الرواية الجديدة ومقولة التداخل
تعد الرواية من أكثر الفنون الأدبية انفتاحا مقارنة ببقية الأجناس الأدبية الأخرى لأنها لا تخضع لأية قيود كما هو الحال بالنسبة للشعر الذي يعتمد بصورة كبيرة على الإيقاع وموسيقى الكلمات وجماليتها، وقد استطاعت الرواية الحديثة أن تستعير من الشعر شعريته وأساليبه وتصهرها في نسيجها، مما أضفى عليها أبعادا جمالية وفنية. ويمكن الاستدلال على ذلك بما يسمّى تداخل الأنواع الأدبيّة. وهي ظاهرة تدل في خضم المصطلحات والمفاهيم المرادفة لها، على تجاور النصوص وتفاعلها على مستويات عدة كالمعجم والأسلوب والتــركيب والدلالة.
لقد شهدت الرواية في القرن 19م تحولات مست بنيتها الشكلية والمضمونية، فقد شكلت أعمال (غوستاف فلوبير G. Flaubert) وآراؤه التنظيرية دورا حاسما في بروز “الرواية الجديدة”. وقد استثمر مجموعة من الأدباء من أمثال “دوستويفسكي”، و”جيمس جويس”، و”مارسيل بروست”، و”فرانز كافكا”، هذه الآراء والتقنيات في تطور هذا الجنس الإبداعي ونضجه، وذلك في مقابل الرواية الواقعية التي كانت سائدة في ذلك العصر، و”بناء على هذا التحول في النظر إلى الواقع، تتخلى الرواية الجديدة عن الطرائق والأشكال التعبيرية المألوفة، وترفض الأعراف والمعايير المتبعة، لتمتطي موجة التجريب، وخاصة فيما يتعلق بإعادة النظر في الشخصية الروائية التي تقلصت تدريجيا وتفككت، حيث لم يعد البحث مركزا عليها، وإنما على مادة مجهولة”(1)، فكانت النتيجة أن الرواية اقتربت كثيرا من الشعر، وحذت حذوه، إلى درجة الالتباس بينهما أحيانا. ومن جهة أخرى، ورد في كتاب “دومنيك كومب” أن “(ناتالي ساروت) قد نادت بتطبيق التمييز الذي وضعه (مالارمي) بين اللغة الخام واللغة الجوهرية على الرواية، لأن لغتها جوهرية مثل لغة الشعر. كما أكدت على أنها لم تقم برسم حدود بين الشعر والرواية في أعمالها الروائية. من هذا المنطلق، اعتبرت النص الروائي معادلا للصوت أو اللون، ورأت أنه لا يمكن أن نحكي رواية أو قصيدة، مثلما يستحيل أن نحكي لوحة أو عملا موسيقيا”(2).
لقد أحدثت الرواية الجديدة ثورة على قوانين الرواية الواقعية إذ سمحت تقنيات جديدة بإخراج تحاور حقيقي بين النصوص إلى حيز الوجود، وتقليص الهوة التي تفصل بين السرد والشعر. فإذا كان النمط التقليدي المعتمد على السرد المتصل والمتسق، والحبكة التي تنمو بالتدريج إلى أن تصل إلى مستقرها، وما إلى ذلك من التقنيات والقواعد التي أصبحت مألوفة وراسخة في الأذهان منذ فترة طويلة، فإن الرواية الجديدة تقلب بعضا من تلك التقنيات والقواعد رأسا على عقب، أو تكتفي بإلغاء بعضها الآخر لتضع بدلا منه، قوانين ومعايير جديدة، هكذا، تلجأ إلى كسر الترتيب السردي المتتالي، وتخرق التسلسل الزمني، وتتيح الانفتاح على أجناس أدبية أخرى، وتوسعت في الوصف مانحة إياه وظيفة جديدة تنحو بالعمل الروائي منحى فضائيا تشكيليا، وأعطت أهمية بالغة للبحث الشكلي التجريبي، وانحازت إلى اللغة باعتبارها غاية لا وسيلة، وما إلى ذلك من التقنيات والمواصفات التي أضحت اليوم معروفة بدورها.
وقد لخص دومنيك جوسلان (M. Gosselin) الملامح التي تتجمع من أجل تكوين روايات شعرية فيما يأتي: “إنها روايات ذاتٍ تقف أمام العالم في علاقة تأمل أو حلم، روايات تخضع لتقطع الذاكرة، وأوامر الانفعالات، ومفاجآت الرغبة”(3). كما تقوم بنية النص الروائي الشعري “على البحث عن الهوية ويؤدي إلى ما هو أصل وأصيل، ويستمد إيقاعة من انبثاق الرغبة والذكرى، وغنائية المفاجأة السعيدة”(4).
