1- بالام رودريغو\
\ وُلِد سنة 1974. لاعب كرة قدم سابق. من دواوينه: قمري ، الصامتة.
l وصية الضباب
تعبرُ القصيدة القلبَ وطَمْيه العميق الصامت،
تعبرُ الصفحة
وغابتها المُثلِجة كجيشٍ من عصافير
يرحل بحثاً عن حقل هاجراً الشتاء وأطيافه.
على الجانب الآخر من الغابة تنتظرنا
القصيدة متوهّجةً بين يدي الملاك ـــــ
بخنجرها، خنجر الضوء البارد.
وتحت ظلال
الأشجار، وسط الصمت والأرض
المحفورة بسكاكين من ضوءٍ ميّت،
يُملي عليَّ أحدهم
بمقاطع صوتية سوداء
وصية الضباب الغامضة:
الشاعرُ ملاكٌ يعبر القلب
بلسانه المسلول.
l جزيرة الحلم
وحيدون، غارقون في قارة الصمت الفسيحة،
مكتوبون في الزمن بأحرفٍ من دم،
نحن صدى الله في ذاكرة الملائكة،
صفحاتٌ من البغض
ضائعة في بحر شاسع من ثلج ميت.
يُثقلُ علينا الظل وآخرُ وميضٍ للنهار على الأكتاف،
عنقودُ الضوء الضعيف الوحيد الذي يطفو في الشفق
يستنفدُ حفيف الشمس وهو يسقطُ في أعيننا،
والشَّمس، قلب الإنسان، ليست إلا جزيرة حلم معتمة،
تنام للأبد في النسيان.
l ملاك الألم
يهبطُ الليلُ والثلجُ على هذا القلب
المُطبق؛ صوتهُ الأسود يلعقُ، مملحاً بلسان ينابيع
كالحة، عروقَ وأحلام
الزاغ، ماءَ جبال الجليد الأزرق؛
ثلجٌ رصاصيٌّ مخلّص يسقط على أرواحنا المحكومة
بمشيئة أنهر الجليد، ننشد السلام والدفء
في الظلماتِ، وفي البحار.
استسلمنا لموسيقى الريح في المرايا،
يكتبُ ملاكُ الآلام
بحروفٍ من جليد على دمنا: أُحبُّ صوتَ الرب
يسوط وحشة الروح على البيادر.
يهبط الليلُ والثلج على هذا القلب الموجوع.
طفلُ الثلج
هكذا أيضاً أستضيء بمصابيح من ثلج،
بصفحاتٍ من جليد وأشياء من شتاءٍ وصمت:
سقط الضوء على عينيَّ أكثر ثقلاً من
جبلٍ من النسيان يهوي على العالم.
أحياناً يصيبُ الخريف دمَ يديّ ويذوب مثل الثلج
وبلوراته، فأعود لأحصي خلاصة الشمس
على خطواتي، وأبكي كجبل من جليد،
كطفلِ ثلج ضائع على أعتاب الصيف والألم.
عندئذٍ أنطفئ مثل هذا الخطأ المطبعي
الدَّنِس الذي يغورُ في صفحات كتاب
في مهبِّ ريح بحرٍ عميقٍ، أسودَ ومهجور.
2- روخيليو غِدِيا \
\ شاعر وروائي ومترجم. من مواليد 1974. من دواوينه: آلام الجسد، شهادات الغياب، وبينما أنسى، الذي حصل على جائزة روساليا دي كاسترو للشعر العالمي سنة 2001.
l منافي
أتصوّر قدميَّ بلداً أجهله
يديَّ جزيرتين
ركبتيّ مدينةً قصيّةً ووحيدة،
أفكر بكتفيّ أو بعنقي، وعدمي
بالمسافة بين أذنيّ،
بالكيلومترات التي عليّ أن أقطعها كي أصل إلى قلبي
بقرى ظهري، بمطاراتي،
بقطاراتي، أفكّر بشفتيّ الشتويتين،
بمحجريّ الخريفيين، بجلدي القاسي،
محبوساً بين أربعة جدران، أنظر إلى المدار الغائب.
ممزّقةٌ أصياف الأورغواي،
عتمة فوق أخرى.
أتصوّر قدميَّ أحياناً أرضاً غريبة،
ساحةً تغصّ بأناسٍ مجهولين، لغةً
لا ينطقها أحد، أفكّر بكتفيّ أو برقبتي،
بأذنيّ وبظهري،
بجلدي القاسي الغريب الذي
بلا هوية،
الذي لا يكاد يشكّل طيفاً.
