الشاعر اللبناني شوقي بزيع، واحد من الشعراء الذين انصرفوا الى العذوبة والشعر باكراً، فمنذ بدايته مع الشعر والكتابة وهو يتلو فعل الجمال على اللغة وعلى الحياة نفسها. في قصيدته الكثير من الحضور،حضور الغياب. كل غائب يحضر في شعره.حتى أن المرأة التي تشكل له مسافة الوجود كلها،هي حاضرة وغائبة وسراب في مساحة حياته وعمره. وتبقى القصيدة، قصيدته ملاذه الأول والأخير. يهتدي بها الى مسافة الحياة المقبلة، كما عبرها في المسافة الماضية.
تجربة شعرية فاعلة وناضجة عاشها ويعيشها الشاعر، يتنفس من رئة شعرية صافية. حتى في كلامه عن الشعر والحياة،نجد تلك الشاعرية الخصبة التي لا تغادر حروف كلماته وحركات يديه وعينيه. فماذا يقول الشاعر بعد تجربته مع الحياة والشعر؟
pp كيف تعرّف نفسك اليوم بعد تجربتك في الشعر والحياة،من هو الشاعر شوقي بزيع؟
uu مثل هذا السؤال يبدو بسيطاً الى حد البداهة من الظاهر،لكنه يستبطن متاهة من التعقيدات يصعب كشف النقاب عنها، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يجعل سقراط يطلق عبارته الشهيرة «اعرف نفسك» مدخلاً لاكتناه الذات والوجود ولتحديد المهمة الأساس التي يناط بالإنسان انجازها والتصويب باتجاهها في كل ما يفعله. وهو نفس ما طرحه المعري على صيغة سؤال العارف حين هتف للإنسان، أي انسان، قائلاً له: أتزعم أنك جرم صغير / وفيك انطوى العالم الأكبر. انطلاقاً من ذلك استطيع القول انني لا أجد تعريفاً واحداً لنفسي، فكل تعريف هو نوع من الهوية المفتوحة ابداً على الالتباس والتغيّر مع الزمن ومع اكتساب المزيد من المعارف والخبرات.ومع ذلك أستطيع أن أقول في المحصلة، كما يقول الشعراء في العادة،بأنني كائن من كلمات، وبأنني لا أجد صفة لنفسي يعتقد بها خارج الكتابة. والشعر على وجه التحديد لا يقبل بأي (ضرّة) تنافسه على الحياة، ولا يقبل التقاسم مع أحد أو أي شيء أو مشروع جوهري، وأنت يا اسماعيل فقيه كشاعر تعرف وتعلم بأننا نحمل هذا المرض في الجينات نفسها، وبأنه هو الذي يحدد موعد مغادرته لنا، أو ملازمة للشخص المصاب بأعراض مدى الحياة.
