علي كاظم داود
باحث عراقي
ينطوي الشعر على حساسية خاصة، تسمح له، وليس لغيره، بشعرنة الأشياء والأمكنة والأحداث والأهواء والأفكار، وتوظيفها لإنتاج فاعليات عديدة، تسهم في بناء القصيدة أو النص الشعري، وتبثُّ فيه المعنى، من خلال لغة خاصة، تتسم بالمغايرة، وبالخروج على الصياغات المألوفة، منطقيًا وجماليًا.
يمتاز كلٌّ من التاريخ والشعر بطبيعتين مختلفتين، فالأول علمي أو غير أدبي ولغته معيارية ويتوخى الصدق، والثاني أدب تخييلي ولغته إبداعية وأعذبه أكذبه، كما تقول العرب. فكيف لهما أن يجتمعا في مقولٍ واحد؟ وما لهذا الاجتماع أو التزاوج من المزايا؟
لم يعد ثمة نصٌّ أدبي خالص، بطبيعة الحال، إذ صارت الأجناس والأنواع الأدبية تستعير مما يجاورها، ومما لا يجاورها أيضًا، مادةً لتشكيل نصوصها. ومما يحضر في الشعر، أو جرت شعرنته، أو تذويبه في القصائد، التاريخ، بوقائعه وأحداثه وشخصياته، من أجل تحليله وفهمه ونقده، ومن بعد ذلك فهم العالم والحياة وسيرة الإنسان في كوكب الأرض عبر الأزمان. كما يمكن أن يحقق توظيف التاريخ في الشعر إضافة له؛ من خلال إلقاء الضوء على الوقائع التي خَفَتَ ألقُها في الذاكرة الجمعية، خصوصًا مع إمكانية تجسير العلاقة الاعتبارية بينها وبين القضايا الكبرى التي يطرحها الواقع المعاصر(1).
يمكن أن يكون الشعر وسيلةً تسهم في سبر التاريخ الإنساني وفهمه، من منظور مغاير، خصوصًا مع وجود الاستجابة الوجدانية والدفقات الشعورية التي يتعامل بها الشعر مع الأشياء التي يقوم بهضمها، ومنها الوقائع التاريخية. وقد أفادتنا الدراسات الثقافية في هذا الجانب، من خلال اهتمامها بالتاريخ، وبكيفيات دخول آثار الماضي وتصوراته في منتجات الثقافة المعاصرة المختلفة(2)، فدعتنا إلى الكتابة والبحث في مثل هذه الموضوعات.
عند النظر إلى القصيدة المعاصرة يمكن العثور على دلائل كثيرة تُعبِّر عن توق الشاعر إلى إغناء قصيدته وإثرائها بعناصر عديدة(3)، وهذا شيء مشروع على المستوى الفني، يبرره التجريب والنزوع نحو المغايرة. والماضي واحد من تلك العناصر التي من شأنها تعزيز البعد المرجعي في القصيدة، وإثراء إمكاناتها التعبيرية والمعنوية، بالإضافة إلى التأكيد على أصالة «الحس التاريخي الذي ينبغي أن يتزود به الشاعر، والذي لا يتضمن إدراك مضي الماضي فحسب، بل إدراك حاضره كذلك، فهو حس بما وراء الزمن، وبالزمن، وبهما معًا متحدَين»(4).
من طبيعة العِبَر والرموز التاريخية أنها تتعالى على الزمان، وتحضر في النص الشعري بهيئتها اللازمانية، فهي تمتلك القدرة على التكرار والتجدد المستمر، والاجتماع مع التجارب الإنسانية في عصورها المختلفة، كما لو أنها تُذكِّر بالعَوْد الأبدي، والرجوع إلى الأصول، لكي تساعد الإنسان على اكتشاف ذاته وتعميق تجربته ومنحها بعدًا أشمل(5). وهو ما ينسجم مع الخلفيات المعرفية لعصرنا، إذ إن شعر هذا العصر، يكاد ينضوي، في طريقة تعامله مع التاريخ، مع تحولات الأدب ما بعد الحداثي، فالنصوص الشعرية تكاد تكون جامعة، أو مشرعة الأبواب والنوافذ، ومما دخل إليها وصارت تشتمل عليه التاريخ، كما أسلفنا، وهي لا تنظر له على أنه حقائق ومسلمات، بل مرويات مشكوك فيها، ومعارف نسبية، تحكمها اللغة، قد تتخذ شكلًا أسطوريًا يتجلى في الأدب(6).