تساؤلات
ماذا لو بقيتُ دون اليد التي تؤلّف
هذه القصيدة،هل أستطيع أن أكتب
هذه القصيدة أيضاً؟ وهل أقدرُ أيضاً أن أكتب
على اليد التي تكتبها؟
تلك هي المسألة: ماذا لو بقيت دون بلادي،
هل ستتمكنُ اليد التي لم أملكها أن تكتب بلادي؟
أن تحصي شوارعها؟ هل سأفعل الشيء نفسه مع
زواياها؟ أن أسجّل ما وُلِدَ
أو مات توّاً: شجرةً مثلاً، أو
جدتي التي ماتت قبل ولادتي بيومين؟
هل ستحتفظ اليدُ التي بلا بلاد في قلبها بالنساء اللواتي عشقتهن؟
وهل بقائي بلا امرأة أحببتها
يعني بقائي بلا حب؟ وهل يختلف الأمر
حين تنسينني يا حبيبتي؟
هل لأجلك أنا منسيُّ تلك الشوارع أو الخرائط؟
وماذا عن هذه اليد التي
تكتب اسمك رغماً عني،
معك بلا كَلَل؟
l مطر حامض
عثروا على ذراع الطفلة الصغيرة تحت
الأنقاض/ عثروا على أصابع
اليد الصغيرة الخمسة وخاتم أزرق تحت الأنقاض
مغسولة بالمطر/ لم يعثروا على رأس
الطفلة ولا على ثوبها
المطرّز ولا على موضع آخر له/ كانت جثتها هناك،
واقفةً، مغسولة هي الأخرى بالمطر،
ظامئة من كثرة الماء/ سأل الممرضون الجثة
الواقفة عن عنوانها، عن كنيتها، وهل من سبب أو
داع لوجودها، لكنّ جثةَ الصغيرة الواقفةَ
خرست، هي بالكاد فعلت هذا
بفكيها المحطمين، بينما تطلب خبزاً يابساً تأكله/
رأوا أنه من العبث أن يسألوا
جثة طفلةٍ واقفة عن والديها، وإخوتها
ودُماها، وبيتها المسقوف بالصفيح، عن عائلتها
المدفونة كلّها تحت الأنقاض مبللةً بالمطر.
تحت مطر الظلم والطغيان والقمع
مبللون، الآن إلى الأبد أصدقاء
الموت.
l حقل مفخّخ
يقولون: كيف يمكن لشاعر أن يحيا هكذا حاملاً
في داخله أماً غائبة، بيتاً مهدّماً،
سائراً في الدروب يشيّد قلاعاً صغيرة خياليّة
أو يركّب متاهاتٍ ككتب
لم تقرأيها قط، كتبتُها لأرضيكِ؟
يقولون: إنَ شاعراً كهذا لن يتحرر من هذا حتى لو هرب أو طردوه
من بلاده، حتى لو عاش في بلد قصيّ آخر، غريباً
كيديك الآن، مؤلفاً المزيد من الكتب التي كتبتُها
كي تقرأيها ذات يوم
لا كي أحظى بشهرة أو ثروة، كما يقولون،
بل لأكسبَ معركةَ حبِّكِ، يا أمي،
يا بلداً لن أعود إليه أبداً.
3- ماريّا كروث\
\ من مواليد عام 1974. من دوواينها: كتاب الشقوق، خلية من ذهب ورماد، الذي حصل على جائزة كارلوس بِيِّيثر لشعر المدينة.
l حجر
نسيتُ كيف أحبُّ. سأعود لأبدأ في الصمت والفراغ. سأبدأ بهذا الحجر. أبدأ هنا بلمسه، إنني على حافة أشكاله، أحداثه وقشرته.
لا يُصدرُ الحجر أصواتاً، لكنّ أناملي ترتعشُ حين ألمسه.
أمضي نحو الحجر، أطوّقه، أطرح عليه أسئلةً أو أتوقف لألمس في قلبه صمْتَ العالم.
يهمسُ الحجر مغموراً بالماء. يُلمح ليلاً بضياءٍ خافت. يبدو أنّ النور يكلّله في الغسق. تُرى كيف يكون في الفجر؟ غير أن هذا لا يكفي، فما زلت أجهل الحجر. أقترب، أتعلّم أن أقف وأناجي.
يبدو محافظاً جداً، لكنه ليس كذلك. الحجر ليس رتيباً، أشكاله متحوّلة، تتحرك وتقتحم صلابته، تغوص متمايلةً، تبرز.
شيءٌ كالقشرة يتوسّل اللّمس.
