مراد ليمام
باحث وكاتب مغربي
تعددت المفاهيم حول العلاقة الجدلية بين التخييل والواقع في الرواية السيرية لكونها أحد المرتكزات الإبداعية، والطاقات الجمالية في عملية الإبداع الأدبي، والينابيع العميقة التي تسمح بضخ الأنفاس المتلاحقة التي يبوح من خلالها الخطاب السيري ببنية الاختبار الوجودي للذات المتكلمة بوصفها مصدرا للقول. ويتحقق هذا الأخير عبر مجموعة من الدلائل والمؤشرات والقرائن التي تؤسس من خلالها لغة الخطاب الروائي السيري مفهوم الذات باعتبارها أثرا للغة والخطاب. ومن ثمة، لا تعكس الرواية السيرية حقيقة أو واقعا يمثل بنية مادية محسوسة لأن الذات تشيّد عالما داخل خطاب له استقلاليته وخصوصيته التي تمتاح من العناصر المرجعية، لطرح الإمكانات أو الاحتمالات التي تفترضها كيفيات انسلاك هذه الذات في مجاري ووساطة التخييل والتمثيل السردي عند كل لحظة من لحظات توثيق الذاكرة. وبذلك، يغذو الخطاب الروائي السيري منسوجا من رقعة ثلاثية الأبعاد: ونعني الذاكرة، والتخييل، والمرجع. ويتكون كل بعد من خيط ذي تفرع ثنائي تتجاذبه ثلاثة ألوان: فالذاكرة تتفرع إلى ذاكرة فردية وجماعية على نحو يهبها لونا اجتماعيا وسياسيا وتاريخيا، بينما يتأسس المرجع على ثنائية الحقيقة والواقع وهو مصبوغ بمقولة الزمان والمكان والحدث. في حين يتألف التخييل من المحتمل والممكن النابع من الذات والتمثيل السردي والمعرفة.
بناء عليه، يُمسي الخطاب الروائي السيري أحد مفاتيح الكشف عن الهندسة المتقلبة للأنا بين المحور الإحالي المرجعي والمحور التخييلي بالحفر في تضاريس الماضي عن طريق التذكر والوساطة السردية التي تؤسس لهوية الذات. لذا، ينبغي استحضار الطبيعة المزدوجة لهذا الخطاب الذي يحتضن الواقع والمُفترض بشكل يراعي التعقيد الذي يطبع مساره التوليدي المُلتبس. ومكمن هذا الغموض هو حفاظ رواية السيرة الذاتية على المحور المرجعي وإعادة إسكان الواقع في المسكن الروائي بواسطة التمثيل السردي المحتضن لميزة الامتداد والانفتاح.
إن هذا الالتباس الذي يطبع رواية السيرة الذاتية دفع دوريت كوهن Dorrit Cohn إلى نعت هذا الشذوذ المميز لطبولوجيا الفعل الدال في الخطاب الروائي السيري وتوصيفه بـ”المخلوق الهجين2 créature hybride”. فالخطاب الهجين للرواية السيرية يسلط الضوء على الثنائيات الطافحة داخل مساحات القول به من قبيل “الصدق/الحقيقة، ما هو قابل للتحقق/ ما هو مُحتمل3” وفق تصور فيليب جاسباريني Philippe Gasparini، والذي يُقر بصعوبة التواصل بين المؤلف والقارئ لأن حقيقة الميثاق والعقد المؤسس للقراءة غير مُحدد وغير واضح. فغياب الخيط الناظم للقراءة قد يدفع القارئ إلى السير في الاتجاه المعاكس لمقاصد المؤلف مما يفتح الباب أمام مغامرة تأويلية لمواجهة الصعوبات والتحديات المطروحة: فالمؤلف -هنا- “يحتال لتمرير سيرته الذاتية4” faire passer en fraude. ولتجاوز تلك الصعوبات يقترح جاسباريني مباشرة “قراءة مزدوجة متزامنة5” double lecture simultanée تسمح للقارئ بمغادرة موضع المتلقي والمستهلك للتموقع ضمن ساحة التخييل السردي. بالمقابل، يقترح أرنود شميت Arnaud Schmitt مفهومي السرد الذاتي autonarration والقراءة بالتناوب لمواجهة التحديات المطروحة في هذا الجنس الأدبي الذي يُعدُّ في طور التكوين. ويُصر الناقد على أن السرد الذاتي يخلق من السيرة الذاتية سيرة أدبية عند انطلاق المؤلف من المحور المرجعي الذي يتعين تشييده باستخدام جميع تقنيات السرد المتاحة في الرواية. وللانعتاق من إحراجات الواقع/ التخييل في الرواية السيرية يقيم الناقد تفرعا ثنائيا بين الأنا والذات: “فالأنا هو الفاعل السردي، بينما الذات هي مُمثل هذا الفاعل والتي لا علاقة لها بالواقع، بل بالجهاز السردي الذي يعكس تلك الذات6”. يسمح السرد الذاتي بفك أقفال الخطاب الروائي السيري باعتباره “الشكل الأدبي المرجعي الذي يجعل من الأنا موضوعا للدراسة انطلاقا من التمثيل السردي للذات7”.