الملاحظ على أغلب النصوص والتجارب الشعرية التي اطلعنا عليها في أثناء الإعداد لهذا البحث، أن التاريخ لا يستولي عليها كليًا، بل يجري توظيفه في سبيل تأدية معنى ما في سياق النص، الأمر الذي قد يشير إلى أن التاريخ ليس هاجسًا أولويًا لدى الشعراء المعاصرين، وإنما يأتون به لإثراء نصوصهم، وتوسيع مداليلها، على عكس الشعر القديم الذي يُعدُّ من المصادر المهمة في توثيق تاريخ العرب وأيامهم وثقافتهم وشؤونهم الاجتماعية. ومن أجل ذلك سيتجه البحث إلى قراءة المواضع التي وُظِّف التاريخ فيها، في النماذج المختارة، لعدد من شعراء مدينة البصرة، وليس النصوص أو تجارب الشعراء بأكملها. ولكي يبدو البحث أكثر دلالة على المعاصرة، فقد كانت النماذج المختارة فيه جميعها لشعراء ما زالوا على قيد الحياة فقط؛ لأن الشعراء الماضين قد أُشبِعوا بحثًا، ونحتاج باستمرار لتسليط الضوء، قدر الإمكان، على التجارب الجديدة. وقد وجدتُ من المناسب تقسيم البحث إلى ثلاثة محاور إجرائية، على حسب فاعليات ثلاثة بارزة في ظاهرة شعرنة التاريخ في النماذج المختارة، هي فاعلية التخييل وفاعلية الترميز وفاعلية التسريد. وهذا التقسيم لا يعني الانفصال بينها، إذ قد تحضر مجتمعةً في نص ما، ولكنه يأتي على سبيل التنظيم، وتسليط الضوء الكافي على كل واحدة منها، وتقديم النماذج المناسبة لها.
أولًا: فاعلية التخييل:
يوصف التخييل بأنه مفتاح لإنتاج المعرفة والمعنى، أو هو الصيغة الجوهرية للمعرفة، لا يستنسخ الواقع التاريخي، بل يشير إليه أو يدل عليه، فيعيد صوغه في بناء تخيلي وشكلاني ذي معنى(7). والنص الشعري أو الأدبي، على وفق هذه الرؤية، قد يقترب من الوظيفة التي يقوم بها التاريخ، لكن المائز بينهما أن المؤرخ يسعى إلى نقل الواقع بشكله الحقيقي، وأن يتوخى الدقة والصدق، وعليه أن يعطي الدليل على صدقه، أما الأديب فإنه يستدعي التاريخ لصناعة معناه الشعري وتمرير فكرته، فيعمد إلى تخييل التاريخ، لكي يسوغ له هذا المفهوم المُركَّب، الخروج على القوالب التقليدية، وتجسير العلاقة بين الأدب والتاريخ، لأن «التخييل مفهوم يُمكِّن من الثورة على المفهوم التقليدي للمعرفة، (…) وهو مفهوم قادر على أن يتحول إلى عنصر مشترك، مرتبط بأي تخصص يقوم بكيفية من الكيفيات، على النص المكتوب، كي يبلور معارفه أو يرسخها أو ينقلها»(8).
في النص الآتي المعنون (أمجاد) للشاعر (كاظم الحجاج)(9) تحضر فكرة التاريخ على نحو تخييلي، لبلوغ غاية شعرية أبعد من حدود واقعة معينة، إذ يقول:
«حتى بين رصاصات الجنود
رصاصات محظوظة
تلك التي تُخطئ أهدافها
ورصاصات تعيسة
تلك التي ترتكبُ
أمجاد الحروب»(10).
من خلال شحن النص بالحكمة، نجد أنه يهدف إلى تحقيق الصدمة للوعي والتأثير الانفعالي والاستجابة القرائية مع مفارقته التي تنطوي على تاريخ طويل من المآسي والويلات التي صنعتها الحروب، ولعل الشاعر يقصد حروب العراق التي عاشها بنفسه، وشاهدَ كيف يفتك رصاصها بأجساد الجنود، ويبني على جثثهم أمجاد القادة الزائفة، ولكن النص يمضي لاستيعاب جميع مخزونات الذاكرة الإنسانية المكلومة. وعلى عكس غايات التاريخ الذي يكتبه المنتصرون على جماجم الخصوم، يجعل الشاعر الرصاصات التي تخطئ أهدافها رصاصات محظوظة، وأما التي أصابت الخصوم والأعداء فإنها رصاصات تعيسة في نظره، وهنا يتكلم الشاعر بلسان المنهزمين الذين دأب التاريخ أن يشيطنهم ويجعلهم مصدر الشرور وفساد العالم.