أعود وأبدأ. يدي والحجر تتواصلان، كلٌّ يترك على الآخر آثاره، التي تختلف بين لقاءٍ وآخر.
لمسة يدي تطبع الحجر والحجر يطبع يدي. صار عندي خطوطٌ جديدة وعنده أيضاً. وهذه آصرة.
l ساعة أكتوبر
هذه هي ساعة الحدود، ساعةٌ تنصهر فيها الألوان في بوتقة؛ الطيور تبدأ بختم أجنحتها بمشابك من سبجٍ نديٍّ وممنوع عليّ أن أكذب.
لم أعد أخشى العوسج ولا النبيذ الأحمر ولا القنطورات التي تلامس الأفق.
أمس ِتجرّأت على صعود الجبل الأخضر حيث رافقني الهواء صافراً حتى القمة.
اشتمّ غريّرٌ الضوء بين العشب فرأيت شيئاً لامعاً على الأرض.
أنا لم أذهب إلى الجبل وحدي، ذهبتُ معه، من طوّقني بخببه لأنه رجل له روح جواد.
كمن يقشّر برتقالة، عرف كيف ينزع ما فاض عني.
عثرَ على حبّة متجوّلة، مركزٍ يمكن مبادلته بهوّات أو سكون واختار أن يتناغم معي، على الرغم من دمي، من شعري المجنون وجبهتي المنهمكة في التفكير.
لنُسمّه حباً، لنسمّه رقصاً أو من الأفضل ألاّ نُسمي السعادة المشتركة التي لها هذه القدسية.
يُستحسن ألاّ نقول إلا عوسجاً، نبيذاً أحمر، قنطوراً وأفقاً.
l البحر
أجهل كيف أعرّف البحر،
أعرف أن أركب الموج الذي ينعشه القمر
بنار طيفهِ؛
أستطيع أن أغوص في لجّته
وأصير سمكة سريعة
أو نورساً في الأعالي.
لكن البحر، كيف أصفه؟
حصانٌ عرفُهُ زبد
وعيناه زرقاوان؛
أعرف خبَبَه،
والعرق المتموّج لصدغيه المزجّجين،
أعرف عن اسمه المكنوز في لؤلؤة
أو في رعشة رمل.
يُجَنُّ الأطفال حول نوره
والفتيات يضحكن بشَعرهنّ الأخضر
وهنّ يعانقن الهواء الطلق.
رقصة رخويّة تهزّ الأجراس،
الماء يصفّق راقصاً ويكسّر أعراف الموج.
أخبروني أنّ البحر يسمّم
الزوارقَ الحلزونيّة وعرائس البحر الحزانى.
لكنّ النظر إليه لا يضرّ
لا يُحزننا الأفقُ الغامض
ولا مروحة المرايا،
ولا حركة الحلزون الساحر الزرقاء،
ولا الرجال السمر بابتساماتهم الصدفيّة.
l الحديقة
تقتربُ الحديقةُ وتبتعدُ، تهدأُ العصافير، تهتزّ العناكب. الحديقة تتفتّت أو لا تتفتّت، تتكسّر الأصوات في الفيء المتواضع، ضرباتٌ خضرٌ أو سهامُ ماءٍ تسقطُ على العشب المنفرد. هناك صمتٌ يلتفّ طويلاً كأفعى، قلبُ حصانٍ يخفق في شبه عتمةٍ بريّة، لكنّ الحصان غير موجود، موجودٌ كير الأرض.
الليل ينسلّ بين العشب، حلزون يخضّل محيّا القمر، يتلوّن الضوء بين الأغصان والأوراق؛ ثمة رئة من ضباب، ورق خصبٌ، بقعٌ من ماذا…؟، قطرةُ مطرٍ تسقط وتكفّ عن السقوط. تبتعدُ الحديقة وتقترب، حسب غمد أجنحتها والشجر في دغلها وطحالب الليل النامية؛ زرقاء أو غير زرقاء، تجرجر الحديقة أغنية صغيرة،
الحديقة تغادر، تقترب بهيئتها المطرية، بستارها الطّينيّ في الصمت المتكسّر الذي يتنفس.
4- خوان دومينغو أرغويّس\
\ من مواليد عام 1958، له خمسة عشر ديواناً شعرياً، منها: كالبحر العائد، ماء تحت الجسور، نخب المرضى، كلّ مياه البرق، وبين الهواء والسماء.
l ترف وشقاء الغيران
عاريةً، عظيمةً
مانحةً للشهوة،
تنبثقين من الحمام
من بين السُحب
كفينوس من الرغوة.
