رغم يومي الأول الحافل بالانطباعات عن غدانسك, كنت واثقا أنني لم أكتشف هذه المدينة أو التقط معالم تميزها بعد.وزاد من صعوبة تحقيق هذه الرغبة, أن المضيفين كانوا قد أعدوا برنامجا مزدحما لفريق الجزيرة الذي وصل منه في ذلك اليوم نبيل العتيبي من الوثائقية وأمجد المالكي من غرفة أخبار القناة العربية وسامي الدرباشي من إدارة البرامج والمنسق في مكتب المدير العام للشبكة معتصم أبو داري . لاحت لي بعد الغداء فرصة ساعتين خرجت خلالهما أبحث مع ثلاثة من الوفد التونسي عن مصرف, لتبديل بعض ما نحمله من يورو أو دولارات أمريكية إلى زلوتي بولندي لشراء ما نحتاجه.
قبل ذلك, كانت أغنشكا قد أبلغتني أثناء الغداء في مطعم الطابق السادس عشر, أنها ستذهب لاستقبال العتيبي وأبوداري والمالكي والدرباشي في مطار فاليسا, وقالت إن الثلاثة الأوائل سينزلون معي في فندق كوبوس. وقالت أيضا أننا جميعا مدعوون في السابعة مساء للعشاء في فندق راديسون ساس القريب من كوبوس, حيث سينزل الدرباشي والدكتور صلاح الزين.
انطلقت بعد تصريف العملة وحيدا إلى مجمع تجاري قريب من حوض بناء السفن, لشراء معجون حلاقة وأسنان ومزيل للعرق وعطر كنت قد جردت منها في مطار ميونيخ, أثناء تفتيش حقيبتي اليدوية قبل الصعود إلى طائرة لوفتهانزا.كان ذلك تطبيقا لحظر لم أكن أخذه قبلا على محمل الجد. وهو يحرم المسافرعلى الرحلات الجوية في دول الاتحاد الأوروبي, من حمل مثل هذه الأشياء.
لم أجد صعوبة في العثور على ما أبحث عنه في المجمع, لكني تنبهت إلى أن البضائع داخل المحلات مكتوبة باللغة البولندية وحدها, مما يضع الجاهل بها في حيرة عند بحثه عن أصناف مزيل العرق مثلا: هل هو للنساء أم الرجال؟.
أرجعني هذا الإهمال لاحتياجات السائح في بولندا, إلى أمر أكثر جدية سبق واختبرته وأنا أبحث عن المعلومات عن هذا البلد على الانترنت. فالصحف البولندية التي تمكن المتصفح من التقاط نبض البلد, يندر أن تصدر طبعات باللغات الأجنبية. بل أنني لم أعثر بين أكثر من ستين صحيفة ووسيلة إعلام بولندية على موقع كيدون المتخصص, إلا على واحدة تصدر نسخة بالإنكليزية. وهي لم تقدم أو تؤخر في تزويدي بالمعلومات التي احتاج.
وتأكدت لاحقا من هذا الانطباع عند فشل محاولاتي في وارسو, للحصول على نسخ ورقية بلغات أجنبية من الصحف البولندية الكبرى.النسخة الوحيدة المكتوبة بالانكليزية كانت لصحيفة تابلويد أسبوعية تدعى «وارسو بيزنس ويك» فيها أربع صفحات للسياسة, والباقي وهو قليل أيضا, يغطي أخبار الاقتصاد والأعمال.
بعد خروجي من محل أدوات العناية الشخصية, وجدت امرأة تبيع تفاحا من الحجم الكبير من نوع إيطالي معروف بالخليج باسم «pink lady» لم أقاوم الرغبة بالشراء, خصوصا أنني معتاد على التهام واحدة كل صباح بعد رياضة نصف الساعة. ثم عدت إلى الفندق بسيارة تاكسي.وعندما استفسرت في اليوم التالي من أغنيشكا عن منشأ التفاح ذاك, قالت إنه من بساتين غدانسك. وضحكت طويلا عند علمت بعادتي اليومية المتعلقة بالتفاح.
أتيح لي أن أكتشف منفردا أول المعالم المميزة لغدانسك, عندما خرجت من الفندق قبيل السابعة مساء في اليوم ذاته, باتجاه فندق راديسون ساس لحضور حفل العشاء. كنت أعتقد وقتها أنني لمحت علامة راديسون ساس الذي قيل لي أنه الوحيد من هذه الفئة في غدانسك. عبرت نفقا أسفل الشارع إلى الاتجاه الآخر سيرا, وذهبت بالاتجاه الذي افترضت أن الفندق يقع فيه.