لا تُحصى هي الحروب التي طعنت التاريخ الإنساني، وتركت جراحاتها في جسده، ومن أجل ذلك يرد ذكرها في قصائد الشعراء كثيرًا، خصوصًا شعراء البصرة، إذ شهدت هذه المدينة نصيبًا وافرًا من ويلاتها، ولعل من تمثلات ذلك ما نقرؤه في النص المعنون (أسفل الفنار) للشاعر (طالب عبدالعزيز)(11):
«خلف الثكنة التي تغرق مرةً مطلع كل شهر
مقبرة جنود الحرب العظمى، بشواهدها الزنخة
حيث تفسَّخ الزمن.
حجارون سيخ، وعتالون من أقصى الشرق،
اتزروا الأفق من قمرتين (…)
تُسمع نجوى مطارقهم مثل فقمات مفجوعة»(12).
إذ يستعيد هذا المقطع ذلك الجانب الخفي والمظلم في الحرب العالمية، وما تبعها من احتلالات، قضت على أناس كثيرين، من أعراق وطوائف عديدة، في أماكن بعيدة عن ديارهم، وخلّفت شواخص فجائعية في بلدان ومدن مترامية على أنحاء الأرض.
يرتسم التاريخ كلوحة بانورامية في خلفية القصيدة، تتوزع أو تتحرك بقية عناصرها عليها، وتتردد أصداء الماضي بينها، في إطار نزوعها الحاسم للتذكير بما جرى، من خلال استعراض الشواخص المرتبطة ماديًا بالماضي، وبالتاريخ المحكي أو المكتوب، الذي أدركه الشاعر قبل أن يصيبه الانحلال والاندثار النهائي، فعمد إلى تسجيل تاريخ أولئك النفر المنسيين، واستدراك أطيافهم قبل الرحيل الأبدي، ليصنع من حكاياتهم متخيلًا شعريًا جديدًا، ينطوي على منظور آخر مغاير أو مضاد، هو منظور المغيبين في الزمن.
ينبري التاريخ الرسمي لتثبيت وجهة نظر السلطة أو المركز أو النخبة، وأحوالها وشؤونها، ويدأب على تجاهل أحوال العامة ومنظورها، ولكن ذلك سيختلف في الأدب والشعر المعاصر، فهذا الشاعر (أحمد مطر)(13) يقول في نص عنوانه (محبوس):
«حين ألقى نظرةً منتقدة
لقيادات النظام الفاسدة
حُبس (التاريخ)
في زنزانة منفردة»(14).
هذا النص ينبئ عن قوة التخييل التي يبثها التاريخ في النص الشعري، حتى لو حضر بوصفه فكرةً مجردةً، إذ يعمد الشاعر إلى أنسنة التاريخ، بكل ما يستدعيه من حمولات معرفية وثقافية، فهو الفاعل والبطل في الحكاية، إذ تحوَّل من مُوظف لدى السلطة الفاسدة، يكتب ما تريد، ويقول ما ترى، إلى مُعبِّر عن وجهة نظر مخالفة ومنتقدة، ولذلك يعامل كمعاملة أي مُعارض سياسي، حبسًا وتنكيلًا.
وظيفة التاريخ، بحسب ما يقوله مطر، النقد لا التوثيق فقط، فيغدو فعل مقاومة ومناهضة للظلم والاستبداد؛ لأنه ينظر ويحلل وينتقد ولا يكتفي بسرد الحوادث، ويتكلم بألسنة المضطهدين والمقصيين، ولذلك ترى السلطة أنه يستحق العقاب والسجن في زنزانة منفردة؛ من أجل إسكاته أو إعادة تدجينه.
ثانيًا: فاعلية الترميز:
حين يعجز الواقع عن أن يجود للشاعر بما يعزز طاقة الترميز في شعره، وحين تنكفئ اليوميات في الحياة المعاصرة عن أن تثري عالم التجربة الأدبية، وتُقصِّر في التعبير عن الأفكار والمشاعر التي تجيش في وجدان الشاعر، ويخذله الحاضر عن تجسيد ما يروم من موضوعات، تراه مجبرًا إلى الغوص في التاريخ واستخراج طاقة الترميز في مكنوناته، والاستعانة بشخصياته وأحداثه.