جليلةً
تتزيّنين وتتعطّرين
يشدّ عليك الثوب
ويعرّيك.
تتزيّنين لفرد
ويتمتع بك الجميع
واحداً واحداً.
معه،
امتيازاً،
تمنحين وتمرحين.
وحده يملكك
لكن الجميع يتمتعون بك.
5- مارغاريتو كوييّار\
\ من مواليد 1956. له العديد من الدواوين منها: (شوارع نيسان هذه، الإقامة الجبرية).
l ممرضتي
فَرِحةٌ ممرضتي كمساء يوم الجمعة
أو صباح السبت
يستعيد اليائس من الشفاء لونه حين تنطق اسمه.
بثلاثة أحرف تختزل مهرجان الأجراس كلّها.
لم تولد من ضلع أحد
نسج الرب من الدقيق لها ثوباً
الأرض تتوقف عن الدوران حول نفسها كي تتأمّلها.
قلبي يتوقف ليولد من جديد بين يديها؛
أكون سعيداً حين تمرّ مرحة كجوكر الآس.
قبّعتها تسطّر وقائع مشافي العالم.
يوم عطلتها تزداد قائمة الوفيات، ماذا سيحدث إذا ما تقاعدت غداً؟
تحسدها العصافير وتنتحر الملائكة حين تراها
أموت طالما أنّ غناءها سيحييني.
رموشها تقي من الماء حتى إن لم تكن تمطر
والهواء يتوقف وقد اجتازه خيط خطواتها
نهارٌ لا تكون فيه ليلٌ أبديٌّ
ويعمّ الكوكبَ حزنُ الماضي.
سيصبح العالم عالماً آخر
سيختلف العالم
لو كان هناك بدل الجيوش ممرضات.
مكتبات
في مكتبتي نوافير ماء
ضحكاتٌ يتنفس فيها البحر
جراحٌ منيرة تتفتح
هيئةٌ سائلة لتفسير العالم.
ليس فيها موسوعات
بل أسماء بلدان قصيّة فقط
لا يوجد أيّة جهة، لا بابل، ولا جزيرة أوكاريمانتيما.
في مكتبتي لا يوجد قواميس
فقط كتب فارغة فيها أسئلة توضيحيّة..
لا يوجد في مكتبتي نفائس المطبوعات
فيها حواسيب تفكِّر عنا.
إن بحثتم عن دانتي ستجدون ناراً موقدة
وإن رغبتم ببورخس
ستجدون متاهةً تُفضي إلى الحديقة
لا تحزنوا إذا ما داسوكم
حين تبحثون في كاف كافكا.
لا أفهم شيئاً
في مكتبتي
بدل أعمال إليوت الكاملة
نيتشه وأخته يتسليان.
الدكتور فرويد في ديوان الأرق.
في مكتبتي فرانكشتاين يشرب دم الصويا
وماركيز دو ساد راكع على ركبتيه أمام الحب
يلتمس العذر لأنه عاش في الزمن الخطأ.
في مكتبتي لا يوجد كتب
فقط حاويات أحلام
مخطوطات على رفوف من جليد
أعمال النار المختارة
ومختارات الريح.
l وظائف
كلما خسرتُ وظيفة انكسرَ قضيب
انتهز سجناءٌ آخرون الفرصة وخرجوا من ورائي.
ما الذي ينتظرنا بعيداً عن الزنزانة
التي كنّا فيها مستأجري الوقت؟
ما من مكتب يبكينا.
عاريةً ومتحمّسة رقصتْ الزهرة فوق منضدة العمل –
استنشقناها برشفة واحدة.
والساعة المتفحصة – هي دائماً لصالح من يدفع –
تمحو اسمك وتطردك من العائلة القديمة.
كان رؤسائي قادة نقابات، سيدات من نسب عريق، علماء مجانين؛
عاجلاً أم آجلاً سيشيرون نحو الباب.
من ينهي عملك يعشق في الأعماق حريتك.
وداعاً يا صديقي، «أنت سجين في الخارج وهنا».
زمنٌ يبدل وظائفه كما يبدل النساء
لا يثقون بسيرتك الذاتية.
أن تترك عملاً ليس بالأمر المفرح أو المحزن.
روِّح عن نفسك وخبِّئ شهاداتك، استأجر غانيةً شابة
بسروالٍ داخليٍّ وابتسامة مصطنعة؛
عرِّها على مهل وضاجعْها
بقوّة وخيبة أمل فوق أوراق النقود الجديدة.
