حذاؤه يتقدم بوهن ورتابة, يجره على أسفلت الشارع المغبر، كان حذاء أسود اللون, انزلق من أحد جنود " الغوركا"(*) كان يلمع من قبل كان شجاعا وعسكريا. مر فوق العشرات من صدور الجنود الصرعي من شعوب شتى، وخاض الكثير من المعارك. لقد فقد منذ زمن بعيد صلابته وجماله" كعباه متآكلان, واهترأ جلده الأسود وتجعد، وتقطعت شريطتاه. تنبسط فيه القدمان الضئيلتان وتبرز فوقه وبلتا الساقين الناحلتين. ويرتمي فوق الركبتين طرفا سروال عسكري قصير. كانت الرجلان قويتين وسليمتين من قبل. دخلتا المعركة مرة واحدة – في شارع كرامات. توقف المدرة في الشارع كي ينظروا الى الساقين الناحلتين اللتين تشبهان ساقي الوعل أو ساقي بينوكو الخشبيتين.
كانت ساقا السروال البالي طويلتين في زمن ما. القطعة التي اقتطعت منهما لا تزال في جيبه, ويستعمل منديلا للأنف ومنشفة في أن واحد. لقد اضطر الجندي المسلم الذي ارتداه الى السفر به من الهند الى سردينيا فبولونيا, ثم ليتركه, من بعد في يافا، كي يرتديه هذا الجسد الناحل. وهو يرتدي سترة خضراء ويتدلى من كتفيه المتهدلين قوسا يديه الهزيلان, ويكاد رأسه لا يتماسك على عنقه.
هذه الثياب تخفي إنسانا حيا، شهيدا حقيقيا. يدعونه محمود أسنان. كان من قبل, يذكر اسمه حين التعارف مع أحد ما. وهو الآن لا يفعل ذلك. الاسم عنده إحدى التوافه فليدعه الناس كما يشاؤون.
على كتفه خيط ربطت به هوة تحتوي على كل ثروته, مجموعة كاملة من الثياب الرمادية, من انتاج مصنع النسيج في غاروت. لقد تلتاها قبل خمس ساعات. أعطوه أيضا عشرة ليترات من الأرز, كي لا يموت جوعا على الطريق بعد اطلاقه من السجن. لكنه لم يأخذها لأن حملها يثقله. في جيب سترته عشر روبيات أعطره إياها أيضا. هو لا يفكر الآن بالنقود.. ففي رأسه أفكار قاتمة.
الأبنية الكبيرة التي أقاموا فيها مخازن ومؤسسات ومساكن خاصة, التي كان يحبها, لا تثيره الآن بتاتا, تجثم في رأسه فكرة طارئة لا يستطيع التخلص منها: " لماذا كل هذه البيوت المترفة؟ ما المغزى منها؟" بحث عن جواب من غير جدوى هو لا يحترم شيئا. ينظر بارتياب الى كل شيء لأنه يرى أن كل شيء يخفي خطرا عليه. يكره كل شيء – الحجر البريء, والحيوانات والبشر، والنباتات والآلات. فهي كلها تريد خداعه, وتريد منذ زمن, تدمير سعادته العائلية. كل شيء يحمل له التعاسة لم كل هذا؟ إنه يكره خصوصا ما لا مبرر لوجوده.
تذكر البارودة عيار 12,7 والطلقات في صندوق الشاحنة في شارع كرامات. كانت يداه ورجلاه مقيدة وثيقا. يتحرك أمام عينيه رجال الغوركا. الذين اعتقلوه عام 1945. وفكر, لأول مرة حينذاك: " لم كل هذا؟" لكنه لم يتفوه بهذه الكلمات.. لا لأن الجنود المرتزقة لا يفهمون لغته, بل لأن وبلة رجله اليمنى كانت ممزقة برصاصة, وهي تؤلمه, وكل جسده يشتعل. لقد عشش الخوف في روحه. وتلك أول صفحة سوداء في حياته.