من هذه المنطلقات التحديدية سنحاول الوقوف عند بعض مآزق جنس الرواية السيرية لكونه انفلاتيا وعصيا على التصنيف ضمن “الفئات الجنيالوجية classes généalogiques8″، كما سنقترب من الغموض والالتباس الذي يتصف به “المشهد التوليدي9” الواقع بين حدَّي المحور المرجعي والتخييلي من خلال تقديم قراءة في الرواية المغربية “وادي اللبن10” للروائي عبداللطيف محفوظ. وسنستكشف من خلال هذه الأخيرة -بوصفها موضوع دراستنا- مساحات جديدة للتلقي، ومحاولات مغايرة للاستهلاك تستحضر القناع الذي يتخذه المؤلف “للتظاهر بالموت أو التخفي، في اللحظة التي لا يزال فيها على قيد الحياة داخل مؤلفه11”.
عتبات الخطاب الروائي السيري في وادي اللبن
إن أول ما يسترعي انتباه قارئ الرواية هو عنوانها والصورة على الواجهة الأمامية لغلافها: فالعنوان يُقحم معادله الموضوعي بوصفه الملفوظ المنشئ لصورته المحسوسة التي نعاينها بواجهة الغلاف (فرار مقاتلَين يلتفتان إلى الخلف إثر مطاردتهما من قبل الجنود بعد الهزيمة في إحدى المعارك قرب وادي اللبن بضواحي منطقة تيسة). وبذلك، تنقلب العلاقة بين الصورة والعنوان إلى تطابق جامع مانع يدّعي القبض على الموضوع المُنساب بالحيز الورقي للرواية أي: انتفاء المعنى المباشر للعنوان وجعل الصورة المحسوسة مدلولا يولد دليلا (العلامة) على نحو يدخل التأويل بمفهومه الواسع. وهذا يعني دخول القارئ باعتباره محفلا يهب التأويل أبعادا تستحضر المخزون الثقافي والذاكرة التاريخية والماضي البطولي لمنطقة تيسة بإقليم تاونات وما شهده من معارك طاحنة: بدءا من معركة محمد بن الشيخ لحظة مواجهة أبي حسون الوطاسي، مرورا بالمعركة التاريخية التي أنهت أطماع العثمانيين وحُلمهم بضم المغرب إلى إمبراطوريتهم عام 1558م، وصولا إلى المعركة السابعة بين جيش مولاي عبد الحفيظ والمتمرد الملقب ببوحمارة. وكأن العمل يؤسس لموضوعية الملحمة باستدعاء أفعال مضت وحوادث تشمل عالما بأسره من تقاليد وطبائع لدى أهل المنطقة، أو -ربما- يكشف عن التصدعات المؤلمة التي شهدتها المنطقة تاريخيا بتوثيق الانتصارات والإحباطات التي عرفتها… وينطلق هذا التأسيس أو الكشف من تفاعل النظام الروائي والواقعي داخل خطاب المؤَلَّف والموسوم بأسفل الواجهة الأمامية للغلاف من خلال كلمة رواية. كما يتعزز هذا الطرح من خلال الخطاب الافتتاحي الذي يتضمن تصريحا للكاتب يحاول بواسطته بناء أرضية مشتركة مع القارئ يوجه فيه وعيه قبل الدخول في علاقة حوارية مع ملفوظ الرواية السيرية. لكن توطين هذه الأرضية لا يعكس مقاصد الكاتب ونواياه، مما يجعل الخطاب الافتتاحي غامضا ومليئا