كرّر العملية كلّ ليلة.
فالجنس يمنح القوة وقليلٌ
من السعادة لا يُتعب.
l حكاية
لا تُضْجِر حبيبتك بالأزهار
شدَّ وثاقها إلى السرير على مهل
اخلعْ ملابسها وجوربيها كما لو أنك تعزف قيثارة.
احلقْ شعْر عضوها
وأرها المرآة:
الجراح تتلاقى.
لا تقل لها إنّ وركيها كئيبان
مثل عشاء عيد الميلاد
لكن احتفل
بعطلة عيد الفصح.
وفِّر التفاصيل الصغيرة؛
الأشياء، الخرق الناشفة، ملكة عرائس البحر
تبدو جيدة.
أخبرها أنك تحب حياتها للحظة
أنَّ بشرتها من ماء واشربْ من قواريرها السائلة
برشفات بطيئة،
قل لها
إنّ عظامها تفتح الشّهيّة
ولهذا أنتَ تمضغها.
امضغْها على مهل بأسنانك، ستتلذّذ أكثر.
حدّثها بحزم لتهرب من الحكاية.
واجعلْها تتقيّأ جميع الضفادع، وبسبب الشكوك
ألْقِ بعيداً هذه الشعلة الخضراء
لأمراء فقدوا حظوتهم.
6- غوادالوبه غالبان\
\ وُلدت في المكسيك عام 1974، شاعرة، كاتبة مقالة، روائية ومترجمة. حاصلة على دكتوراه في الآداب من جامعة قرطبة في إسبانيا. من مؤلفاتها: آلام الجسد، شهادات الغياب، بينما أنسى، الديوان الذي مُنِح جائزة روساليا د كاسترو للشعر العالمي سنة 2001.
l أعبرُ شمسَ المدينة
ما زلتُ راسيةً في سحر مشاهدها العابرة.
بي علامةٌ تمنعني من الرؤية بالطريقة نفسها.
كلّ يوم تُشرق الكلمات وتظلم
تمرُّ الحكاياتُ كخطّ الطريق الأبيض.
جاء الخريف.
إنها الخامسة من مساء الاثنين ذاته.
تحتدم الشمس وتدفن بذرتها في بطء خطواتي.
تُقرع أجراس الكنيسة بينما تتغيّر المشاهد والسحب
لا شيءَ يدومُ على حاله.
لا شيء يدوم.
زجاج المساء يتكسّر.
ويُخلّف جراحاً ووشوماً ووجوهاً لا تتبدّل في جسدي.
مسارُ الساعات يضطرب.
وتخفق الرغبة في قول الأسماء وشرب النبيذ،
والسرعة العبثية القاتلة تريد أن تسطو على الزمن.
باتت الأشجار تعرفها
باتت الأجراس تعرفها
باتت النوافذ تعرفها
لا شيء يدوم على حاله
لا شيء يدوم
وأحرف اليوم تتبعثر ممزّقةً في إحدى المزابل.
l ما يقولهُ الحجر
I
ما يقولهُ الحجر
منقوشٌ في الصمت
عليّ أن أنحني
أن أقرّب السمع
أعود جذعاً
يستطيع الآخرون أن يمرّوا بجانبي
أن يصعدوا وينزلوا أدراجاً
أن يقودوا عجلات سريعة
وحدَه الكلب سينتظر أن أنتهي
وإن تطلب الأمر عهوداً
أبقى متيقظاً.
أتأرجح في هذا التداعي الصامت
ستنبتُ لي أغصان
سيجيء الخريف
ويحلق الثلج شَعري
في الأمل البذرةُ
أنا والزمن سنُطلق شرراً
سيبقى الحجر صامتاً
سيغوص في يدي
سيكون عضواً آخر من أعضائي
سأكون من القرب بحيث أرى جدرانه الداخلية
ما يقوله الحجر
لا ينتهي ولا يتكرر
إنه لحن مُقلقل
ضروريٌّ وبسيط كظلي.
II
قطفتُ أزهاراً سوداء للذكرى السنوية. تجوّلتُ في الحديقة والمقبرة.
وصل المدعوون فرحين ليحتفلوا بي. كتبتُ بضع كلمات في الهواء أو فكّرتُ بها وأنا أتذكر والدي. بدأت الموسيقى تصدح من الجدران، من النوافذ والأصوات.
في يديّ، لا أزال أحس بالعلامات التي خلّفتها الأيام فيَّ، بتجاعيدها، بمخاوفها وطمأنينتها. امتلأ البيت بالعطر وباللّيل. سكن النبيذ المائدة. صرت شفافاً على كرسي. على الحبال اهتزت ملابسي وكلماتي. بين ذراعي، انحلَّ الرقص بطيئاً.
