ليلتها كانت طيوري مسائية ، والطيور المسائية دائماً ناعسة أو سكرى . كان الأسود حاضراً بقوة ؛ دوائر داكنة حول عينيكَ وضياء ظلي المستوي في زاوية المكان .
بدا الزمن لي متقلصاً .. كأني أعرفكَ منذ ألف عام وأكثر .. ألهذا تبادلنا التمايل نحو اليمين ونحو اليسار باقتراب مبهم ؟! قد نكون تلامسنا بخفة ، لاأذكر..!
«خمس دقائق على الواقف .. لا تكفي ..!! «أم كانت ستكفينا للتمايل نحو الأعلى والأسفل ..!
كأنكَ تشبه المُغيرين والمغامرين .. وبعض السفلة ! وكأني لا أشبه حتى نفسي .. أصابعي ساخنة .. وعمودي الفقري تلوّى .. هكذا .. بأسبابكَ .
كان الأسود موسيقى نديَّة واصَلَت روحي ..
« هل سيراودني الكذب عن نفسي ؟ أم سيكون مؤذناً فوق حواسي الست !».
بهدوء تركتَ لي نغماً عميقاً وأخذتَ معكَ (خمس دقائقي) وسافرت .
***
جئتَ بوعدكَ .. كان سلامكَ أحرّ من الفلفل وألسع .. الضحكة .. العبطة .. الإغارة .. التفاؤل الملازم لأسنانكَ .. يومها لم يفصح قلمكَ إلا عمّا أبيّته لنفسي . ولم يتسع المكان أو الزمان إلّا لجمل مختصرة وجريئة قلتها لي .
في المساء انشغل عنّا الأصدقاء .. فانطلقنا وحدنا .. سبقناهم إلى المطعم ، لعلنا ننعم بلحظات لم نخطط لها . كنت سعيدة وأنا أحتفي بكَ على طريقتي ، فطلبتُ منكَ أن تختار طاولتنا . أجلستني قبالتك في زاوية بعيدة على حافة المطعم ، وتركتَ خلف ظهركَ الشرفات البانورامية والرواد الجالسين . اتسعت صورتكَ في بؤبؤ عيني .. فبدا لي الناس ، الطاولات والكراسي تشكيلات هلامية متماوجة وممتدة .
-أنتِ صريحة وواضحة جداً .
-قصدكَ مكشوفة !
ضحكتُ .. لأني بدوتُ لكَ أرنباً جائعاً يجهزُ نفسه للقضم ..! حينها لم تلحظ التنين المخنوق في صدري منذ سنوات . كانت يداي تتحركان بتوتر بالغ ، تتشبثان بزوايا قائمة ، تقتربان وتبتعدان مثل ضلعي مثلث . لو كنت سألتني :» ما أمنيتكِ في التوِّ واللحظة ؟» . لأجبتكَ دون تردد :» أن أرقصَ فالس معكَ .» ربما كنتَ ستخفف ولو قليلاً من نخز زوايا عظامي حين تفتل جسدي في دوائر الهواء . لكنكَ استرسلتَ بكلام آخر مختلف .
كانت السياسة قاسماً مشتركاً بيننا ، فقد صنعت منكَ مقاتلاً . وصنعت مني المتمردة المنبوذة . الآن أنت وحيد ليس لكَ جماعة ، تشبهني إلى حدٍ ما .. لكنكَ تعبر وتتجاوز كل يوم فضاءات ومآزق . وعندما تشتد أزمتكَ تلتجئ دائماً إلى بحر منبتكَ . بينما أنا ما زلتُ ألملم خساراتي وأعافر مثل قاطرة بخارية . وفي كل مرّة ألتجئ إلى قعر نفسي . هل أضعتُ منبتي وأصبحتُ كما سميتني « امرأة من عواصم» ؟
في السيارة الضيقة والرحبة . بشراسة قمعتني ومنعتني من التدخين . فعصتَ سيجارتي قبل أن أشعلها . ارتجفت يدي . بلمح البصر ، تلهّفتَ نحو أصابعي . غمضتكَ حارقة. وأصابعي سكاكين باردة . تشممتَني . فسرى دفء رحيم في جسمي . خفتُ وابتعدتُ عنكَ .