نقلوه من ثكنة الى ثكنة ثم رموه, أخيرا في سجن غلودوك لاقى هناك, أحوالا تكاد لا تكفي للابقا، على وجود الانسان. إن شعره ليقف حين يتذكر الرماة الذين يطلقون النار على المحكومين بالموت و " ضربات " " الرحمة " التي يوجهونها اليهم.
نتلوه من غلودوك الى تشيبينانغ الذي لا يختلف بشيء عن السجن الأول. ثم رفعوه أخيرا، الى غانت تينغاخ حيث يسود قانون الغاب بين السجناء الجياع. وذهب من هناك الى أونروست ثم أيضا الى جزيرة عيدام ومن ثم الى تانغيراغ على ناوسا بامبانغان في سيرمارانغ. وكان يسأل في كل سجن بعد ما يرده من شقاء جديد: " لماذا كل هذا؟" وما كان يستطيع الاجابة. وإذا سأل جارا في الزنزانة أجابه ذاك باستعلاء: " شقاؤنا هذا باسم النضال " وحين يطرح السؤال على واحد لديه أسرة يجد جوابا حزينا " عاجلا أو آجلا سيحل الشقاء بالناس كلهم. كن صلبا وثق بالله !".
لم تكن مثل هذه الإجابات تشفي غليله. لم يعد له أي هدف في الحياة ما يهمه الآن أن يكون ثمة هدف.
حين كان يحس باندحار اليابان الوشيك كان يعتلي ء بالأحلام. كان قد تزوج. مارني جميلة وهو يحبها. لها قلب رقيق. لكن هذا لم يعد يقلقه ولا يزعج مارني. عاشا معا في بيته بعد الزواج. أعطت الأسرة معنى جديدا للبيت. صار أرجوحة لعلامات انسانية لطيفة دافئة منذ تلك اللحظة صار يكره كل الذين يريدون تدمير عشه العائلي. إنهم أعداء الانسانية, مهما تنوعت أشكال نشاطهم ووسائلهم.
وجاءت الثورة. دمرت أسرته. أحترق بيته واستحال الى كومة من الرماد أراد الانتقام فاعتقلوه. ومر عام وأخر. كان ذلك في زمن التفاوض. ثم جاء زمن الخول – حطم السجانون. وشمله العفو, وها هو يخرج الى الحرية. لماذا أطلقوه؟ ألم يتحول بيته الى رماد؟ ماذا حل بمارني الجميلة؟ قد لا تكون بين الأحياء، أم أنها تتعفن في مكان ما في أزقة سينن هو يذكر أن قلب مارني خفيف..
إنه يتابع السير, متعبا متمهلا في شارع كورانتيل الذي لا آخر له.. شعره الذي كان يظل مسرحا, هو الآن أشعث وخطته خمل بيض. السعال يوجع صدره المطبق. توقف ليسعل أمام مخزن لبيع الساعات. الساعة تشير الى الرابعة بعد الظهر. أطلقوه قبل خمس ساعات من معسكر بولونيا, المعسكر الذي أمضى فيه وفي أمثاله أربع سنوات من حياته. إنه ليأسف للسنوات الضائعة. لو لم يحدث ذلك لما كان أشبه بالظل, لعله كان يود العيش سعيدا مع مارني, وأن يكون له طفل أو اثنان, وأن ينتظر الثالث. " لم حدث كل هذا؟"- كان يسأل حين يفكر فيما عدناه -3 إنها مسألة البشر, هكذا يجيب نفسه.. وبدأ يكره الناس. كان يكره ذاته, أكثر مما يكره, لأنها تحملت العناء من غير تذمر. كان يخطر له أن يقطع شرايينه بأسنانه كي يتخلص من حياته. لكنه كان يحس بأن لديه التزامات عليه أن يؤديها في هذا العالم ~ واجبه نحو أسرته, تلك الأرجوحة للعلاقات الانسانية الدافئة. وقبل كل
شيء واجبه نحو زوجته.. ألم تشق وتفقد عفتها من أجلي ~ كان يردد دائما حين يصاب بشك ثقيل " وتلك لا يمكن أن تشتري بالمال ولا بالعقل." وهكذا لم يصل الى الموت.