III
في أي شارع، في أية غابة يمكن أن ألتقي بكِ من جديد؟
صامتٌ الجسر وصامتةٌ الأيدي والجدران. دقيقةٌ المسافةُ والصمت. ضروريُّ البيت
وحيد ورحب جداً. التاريخ يُعاد بناؤه ويتجدّد
بمطر مجهول. ثمة وداع وعودة هنا.
شكلان صامتان ينظران إلى النافذة، يشغلان الموسيقى، يسقيان الحدائق، يحيلان
الكلمات إلى صمت بليغ.
ثمة نبض ثابت في الأشياء وشمسٌ فاترة تغلّف البيت مثل هدية.
IV
تبادلت الأحاديث والأماسي الدامسة.
رأيت آذاناً أخرى تلتهب بكلماتي.
رقصتُ ببطء بين ذراعي غرباء ومحطّمين.
تحدّثتُ عن قمر متوار ومتواطئ.
تجرّعتُ أعيناً وصمتاً وشوارعَ لانهائية
بساطاً من أوراق يابسة وفصولَ خريف مباغتة.
أدركتُ إمكانياتِ الصوتِ الذي يريد أن يقول شيئاً.
أرحت عينيّ على أكتاف أخرى.
استمعتُ للموسيقى تغمر النهارات اللاحقة للقاء.
أحصيتُ بلا توقف ما جرى لنا من وقائع وأحداث لا تتكرر.
لقد عشتُ.
7- فِليث سوارِث\
\ شاعر وكاتب وناشر. حاصل على الدكتوراه في الأدب الحديث. من دواوينه: عضّة التمساح، مشاجرات، نهر جوفي، في إشارة إلى الجسد، جحافل، والليل ضياء أيضاً.
l رؤى المهزومين الجديدة
I
سنقولها ذات يوم،
كما لو لنشفي ما لا يُشفى:
وسط الجريمة الفسيحة والكراهية والقلق،
أزهر الخوف فينا بصمت
كمثل قشرة رهيبة،
من الليل إلى الصباح،
من الفم نفسه إلى القلب. بلا أمل.
II
حينها تفرّقنا
في الدروب والجبال
هزمنا الخوفُ من داخلنا
خدّرنا من داخلنا،
كما لو كنّا صغاراً
رضَّعاً.
كما لو أنّهم سرقوا منّا
القلبَ أيضاً.
III
هكذا رأينا أنفسَنا،
وقد صرنا فاجعة،
محرومين من قوانا،
بقايا في داخلنا،
مزقةً من ثوب حداد
زهرة بردٍ صفراء نادرة.
l مزمور
أمّاه، أمراء الحرب الشاحبون
ضربوا خيامهم من حولي؛
أطلقوا كلاب صيدهم
وسمّموا الماء حول خيمتي.
إنهم هنا، سكارى بالغضب والدم
متجبّرون في غيظهم.
وأنا، صغيرك الذي كنتُ يا أمي،
خرجت إلى الليل مع المطر
لتعودي وتضعي يدك النديّة
على وجهي.
l شتاءات
هنا، تحت شمس الشتاء المتواضعة
أنتبه لأيامي:
سعالٌ وحب ُّوفاقة في آن
في جرعةٍ واحدة دقيقة قاتلة.
l كما في البدء
أكبرُ تحت رحمة عضوك الهائل العذوبة،
في تين داخلكِ الليلي الخمريّ.
إنهما هنا من جديد، أكثر عمقاً،
عيناي اللتان أرى بهما، يداي،
قلبي، فمي الذي هو لك،
يخفق من جديد
دون عجلة
بلا وُجهةٍ بعد.
من جديد، كما في البدء.
8- غلوريا بِرْغارا \
\ من مواليد المكسيك (1964). صدر لها: أيام القمر، السحر في الظل، سيأتي المطر.
l نبض النادمين
ما أبحثُ عنه
كان ظلّي ما مات منّي
لكنه لا يزال يضجُّ في داخلي،
كما يضجّ البخارُ، والشارعُ.
