها. إنها غير منكتبة، وفي نفس الوقت غير ممحوة. إنها سمية صمت ذي طبيعة باطنية، وإمكانية التقاط إشاراته تستدعي توافر مستوى عال من الاستغراق الشعوري والجمالي واللغوي في آن. إنه الشرط الذي يحجم معه القول عن الظهور، خشية أن تشوه اللغة ملامحه، وتهجن حقائقه، فيميل تبعا لذلك إلى التحصن بالصمت. أو بالأحرى بتباشير كلامه وأضوائه. دون أن يمنعنا هذا المعطى، من التساؤل عن احتمال اندراج الصمت البرزخي، الذي يصل الكائن بشعرية المنسي واللامرئي، ضمن دائرة الاستحالة؟ هكذا وانطلاقا من تساؤلنا الإشكالي، سنزج بخطابنا دون قصد في دائرة ما يتعارف عليه بـ”الغموض “، حيث الدلالات الملتقطة من قلب سجف الصمت وأضوائه، هي في واقع الأمر التنويع الأوركيسترالي على النغمة ذاتها. نغمة الشيء المتخفي خلف حجب تجلياته، ما دام زمن ما يرى ويسمع جد ممعن في مجرى ثائرته التي لا تهدأ إلا في حضرة صمته. هنا تحديدا، تكمن دلالة ذلك البحث عن الغبطة المتأبية التي تطمح الرؤية إلى سماع ما تيسر من موسيقاها.
فتنة طمس الأثر
إذا ما نحن سلمنا بضرورة الأخذ بعين الاعتبار التعقيدات الملازمة لبناء لغة الصمت بالنسبة للمرسل، فسنكون مدعوين إلى التسليم بحضور التعقيدات ذاتها بالنسبة للمتلقي، باعتبار أن تدخلات بيانية، من قبيل، تعليق الكلام بالإيجاز، والاختصار، والمحو، والإيماء، والإشارة، من شأنها إحداث نوع من الطمس للبنيات الدلالية التي يتضمنها القول، من منطلق انزياحها بقارب الكلام إلى ضفة الصمت، مقترحة على المتلقي شكلا مغايرا من أشكال التواصل، الذي يتجاوز مستوى التعبير اللفظي العادي إلى مستوى أكثر تعقيدا يستدعي فهمه وتفسيره امتلاك خبرة مضافة في جمالية القراءة، وتجربة متقدمة في استكناه أسرار الدلالة الناتجة عن عملية الطمس. حيث يتعلق الأمر بمنهجية مغايرة في القول، تستقل بآلية إنتاجها للمعنى وإعادة بنائه. حيث تقتضي من الباث والمتلقي، تملكهما معا لكفاية وافية من جهة بنائهما للرسالة وتفكيكها. على أن تكون كفاية تتجاوز الحدود الاعتيادية للتواصل المختزلة في الحاجة إلى زيادة الكلام. بمعنى أننا بصدد اختيارين من اختيارات التوصيل. يتمثل أحدهما في مطلب توسيع الكلام توخيا للإفهام، فيما يتمثل الثاني في التقيد باستراتيجية الصمت، على أساس أن الرسالة المعنية بالتوصيل، تنتمي إلى قناة مغايرة للقناة اللسانية، حيث يكون توظيف استراتيجية الصمت، هو السبيل الأنجع لتبيان ما يعجز اللسان عن إبلاغه. ولنا في الكتابة الشعرية خير دليل على ذلك ،لأنها غير معنية البتة بإشكالية توسيع القول أو تضييقه، بقدر ما هي معنية بالإشارة إلى ما يقع خارج القول العادي والطبيعي. أي، إلى ما يتفاعل في خلوة الصمت، الإيماء، والتلويح.
ولعل أنكى ما يمكن أن تقع فيه القراءة من خلط، هو ميلها لترجمة اللغة الشعرية إلى اللغة الاعتيادية، وإخضاعها القسري إلى قوانينها، بهدف تبديد ما يلفها من “غموض”، وبدعوى تبسيطها، وتيسير فهمها بالنسبة للقارئ العادي غير المتمرس بتأويل ما تقوله التلويحات الإيحائية والإشارية.
والجدير بالذكر أن هوية القول، هي التي تتدخل في انتقاء أساليب بنياته التعبيرية، ما يؤكد على أن الكتابة بالصمت، لا تعني امتثالها لقوانين جمالية ثابتة، مخصوصة ومؤطرة بمبدأ الإجبار الصمتي، الذي ليس لها أن تستبدله بغيرها من القوانين. ذاك أن المقامات التعبيرية تتعدد وتتنوع، وما يستدعي قوله فقط بالصمت الشعري، يحتمل انفتاحه اللامحدود هو أيضا، على نماذج مختلفة ومتباينة من نماذجه. كما أن ما لا يمكن قوله فقط باللغة الواضحة، يتعذر الزج به في ما لا يحمد صمته. ما يفيد أن كل خلط بين هذه الأنساق، من شأنه إحداث خلل في البناء، في القول، وفي تقنية التوصيل.