pp ما جدوى الشعر في حياتك وأيامك الى اين أوصلك، كيف تعرّف الشعر اليوم؟
uu لا أعتقد بأن أحداً قبلي وفق بالاهتداء الى اجابة شافية عن معنى الشعر أو طبيعته أو وظيفته.كل من سبقوني أجابوا الإجابة نفسها تقريباً وقالوا بأنهم لم يختاروا طوعاً أن يكونوا شعراء، بل أن الشعر هو الذي اختارهم ليكونوا وسطاء من نوع ما بين المرئي واللامرئي، بين الممكن والمحلوم به،بين الأرض وشياطينها، ولكن أن يطرح السؤال عكسياً، كأن يقول لكم أحدهم، ولماذا يغيب الشعر عن العالم ما دمنا غير قادرين، كبشر، على تحويل القضايا الكبرى عن مسارها المأساوي والإجباري، وغير قادرين أن نجابه المرض أو الحب أو الكراهية أو الشيخوخة ومرور الزمن أو نقصان العدالة والحرية والخبز أو السيف المسلط للموت بهذه الطريقة المواربة التي تمنحنا جائزة ترضية رمزية في ظل العجز عن الحصول عن الجائزة الكبرى التي هي الخلود وإلغاء الموت والشعر كالحب، وهم لا بد منه لتصبح الحياة قابلة لأن تعاش ولكي يخلق لنا ظهيراً ولو هشاً يساعدنا على عبور ذلك البرزخ الموحش بين الولادة والموت، كما يحمينا من الضجر ، ويمنعنا بشكل وبآخر بأننا لسنا مخلوقات ناجزة ومكتملة الحضور، بل كائنات محكومة بالنقصان، وبأن الشعر والفن بوجه عام، قادران على انتشالنا من وهدة اليأس وإقناعنا بأننا نستطيع أن نلد أنفسنا عبر اللغة أو اللون أو الكتلة أو الوتر. وكل زعم من انقراض الشعر وانقراضه وزواله هو زعم باطل، لأن القضايا التي يتصدى لها هذا الفن ملازمة للوجود نفسه . وحتى لو حل البشر مسألة الفقر أو الاضطهاد أو الحرية، فهم غير قادرين ، وبالقطع، عل حل المسائل الأكثر جوهرية التي حيرت الفلاسفة وأوقفتهم عاجزين أمام تأويلها ، والتي تتيح للشعراء الهامش الأكثر اتساعاً لاختراع أجوبة سرعان ما يثبت بطلانها، لكن ما يظل منها هو قلق الغابة الأخيلة والرؤى والجماليات المدهشة.
pp ذكرت الموت، هل يمكن للشعر أن يقوم بمواجهة ناجحة أمام الموت؟
uu المعنى الأساسي للشعر يتصل بمقاومة الموت في أشكاله المتعددة. فثمة موت داخل الحياة يتصل بالسأم والإفلاس والقنوط وفقدان الجدوى ، يستطيع الشعر أن يرد عليه بمنع السأم من الاقتراب وإلهاء النفس عن آلامها الكثيرة ، والفرح بابتكار مناطق للجمال غير مأهولة . وثمة موت خارج الحياة لا نملك دفعاُ له ، لكننا نؤيد من خلال الشعر فكرة الخلود في داخلنا ، ونشعر بقدرتنا الفائقة على اختراق الزمن والتجدد مع كل جيل لاحق. إن كل شخص يقرؤنا يعيد احياءنا من جديد، لذلك فنحن نملك من الحيوات بقدر ما نملك من القراء. ويحضرني في هذه المناسبة معنى طريف للقراءة قلّ أن يخطر في بال الناس. فقد ورد في لسان العرب بأن القراءة تعني الولادة، ويقال قرأت رحم المرأة اذا استطاع الرحم أن يجمع بعضه على بعض ولا يسمح بإجهاض الجنين. وانطلاقاً من ذلك فإن كل شاعر حقيقي يحجز لنفسه أسرة ولادات كثيرة في المستقبل.
pp كأنك تحتمي بالشعر من كوارث الحياة والوجود؟
uu لست أنا الوحيد الذي يفعل ذلك. فإذا كان البعض يعتبرون اللغة وطناً صالحاً للإقامة فإن تحوّل الشعر الى سلاح لحماية حدود الوطن الرمزي هو أمر بديهي وغير مستهجن، خاصة أن الشعراء لا يملكون جيوشاً لفتح الممالك لصد الهجمات المسددة نحوهم من كل صوب ، ولكن السلاح الذي يملكونه ، في رأيي، هو على هشاشته ، أثبت وأشد مضاءً من أي سلاح آخر ، لأنه لا يثبت سلطتهم على الراهن فحسب ، كما يفعل القادة وزعماء الدول ، ولكنه يتيح لهم أن يبرموا مع الأبدية عقداً غير آيلٍ للنقض من أي طرف كان. ثم هل من المصادفة أن يسمي العرب الوحدة الشعرية المنظومة بيتا ، وأن يسموا مجموعة القصائد ديواناً؟ كأنهم بذلك يعتبرون اللغة بيت الشاعر الأهم وملاذه وحصنه الأبقى, كما أن أعماله الشعرية تتحول الى ديوان مترامٍ يتسع للجماعة البشرية برمتها.