حوله يصخب شارع كورانتيل. هو يبدو الآن أجمل مما كان أيام الاحتلال الياباني والانجليزي، والجو مختلف, إنه مليء بالسيارات الصغيرة, مسيرة لا تنتهي من السيارات. سيارات ونظرات وجلة حزينة. المخازن على جانبي الشارع أكثر ترفا من أي وقت آخر. استبدلت باللافتات اليابانية لافتات هولندية. وتغير صالون الحلاقة, لكنه هو الآخر يحمل لافتة هولندية. وقد كتب على لوح منفرد: شارع كورانتيل 28. نظر عبر الواجهة الزجاجية. الداخل نظيف.تلمع أدوات الحلاقة, وقد علقت مرآة كبيرة على الجدار.
صاحب صالون الحلاقة جالس محلى مقعد الزبائن. لم يتغير وجهه. بل يبدو أكثر شبابا. الحلاق كان صديقه ومباريه في الشطرنج. ولقد جادله أكثر من مرة حول مغزى الحياة حين كانا تلميذين.
القلق باد على الحلاق وهو ينتظر المز بائن. ترك الجريدة وانتصب قرب الباب ثم ألقى نظرة الى اليسار وأخرى الى اليمين. ظهر الخوف على وجهه حين رأى محمود. اتسعت عيناه.. فغر فاه وهتف متمهلا:
– محمود
حاد محمود بنظره ومشى متعبا. هل عليه أن يرد؟ أليس هذا الرجل من بين كثيرين من الذين أرادوا تدمير أسرته؟ وسيان إن حدث ذلك قصدا أو عن غير قصد.
– محمود ! فاداه الصوت ثانية. اندفع الحلاق على الدرجات وركض نحوه. أمسكه من سترته وشده الى الوراء
– محمود – قالها معاتبا.
– لماذا تناديني يا محمد؟ – سأله محمود هادئا… لكنه تبعه.
– لا تقل شيئا. اجلس أولا. أريد أن أقول لك شيئا.
ابتسم محمود مرتابا،وغير راغب… وجلس الصديقان الواحد في مواجهة الآخر تفصل بينهما منضدة صغيرة مستديرة من المرمر. أغمض الضيف عينيه واستلقى متعبا على الأريكة.
قال محمد:
– أنت حي, إذن, يا محمود؟
أجاب الضيف من غير أن يفتح عينيه:
– أجل,مازلت حيا.
– ظننت..
لم يجب محمود. رأى من فوق كتف محمد وجهه في المرآة الكبيرة قبالته.لقد أصبح غير معروف – هذا الوجه الذي لم يره خلال السنوات الأربع الأخيرة. تقطعه تجعدات عميقة وقد نمت عليه لحمة كثة وشاربان لم يعرفا العناية اليومية بهما.
قال محمد مغيرا موضوع الحديث:
– كم تغيرت ! جلدك الذي لم تعتن به أصبح قذرا. ووجهك الذي كنت تبودره قبل النوم.. لكن من أين أنت قادم يا محمود؟
نظر الضيف اليه وأجاب بقرف:
– من السجن.
ترطبت عينا فحمد والتمعتا
– ظننت..
نهض محمود لينصرف, لكن محمدا أمسك كمه.
– ما الأمر يا محمد؟
– ابق قليلا يا محمود. مازلت صديقك. تغيرت كثير. ظننت أنك هلكت يا محمود في معركة كرامات. حكى لي أحد أصدقائك من رجال الشرطة أنك كنت مصابا في رأسك برصاصة (دوم – دوم ) – ثم صمت كي يجفف عينيه بمنديل – ولقد دفن رجل مهشم الرأس
باسمك.