ولعل السبب يعود إلى إشكالية القبض على طيف المعنى، المتجذرة في التلقي العام، بوصفها الهاجس المركزي المستبد بكل قراءة تروم بسط سيطرتها على أرض الكتابة، بصرف النظر عن الإبدالات التعبيرية الموظفة فيها. علما أن الصمت هو أيضا فرع من فروع البيان الأساسية، كما نصت على ذلك أهم المقاربات التراثية للغة. بمعنى أنه يساهم هو أيضا، وبطريقته الخاصة، في هتك حجاب الدلالة الشعرية، التي تكون في الأصل من جنسه، ومن صلبه. أي الدلالة المنتمية للغة الصمت الشعري، وليس لدلالة الكلام العام.
ويمكن اعتبار مفهوم “بيان الحال” الذي هو الوجه الآخر لمفهوم “النصبة” الجاحظية من حيث مرجعيته ومولده، منتهى ذاك البيان، الذي لا يطمئن بالضرورة إلى دعم إطنابي أو تبسيطي. كما أنه التعبير البليغ عن أعمق حالات القول المدثر بخيمياء صمته، التي يستعصي مرامها على اللفظ. إلى جانب كونه الأفق المنتظر الذي لا تكف الكتابة الشعرية عن استشرافه.
أما بالنسبة لانفلات المعنى، فمرده المراوحة الصعبة داخل هذه الوحدة، التي تبدو من حيث الظاهر أنها تمتلك وجهين متعارضين ومتنافرين. ففي حالة تعاملنا مع الدلالة بوصفها جماع صوت وصمت، فإن المعنى سيكون حتما عرضة للضياع لحظة انتقاله من أحدهما إلى الآخر، لصلته الوثيقة بهذه الدينامية وهذه الحركية المتقلبة، خاصة وأن الأمر يتعلق بزئبقية الدال، الدائم الانصهار في مجرى التحولات العلائقية الحافة به. مع العلم أن السياق من هذا المنظور، هو الذي يتدخل في إضفاء الصلاحية على الصمت، أو الصخب. سيما وأن انتظام مكوناته يتحقق أصلا بالتوازن القائم بين الطرفين، أسوة بالتوازن العام الناتج عن التفاعلات السببية لقوانين الحياة الطبيعية. وبالتالي، فإن التنكر لمقومات هذا التوازن، قد يكون هو أيضا في سياق الحاجة والضرورة، أو عكس ذلك، في سياق الإكراه. كأن تكون مجبرا على التواجد في أحدهما، أو أن يكون تواجدك استجابة تلقائية لضرورة ما.
وبما أن العملية التعبيرية و التواصلية هي جماع تكامل وتفاعل اللغة المنطوقة والصامت، فالنطق عمليا يتدارك ما لم يجاهر به الصمت، والعكس بالعكس. فهما معا يتكاملان في ترجمة القول الذي يقتضيه السياق. والجدير بالذكر أن اللحظة التي تتحقق فيها كينونة النصبة، هي امتداد لكينونة الكائن الشعري، الذي يحلم بالتموضع في مقاماتها . إنها من هذا المنطلق، التجلي المثالي لجمالية الصمت، التي ينكب الشاعر على فك شفرتها، كي يحولها -إن أمكن- إلى لغة قابلة للتلقي، باعتبار أن الانتقال من حالة “النصبة” إلى حالة القول الشعري، هو حركة داخل عالم دلالي جد متجانس، حيث أن تحقق مطلب الانتقال بهلامية الحال من مقام صمتها الأصلي، إلى مقام التعبير اللغوي، لا يعني بالضرورة تغيير مسار الدلالة من سياق غموضها إلى سياق الوضوح، والتفسير، والترجمة، بقدر ما يعني محاولة إعادة رسمها في صيغتها الأصلية عبر قناة التلفظ. ما يجعلها محتفظة بجمالية انبجاسها الصامت، مهما كانت طبيعة لبوسها اللساني واللغوي.
وتلافيا لأي تشويش قد يطول دلالة المفهوم، وجب التأكيد من جديد على أن قصدنا بالكتابة الصامتة، لا علاقة له بالدلالة الحرفية للكلام الصامت، المعبر عنه بلسان الحال، وإنما له علاقة شبه باطنية بالكتابة الصامتة، التي تتجاوز لسان الحال إلى جوهره، كي تستمد منه قوانينها. وواضح أننا نشير في هذا السياق إلى الكتابات الأساسية، وليس إلى كل كتابة تلح على حشر زوائدها في جبة الشعر. بمعنى أن الصمت الذي يعنينا تحديدا، هو صمت استثنائي، تتعود الذات الشاعرة على اقتناصه والفوز به، ضمن مبدأ المعاودة والمران، الذي يساعد الذات على الدخول في طقس جد خاص. قوامه الكشف والرؤيا. الصمت الذي تعيش فيه الذات فناءها، بما يعنيه هذا الفناء من احتجاب شبه تام لكل ما يربطها بالعالم الخارجي، حيث تتراجع ذاكرة المعيش إلى حدها الأدنى. كي يتراجع بذلك تأثيرها النفسي على الذات. إنه الصمت الذي تستيقظ كل اللغات المنسية في ذات الكائن الشعري، كي تمضي به قدما باتجاه مدارج الرؤيا.