pp كيف ترسم أو تحدد مفهوم علاقتك بمسار الكتابة والفن بشكل عام؟
uu قد تكون الإشكالية الأساسية في علاقة الإنسان بالفن ، ومنه الشعر متمثلة في عدم التواؤم بين محدودية الحياة ومطلقية الفن. فنحن كلما أنجزنا قصيدة أو عملاً فنيا ما شعرنا بأننا نفرغ تماما من الداخل، وأننا بتنا مثل «البطّارية» الفارغة التي خوت من كهربائها بشكل تام. لكننا ننتبه بعد ذلك الى أن هذه «البطارية» سرعان ما تشحن نفسها بكهرباء من الطاقة المتجددة التي نعود الى افراغها بعد حين. في كل مرة نشعر أننا قلنا ما نريد قوله وأننا لا نريد شيئاً سوى العودة الى لحم الحياة ودمها الحقيقيين والملموسين كما يفعل سائر خلق الله. ولكننا نكتشف أننا نتعامل مع قوة لا ضفاف لها وغير قابلة للنفاد. وحين نصل الى كهولتنا نكتشف أننا ما زلنا في بداية الطريق وأن الوقت المتاح أمامنا لن يتيح لنا مبارحة هذه البداية. أو ليس ذلك مماثلاً لحيرة عنترة العبسي أمام ركام القصائد التي تمت كتابتها من قبل والتي عبر عنها بالقول، «هل غادر الشعراء من متردم»؟ فإذا كان الشاعر الذي استهل مسيرة الشعر العربي قد وقف حائرا أمام قدم المعاني وشيخوخة الكتابة، فما هو حال المتأخرين من أمثالنا الذين أتوا الزمان على أواخره، وفق أبو الطيب المتنبي ، و ما زالوا يشعرون بأن ما ترك لهم من كشوف ولقى ابداعية هو أقل القليل. ومع ذلك فإن كل شاعر حقيقي يشعر بأنه يستهل الشعر من جديد وأن ما هو منوط به ليس تكرار من سبقه، بل إضافة جملة جديدة، الى الكتاب الشعري الهائل الذي شبهه الإرجنتيني «بورخس» بالمتاهة الخالصة. ينهي الشاعر حياته وهو يعد العدة لقول آخر ومقاربة مختلفة للكلمات ثم يرحل وترحل معه غصته وإحساسه بالعجز عن إتمام الجملة. وهو ما يفسر قول جبران لماري هاسكل وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ، بأن الكلمة التي يريد قولها لم يقلها بعد، وعلى الأرجح لن يقولها أحد أبداً . وقد يكون الموت هو هذه الكلمة الأخيرة.
pp وماذا عن ينابيع تجربتك الشعرية بمراحلها المتعددة؟
uu أنا ممن يعتقدون بأن الإنسان لا يصبح شاعراً، بل يولد شاعراً. فهو يزود منذ البداية بقابليات خاصة وقدرة على الاستشعار وحساسية ازاء اللغة لا يملكها إلا قلة قليلة من الناس.
