كنت سعيداً حد الدهشة, في الغرفة الحقيرة الضيقة التي اخترتها سكناً للمشاركة مع فينود الهندي المالايالي بمنطقة العباسية القديمة في محافظة الفروانية, بعد أن سحرني إعلانه البسيط والمرصف بعناية في موقع إنديانز إن كويت (هنود في الكويت) الإلكتروني على الشبكة العنكبوتية مؤخراً .. فجأة, ودون سابق إنذار قررت خوض التجربة الصعبة بجسارة بعد أن شرعت بالاتصال عليه عبر رقم هاتفه الجوال المدون بالطرف الأيمن في أسفل الصفحة المرصعة بألوان علم الهند الزاهية مباشرة, كانت الكلمات الإنجليزية المطعمة بعبارت هندية متلكئة تتزاحم بثقل على لساني العربي الطليق ..
– فينود بهاي (الأخ فينود) .. !
– يس سير (نعم سيدي) .. !
– I am sorry for disturbing you at this late time but …-
أنا آسف لإزعاجك في هذا الوقت المتأخر ولكن … ثم انتهت المكالمة سريعاً بعدها بثوانٍ معدودات وانزاح هم تحديد موعد اللقاء إلى الغد؛ لرؤية الغرفة التي ستكون مكاناً يجمعنا من أجل غرض العيش المشترك الذي اتفقنا على أهم شروطه المبدئية, وهو الالتزام بدفع مبلغ خمسين دينارا شهرياً شاملة قيمة الإيجار الشهري ووجبة العشاء التي سنتناوب على إعدادها بمفردنا كل مساء.
وفي اليوم التالي, حزمت حقائبي مودعاً أسرتي التي أقنعت أفرادها بأنني سأكون بدورة لمدة شهرين خارج البلاد, وسط دموع والدتي الغاضبة على رحيلي المفاجئ وهي تردد بانكسار مخنوق بالعبرة ..
– وش أقول لأهل منيرة, يا فضحي؟!
– قولي لهم أي شي, وموضوع الزواج بعدين لاحقين عليه يمه.
كنت قد أعددت حقيبة السفر بنفسٍ راضية هذه المرة, فلم أحمل أي دشداشة معي بل اكتفيت بشراء الجينزات الرخيصة من قيصرية الهنود القديمة الواقعة غرب شارع مكة بالفحيحيل, كما اخترت على عجالة ألواناً لقمصان لم أكن اعتقد أني سأرتديها يوماً ما في حياتي .. الطريق إلى العباسية طويل, ولأول مرة أشعر أنني لست في بلدي خاصة حينما مررت بسيارتي الكامري الجديدة على شوارع الجليب والحساوي المغسولة برواسب الطين وقتها, أبحث عن العنوان المنشود, والذي حرصت على تدوينه بمفكرتي باللغتين العربية والإنجليزية حتى أضمن وصولي له بسلامة في نهاية المطاف.
حينما وجدت ضالتي طرقت جرس الغرفة بأدب وما هي إلا لحظات حتى كان فينود هو من فتح لي الباب مرحباً .. لم يكن يعرف العربية بالطبع وكان علي أن أترجم مشاعري إلى لغة يفهمها فاتفقنا على أن يقتصر حديثنا على التخاطب بالإنجليزية فقط والتي نجيدها سوياً إلى حدٍ ما وهكذا كان .. أخذني فينود بجولة حتى أتعرف على الغرفة التي ستضمنا نحن الاثنين ويا لصغرها بحق, كما أن المرحاض رغم تغشف مساحته شبه مكشوف؛ لولا الستارة المصنوعة من القش النافر .. بصراحة لم أكن مهتماً بمثل هذه التفاصيل الدافقة فلقد تركت ورائي حياة الترف والتي عشتها ببذخ كمواطن كويتي من الطبقة المتوسطة في بيت العائلة العامر بمنطقة الرقة هناك منذ سنين غابرة, فكل ما كنت أود أن اعرفه حينها هو جمع كافة المعلومات التي تخص شريكي فينود؛ حيث تبين أنه هندوسي الديانة وينتمي إلى طائفة النايِر المثقفة .. جاء إلى الكويت من منطقة تريشور الواقعة بولاية كيرلا في جنوب الهند, والتي يتكلم سكانها لغة المالايالم وهم يشكلون أكبر تجمع هندي كجالية منتشرة في ربوع البلدان الخليجية الست.
فينود يحمل مؤهلاً أكاديمياً تخصصياً بالمحاسبة من جامعة كاليكوت عاصمة المحافظة المحاذية للمقاطعة التي ينحدر منها, ويعمل كأمين صندوق منذ سنتين في فرع شركة الصرافة الهندية المستأجرة للمحل الوحيد الرابض في أسفل البناية المتهالكة التي نقطنها اليوم, كما أنه الابن الوحيد لوالديه اللذين حرصا على تسخير كافة إمكانياتهما المادية لتعليمه بطريقة تليق بمكانتهما الاجتماعية هناك, مثلما يصران على استخدام الإنجليزية كلغة للتواصل معه دائماً عبر مكالماتهما الهاتفية أو حتى مراسلاتهما البريدية المتعددة في كل مناسبة من مناسبات حلول أعيادهم الدينية الكثيرة كأونام (عيد الحصاد) وديوالي (عيد الأنوار) وهولي (عيد الألوان) وغيرها وغيرها.