فإذا قيل إن الرمز «هو اكتشاف تشابه جوهري بين شيئين، لا يتقيد بعرف أو طريقة، بقدر ما يخضع لعوامل ذاتية»(15)، فإن استحضار التاريخ في الشعر وترميزه ينبع من رؤية خاصة للشاعر، يمكن أن نجد تبريراتها مدسوسة في داخل النص ذاته. ولعل ظاهرة استعمال الرموز، خصوصًا تلك المرتبطة بالأساطير التاريخية، قد شاعت مع موجة التجديد والشعر الحر، حتى عُدَّت من أهم خصائص القصيدة الحديثة(16). ومن الطبيعي أن تستمر هذه الظاهرة في القصيدة المعاصرة، وإن كان بنسبة أقل بكثير، فلم تعد هاجسًا يسعى وراءه الشعراء، بل تأتي في سياقات يبررها المعنى الشعري، كقول (كاظم الحجاج):
«نبكي – يقول والدي – لنستريح
فالشرق دمعتان
للحسين – يا بنيَّ – و… المسيح!»(17).
إذ تتحول الشخصيات التاريخية الدينية في النص إلى رموز، توازي بين ديانتين شرقيتين، هما الإسلام والنصرانية، بوصفهما تتقاسمان الحس العاطفي الحزين، على امتداد قرون طويلة، ذلك الحزن البهي النابع من عقيدة التضحية والبذل اللامحدود. رمزية الحسين والمسيح تجمع حشدًا من المرويات المأساوية التي عاشها أتباع الديانتين في بلداننا الشرقية، أو من ساروا على نهجهما في رفع لواء التحرر والتغيير، فتجرعوا من أجل أهدافهم السامية غصص العذاب وسفك الدماء.
وفي هذا السياق الترميزي، وعن الموضوع ذاته، تندفع أطياف التاريخ العراقي بقوة، في نص آخر للشاعر (كاظم الحجاج) نقرأ منه:
«فلتقرع الأجراس في الكنائس
ولترفع المساجد النداء
(تموز) دق بابنا في آخر المساء
وفتّحت (عشتار) للعناق
عيونها، فاستيقظ العراق»(18).
إذ يتجلى التاريخ الميثولوجي العراقي في هذا النص، ليمثل قوة أسطورية، تدفع المعنى الشعري إلى ذروة التعبير الحماسي، مستفيدًا من الفاعلية الرمزية للآلهة السومرية، التي ينظر لها الشاعر بوصفها أصلًا وجذرًا نمت وأورقت عليه الديانات العراقية الحالية، وهي الإسلام والمسيحية. تتحول الكنائس والمساجد إلى رموز تشير إلى هويات دينية عراقية، أُريد لها قبل سنوات قلائل أن تتصارع وتتقاتل، فينهار سقف البلاد على من يسكن فيها، ولكن الأصل الوطني الراسخ، والمشتركات الكبرى الضاربة في أعماق التاريخ، هي التي أنقذت الجميع، وبثّت الروح والحياة مرة أخرى في هذه الأرض المباركة.
وفي إطار تعزيز روح التآخي والتسامح الإنساني، نقرأ في قصيدة عنوانها (ما لم يقله هابيل) للشاعر (أحمد كاظم خضير)(19):
«رميتُ بالورد قابيلًا
وقد هدلت حمامةٌ
عند منفى الـ(أين) ترعبهُ
وقلتُ للأرض:
يا أماه إن يدي بيضاء
لم أختبرها كيف تضربه»(20).
إذ يستجيب الشاعر للرموز المستعارة من التاريخ، لكي تؤدي دورًا مهمًا في دلالة النص، فنجده يرمي قابيل، الذي قتل أخاه، رمز الشر والعدوان، بالورد، والشاعر هنا يأخذ دور ومقام هابيل القتيل، للدلالة على التسامح والمحبة، ثم يستبدل الغراب بالحمامة، لتأكيد معاني السلام، وهي تنسحب على واقعنا المشحون بدعوات الاحتراب والتقاتل، إذ يدعو الشاعر إلى مواجهة العدوان بالتغاضي والغفران.