بالألغام بشكل يثير انتباه القارئ ويُربك توقعاته. فازدواجية العرض التوليدي (التخييلي /الواقعي) في تعليق عبداللطيف محفوظ بمقدمة روايته يجعل من القراءة مغامرة، لكون القارئ يطأ حقلا مُفخخا يطرح تحديات حاول فيليب جاسباريني حلها من خلال توجيه فعل القراءة بما أسماه بالقراءة المُزدوجة المتزامنة، مقابل القراءة بالتناوب التي انتصر لها أرنود شميت، أو مفهوم “النقل التخييلي12” transposition fictionnelle لإيف بوديل Yves Baudelle.
إن غموض المسار التوليدي لرواية السيرة الذاتية يؤكده الخطاب الافتتاحي -كما قلنا- للكاتب ويدفعنا إلى القول بأن الرواية مُطعَّمة بإغراء السيرة الذاتية التي يُداخلها التخييل. فتصريح الكاتب يولد لدى القارئ الشعور بأن الواقع المتخيل يمثل الواقع أكثر من الواقع الموضوعي نفسه لأن “الواقعي متقطع، ومشكَّل من عناصر متجاورة دون مبرر، بحيث يظل كل منها فريدا وعصيا على الفهم لكونه يتولد فجأة13”. فالالتباس الذي نجده في الخطاب الافتتاحي لرواية وادي اللبن شبيه بالتعليقات الذي أدلى بها كتَّاب مشهورين أمثال بوريس فيان في مقدمة عمله “زبد الأيام” L’Ecume des jours، أو ألان روب غرييي Robbe-Grillet Alain، أو غوستاف فلوبير Gustave Flaubert في روايته السيدة بوفاري Madame Bovary. وتشير هذه التعليقات إلى أن القصص االمتخيلة حقيقية لكونها تمزج بين صياغة شخصية متخيلة وذكريات شخصية تُظهر الروابط الخفية بين الأنا المعاشة والأنا الحالمة.
ويمكن أن نتحسس هذه الصناعة الرمزية التي يضطلع بها عنصر التخييل في المقطع السردي الموجود بالواجهة الخلفية لغلاف الرواية: يتوقف السارد/الشخصية في هذا المقطع السردي واصفا حال الفلاحين وما يخلِّفه المطر من أخاذيذ على جبل بمنطقة تيسة يُدعى بجبل الملح، متسائلا –في الآن ذاته- عن مصيره لو لم يتنازل أسلافه بالمنطقة عن الأرض الواقعة بسفح الجبل لأحد شرفاء وزان ظنًّا منهم أن تقديم تلك الآراضي هبات سيُحصّنها ولن تطولها يد الاستعمار. ينقل لنا المقطع السردي لحظات تُمثل تحسر السارد/الشخصية (كمال) على الماضي والتأسف على حاضر كان من الممكن أن يكون مفارقا. ترى الشخصية نفسها هنا وهناك حينما تغرق أفكارها في ماضيها وحاضرها لتجعل من الزمن زمنا حُلمِيًا بفعل إدارة عقارب الساعة إلى الوراء، ليولد السرد خلطة عجيبة تمزج بين التذكر والتفكر، الاسترجاع والاستبصار، التمني والتحسر، المتخيل والواقعي… وتكمن الصناعة الرمزية للمقطع السردي في كون فعل الكتابة يستعين بضمير المتكلم بوصفه وكيلا أو فاعلا ممثلا للذات، وموضوعا للكتابة، ومادة للحكي. فالكاتب هنا، يركب