– أنا ميت يا محمد, منذ أربع سنوات أنا ميت. الذي أمامك مجرد شبح, يسير من غير اتجاه أو غاية. لكن, فلننه هذا الحديث.
– وهل تعرف ما حل بأسرتك؟
– لا أعرف.
– كنت يا محمود دائما صديقي الطيب – صمت – لماذا تغيرت هكذا؟
ألست محمودا نفسه؟ – سأله بصوت مضطرب.
أجاب محمود مشددا:
– أنا مجرد شبح متجول.
سأل الحلاق بقلق رفوف متناميين:
– والى أين أنت ذاهب؟
– ليس لي هدف, لكن الأفضل أن أذهب لأرى بيتي القديم.
– لم يبق منه أشر. بنوا في مكانه مبنى إداريا.
– لكن الأرض ملكي. حتى البيت المتهدم لي.
– صحيح… وقد اشترت المؤسسة أرضك.
– من باعها لها؟
لم يجب محمد على الفور.
– سامحني يا محمود.. ظننت أنك مت
– او -او.
وساد الصمت.
– أجل ظننت أنك مت.
– إذن علي أن أدفع ثمن أرضي وبيتي المهدم من أجل صداقتنا؟
– لا يتكلم هكذا يا محمود. دخل همالة الحلاقة قليل. بعت الأرض كي أرعى طفلتك.
– طفلتي؟- سأل محمود دهشا ثم ابتسم – أتقول طفلتي: أومأ الحلاق برأسه مؤكدا.
-أجل, طفلتك.
– أنت تؤكد أن لي طفلة – قالها محمود وكانه يتكلم الى انسان آخر. – أأنا الشبح المتجول لي طفلة؟ لكن, لنن كان لي وريث فهو ليس وحيدا حتما.
– أجل, هما اثنان الآن. وهما السبب في بيعي الأرض والبيت المتهدم. أنت تعرف أن هذا هو السبب الأساسي لا أية نزوة أخرى.
. تصرفت بحكمة يا محمد، لهذا لم أحنق عليك حين سمعت ما سمعت. ثم صمت..
وصمت محمد أيضا. ثم وقف نظره على الطفلة التي دخلت الى صالة الحلاقة من الباب الداخلي.
– أبي, أبي – رن صوتها الطفولي.. وحين رأت انسانا غريبا خافت وفرخت أبي, ي..
صارت عيناها اللامعتان مستديرتين, وفغرت فاها فلاحت أسنانها البيض الدقيقة.
قال محمد:
– هس.. تعالي الى هنا – اقتربت الطفلة فاحتضنها – كيف تخافين يا ناني.. هذا هو العم محمود وقد جاءنا ضيفا – نظرت الطفلة الى محمود مواربة – أنت لن تخافي منه أليس كذلك؟
– أمي تريد نقودا لشراء الفليفلة يا أبي.
مد محمود يده الى جيب سترته آليا.. أخرج قطعة النقود التي اعطوها له صباحا وأعطاها للطفلة. صرخت ناني خائفة.
– ماذا تفعل يا محمود, أعد نقودك – وداعب وجنتي ناني – هذه طفلتك يا محمود.
أخفت الطفلة وجهها في حضن محمد وتشبثت أصابعها بحافة المنضدة – لا تخافي يا ناني.
ترك محمود النقود على المنضدة. انبسطت سرائره فبدا أكثر تجهما, وقتمت عيناه. سأل محمود:
أهذه طفلتك؟
أحنى محمد رأسه وأخفى وجهه في شعر ناني ثم أجاب بألم.
– الله وحده يعرف ذلك يا محمود. فاذا لم تكن طفلتي فهي طفلتك وثب محمود مستثارا من المقعد. حدق الى صديقه:
– محمد – قالها بحدة وعانق محمد ناني – أيعني ذلك أن مارني هنا؟
أومأ محمد برأسه فعاد محمود الى الجلوس.