كم أنت ساحر ! هل أتيتَ من حلم شارد ضلَّ طريقه إليّ ؟! أم خرجتَ من كتاب ممنوع من التداول ؟! أجمل جلاد .. أجمل حنون .. يرعبني تناقضكَ .. وأنا أخاف من سيمياء الجسد وانتظارات لزوم ما يلزم . أخاف اللحظات الحارقة والمارقة والماجنة التي تزحف في الجلد واللحم ، لأن شفافيتي تسحب أغطيتها .
ودعتني مع صوت الأذان ، وتركتَ أسودَكَ يرقص في فجري.
***
بعد شهر تغافلني عودتكَ مثل قبلتكَ . تهبشني كنسر طائر .. تتماهى مع ظلي .. ترفعني من متاعبي .. تحاول أن تغمرني (هيلا يا واسع) . تستوي قضبان يدي وتحجب سر الجسد. «لا تُعمّدني من جديد يا …. احيْني بلا سر مقدس . ولوّن بنفسج قلبي بِرَشّة أمان».
الليلة لي وحدي . إذ قبلَ أن أحكَ خاتمي أرافقُ مارد الفانوس السحري ، وبلا سؤال يمنحني الفرح .. يستعجلني لأحيا .. لأطلق معه الألعاب النارية في روح الليل . عشر ساعات .. أخذنا الكلام معه وأخذناه لنا مرات .. ضحكنا كثيراً وشربنا كثيراً ودخَّنَّا كثيراً . كاشفتني أكثر مما ينبغي . وكاشفتكَ من بعيد لبعيد مثل نجمة مثيرة تلمع في سراب الصحراء . تسألني وأجيبكَ .. أسئلة في وقتها المناسب وأيضاً في غير وقتها مثل التدفق الأسود المتألق حول جفنيك ، لون في غير موضعه .. أستأنسته أنتَ وعشقته أنا .
أمازحكَ ….( لو تعرف ! أن أجمل شب في العالم هو شب الكوبّا ..) .
تتبعني عيناكَ كاميرا سينمائية تلتقط صوراً لحركات جسدي العصبية الذي لا يعرف الاسترخاء.. وكيف أطلق ضحكة هستيرية ثم أنوس فجأة . تؤنبني .. وتستغرب تأجيل إنجازي ، استهتاري بوقتي ..
«دلوعة « .
وتقرر لي .. كيف أمارس تفاصيل حياتي اليومية .. دكتاتور مُطلق ، يتسلط من أجل إنجازي ، وأنا لا أناقش ، لا أعترض، أكتفي بـ(طيب .. خلص ..) .
ونحن نصعد الدرج الطويل . سبقتكَ قليلاً ، لأختلي بنفسي وأخفف ارتباكها ، لأشجعها عليكَ ، لأقنعها بجدوى وأهمية اجتياز كل درجات العمارة المرهقة إلى الشقة الأعلى .
« سأقرشه مثل حبة عنب . وسأطلب منه أن يسحب ريشاتي ريشة ريشة ويضمها باقة في الأصابع .. أن يكيل نساءه بمكيال ، ويكيلني بمكيال أحمق ، لأني امرأة خائبة ……» .
أغلقت النافذة ، فردتُ الستارة البيضاء وجلست على طرف السرير في زاوية الغرفة .
-اخلعي حذاءك لترتاحي .
-بعد أن أدفأ قليلاً .
-سأغطيكِ .
بلطفكَ الحار ترد باب الغرفة . سألتكَ أن تطفئ النور . انعكس ضوء الشارع على النافذة العريضة وبدت الستارة أكثر بياضاً .