وبفعل المثاقفة وحركة الترجمة انفتح الإبداع الروائي المغربي على “الرواية الجديدة”، وتميزت النصوص الروائية الحديثة التي أنتجها الروائيون المغاربة بالقدرة الإبداعية على المزاوجة بين لغة السرد ولغة الشعر، إضافة إلى المزاوجة بين وظيفتي اللغة البلاغية والإبلاغية، إذ تجافي لغتها الأداء السردي التقليدي وتتجاوزه رامية بذلك إلى تعابير شعرية ودلالات جمالية، فشعرية اللغة سمة تصورية مشتركة في النصوص الروائية التي كتبها عدد من هؤلاء المبدعين خصوصا محمد عز الدين التازي في روايتيه (رحيل البحر) 1983، و(المباءة) 1988، وإدريس بلمليح في رواية (مجنون الماء) 2004، ومحمد الأشعري في (القوس والفراشة) 2010. ويعد هذا التداخل بين جنسين أدبيين متباينين (السرد) و(الشعر) ميسما ميّز هذه الأعمال عن النمط الروائي السردي السائد، وذلك في تجانس وتناغم يصعب معه تصنيف الجنس الأدبي، وتعد تجربة محمد عز الدين التازي خير مثال على هذا التجديد الذي شهدته الرواية المغربية منذ فترة الثمانينيات من القرن الماضي، ممهدا بذلك للتجارب اللاحقة.
• موضوع رواية “المباءة” لمحمد عز الدين التازي:
يعد محمد عز الدين التازي من أبرز الروائيين المغاربة الذين حملوا لواء التجديد ويظهر ذلك جليا في مجموعة من الأعمال القصصية والروائية، نذكر على سبيل المثال : (رحيل البحر)، و(خفق الأجنحة)، و(زهرة الآس)، و(كائنات محتملة)، و(أبراج المدينة)، و(ضحكة زرقاء)، وإضافة إلى روايته الموسومة بـ (المباءة) الصادرة سنة 1988 التي تشكل إحدى النماذج المتطورة بحكم ظهورها في وقت متأخر من القرن الماضي، وتحديدا في فترة الثمانينات.
اشتملت الرواية على ثلاثة أقسام رئيسية :
1- الضريح والمقبرة : وهو مخصص أساسا لحديث الشخصية الرئيسية “قاسم الورداني” عن حالته وشغفه بالكتابة على رخام شاهدات القبور.
2 – السجن : ويتمحور حول حديث “قاسم” وزوجته وابنيه “منير” و”منيرة” على التوالي بحيث انفردت كل شخصية بكلامها المستقل عن الشخصيات الأخرى.
3 – المقبرة والضريح : وهو مخصص من جديد لحديث الشخصية الرئيسية “قاسم الورداني” عن حالته وما طرأ في مدينة فاس من وقائع.
وبخصوص سياق الكتابة فقد تميزت الفترة التي كتبت فيها الرواية بمجموعة من الإحباطات والخيبات المتعاقبة في كل آمال التغيير والتقدم والرقي الاجتماعي والاقتصادي. فهذا العمل يتحدث عن مدينة فاس المغربية التي أصيب أهلها بذلك الوباء الدال على أن أحوالها تبدلت إلى ما هو سيئ. وهذا يكشف الحالة المأساوية التي آلت إليها هذه المدينة العريقة وكل المدن العربية. فرواية (المباءة) تحكي حياة أسرة مغربية يحتل فيها مصير الأب “قاسم الورداني” مركز الصدارة. فهو يرسم ارتباطه بالحروف وتشكيلها بإزميله على رخام شاهدات القبور، وهو يظهر منذ البداية متمرادا ساخطا على مدينة فاس وأهلها. تتميز هذه الشخصية بحالة التشظي والانشطار الذاتي من خلال ما يتلفظ به من هلوسات وتهيؤات وفقدان الذاكرة تارة ويقظتها تارة أخرى. كما تكشف الرواية عن حالة التحول التي عاشها قاسم، فقد كان يشتغل مديرا لأحد السجون في المدينة، وكانت له عائلة، وتبين الرواية كيف انتهى قاسم إلى حالة من (الخبل) تائها بين المقبرة ودروب فاس الضيقة يتبعه (شعب) من القطط.