مررت بمبنى مدهش له هيئة البرج, دائري الشكل وتعلوه قبة قرميدية يعيدك منظره إلى أوروبا القرون الوسطى.عبرت جسرا حجريا قديما على أحد فروع نهر فيستولا ثم سرت بمحاذاة النهر. وهناك اكتشفت أول مشهد يؤشر إلى مغادرة هذه المدينة عصر النظام الاشتراكي: نحو 12 يختا فاخرا ترسو في قناة متفرعة من فيستولا.
كان هذا أكبر مؤشر بالنسبة لي على خروج هذه المدينة من تقشف العصر الاشتراكي إلى فضاء البحبوبة والثراء. وخلال 21 عاما فقط. وهي مدة قصيرة بتصوري ليقفز بعض ساكني المدينة من زمن الفاقة, إلى زمن الثراء الذي يمثل امتلاك اليخوت أحد أبرز علاماته.
مضيت باتجاه مبنى ترفرف بعض الأعلام على واجهته, في محاولة أخيرة للوصول إلى راديسون ساس مع بدء حلول الظلام. وعندما وصلت إليه واكتشفت أنه ليس الفندق المقصود, أدركت أنني سرت في اتجاه خاطئ, فأوقفت سيارة تاكسي كانت تقف على المدخل وأبلغت السائق بمقصدي, فانطلق بالاتجاه المعاكس للاتجاه الذي كنت أسير فيه, وأنزلني أمام راديسون ساس. هناك كان الجميع في بهوه: وفدا مصر وتونس وزملائي القادمون من الدوحة.
في اليوم التالي كان موعد المؤتمر.اختار له منظموه عنوانا يربط تراث حركة تضامن البولندية في مقارعة نظام شمولي بتطورات العالم العربي وبدور الجزيرة. فكان: «تضامن الأمم, الديمقراطية, وحرية الإعلام في القرن الحادي والعشرين».
التقي فريق الجزيرة باستثناء الدكتور صلاح الذي لم يكن قد وصل بعد, في فندق راديسون ساس في التاسعة صباحا. وذهبنا نحن الخمسة وبعض أعضاء الوفد التونسي المقيمين في الفندق بصحبة أغنيشكا سيرا على الأقدام إلى أكاديمية الموسيقى حيث سيعقد المؤتمرفي إحدى قاعاتها.
مررنا في ذات المكان الذي كنت أبحث فيه البارحة عن راديسون ساس. نبهتنا أغنيشكا إلى العمارة القروسطية دائرية الشكل التي لفتت نظري. فأكدت أنها بنيت فعلا في هذا الزمن وأنها هدمت خلال الحرب العالمية الثانية جراء القصف, وأعيد بناؤها مع باقي مباني غدانسك التي تعرضت لتدمير شبه كامل. لكن الفرق بين الحجارة القديمة والحديثة على جدارها الخارجي واضح للعيان.
لكنها لفتت أنظارنا إلى أن الطريق الذي نسير فيه يدعى طريق الملوك. وهو طريق حجري في غالبه, يخترق وسط المدينة ويمر أحيانا من أسفل مبان لها أقواس.من هنا كان يمر ملوك بولندا بمواكبهم وخيولهم قالت أغنيشكا.
ألقينا نظرة على المباني.معظمها مكون من ثلاث أو أربع طبقات بنوافذ كثيرة وبلا شرفات. تنتهي الطبقة أو الطبقتان الأخيرتان بواجهة مكسورة الأضلاع على الجانبين لكنها تضم في إطارها ثلاث تشكيلات معمارية أشبه بالأقواس. لم يسبق لي مشاهدة هذا النوع من المباني قبلا, لكني وجدته قريبا من نمط العمارة السائد في الدول الاسكندنافية وهي قريبة جغرافيا من غدانسك ولا يفصلها عنه سوى بحر البلطيق. إلا أن الدكتور صلاح الزين أرجعه عند مرورنا, من هناك بعد انتهاء المؤتمر, إلى نمط العمارة الألماني, وذكرنا بأن تخصصه الأكاديمي الأساسي هو تخطيط المدن.
التقطنا صورا للمبنى الأكبر بين مباني شارع الملوك. الواقع والصورة لا يختلفان بسحرهما, وبما يمثلانه من عمارة مميزة حوفظ عليها. لكن اكتشافنا لروح المدينة في عصرها الراهن لم يكتمل فعلا إلا في اليوم التالي وكان يوم أحد.
بدأ هذا اليوم في التاسعة صباحا بزيارة جديدة إلى مدخل حوض بناء السفن.كان فريق الجزيرة المكون من ستة أفراد كاملا بعد حضور الدكتور صلاح في اليوم السابق.وقفنا على مدخل ما يشبه الملجأ وضعت أمامه مدرعة روسية الصنع بثماني عجلات كتبت عليها أيضا عبارة «ميليشيا».