يتبعثرُ الرجل في عماء الزمن
ينبثق من طبلة الأذنِ
/من المدينة/
في عينيه تنبضُ البهيمة
بينما
هي /البغلة الموت/ تسفر عن
رغبتها
ويصير الرجال
لطخاً
رفرفةً
في الزقاق الذي يريدون
أن يناموا فيه لا بدّ أن يناموا
أن يروا العالم رأسيّاً
وبالعكس
لا بدّ أن يروا
الأثر الذي يخلّفه الجسد عند الاستلقاء
لا بدّ أن يستلقوا كي يأخذوا الاسم ويتذوقوه
(كي يموتوا كما يأمر الله)
في قطار الأنفاق في الحافلة في الإسطبل،
لابدّ أن يستلقي الفكرُ على وجهه/ أن يستلقي
كما يفعل المرض بالعظم
على ركبتيه على يديه
يستلقي كناقوس في نفق
الظلّ المُخرّم للموتى
/ الآخرين /
أن يستلقي يدهن نفسه بالزبدة، يقرض جلدَه
كالشّذى
لتجذب الروائح شَعركَ،
ولتشرع لكَ ريحُ الشمال وريحُ الجنوب
البابَ على الولادةِ الغريبة
ولتُرمى السهام
كما يُرمى القمرُ في شهد
فؤادِك في حلق النسور
كالغناء
لأنّ الرجلَ والمرأةَ اللذين هما نحن
شخص مسكينٌ
تنتظرهُ ميتات
هشّة آليّة.
يخرج من قطار الأنفاق كما لو أنه يخرج من طبلة الأذن
/من المدينة/
يولَد يكبر يصيرُ بهيمة،
يمشي متلمّساً/ شاداً بنطاله/ كي لا تقرقر أحشاؤه،
يريد الإنسان أن يصير إلهاً /يضحك على نفسه/ غير أنّ المرآة
تُعيد له نحيباً
/لا يُكبح/
يريدُ الإنسانُ أن يصيرَ
إلهاً فيصيرُ
/حشرة/.
l الثريّا
صحْنا: انظروا إلى ماريّا لويسا
كانت ماريّا لويسا تركض من بلوطة إلى أخرى
وكنّا نشاهد تنورتَها
سروالها والثوب الذي لم تخلعه أبداً يطير
انظروا انظروا ماريّا لويسا تركض، ماريّا لويسا تثب
تريد أن تلعب، ونحن في سفح الأكمة
نقلّدها.
في سفح التلة
كلنا إِبا، أوفيليا، تاكيو وروسا نركض من بلوطة إلى أخرى
وحده أندريس قال: المجنونة مجنونة
انظروا إلى المجنونة.
أتى الكبار
قالت الأم تشايو: أصابها شيء.
ما الذي أصاب ماريا لويسا؟ صعدتْ الأم تشايو
وماريّا باراخاس وأدِلينا إلى التلّة
دخلتْ ماريّا لويسا إلى البيت وهي تصرخ،
لم تكن تريد أن يأخذوا أمّها،
ويدفنوها
لا تريدها أن تتفسخ
تريد أن يغسلوها فقط
ويواصلوا رؤيتها.
لم تعرف أبداً ماذا تفعل
كانت تبدّد الوقت
ترفع فخذها إلى الأعلى بتغضّناته
ولم تعرف السيدة كونتشا أبداً ماذا تفعل بالعصفور الصغير الذي في داخلها.
كانت تُخرج كرسيّها
كان كرسيّها العالمَ على المصطبة
حتى قبل أن توجد المصطبة
كانت تنتظر
نسيتْ نفسها كأم عجوز لميغيل وترينو وماريّا
نسيتْ نفسها عند منعطف البقاء محلّقةً في كلّ تلك الآلام.
كان عصفورها الصغير يصعد في حنجرتها
والسيّدة كونتشا ترفع يداً
كي يروا كيف كان يخرج طائراً.
كان الذي يخرج غناء،
وحشة غناء السيدة كونتشا
هذا ليس كلّ شيء
إلى أين سيذهب عصفور السيدة كونتشا الآن وهي
لم تعد تجلس على كرسيّها؟
خرجت السيدة كونتشا طائرةً من عصفورها الصغير
وبقي عصفورها الصغير يتقلّب على الكرسي
كما كانت تفعل
مرةً إلى جانب ومرة إلى آخر
يُمضي النهارَ مبدداً الوقت
يبتلع النهار ولا يعرف ماذا يفعل.
عندما كانت تشيلي تتستّر على وحشتها كانت في شهرها السادس
تغني بنعومة الحرير وتقول: «آمل ألاّ يروني».