يمكن اعتبار رواية (المباءة) رواية سياسية ذات بُعد انتقادي لمجتمع تتعدد مشاكله الاجتماعية والأسرية، ويطغى فيه الظلم والاحتيال، لذا ترسم أحداثُها معالم المآسي الفردية والجماعية، وتعبر عن ذلك بواسطة رصد الاختلالات العقلية والنفسية وتفشي الأوبئة والانقسامات الإيديولوجية. فقد فضلت الرواية أن تُشخص، صراحة، اختيارا إيديولوجيا معينا يجمع بين النزعة اليسارية والانتماء الديموقراطي.
• شعرنة الخطاب في رواية “المباءة” :
يعد تجاور السرد والشعر في الرواية مظهرا من مظاهر التجديد، وبادرة ترهص بكتابة جديدة، عملت الرواية، على وجه الخصوص على تطويرها للتعبير عن هموم العصر وصروفه. وذلك من خلال الإسهام في تنويع المستويات اللغوية، وإدخال متغيرات أسلوبيه تهم أجناسا أدبية أخرى. إن مرونة لغة الكتابة وتراوحها بين السرد والشعر منح رواية (المباءة) نفسا سرديا مفعما بالتخييل والمشاعر.
يفتتح السارد هذه الرواية بلغة شعرية يخاطب فيها (الإزميل)، الذي يشكل به شواهد القبور، كما يبرز تصوير علاقته بالحروف وما تشكله في حياته، ونكتشف عبر نظرة قاسم للحرف رؤيته للحياة ولذاته وللعالم من حوله. ومن خلال الخطاب الشعري الذي يعبر به السارد عن نظرة شخصية قاسم إلى الحرف ندرك السر وراء ذلك العشق الكبير. فلا شيء يمتلكه قاسم لمساعدته في محنته سوى إزميله وهلوساته التي تجعله يرسم عوالم بديلة تعوض حالة الحرمان. يقول :
أنت أصابعي
أنت يدي وعيني وجسدي أيها الإزميل
احفر لي طريقا في الحرف، فمع الحروف وفي دروبها أسير(5).
ويقول أيضا :
يحفر حروفا على الرخام
الحروف تقترب وتبتعد.
حرف يقترب من الآخر.
حرف يدخل في آخر من خلف أو أمام.
حرف يميل وآخر يسيل
حرف أشَمُّ يرفع هامته فوق كل الحروف.
حرف يشتهي الحرف وحرف هو الاختراق الشبقي
المحترق بلذة ألمه الأبدي(6).
تتسم لغة هذا المقطع بالغموض وتكثيف المعاني، وهو ما ألفناه في قصيدة النثر يضاف إلى كل ذلك تلك الفواصل التي تشبه قوافي الشعر والتي أضفت على النص إيقاع الشعر موسيقاه الصوتية، كما نجد السجع والجناس اللذين منحا النص إيقاعا صوتيا، والذي يتحقق أيضا عن طريق التكرار الداخلي المتمثل في تكرار عدد من الكلمات خصوصا : “أنت”، و”حرف”، و”يقترب”.
وفي مقطع آخر يقول قاسم الورداني: (حالما يلحون علي في طلبهم أجد نفسي لا أكتب ما في الورقة من معلومات عن الميت، بل أخط كلماتي، كلمات مكونة من حروف، وقد تكون لا معنى لها، فأنا أبحث لها عن معنى).
أنا أكتب وهم يقرأون
تقرأ العيون في الظلام
تقرأ الدموع
تقرأ الليالي والنهارات
تقرأ الشمس بأشعتها الحارقة
كتابي مفتوح لا يبلله المطر ولا تُبهت كلماته حرارة الشمس
كتاب مفتوح تحت ضوء قمر الليالي، وهم يموتون الواحد بعد الآخر وكتابي لا يموت(7).
ويختتم هذا المقطع بقوله : (أنا سأموت. القبب علية في المقبرة …). والملاحظ في هذا المقطع أن المبدع أدمج هذا المقطع الشعري دون أن يُحدث قطيعة مع السرد، وفي هذا نوع من التداخل لا يحس القارئ بأي شرخ أو قطيعة. ففي البداية نجده يتحدث عن فعل الكتابة ليبدأ أول سطر شعري بهذا الفعل (أنا أكتب)، ويختم هذا المقطع الشعري بكلمة الموت، وهي الكلمة نفسها التي سيبدأ بها في سرد بقية الأحداث، وهذا يشي بتكامل الجنسين الأدبيين معا في إيصال المعنى.