قال لي ذات مرة مصارحاً أنه لا يشعر بأي نوع من السعادة هنا في بلاد الغربة, وأنه اضطر للمجيء مكرهاً بغرض تكوين شخصيته بالدرجة الأولى ثم محاولة توفير كم قرش يمكنه من تشييد بيت الزوجية المرتقب, والذي سيجمعه وخطيبته أشني زميلة الدراسة القديمة كزوجين عصاميين يصارعان معنا شظف العيش وتكاليف الحياة الباهظة .. فهي مغتربة مثله وتعمل كمضيفة جوية منذ أكثر من عامين أيضاً في طيران الإمارات حيث تقيم في مدينة دبي الآن, وكثيراً ما يمتدح تجربتها العملية, ووضعها الوظيفي الجيد هناك, محتقراً نفسه ومقللاً من شأنه أمامي رغم أنني أرى فيه أشياء إيجابية عديدة تنم عن أصالة فائقة, كالتزامه الأخلاقي وأمانته وغيرها من صفات أخرى, بالإضافة إلى موهبته المتفوقة بالطبخ, والتي تبدو لافتة خاصة أنه يتغاضى في كل مرة بكرم حاتمي عن تقصيري الواضح بالمشاركة في إعداد وجبات العشاء المطلوبة مني وفق الجدول الزمني الذي رسمه كخطة كنا قد اتفقنا عليها مسبقاً.
وفي كل عطلة نهاية أسبوع, كنا نخرج أنا وفينود سوياً إلى مقهى أو مطعم بعد أن نتجول ببعض الأسواق والمولات مما ساهم بتقاربنا وتواصلنا نتيجة الحوارات الثقافية المبنية على وجهات نظر مختلفة لهذا العالم الفسيح .. لقد كان منبهراً بالتطور العمراني الهائل والموجود بين جنبات المدن العصرية الحديثة هنا في بلدي الكويت كمتروبوليتان وكوزموبوليتان و.. و ..
مر الشهران بلمح البصر, تطرزهما أيام البهجة الحبلى بتجارب نبيلة وغنية بتفاصيلها من حيث الكم والكيف وأضافت لي الكثير مما كنت أجهله عن الجانب الإنساني في حياتنا السخية بعطاءات فردية لا تنضب دون شك, وها أنا ألملم حاجياتي مودعاً شريكي وصديقي الجديد فينود الذي أحببته بكل تأكيد, فلقد استيقظت باكراً قبله على غير العادة في صبيحة تلك الجمعة, وهو يوم العطلة الرسمية؛ حيث لا عمل طبعاً في بلادنا ولا دوامات ولا .. ولا .. وعبثاً حاولت إيقاظه لم يرد ..
– Vinod ..Vinodbhai wake up ..wake up , please ?-
– فينود .. أخي فينود استيقظ .. استيقظ , أرجوك ؟
لم يرد فينود, ولم يستيقظ .. حاولت الاقتراب منه فوجدت علبة حبوب دواء منوم فارغة ترقد على المنضدة الخشبية بجواره .. كان قد تناولها قبل نومه, ابتلعها كاملة في جوف جسده النحيل ورحل حزيناً منتحراً, لقد مات فينود .. مات فينود, شريكي بالغرفة وصديقي الذي ما فتئت التعرف عليه للتو .. مات ويا للأسف لتلك النهاية المأساوية المفجعة!
وقبل أن ينهي حياته بدقائق, وبحسب إفادة تقرير الطب الشرعي الذي شرّح جثته حينها .. كتب رسالة دامية ووضعها في غمد جيب قميصه الأحمر الداكن قائلاً ..
– – My father (Achan) , my mother (Amma) , Badr and Ashni .. forgive me .. and don’t blame anyone ?!!
– أبي وأمي وبدر وأشني .. سامحوني .. ولا تلوموا أحداً ؟!!
وفي ختام الرسالة سرد أليم يدمي القلوب المتحجرة بمرارة معاناته المتكررة والمختزلة بعبارة .. من حق أشني أن تتزوج من تشاء .. فمن حق أشني أن تتزوج من تشاء .. ومن حق أشني أن تتزوج من تشاء ؛ حيث يبدو أن لقرارها المفاجئ تأثيره السلبي القاتل عليه عبر إصرارها على خيار الارتباط برجل أعمال هندي مشهور من ولايتها تزخر البلدان الخليجية المقيم على أراضيها بسلسلة واسعة من أسواقه التجارية المعروفة, والمنتشرة كعلامة فارقة بكثرة بيننا, كانت قد تعرفت عليه صدفة أثناء مروره برحلة عمل جوية عابرة بأقاصي الطيران العالية.
بدر أبو رقبة العتيبي