نقط الضوء نقوش صغيرة متناثرة على جبهتك المترقبة ، على ثنايا ذقنكَ الحليقة بمهارة ، تكشف وجل ما قبل اقترابك مني .. هواجس تمس شاربكَ وشفتيكَ وأسئلتكَ الخافتة . تتهادى إلى أذني دندنات ساخنة من جفنيكَ . تستدير . ألمح طرف وجهكَ . تتهيأ لخلع قميصكَ في ركن الغرفة البعيد .
وأنتَ تفك الزر الأول .. تباغتني أشباح لا تشبه الظلال ، تلج من حفيف الستارة البيضاء ، من خلف الحائط الموازي للسرير ، من السقف .. أحجامها غير متناسقة ، تماثيل تعوم في الهواء .. تخفق حول رأسي ثم تنصب أمامي حائطاً جديداً فتغدو الغرفة مثلثاً وأنا محشورة في زاويته ، أدفع الحائط الثالث بقدميّ . تلتف الأشباح حول جسمي كله ، تستدعي ذاكرتي . أفقدُ ثقتي بجسدي .. تفتر مقاومتي . فتبدأ الأشباح بوضع الأقفال على مفاصلي وشَعري ، أذنيَّ ، رموشي ، رقبتي ، سرتي .. إلى أصابع قدمي .. كل ما فيَّ يصبح ثقيلاً حتى دمي .. أتراكم مثل قفَّة . وأنتَ تفك الزر الرابع .. تتحالف جموع الأشباح أمام قدميَّ . تستنفر ، تثني ساقيّ ، تضغط ، تشتم ، تحشر فيَّ ما تبقى من أقفالها .. يجتاحني خدر القهر . أصاب بجلطة الاغتصاب .. بسكتة اللذة الأبدية .. يتفحم رحمي من الإهانة .
جبال قلبي تغمرها الثلوج وسفوحه براري صنوبر تنتظر ذئبها الحنون .. تقترب مني ، تستلقي بجانبي جسداً عظيماً شاسعاً بلا نهاية . أحنُّ على صدركَ كطفلة شاخت عيناها . أخفقُ في تلمّسكَ . يدمدم شاربك خلف أذني . نبض لا يرد الصدى . تُدرِكُ روحي بقبلتكَ . يضطرب فمي . تستشعر خفوتي ، عطبي .. وأنا لا أقدر على القيام أو الاستلقاء . تملؤني بأنفاسكَ ، تساهم في روحي برائحتك ، تتأملني . جسدي هرم صغير ممسوس بكهرباء الخوف ، ينوء بالأقفال بالمثلثات المتداخلة ، بتكتكة تلخبط حضور الرغبة . تجلدني ذكورتك الفائضة ، وأنا « أريدُ أن أريدْ ! « ولا أستطيع . يتكشف لكَ ملف جسدي ، تقرأ ما تستَّر . تتعاطف معي ، ينفعل وجهك بعدوانية تجاه يأسي وإحباطي .. ينحسر السواد عن اهليلج عينيك .. تصمت الموسيقا ونحن نعيش اللحظة المغلقة . يرهقني تفهُّمك .. أخفي وجهي في ضلوعي وأسحب دموعي إلى الداخل .
-أنا آسفة ..
تضع يدكَ على فمي ، تقتحم شفتي .. تعنِّفني .. تتري جملاً سريعة متلاحقة .. تستهجن أسفي . ترِقُّ سريعاً . يتموج السواد من جديد ، يتعمق ، يدكن . تحنو على ظهري ، تغمره بيدك . أميلُ نحو صدركَ الواسع ، فيعلو زفيره المجنون ، يرفُّ شعره الكثيف . ينتفخُ ثديكَ الأيسر ، يتكوّر ، تتدلى حلمته ، تدر حليباً بطعم دبس الخرنوب . تفيض أصابعك رحمة ساحرة تخلخل أقفال جسدي وتحوِّلها رويداً رويداً إلى أوراق بيضاء .
شب الكوبّا : هو الشاب صاحب القلب الأحمر في أوراق الكوتشينة أو ورق اللعب .
هيلا يا واسع : أغنية للفنانة فيروز
كاتبة من الأردن