وفي قوله :
اضحك أيا الإزميل أو ابك. عِشْ أو مُتْ وأنت عارف بأن الحروف لا تموت.
طاوعني أيها الإزميل.
كن نهاري وضوء عيني.
كن يدي ولا تتوغل كثيرا حتى لا تخترق هذا الرخام.
مِلْ مع الحرف حيث يميل
سِرْ في دربك أو في مجراك الذي هو مجرى الحروف(8).
نجد أن صيغة الأمر تتكرر تقريبا في كل سطر، إضافة إلى النداء في السطرين الأول والثاني، ومن وظائف هذا التكرار، إضافة إلى التنبيه، توليد الإيقاع لإبراز قيم شعورية وذلك لتحقيق أبعاد جمالية، كما يعبر هذا التكرار عن رسوخ العبارة في نفس قائلها وإصراره في إيصالها إلى ذهن المتلقي، فالإيقاع في الرواية غير مشروط بالوزن، وانما يتجسد هذا الإيقاع في ظاهرة التكرار بمختلف أشكاله: حروف، وكلمات، وجمل، وصيغ صرفية. أضف إلى ذلك اللجوء أحيانا إلى السجع الذي اعتبره كثير من دارسي الأساليب العربية حلقة وسطى بين الشعر والنثر المرسل. إن السارد يجعل الإزميل ناطقا بما يعانيه في أثناء النحت على الرخام لينوب عن قاسم في الكلام، مطالبا إياه بالمطاوعة وأن يصبح يدا يزرع بها حروفه لتكبر.
يختتم السارد الفصل الأول بمقطع شعري يحضر فيه كل من الإزميل والحروف. وقد ارتبط هذا المقطع كأغلب المقاطع الواردة في النص بحالة الشرود التي تعتري قاسم. فنجد في الرواية : “(يغسل أماكن الرسوم على جسده ثم يعود إلى الغرفة مدثرا بفوطة ليرتدي ثيابا نظيفة، وهو يعرف أنه في الغد سوف يرسم على جسده رسوما أخرى. ينام، لكنه ينهض من نومه ويصرخ :
إليَّ بالمشانق والمزهريات ومواقد الحطب.
إليَّ بأسرة الدعة والمناغاة بين رجال ونساء.
أعطوني السيف والميزان.
(…)
خذوا الميزان وأعطوني السيف.
لا.
بل خذوا السيف وأعطوني الميزان.
قلت لكم خذوهما معا فأنا لم أختر بعد.
لا مكان لي.
سوف أدعو شعبي ليتبعني وأغادر هذه الأرض.
ضوء عيني قليل،
ونهاري سحابة،
ولذلك لم يطاوعني الرخام ولم يطاوعني الإزميل(9).
وظف السارد في هذا المقطع انزياحات لغوية، فالمراد بالشعب في قوله : (سوف أدعو شعبي ليتبعني وأغادر هذه الأرض)، هي تلك القطط التي تتبعه دائما ويُكِن لها محبة غير محدودة. كما يتميز هذا المقطع بمعجم ينتمي لحقل الوجدان بهدف التأثير في المتلقي والتعاطف مع هذه الشخصية، وذلك في جمل قصيرة تبتعد عن عمق التفصيلات النثرية، وهي جمل تجسد ملامح الشعر الحديث، وذلك في إيقاع متسارع تكشف عن عمق معاناة بطل الرواية وإحساسه بهول ما يعيشه وبمدى الاختلال في مجتمعه. بل إن هذا الاختلال يمضي إلى أبعد من ذلك ليشمل نظرته إلى العالم والوجود. وبهذه الشاكلة تصبح البنية الشعرية لغة ورؤية، تركيبا ودلالة، بنية حيوية في تشكيل جمالية رواية “المباءة”. ومن خلالها تتضح مواقف الشخصية وسلوكاتها، وتبرز عن حالاتها النفسية ورؤاها الفكرية الرافضة لما يجري حولها.
وبالانتقال إلى الفصل الثالث المعنون ب(المقبرة والضريح) يتبين أن الرواية تعود في حركة دائرية إلى مجريات الفصل الأول الذي ركز على حياة قاسم بعد مغادرته للضريح وتجواله في شوارع فاس وأزقتها. فقد تذكر قاسم المقبرة وقال : “مقبرة القبب منفاي والرخام ضريحي والحروف أنهاري منها يتدفق الماء.
أنهار حروف.
حرف ضاحك وحرف عابس.