تحضر رمزية قصة النبي أيوب (عليه السلام) كثيرًا في الشعر الحديث، لارتباطه الوثيق بالتفكير النسقي تجاه الصبر، الذي كان مبدأ حضوره المؤثر في القرآن الكريم، وانتقل إلى أن تكرَّس في الأمثال العربية، ثم استُعير في القول الشعري القديم، ثم الحديث؛ ليكون قناعًا للشاعر، في تجارب كثيرة، خصوصًا مع حركة الشعر الحر، واليوم نجده يستحضر طاقته الرمزية، ويعاود الظهور لدى بعض شعراء البصرة المعاصرين، ومنهم الشاعر (مسار رياض)(21)، إذ يقول:
«يا أيوب،
يا أستاذ الصبر،
تمرُّ حياتك مسبحةً بين أصابعك المشغولة بالتسبيح
(…) هل فكرت بأن الصبر قليلٌ جدًا
حين يصير السيف شريعة عيش»(22).
والشاعر هنا يقول بقصور طاقة الصبر الأيوبي عن تحمل العدوان والظلم والقتل، خصوصًا إذا جرت شرعنته وتقنينه، لدى بعض الفئات والطوائف، تجاه فئات وطوائف أخرى، فالرمز الذي تربع على قمة جبل الصبر تاريخيًا، يُجبَر على التخلي عن حلمه ورباطة جأشه أمام شريعة السيف.
أما في قصيدة (شاعر يهزمه الفراغ) فنجد الشاعر (أحمد كاظم خضير) يستعمل الرمز التاريخي لدواعٍ فنية بحتة، إذ يقول:
«وحروفه غيم (الرشيد) فأينما
هطلت ستنعش للقصيد مداده»(23).
فالقصة التاريخية المعروفة، أي قصة مخاطبة هارون الرشيد لغيمة رآها، بأنها أينما سارت وهطلت فإن ريعها سيُجبى إليه… قد امتلكت فاعلية رمزية واضحة جرى توظيفها في هذا البيت، من أجل توسيع مدارك التشبيه والصورة الشعرية، وبيان براعة الانزياح وجمالياته في مقول الشاعر.
ثالثًا: فاعلية التسريد:
من المُسلَّم به اليوم أن الحدود الفاصلة بين الأشكال الأدبية وفنون القول باتت هشة ورقيقة، وأصبح التداخل والتمازج بينها مسارًا حتميًا؛ فأخذ بعضها يفيد من آليات الآخر وتقنياته، ومن أوضح تجليات هذه الظاهرة توظيف الشعر للعناصر السردية والمحكيات التاريخية. وليست هذه ظاهرة جديدة ولا أمرًا مستحدثًا، فقد دأب الشعراء على ذلك من أجل تحريك سواكن الشعر، والتغيير في آلياته التعبيرية، وتنويع مرجعياته، من خلال حكاية وقائع قرأوا عنها أو سمعوا بها أو شهدوها فعلًا(24). حتى امتلك الشعر العربي المعاصر طابعًا سرديًا، استثمر فيه أدوات كثيرة، ومنها الوقائع التاريخية، التي هي بطبيعة الحال وقائع وأخبار محكية، نقلت كتابيًا أو شفاهيًا، وتلقاها الناس بوصفها سردًا.
في نص (رؤوس أقلام) الذي تتبع عنوانه هذه العبارة «حول نظرية اختراع القلم الأول وتزييف الحقائق به»، يستعيد الشاعر (كاظم الحجاج) قصة حقيقية من تسعينيات القرن الماضي تتحدث عن:
«طفلة عراقية تدعى (مريم حمزة)
عمرها أربع سنين، مصابة بسرطان الدم
توجهت عائدة إلى بغداد بطائرة استثنائية
بصحبة النائب العمالي البريطاني
السيد (جورج غالوي) بعد أن اكتمل علاجها في لندن»(25).
نقرأ النص كما لو نقرأ خبرًا في صحيفة، إذ يسرد قصة الطفلة العراقية بشكل مبسط، لكن من خلال ربطها ببقية أجزاء النص وعبارة الاستهلال، نستنتج أنه يشير إلى ما يختبئ وراء هذه القصة من دوافع سياسية ودعائية ومادية، إذ استُغلت القضية في ملفات سياسية معروفة، كما اتُهم فيها جورج غالوي بتحقيق مكاسب مالية من النظام العراقي السابق. صحيح أن الطفلة كانت مريضة فعليًا، لكنها استُثمرت لتشكيل بروباغاندا تصب لصالح النظام، الذي كان سببًا رئيسًا في زج العراقيين في حروب عبثية طويلة، أدت إلى كوارث إنسانية مدمرة.