– أنت تعرف كل شيء الآن يا محمود. أنت تعرف وضعي
ووضعنا.
وأنت تعرف كذلك أنه ليس في مقدور أي رجل أن يقول لأي منا الطفلة. ناني طفلتك وطفلتي.
– الآن أفهم.. الهذا أتيت بي الى هنا.
– أجل يا محمود, ليس لدي ما أضيفه. أنت تعرف الحقيقة كلها. فشننا أنك مت فحدث ما حدث, وبعا أنك تعرف كل شيء فقد ترى أن العالم يضيق على كلينا. الا تفكر بذلك؟ وضع محمود يده على المنضدة
– أنظر الى يدي
– أالى مقدار نحولها؟
– الى مقدار نحولها, كرر محمود – لا يا محمد. العالم غير ضيق على كلينا. لا أريدك أن تختفي عن الأرض. أنا متعب جدا، وقد لا أبقى طويلا. سأذهب بعد أن علمت أن مارني في مكان أمين.
ثم نهض.
– أنتظر – أوقفه محمد فوقف – لم تر سوى ناني، وتريد أن تأهب, الا تريد أن تقابل مارني؟ الا ترغب في أن تجلس طفلتك على ركبتيك قليلا: إنها طفلتك أيضا.
وصمت محمد
لم يجب محمود.فصرخ بصوت مرتفع
– مامي ! وحدق الى باب تحجبه ستارة.
– أيتحتم علي ان التقي مارني؟ سأل محمود وجلا
-لماذا لا تلقيها؟أليست زوجتك؟اطعني يا محمود. دعني اصبح ضيفك,وصر انت رب البيت.كل شيء هنا مشترى بالنقود التي بعنا بها الارضك.الافضل ان تذهب وحدك للقاء زوجتك. واذا شئت فساترك هذا المكان وامضي الى الابد
– ما جدوى هذا. ولماذا يجب أن أعيش؟
– لا تتكلم هكذا يا محمود. أناشد فيك مشاعر حب الذات.
أطعني وقابل زوجتك وصاح ثانية- مامي!
وجاء من الداخل صوت نسائي.
– منذ أن حسبناك ميتا يا محمود, يا الله, صار يحزنني جدا أن أنظر الى الحال التي آلت اليها زوجتك… أشفقت عليها.. وأنت تعلم أن الرجل يحتاج الى المرأة والمرأة تذهب الى الرجل, وهكذا تزوجنا.
– الاشفاق هو أقل الأشياء قيمة في العالم يا محمد. ولم أتوقع أن يتزوج الناس اشفاقا.
لم يجب محمد. ظلت ناني تبكي. وظهرت امرأة شابة على العتبة.
– لماذا تناديني يا محمد؟
أومأ لها محمد برأسه
-عندنا ضيف تعالي أجلسي معنا.
ترددت المرأة لحظة, فهي لم تكن مستعدة لهذه الدعوة. لكنها اقتربت وجلست.. ثم حدقت الى وجه الضيف.
– محمود؟ صرخت. مدت يديها لتحتضن زوجها.. لكنها أحجمت.. سقطت يداها على المنضدة ثم أجهشت. علا بكاء ناني. زادت الحركة في الشارع. شحب وجه محمد وسقطت دمعة في شعر ناني التي يعانقها.
وصمت الثلاثة. وكذلك ناني – ناني الصغيرة التي لا تفهم شيئا لم تعذب نفسها بالسؤال: طفلة من أنا؟ ستقف حين تكبر أمام هذا السؤال ولن تستطيع الاجابة عنه طوال حياتها. لم تكف مارني عن النشيج.
صار لها، فجأة, زوجان. ليس ثمة انسان أتعس منها: انشطرت أفكارها, انشطر فؤادها، فهي لا تعرف ماذا تفعل.. ولهذا صمتت. كان لا يسمع سوى نشيجها – إنه صوت روح لا تستطيع العودة الى جسدها.
انطلقت ناني من حضن محمد وتعلقت بأمها.