المقطع السردي باعتماد ذاتيته، وتجاربه على نحو يجعلنا نتذكر القولة الشهيرة لغوستاف فلوبير Gustave Flaubert “أنا هو السيدة بوفاري14”. وبتعبير أدق، تدل الكتابة عن الذات في المقطع السردي على ازدواجيةٍ وبناء يشير ضمنيا إلى أن الأنا (الشخصية/السارد) المُتخيلة هي الكاتب، وإلى أن المسافة بين الكاتب والسارد/الشخصية هي موضوع اشتغالنا. فسخط السارد/ الشخصية على الاستعمار والشرفاء ولومه أسلافه حين قوله (فلعنت، في سري، المعمرين ولعنت الوزاني، ولمت جدي…) يتيح إمكانية التعرف على ازدواجية الخطاب لحظة تحول الأنا موضوع الدراسة إلى الأنا موضوع التحليل ضمن مشهد سينوغرافي يعكس عدم رضا الذات عن ذاتها، والانزعاج من وضعها المادي. فعلى الرغم من كون الخطاب بظهر الغلاف يؤسس لتجربة الذات عبر فعل التلفظ وطريقة بنائه داخل المقطع السردي، غير أننا نستشعر الكاتب المُتستر وراءه. فإذا كان القصد يرتبط بالشخصية/ السارد (كمال) كما يظهر داخل الخطاب المباشر بضمير المتكلم (الأنا) لا بقصد الكاتب، فإن قصد الكاتب يُعدُّ بعدا من أبعاد هذا الخطاب لوجود العديد من المؤشرات والقرائن بالرواية الدالة على حضوره. ويطرح حضور قصد الكاتب هنا سؤالا حول المعرفة الممكنة للذات حول الذات عن طريق التمويه والإخفاء الإرادي أو اللاإرادي للحقائق، وحول علاقة المحور المرجعي بالمحور التخييلي في الرواية عن طريق تشييد مرجعية تخاطبية يحيل من خلالها ملفوظ الأنا إلى واقع مُتخيل أو بالأحرى واقع لا يتطابق مع الواقع الموضوعي.
يتضمن الخطاب الروائي السيري في مُؤَلف “وادي اللبن” طرائق تنسيقية تنظم العديد من المركبات وفق نواحي الجوار بشكل يوضح الارتباط الكامن بين السرد، والتاريخ، والتخييل، والذاكرة الفردية، والذاكرة الجماعية… فسيرة الفرد في الرواية استعارة مُصغرة للحياة قرب المناطق المجاورة لوادي اللبن في فترة من الفترات. لذا يمكن أن نفترض أن الرواية محاولة لبعث تاريخ جديد للمنطقة ينبني على الذاكرة والمتخيل الجماعي. ويعني ذلك، تأسيس شروط إنتاج معرفة تستبعد التاريخ الرسمي والتصور الأحادي السطحي في توثيق الحدث التاريخي والوقائع، وتعتمد على التمثيل السردي للذاكرة على نحو ينقل الخطاب الروائي السيري إلى مستويات وآفاق جديدة تتقاطع والبعدَ الاجتماعي والسياسي والثقافي للمنطقة. وبهذا، تغذو الشخصية الروائية السيرية صورة مستعارة “ترتبط برهانات المعرفة: نقل الذاكرة الجماعية، والإبانة عن وحدة الثقافة، ورسم تحولات العالم15” داخل الدينامية السردية التي توثّق لتداعي الذاكرة حين يُدَاخِلها التفكير والتأمل الآني لحظة الكتابة.