لم تعد وظيفة الشعر نقل الوقائع التاريخية بطريقة ساذجة، بل السعي إلى الإشارة نحو الحقائق الخفية وكشفها، ليس من خلال التصريح، بل أن يوحي بها إيحاءً، فالتلميح في لغة الشعر أبلغ من التصريح، كما هو معروف، ولعل هذا هو ما قام به الحجاج آنفًا. وهو ما نلمسه أيضًا لدى الشاعر (مسار رياض) عندما يقول:
«غدًا سوف يُلقي بمرساته في رصيفٍ لقابيل من حجرٍ ودماء
وسوف يُري للسماء بمرآته جوهر العنصر الآدمي
وجرأته في انتهاك السماء
وكان كتاب الإله يقول: بأنا بناءُ الإله
ويوم غدٍ سوف يشهد كيف يُهدِّم هذا البناءُ البناء
دماء المدائن: بابل، أورورك، تلو، أريدو، أكد،
دماء بحجم الأبد
تؤرخ كيف تكون الكراهة دينا
إذا وهب العقل مشعله للخمول»(26).
تحضر المحكيات التاريخية في هذا النص، بكل حمولاتها الثقافية والرمزية، من أجل تمرير سردية العنف الذي رافق تاريخ الإنسان الطويل في هذه الأرض، منذ قابيل، وحتى آخر حرب يُقتل فيها البشر، وتُهدم الأبنية والمدن والبلدان، على أيدي ساكني مدن وبلدان أخرى، مثلما حصل مع الحواضر التي عُمِّرت على امتداد العصور القديمة، المشار لبعضها في النص. ولعل أصل الحكاية، في ما يرى الشاعر، تكمن في نشر الكراهية والجهل، وانحسار مناسيب المحبة والوعي بين الناس.
في إطار بنية القصيدة السردية، يأخذ الشاعر أحيانًا وظيفة السارد، كما هو الحال في النصوص السردية، الروائية أو القصصية، فيظهر بصوته الصريح ووجهة نظره الخاصة، أو يختفي خلف ظاهر النص مكتفيًا بظهور صوته. ويُعرف هذا التدخل في السرديات بجماليات ما وراء القص، أو السرد المفتون بذاته، أو السرد الكثيف، إذ يُسفر السارد الشاعر عن نفسه، ويعلن عن تدخله المباشر بسيرورة الحدث، أو تشكيلها ووصفها والتعليق عليها وبيان علاقته بها(27)، ويوازي ذلك السرد الشفاف الذي لا يحضر السارد فيه بشكل جلي. وفي إطار شعرنة التاريخ من خلال فاعلية التسريد في القصيدة، يتولد نص شعري يتداخل فيه التاريخ المسرود، وتحضر ذات الشاعر بوصفه ساردًا للحكاية. ومن أمثلة ذلك ما قاله الشاعر (أحمد كاظم خضير) في قصيدته (سلة الورد):
«آخيت (قابيل) حتى أن ذاكرتي
صارت غُرابًا ودلته على لحدي
كفاي أُتقن موتي (حمزةً) وأرى
حراب من يخطئون الدور في (هندِ)»(28).
ويقول أيضًا في مطلع قصيدة (أول الماء قبلة):
«قاب قيسين كنت أدنو لليلى
كرسولٍ وقد دنا فتدلى»(29).
ومثله نص للشاعر (طالب عبد العزيز) عنوانه (على آخر الرمل) يستدعي محكيات واقعة كربلاء، فيقول:
«انكسر الصباح على الفرات
أصحاب عمي وأهله يحفون به
والشمس سطر فسيفساء لمّا يتهشم بعد»(30).
ففي هذه النصوص يتحول الشاعر إلى شخصية تاريخية، أو يتكلم بلسان شخصية تاريخية، أو يتخذها قناعًا له، مستفيدًا من زخم القصة وحضورها المؤثر في التفكير الجمعي لتحقيق أبعاد شعرية مغايرة في نصه، يعززها التكثيف اللغوي والصياغة الذكية التي استدعت محكيات تاريخية ثرية بكلمات قليلة وعبارات موجزة.