– أماه – نادتها, وأجهشت.
قال محمد:
-الأفضل أن ندخل الى البيت يا محمود.
ثم نهض وخطا نحو الباب الداخلي,
فرخت مارني خائفة:
– محمد! الى أين تذهب؟
أغلق محمد الباب ولم يجب, اقترب من محمود وقال:
– فلندخل. الناس كثيرون هنا.
فتح الباب قبل أن يتم كلامه, ودخل صالة الحلاقة رجل خفيف الثياب.
– أخبار غير مفرحة يا محمد.. زادوا الضرائب على الدراجات ايضا. نظر الجميع نحو ألباب. وناني أيضا. لحظ القادم الجديد حراجة الموقف. فانحنى واعتذر لكنه صرخ في اللحظة الأخيرة:
– محمود – واحتضنه سريعا وهو يهمس _ ظننت أنك مت. نهض محمود:
– لقد مت فعلا. واذا كنت ترى محمودا فهذا غير صديقك ذاك. اعني.
تخلص من معانقه واندفع نحو الباب ثم صار بعد لحظة في الشارع صرخت مارني ممزقة القلب:
– محمود!
– محمود. صرخ محمد أيضا ولم يتلق جوابا – نسيت النقود يا محمود – ولم يتلق أي جواب.
ونا داه القادم الجديد فلم يجب محوا. نادت مارني:
– محمود ! أعيد وه, أعيد وه !
بكت ناني بمرارة وبصرت مرتفع. قفز الرجلان وركضا
الى الخارج. اندفعا نحو محمود الذي كان يسير متمهلا, من غير أن يلحظ شيئا مما حوله. صجيج الشارع متصل.
– الى أين أنت ذاهب يا محمود؟ أليس ثمة سقف فوق رأسك؟ ستبقى زوجتك معك, وستكون وفية لك. ولديك ناني – طفلتك.عد يا محمود. الأفضل أن أذهب أنا. تأرجحت كلماته في الهواء.
صرخ القادم الجديد:
– محمود ! أنا من أشار أنك مت.
– اتركاني, وعودا!
سأله محمد
– وماذا ستفعل:
– أنا؟ لماذا تسألني. لديك عمل ومنزل. لديك أحلام ودخل جيد. عد. ليس لدي شيء. ليس لدي خطط, ليس لدي أحلام. لا آمل شيئا. لا سيد لي, ولا أحتمل حتى نفسي.
– ليكن وما القبيح. في الامر؟ قال محمد مصرا وقد خرج صوته شبيها بنباح كلب جائع – ما مغزى حياتك في هذه الحال؟
ابتسم فحمود:
-أعرف الآن مغزى الحياة
– هل عرفته في السجن؟
– كلا, بل هنا.
– إذا كان الأمر كذلك يجب أن يبقى الاعتداد في صدرك.
– لم يعد لدي اعتداد.
– ما مغزى الحياة؟
ابتسم فحمود:
– غريب, لم أعرفه إلا الآن.
– لماذا يعيش الانسان؟
– ليدفع الضرائب.
وصل الثلاثة الى جسر نهر تشيليغونغ. وقفوا واستندوا الى الحاجز. قال محمود مفكرا:
– أنظر الى هذه المياه. أنا أيضا جزء من الطبيعة. أنا أيضا كالماء أو الحجر. لم أقهر الطبيعة. انظر الى هذه السمكة – قالها وكأنه يصرخ ثم قفز عن الجسر واختفى تحت الماء. راح الصديقان يصرخان:
– النجدة ! غريق !
اجتمع الناس. طغت فقاعات فوق الماء. راح بعض الناس يغطسون. مرت الظهيرة, حل الغسق سريعا، غسق لا مثيل له منذ آدم. ثم حل الليل. ليل أبدي لا نهاية له.
للكاتب الأندونيسي:براموديا انانتاتور
ترجمة: ميخائيل عيد (كاتب من سوريا)