ثمة نواة صلبة هي الموهبة يمكن للمرء أن يبني عليها في مراحل حياته اللاحقة غرفاً أو طوابق أو أبراجاً عالية ، ولكنها نواة لا يستقيم أي بناء من دونها. انطلاقاً من هذه البديهة أستطيع القول بأنني اكتشفت في عمر مبكر لا يتجاوز السابعة أو الثامنة قدرة في داخلي مجهولة المصدر على تأليف أبياتٍ منظومة وخالية من الأخطاء الإيقاعية، كانت تأخذ شكل اللهجة المحكية حيناً والفصحى حيناً آخر.
pp بين قصيدتك الأولى وقصيدتك الأخيرة(حالياً) مسافة واسعة من الزمن، هل قصيدتك الأخيرة هي نتيجة مسار طبيعي بدأته بقصيدتك الأولى، أو أن هناك عاصفة هبّت في حياتك وغيرت مجرى رياح قصائدك؟
uu لا أجد في مجال الإجابة على سؤال كهذا أفضل من التمثل بنهر هيرقليطس الذي لا نسبح في مياهه مرتين، ومع ذلك فالمياه متغيرة والمجرى واحد. فتجدد المياه لا يغير بأي حال هوية النهر وإلا لكان أن نطلق على النيل أو الأمازون اسماً مختلفاً كلما تجددت مياهه.
هكذا يمكن للكاتب أن يحدث خروقا غير قليلة بين ديوان وآخر، أو قصيدة وأخرى من قصائده، ويظل هو نفسه بمعنى أن شيئاً ما في الحساسية والقاموس وأشكال التعبير يظل يميزه عن سواه، ويمكن أن يضيف الى هذه العناصر مسألة العصب أو درجة التوتر التي تختلف بين شاعر وآخر. بهذا المعنى أنا أنتمي لكل ما كتبته من «عناوين سريعة لوطن مقتول» حتى «فراشات لابتسامة بوذا» دون أن يعني ذلك أنني راضٍ اليوم عن كل ما كتبته . ثمة قصائد ومقطوعات لا يمكن أن أعيد كتابتها اليوم كما كتبت في السابق ، حيث لم تكن الغنائية يومها مثقلة بما يكفي من البعد الرؤيوي، وكانت الرغبة في الإنشاد تستحوذ على اهتمامي بما يفيض عن حاجة القول الشعري، ومع ذلك فالشاعر هو تاريخه وهو حاصل النقلات التي يحققها بين عمل وآخر. لذلك لم أعمد الى حذف ديوان أو قصيدة من قصائدي، كما بعض الشعراء من قبل.
ثمة محطات مختلفة في تجربتي تطلبت كثيراٍ من الصمت والتأمل قبل الوصول اليها. فحين شعرت، على سبيل المثال، بأن الأرض التي تسند شعري ليست واسعة بما يكفي وبما يتجاوز موضوعي المرأة والجنون والمقاومة, أخلدت الى الصمت لخمس سنوات كاملة بين عامي1985و1990 ولم اكتب قصيدة واحدة خلال تلك الفترة. شعرت بأن الينابيع التي تغذي شعري قد نضبت تماماً وانفضت الشياطين الى إشغالها. على ان ما حدث بعد ذلك يشبه زلزالاً صغيراً كان يحضر نفسه للانفجار خلال فترة الصمت الطويلة. وكانت مجموعتي «مرثية الغبار» أو غيث تلك المرحلة التي وطأت فيها أماكن غير مسبوقة بالنسبة لي وباتت القصيدة حواراً متوتراً مع الذات والعالم، وأخذت بعد ذلك من الرموز التاريخية والدينية لأقيم حوارات مماثلة تخرج هذه الرموز من مخليتها لتطلقها في فضاء انساني أوسع، كما حدث في قصيدة «ليلة ديك الجن الأخيرة» التي تطرح بشكل صادم مسألة العلاقة بين الحب والموت أو قصيدة «قمصان يوسف» التي تبحث عن جمال لا يولد مع البشر بل يكتشفونه شيئاً فشيئاً عبر النزول الى بئر المكابدة والألم وامتحانات الروح الشاقة.