قرعت أغنيشكا جرسا على مدخل الملجأ فلم يفتح أحد. ضربت بكلتا يديها دون نتيجة.وبعد اتصال من هاتفها الخلوي بجهة نجهلها, فتح الباب فدلفنا إلى الأسفل. كان المكان عبارة عن ملجأ, ثم أصبح متحفا يضم عينات تعيد الزائر إلى صورة العهد الاشتراكي لبولندا.
في المتحف ذاك وضعت صورا لطوابير المنتظرين أمام المتاجر وهو مشهد كان مألوفا في بولندا وسائر دول المعسكر الاشتراكي في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي.وأضيف إلى الصورة تسجيلات صوتية حية لدمدمات المنتظرين في الطابور ولجدل مرير بين سيدتين على الأولوية.
في احدى الزوايا أقيم مجسم لسيدة عجوز منحنية الظهر, تحمل ما ظفرت به بعد ساعتين أو ثلاث من الانتظار: مجموعة من أوراق التواليت. في زاوية أخرى أقيم مجسم لحمام منزلي من ذلك الزمن علقت فيه أوراق الصحف التي كانت تستخدم بديلا لورق التواليت.
دهش زملائي لمشاهدة هذه المعروضات, ولا أعرف إن كانوا صدقوها. لكني شعرت برغبة بالضحك. وكنت أضحك في سري فعلا, لأنني سبق أن شاهدت هذه المجسمات بصورتها الواقعية: الرفوف الفارغة إلا من قطع خبز متناثرة. دولاب الجبن الوحيد في واجهة براد المتجر, الزجاجات الفارغة بأشكالها المميزة, والمرصوفة في صناديق بلاستيكية قرب البائع.
أعادني متحف حركة تضامن بغدانسك إلى أيام دراستي الجامعية في بلغاريا قبل عشرين عاما. كل ما عرض كان حقيقيا وواقعيا وقاسيا. وهو يظهر نمط حياة كان الناس فيه مضطرون للبحث عن حاجياتهم اليومية الأساسية, والانتظار لساعات للحصول عليها, محددة من قبل الدولة, بالغرام والقطعة والعبوة.وفي كثير من الأحيان ينتظر الناس شيئا, وبعد الانتظار الطويل, يحصلون على شيء آخر لا يتوقعونه, فلا يترددون بأخذه, لأنه سيختفي لاحقا لا محالة .كل ذلك كان يتم, بمشيئة جهاز بيروقراطي يحتقر آدمية البشر.
كان المتحف يضم أيضا صورا ومجسمات لكفاح حركة تضامن ضد النظام الشمولي.وقيل لنا أن موقعه هذا أقيم مؤقتا في الملجأ, إلى حين اكتمال بناء المقر الجديد لمؤسسة تضامن الأوروبية داخل حوض بناء السفن, لنقله إلى هناك.
دعينا إلى حوض بناء السفن. وجلنا في المتحف الذي كنت قد شاهدته قبل يومين. ثم انتقلنا إلى مبنى مجاور حيث التقينا سينمائيين بولنديين كانوا قد أعدوا أشرطة وثائقية عن احتجاجات ثمانينات القرن الماضي بعد فرض الحكم العسكري, وعن الخلايا التي كانت تطبع في السر المنشورات المكرسة لدحض ما تبثه الماكينة الإعلامية للنظام. شاهدنا بعض الأشرطة, والنسخ الأصلية لصور فوتوغرافية تؤرخ للحقبة ذاتها, كانت صاحبتها بين الحاضرين. لا بل أن مسؤولة الجهاز الإعلامي ذاك, دلتنا على نفسها في صورة تظهرها قبل عشرين عاما, وهي تستعد لشراء شريط كاسيت من بائع يعرض بضاعته على رصيف في بلدة سوبوت.
كان ذلك هو يومنا الأخير في غدانسك. طلبت من مضيفينا منحنا فرصة لقاء إمام مسجد غدانسك الذي كنت قد تعرفت عليه خلال جلسات المؤتمر في اليوم السابق. وأبدى معتصم ونبيل رغبتهما في زيارة المسجد, وزاد معتصم بإبداء الرغبة في إتاحة فرصة للوصول إلى أي نقطة على البحر لالتقاط صور تذكارية, تؤكد أنه زار ذات يوم مدينة مطلة على البلطيق .
ذهبنا معتصم ونبيل وأنا برفقة أغنيشكا إلى موقع المسجد. خلال رحلة الوصول إلى المكان نبهتنا إلى المبنى الأشهر في المدينة.وهي بناية سكنية متعرجة بطول كيلومتر واحد. لها أكثر من عشرين مدخلا ويعيش فيها سبعة آلاف شخص. باتت معروفة باسم الأفعى البوميرانية Pomeranian snake نسبة إلى المقاطعة البولندية التي تمثل غدانسك محورها. مررنا أيضا بمبنى مميز آخر, هو محطة القطارات. قالت أغنيشكا إنها أعجبت إحدى بلديات اليابان وأقامة نسخة مماثلة لها.