ظهرت لي السين
وحفرت الباء بالإزميل
وتطلعت إلى الراء.
ثم حفرت بالإزميل التاء والحاء.
وجاء نهوض الألف من الغفوة، فقد حلمت فيما يشبه اليقظة بوعل نافر في البراري.
قلت هي الحروف أصوات ومعان
هي البراري وهذا الوعل
والوعل هو الطليق تحضنه البراري(10).
لقد عاد قاسم ليخلق حوارا بينه وبين الحروف، ويتضمن هذا المقطع إيقاعا داخليا تمثل في تكرار مجموعة من الكلمات : “الحروف”، و”البراري”. إضافة إلى تكرار الصيغة الصرفية (فاعل) : ضاحك / عابس. والتجانسات الصوتية : الراء / الحاء. كما توسل بمجموعة من الصور الشعرية التي ارتبطت بأنسنة الحروف فهي حروف ضاحكة وأخرى عابسة. ويضيف :
حرف يرحل
وقمر يطل
حرف يغيب
وشمس تشرق(11).
وتحضر هذه السمة الفنية من بداية الرواية إلى خاتمتها كلما كان الخطاب متمحورا حول قاسم ومعاناته مع أسرته، أو مع وظيفته كسجان أو مع ممارسات الناس في الحياة الاجتماعية. هذه النماذج وغيرها كثير – فضلا عن الاستعارات والمجازات – تكشف عن طاقة شاعرية فائقة، تجسد العلاقة بين الشعر والنثر، وقد تتحول في مقاطع منها إلى ما يسمى بالشعر المنثور أو قصيدة النثر.
• وظائف اللغة الشعرية في رواية”المباءة” :أ- تكسير رتابة السرد:
تسمح متابعة رواية (المباءة) بالتعرف على الكثافة الشعرية المميزة للأسلوب واللغة ذات الظلال الإيحائية العميقة. ولا ريب في أن هذه الكثافة تندرج ضمن مقاصد الكاتب، طالما أنه رغب في التخفيف من وطأة الحبكة وحِدّتها في الرواية.
إن تداخل جنسي السرد والشعر في النص الروائي يخلق نبرا متنوعا في إيقاع الرواية، ويسهم هذا النبر في تكسير رتابة السرد وتجاوز حدود التقرير إلى إنتاج فضاء من التصوير والتخييل يقربها من لغة الشعر، وتنوع إيحاءاتها مما يضفي على المحكي في (المباءة) حيوية تصويرية كبيرة تجعل المتلقي لا يشعر بالملل الذي تخلفه برودة التقرير.
عبر هذه التقنية السردية وسماتها الفنية استطاعت الرواية في بنيتها الحكائية المتقنة تقديم رؤية قاسم إلى واقعه وإدانة بعض ما يجري في العالم مما يحير العقول، ويجعل النفوس مضطربة والقلوب موزعة.
ب- تعزيز الطابع المونولوجي :
إن استخدام اللغة الشعرية في رواية “المباءة” يعزز الطابع المونولوجي، أي خاصية التمركز الذاتي حول بطل محوري في الرواية وهو “قاسم الورداني”، ويقلل في الوقت ذاته من المظهر الحواري الذي يميز الفصل الثاني. إذ تتجلى اللغة الشعرية في الرواية في شكل حوار يقيمه قاسم مع نفسه في الفصلين الأول والثالث، ويتناول موضوعا ثابتَ الحضور يتعلق بالكتابة والنقش على رخام شاهدات القبور، لكنه رامز على الدوام لمحاولة كشف المستور والجهر بما لم يُعلن، فصوت هذه الشخصية يتداخل في كثير من مواقع الرواية مع صوت السارد، مما يدل على أن زاوية نظره تفرض انحيازا خفيا لمواقف وآراء هذه الشخصية في الرواية. إن اللغة الشعرية، في الرواية، هي إشادة ضمنية بدور الكتابة، أي بالحكاية التي يحكيها “قاسم الورداني”، والسارد الذي كان إلى حد كبير متواطئا معه، كما تقوم هذه اللغة في الرواية بدور الإقناع ببلاغة العبارة، يقول :
“كتابي مفتوح لا يبلله المطر، ولا تبهت كلماته حرارة الشمس.
كتابي مفتوح تحت ضوء قمر الليالي،
وهم يموتون الواحد بعد الآخر وكتابي لا يموت”12.