في «سراب المثنى» كانت هناك نقلة جديدة تتمثل في استنطاق شاعرية اللغة بحد ذاتها، لا بوصفها حاملاً لمحمول معرفي أو ايديولوجي، وأقمت برزخاً ورومزياً بين المثنى وبين المؤنث انطلاقاً من صرخة امرؤ القيس «قفا نبك» التي أسست ابعد من الف التثنية لغابة الثنائيات العاشقة التي ظهرت مع «عروة» و «عفراء»،وقيس وليلى وجميل وبثينة الى آخر السلسلة من العشاق والعاشقات. وكتبت عن الحرف المعتل وعن نون النسوة وتاء التأنيث وغيرها من الجماليات التي تحتفل بها العربية. بينما انعطفت تماماً في «صراخ الأشجار» نحو عالم مختلف هو عالم الأشجار التي تربيت في كنفها زمن الطفولة والتي تنادينا باستمرار لكي نعود اليها مرة ثانية مسترجعين صدى تلك الكائنات الحية التي هي أجمل ما سقط منا من فردوس.
pp كيف ومتى اكتشفت الشاعر الذي ينمو في داخلك،متى تأكدت من هذه الشاعرية في داخلك؟
uu سبق وقلت بأن أعراض الشعر داهمتني مبكراً أي في سن السابعة، حيث كنت أنظم أغنيات وأزجالاً ومراثي للراحلين في قريتي باللهجة المحكية. وكان الانغماس في الفلكلور وطقوس الندب العاشورائي وتفاصيل الحياة اليومية والشجارات في القرية اثر كبير في توجه قصيدتي نحو تواصل غير متعسّف مع وجدان الجماعة وههمومها وهواجسها. وفي العاشرة كتبت أولى قصائدي العامودية دون أن أخطئ في الوزن وقبل التعرف على بحور الخليل. وهو ما يؤكد لي بأن ثمة في الفن أشياء لا نتعلمها بل هي ترافقنا في الجينات الموروثة ودورة الدم. ولأن النحو والصرف يستلان من مكان مختلف له علاقة بالتعلم والدراسة، فقد احتجت الى سنوات إضافية لكي أتجاوز الأخطاء الكثيرة التي كنت أقع فيها قبل مرحلة الوصول الى الجامعة. هكذا كنت في تلك الأيام مؤرخ القرية ومنشدها وحاديها، قبل أن أدرك أن هذا الدور للشعر ليس كافياً وان اعمق الأسئلة واصعب التجارب كانت تنتظرني عند منعطفات أخرى.
pp الحب والعاطفة والمرأة ركن أساسي في شعرك، كيف تفسر هذه العلاقة الملتهبة في حياتك واشعارك، فمن يقرأ أشعارك وحضور المرأة فيها يظن ان المراة كائن خرافي، غير موجود؟
uu أوافقك القول بأن جزءاً هاماً من شعري تحلق حول المرأة واحتفى بها حيناً، أو شكل صرخة احتجاج على غموضها الهارب حيناً آخر، ثمة قصائد بدت فيها المرأة حلماً وردياً وعرساً جسدياً وروحياً مشتعلا بالمسرات، وثمة قصائد أخرى هي أشبه بصرخات احتجاج عارمة على علاقتي المتشظية بنساء شبيهات بالأحجيات وعصيات على الفهم. طبعاً لم يكن ذلك الاهتمام بالمرأة من قبيل الصدفة المجردة، بل إن ما يفيض عن معدل العادي للشغف بها ناجم في تقديري عن الشغف طفلاً بصورة الأم التي كانت مؤلفة من حنان خالص وحرب غير محدودة مقابل الشخصية للأب الذي كان يشبه في سطوته واعتداده الذكوري شخصية أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ. لم يكن ابي في الطفولة يسمح حتى للفتيات الصغيرات بالاقتراب من منزلنا الريفي، وكنت أراقب بعين دامعة ما يتم من لقاءات بين مجايلي من فتيان مرافقين وبين فتيات القرية، وهو ما خلق جرحاً في داخلي لا سبيل له في الالتئام، لذلك، وكردة فعلٍ على حرماني المبكر من عالم النساء خاصة وقد أنجبت أمي أربعة ذكور على التوالي قبل أن تنجب طفلتها الأولى, فقد ذهبت الى الحدود القصوى للشغف والتمرد على الأب والتعويض عن ذلك الزمن الشاغر من النساء وهو ما لم أحصل عليه حتى الآن. ورغم العلاقات العديدة التي أقمتها معهن فيما بعد.