قبل وصولنا إلى المسجد, دلتنا أغنيشكا على منزل ليخ فاليسا.قالت إنه ما زال يقيم فيه ولم يغادره إلا عندما اقتضت ولايته الرئاسية في مطلع تسعينات القرن الماضي أن يقيم في قصر بلفيدير بوارسو.المنزل مكون من طابقين تحيط به حديقة واسعة جعلت له هيئة القصر. لكنه لم يكن كذلك.
قالت أغنيشكا أن فاليسا اشترى الأرض المحيطة بمنزله من مالكيها. رد نبيل بسؤالها عن حجم راتب فاليسا الشهري. فقالت إنه يتقاضى كرئيس سابق 24 ألف زلوتي أي ما يوازي ستة آلاف يورو (نحو 7500 دولار أميركي).
أعادني حب أغنيشكا لمدينتها, ومعرفتها براتب الرجل الأشهر في بولندا, إلى الحقبة التي كنت أعيش فيها في بلغاريا.
خلال فترة دراستي لم يعرف شعب بلغاريا سوى تودور جيفكوف رئيسا, لأنه حكمهم 33 عاما متواصلة.وقد توفي الرجل فقيرا بلا مسكن خاص, بعد سنوات قليلة من خلعه عام 1989 على يد إصلاحيين من حزبه بتأثيرتحولات شرق أوروبا. لكنه كان قبل ذلك اقترف إثم تمييز مسقط رأسه بلدة برافتس بالإعمار والعطايا, مما حولها من قرية تابعة للعاصمة صوفيا إلى مدينة عصرية. وخلق ذلك تاليا لدى سكانها شعورا بالحصانة والتميز.
نتيجة لذلك كان سكان قرية جيفكوف مصدر خوف وقلق بقية البلغار لمجرد أنهم متحدرون من ذات القرية.هذا ما لمسته ذات يوم عندما كنت أعيش في حي إستوك في صوفيا في شقة صغيرة مملوكة لزوجين طبيبين متقاعدين.حدث أن أبلغ أحدهم مالكي الشقة بأن العجوز التي تسكن في الشقة الواقعة تحت شقتي تشكو من ضجيج زواري, فأتى الطبيبان يتوسلان إلي ألا أتسبب للعجوز بأي إزعاج لأنها من سكان برافتس.
وصلنا إلى موقع المسجد غير البعيد عن منزل فاليسا. دخلنا سويا في وقت كان فيه الإمام ذو الأصل الفلسطيني هاني هريش يرفع من داخله صلاة العصر.أمضينا بصحبة هاني المقيم في بولندا منذ29 عاما نحو ساعة. وانضم إلينا لاحقا بولندي آخر من أصل فلسطيني هو خالد العلي رئيس فرع الرابطة الإسلامية في غدانسك والذي كان حاضرا في مؤتمر الأمس.
كان لحديث هاني عن المدينة وقع مختلف لأنه ممن عاصروا حقبة الاشتراكية وزمن الديمقراطية في بولندا. ولأننا لاحظنا أيضا أنه عومل مع خالد في مؤتمر تضامن بوصفهما وجهاء غدانسك المسلمين. قال هاني أن المسجد أنشئ عام 1986 بأموال عائلات من تتار بولندا ورجل أعمال فلسطيني من عائلة تركي كان يعمل في السعودية.وعن المدينة قال إنها كانت معروفة في ثمانينات القرن الماضي بوصفها مدينة جامعية لوجود كليات كثيرة فيها إضافة إلى كليتي الطب والهندسة العائدتين إلى الحقبة الألمانية.
لم يكن ذلك آخر ما عرفناه عن غدانسك. فقد أتاح لنا مضيفونا فرصة الوصول إلى شاطئ يؤمه السياح والمتنزهون. التقطنا صورا تذكارية. ولفت أنظارنا ابتعاد مرتادي الشاطئ عن التعري.
لكن الإنطباع الأخيرة عن مطار المدينة كان عند توجهنا إليه مساء كي نستقل الطائرة إلى وارسو. كان هنالك مبنى حديث من ثلاث طبقات يجري وضع اللمسات الأخيرة عليه كي يحل محل المبنى الكالح الذي فوجئت بوجوده عند الوصول ولم أر وقتها غيره بسبب الظلام. وهو يحمل ذات الإسم «ليخ فاليسا».
[ [ [
[ فصل من كتاب سيصدر قريبا ببيروت بعنوان «تجربة بولندا، أرض ثورة ليخ فالسيا القلقة والمتحولة».. مشاهدات وانطباعات صحفي عربي زائر لبولندا في زمن الربيع العربي.