إن استخدام اللغة الشعرية في هذا النص يمثل موقفا من العالم الذي يستعصي على الفهم بوسيلة الفكر المنطقي. لذا فتحويل النظرة إلى الواقع بواسطة الشعر، هو محاولة للاحتجاج على غموضه من جهة، وخلق فرصة وهمية لفك مغالقه من جهة أخرى. فالكاتب يسعى أن تظهر هذه الرواية بمظهر التنويع، سواء على مستوى المحكيات أو على مستوى اللغة وطرائق تشكيل الأحداث. وهذا ما دعا النقاد إلى وصف الرواية بـالفن التعبيري الهجين. وهي، إلى جانب ذلك، قادرة على ضم وتوظيف معظم الخطابات اللغوية المتداولة في المجتمع.
• خاتمة:
لقد تعاطت دراسات كثيرة مع رواية (المباءة)، والتفتت إلى لغتها وأسلوبها لأنهما ببساطة لافتان للانتباه في سياق ما أسهم به محمد عز الدين التازي على درب الكتابة الروائية والقصصية. يقول الناقد محمد برادة : “منذ نصوصه الأولى، ومحمد عز الدين التازي يتموضع خارج الواقعية وطرائق صنعها المعهودة، يوالي التجريب والبحث عن معادلة فنية تستوعب مدخراته من السرد والتأمل ورصد الذات في صراعها الدائم مع عالم خارجي لا يكف عن الانفجار. ومن ثم فإن النَفَس الشعري المتدفق في نصوصه، يعانق فضاءات مدن مغربية ذات أبعاد أسطورية ليحفر له أخاديد ومسارات تنتشل الوقائع والأحداث والشخوص من أمكنتها المألوفة لترتقي بها إلى مدارج الحلم والظلال الموحية”13.
إن مجمل أعمال عز الدين التازي تمتاز بالتفرد فهي تتوق دائما إلى التجديد وخوض مغامرة التجريب، والانفتاح على سائر الفنون والأجناس الأدبية. كما هو الحال في هذه الرواية التي يتداخل فيها السرد والشعر في تناغم وتجانس. ويكشف هذا التجاور عن مقصدية المؤلف ورؤيته، وتعكس موقفا من العالم الذي يستعصي على الفهم بوسيلة الفكر المنطقي. فتحويل النظرة إلى الواقع بواسطة الشعر، هو محاولة للاحتجاج على غموضه من جهة، وخلق فرصة وهمية لفك مغالقه من جهة ثانية. وتكشف هذه الشاعرية عن نفسها صراحة حين صاغ الروائي بعض الأحداث والمواقف شعرا، واستحضاره لبعض الأبيات الشعرية المأثورة وتطويعها لتلائم المواقف والأحداث المعبر عنها، وكذا الاستثمار المتواتر للمكونات الجوهرية في بنية الشعر من استعارات وكنايات ومجازات، ولا تستعمل هذه المكونات من باب الزخرف التزيني بقدر ما يتم توظيفها بنيويا وفق ما يضمن منح اللغة معاني ثانية وظلالا تشرق منها الإيحاءات وتلمع.
المراجع المعتمدة في الدراسة:
– محمد عز الدين التازي، رواية المباءة، مكتبة الأمة، الدار البيضاء، 2005.
– ناتالي ساروت وآخرون، الرواية والواقع، ترجمة: رشيد بنحدو، الدار البيضاء، عيون المقالات، 1988.
– Dominique Combe, Poésie et Récit, une rhétorique des genres , Paris, Corti, 1989.
– M. Gosselin, le roman aux limites du poème, naissance d’une forme, in : le genre du roman, paris, PUF, 1981.
1 ناتالي ساروت وآخرون، الرواية والواقع، ترجمة : رشيد بنحدو، الدار البيضاء، عيون المقالات، 1988، صص 15 – 19.
2 Dominique Combe, Poésie et Récit, une rhétorique des genres , Paris, Corti, 1989, p 114.
3 M. Gosselin, Le roman aux limites du poème, naissance d’une forme, in : le genre du roman, paris, PUF, 1981, p 139.
4 Ibid, p 140.
5 محمد عز الدين التازي، رواية المباءة، مكتبة الأمة، الدار البيضاء، 2005، ص 9.
6 المباءة، ص 16.
7 المباءة، ص 19.
8 المباءة، ص 45.
9 المباءة، صص 69 – 70.
10 المباءة، ص 132.
11 المباءة، ص 142.
12 المباءة، ص 19.
13 .انظر : رواية “المباءة” – كلمة ظهر الغلاف.
عبد الرحمان إكيدر*