لكن أمراً آخر تمكن إضافته في هذا السياق، يتصل بالمرأة كحضور فردي ومباشر في حياتي، بل بجوهر الأنوثة نفسها التي شكلت أفقاً دائماً لقصائدي الشعرية، بما هي لغز كوني من جهة وبما هي موجة خاصة من الشفافية والعلاقة الدائمة ببراءة العالم وينابيع. فالمرأة تتصل ببداهة الأشياء، بالصرخة المجردة بالجمال الذي يشع من أماكن متعذرة على الذكور. وهو جمال تتقاطع فيه الأنوثة والأمومة أو تتعاقبان. أما المرأة التي وصفتها بالمستحيلة في شعري فصورتها عندي لم تأت عبثاً بل هي ناجمة عن إحساس لدي. بتعذر الوصول الى قرارة المرأة وعمقها الأخير. فالمرأة كالكون، متاهة نسبح في داخلها وليست هي نقطة يمكن الوصول اليها.
pp هل أنت شاعر حزين، قلق، سعيد، ظالم، مظلوم ، محكوم، مستبد، ضحية، جلاد.. ما لون وطعم القلق في حياتك؟
uu قد أكون كل هؤلاء جميعاً بشكل أو بآخر، ليس فقط لكوني شاعراً بل لأن الإنسان، كل انسان يتقلب في أهوائه وطباعه وعلاقته بالأشياء بما يجعله صورة عن البشر أجمعين. واذا كانت القصيدة هي وليدة الاصطدام باللحظة المعيشة، فمن الطبيعي ان تحمل مرة سمة الحزن ومرة سمة الفرح ومرة سمة الدهشة او تبشر بالأمل أو تدعو الى القنوط.ومع ذلك فليس هو الأمر الأهم في الشعر، لأن ما يحدد قيمة الأثر الإبداعي والفني أمر آخر يتصل بانتشال اللحظة من طابعها المؤقت وقذفها في الأبدية.
pp في عمر الأربعين قبل أكثر من عشرين سنة قلت لي انك وصلت الى عمر التوبة، واليوم بعد هذا العمر الجديد بعدما تجاوزت العقد السادس من العمر، ماذا تقول؟
uu أنا من أكثر الشعراء إحساساً بوطأة الزمن وانقلاب الأحوال وتتبعاً لتحولات وجهي في المرآة، فكل شعرة تبيض تمر في قلبي قبل رأسي، وكل يوم يمر هو فعل تأبين مصغر لتقلص الهامش المتروك بين الكهولة والموت، لذلك عندما كتبت قصيدة «الأربعون» قبل عشرين عاماً، كنت أعبر لا عن قسوة ذلك العمر أو وطأته وهو ذروة الحياة، المنقسمة بين الحيوية والنضج، بل كنت أعبر عن الهوى التي تنتظرني بعد القمة، وكذلك كان الأمر في قصائد لاحقة تبدو وكأنها تشبث طفولي بأذيال الزمن الهارب. الا أنني لست من الشعراء المحبطين البائسين أو العازفين عن الحياة ، بل أنا على العكس من ذلك, أرى في الحياة منحة إلهية يجب أن نقدرها حق قدرها وأن نعيشها بكل جوارحنا.
الأصعب بالنسبة لي ليس التقدم في العمر , بل الخوف من الإصابة بالسكتة الشعرية والنضوب وخيانة اللغة. ربما كنت محظوظاُ لكون هذه الأمور لم تحصل وأنا أتهيأ لإرسال مجموعة شعرية الى المطبعة.
—————–
حوار : اسماعيل فقيه