لا أحد، لا الأقرباء الأحبة ولا الأمّ
كانوا يعرفون أن تشيلي تغني منزوية في ظل وجعها،
لذلك حين كانت تشيلي تغني كان حليبُ بقرات مُباغَتةٍ يجري
في المطبخ يجري الحليب
يتدفق طيلة الصباح بينما تشيلي تقول
«يا إلهي إن هذه الحمى لا تنخفض/ لاتتوقف»
الشائعات تجري كما الريح
وتشيلي تواصل غناءها صامتةً / وصامتةً تصرخ
ماذا لو ذهبتُ؟ كان يقول لها صوتها.
أرخت تشيلي حزامها، ريحها وأغنيتها وذهبت هاربةً لتلد
«لا أريدهم أن يروني»، قالت في نفسها.
ذهبت تشيلي كقبرة أو كلب
لذلك بكت الأمّ والعمة والأخ
لذلك
بصمتٍ لملموا نثرات أغنيتها
وَصَلُوا بين أطرافٍ ورقع مناسبةوفتحت الريح الأعين
قالت الأمّ: «يا إلهي! هذه الحرارة لا تنخفض»ومتستِّرةً ماتت
بصمت.
ويسوع مريم المجدلية كان الجزء الثالث منها
هل من أجزاء أخرى؟
نامت ماريّا/ زار فراشها/ بيدرو الصّغير
تكوّر بيدرو الصغير بين فخذيها كعصفور مذعور
بقي مشلولاً
في سرير يسوع مريم المجدلية مع مريم
ومريم
بعوضة ميتة حامت فوق السرير
حتى استقرت وهمدت
«يا إلهي»، فكّر يسوع مريم
لم ير الموت قريباً قط
هل أحسَّ به؟
لا
ولا بالهزّة التي قوّضت بيته
أليس كذلك؟
ولا حين بقي متدلياً من شجرة غواموتشيل كبيرق
أليس كذلك؟
موت دبق
موت العشاق؟
كذلك مرّ طائراً مثل ذبابة تطنّ وتطنُّ
ويسوع مريم نام، زار سريرها، حام حول الحبيبين
أتراه لَسعَ؟
غطينا الأم تشايو بالطوب اليوم
وضعناها في صندوق رمادي
بكينا عليها، غنّينا لها، أجلسنا نحيبنا
على كراسٍ جنائزيّة
تردّد بوضوح : «إنها غوادالوبيّة»
وما من أحد قال أو فكر
أنّ الأم تشايو قد غيّرت معتقداتها.
أنشدنا كلنا مزامير أخرى
جالسين على المقاعد «الغوادالوبية»
ولم تنقص الأم تشايو صلوات أو تراتيل
كما لم ينقصها هذا الذي يسمّونه شهادات.
حضر الجميع:
أتباع الكنيسة الجديدة
وتركوا عظتهم واضحة.
حضر الشهود وسكتوا
وراحو يطبخون وينظّفون.
كان الذين لا يؤمنون بالثالوث المقدس الأكثرية
لم ينتبهوا قط
إلى أن جدي كان يُدعى «ثالوثاً»وجدّتي «سبحة»
بدلوا الأدعية والصلوات
لكنهم لم يقولوا قط: «سنبدل اسمها».
مرتاحةً رقدت الأم تشايو في قبرها الذي من الطوب، دون أن تلامس التراب.
رقدت مرتاحة مع وتحت الأب ثالوث.
لا بدّ أنّ الأم تشايو في هذه الساعات تنفتح على عناق العدم
والفراغ
مقدمة نفسها تسدّد الحساب بجسدها المتفكك
لكن لمن إذا كان الرب لم يحضر الدفن؟
كان الاله مدفوناً في الأسفل، قال جايلي
كي يستطيع الصعود، ويبلغ السماء.
حضر المزيد من الإخوان الذين تكلموا
كثيراً باسم الروح القدس
قدّم ديفيد ابنة عمي جانيت
قالت: أنا جانيت، ابنة تيريزا
وأريد أن أقول لكم الليلة
وقالت لهم جميعاً
دون أن تعنيها الديانات
تكلمت عن الروح القدس الذي يغمر كل شيء
وصل نداؤها أعين الكثيرين
لأنها قالت، الأم تشايو كالمسيح سلّمت آلامها
قالت:
أصغتْ الأم تشايو لكلّ تلك الكلمات
وبكى الآخرون ، بكينا
بعضنا ألماً، وبعضنا الآخر عجزاً،
بكى آخرون بحرقة أكبر لأنهم لم يصغوا كثيرا لكلّ ذاك
الذي كان يقوله هذا وذاك من المعزّين بالموت.
———————————-
تحرير واختيار: دييغو غوميز بكيرنغ
ترجمة: مها عطفة