الخاتمة:
تكاد تغيب فاعلية التوثيق في الشعر المعاصر، بحسب ما بدا في النماذج التي شملها البحث، وفي غيرها، لمصلحة فاعليات أخرى، تنسجم مع المنظور الثقافي والرؤية الفنية التي انطلق منها الشعراء عند كتابة نصوصهم، وتعاملهم مع التاريخ؛ ليسجلوا بذلك اختلافهم عن الأجيال التي سبقتهم.
يحضر التاريخ في النص الشعري المعاصر للتعبير عن مواقف ثقافية أو أدوار سياسية أو وظائف اجتماعية، فضلًا عن إسهامه الفني داخل النص، إذ يُستفاد من طاقته التخييلية أو الرمزية أو السردية؛ لتوجيه دلالات الخطاب الشعري نحو مقاصد مؤثرة، بوصفه، في كثير من الأحيان، خطابًا مضادًا، وفعلًا ثقافيًا مقاومًا، يناهض التسلط والهيمنة والظلم، وينتصر للمضطهدين والمهمشين اجتماعيًا وسياسيًا، ويقوم مقام الذاكرة للمنسيين تاريخيًا.
الهوامش
يُنظر: الرواية والتاريخ: دراسات في تخييل المرجعي: 184.
يُنظر: الدراسات الثقافية: مقدمة نقدية: 91.
يُنظر: دير الملاك: 71.
الرمز والرمزية في الشعر المعاصر: 323.
يُنظر: دير الملاك: 122.
يُنظر: ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدًا: 39.
يُنظر: التخييل موضوعًا للتفكير: 125-126.
التخييل موضوغًا للتفكير: 145.
شاعر عراقي من مواليد البصرة عام 1942م.
مختارات كاظم الحجاج: 13.
شاعر عراقي من مواليد البصرة عام 1953م.
تاسوعاء: 93-95.
شاعر عراقي من مواليد البصرة عام 1954.
مختارات أحمد مطر: 112.
في الرمز والرمزية: 17.
يُنظر: دير الملاك: 121.
مختارات كاظم الحجاج: 15.
مختارات كاظم الحجاج: 36.
شاعر عراقي ولد في البصرة عام 1992م.
يريد أن ينقضَّ: 17.
شاعر عراقي ولد في البصرة عام 1980م.
1700: 79.
يريد أن ينقضَّ:97.
يُنظر: دير الملاك: 19.
مختارات كاظم الحجاج: 35.
1700: 66-68.
يُنظر: موسوعة السرد العربي: 266.
يريد أن ينقضَّ: 105-106.
يريد أن ينقضَّ: 113.
ما لا يفضحه السراج: 48.
المصادر والمراجع:
1700، مسار رياض، جيكور للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2016.
تاسوعاء، طالب عبد العزيز، مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، الطبعة الأولى، 2003.
التخييل موضوعًا للتفكير، عثماني الميلود، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2022.
الدراسات الثقافية: مقدمة نقدية، سايمون ديورنغ، ترجمة ممدوح يوسف عمران، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد 425، يونيو 2015.
دير الملاك: دراسة نقدية للظواهر الفنية في الشعر العراقي المعاصر، محسن اطيمش، دار الرشيد للنشر، بغداد، د.ط، 1982.
الرمز والرمزية في الشعر المعاصر، محمد فتوح أحمد، دار المعارف، القاهرة، د.ط، 1977.
الرواية والتاريخ: دراسات في تخييل المرجعي، محمد القاضي، دار المعرفة للنشر، تونس، الطبعة الأولى، 2008.
في الرمز والرمزية: آفاق ومكونات، ياسين الأيوبي، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، كتاب الرافد، العدد 78، سبتمبر 2014.
ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدًا، كريستوفر باتلر، ترجمة نيفين عبد الرؤوف، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، د.ط، 2016.
ما لا يفضحه السراج، طالب عبدالعزيز، دار الزاهرة للنشر والتوزيع، رام الله، الطبعة الأولى، 2001.
مختارات أحمد مطر، أحمد مطر، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، بغداد، الطبعة الأولى، 2024.
مختارات كاظم الحجاج، كاظم الحجاج، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، بغداد، الطبعة الأولى، 2024.
موسوعة السرد العربي، عبدالله إبراهيم، مؤسسة محمد بن راشد وقناديل للطباعة والنشر، دبي، الجزء الخامس، الطبعة الأولى، 2016.
يريد أن ينقضَّ، أحمد كاظم خضير، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، بغداد، الطبعة الأولى، 2024.