وتجدر الإشارة إلى أن أول ما يسمح بتأسيس الطرائق التنسيقية للخطاب الروائي السيري هي التعددات القياسية للعتبات الموجودة على الواجهة الأمامية للغلاف، وبظهر الغلاف، فضلا عن التعليق الوارد بالخطاب الافتتاحي. كما تسمح بتعبيد المسار الفني والجمالي لاستقبال الرواية من منظور يستوعب التناقض والغموض الذي يطبع هذا الجنس الأدبي. مما يعني وضع العمل ضمن سياقه الأدبي انطلاقا من قراءة تأخذ بعين الاعتبار مفارقات هذا الجنس والمؤسسة للغز عمل عبداللطيف محفوظ، الذي -ربما- يريد من قارئه أن يتناوله بناء على رؤية فنية نقدية تكسر الحواجز بين الأجناس الأدبية. ومن بين الخيارات الفنية لتلقي هذا الجنس الأدبي مفهوم الفجوة أو المسافة الجمالية في نظرية التلقي، التي تولد النشاط التأويلي للقارئ، وهو نشاط موجه إلى “التفاعل الحاصل بين ذاكرة النص والقارئ16” لا إلى رصد المعطيات الواقعية وفرزها. إن تفعيل النشاط التأويلي ضمن مسافة التوتر الفاصلة بين المحور المرجعي والمحور التخييلي في رواية “وادي اللبن” لعبداللطيف محفوظ يتحقق بداية من التداخل الحاصل بين عتباتها. فهذه الأخيرة بمثابة الإجراء التوليدي المُوَجِّه لتلقي الغموض المولد لمسارها، ولاستكشاف بعد جمالي آخر عبرها، ولنيل مصدر إضافي لمتعة القراءة بواسطتها.
علاقة الذاكرة بالمسار التوليدي لرواية “وادي اللبن”
لا شك في أن قارئ رواية وادي اللبن سيكتشف امتداد خطابها إلى المُجتمع عند سرد التفاعلات بين الشخصيات وجميع العناصر المُشتركة لجيل الكاتب عبداللطيف محفوظ. ويمكن أن نُعاين الأمر في العلاقة الحوارية المختلفة مع الماضي والتي تتسم بالنقد والتعرية بشكل يجعل القارئ يُقر بأن المسألة لا تتعلق بإضافة بعد اجتماعي أو تاريخي للشخصي أو الفردي، بل ترشيحهما بفضل الاجتماعي أو الجماعي، وبفضل تاريخ المنطقة المجاورة لوادي اللبن بإقليم تاونات.
يدفعنا هذا الأمر إلى التساؤل عن كمية الجرعة التاريخية في الأحداث المسرودة بالماضي من قبل الشخصية/ السارد، وإلى معرفة كيفية توظيف هذا التاريخ قصد كشف صحته أو تعقب القرائن التي تكشف عنه. وبهذا، تتحول رواية “وادي اللبن” إلى وعاء للذاكرة باعتبارها “مجموعة من الممارسات التي تهدف إلى بناء هوية كل شخص، أو كل مجتمع، أومجتمع مُصغّر17”. ومن ثمة، يتيح التوثيق السردي للذاكرة الكشف عن مقصدين أساسين للرواية وهما: إعادة بناء الأحداث وبناء هوية فردية وجماعية في محاولة لفهم الحاضر المُستقل عن الماضي والمولد للمستقبل. فالتمثيل السردي لشظايا التاريخ عبر وساطة التذكر الفردي والجماعي هو طريقة لكتابة الحاضر وطَرْق أبواب ومسالك مغايرة للفهم والتأويل: إنه المَعبر الذي يسائل من خلاله الكاتب تاريخ المنطقة بحسب الأحداث والوقائع المسرودة.
فالمسار التوليدي للخطاب السيري في رواية “وادي اللبن” يفترض وجود تفاعل اجتماعي أثناء عملية التلفظ، فضلا عن تعددية خطابية متداخلة يُحدَّد من خلالها النص المُنفتح أمام وعي القارئ. فالنص السيري الروائي خطاب يُمَثِّلُ حدثا معطى في علاقة مع مجموعة من الخطابات الأخرى أثناء عملية التشكل السوسيو-خطابي socio-discursif يتداخل فيه الخطاب التاريخي لمنطقة تيسة، والخطاب الديني والسياسي عبر التوظيف الرمزي للسياسة سواء في فصل بعرة الشريف (ص49) أو في فصل لعنة الروايات (ص141)، والخطاب اللساني من خلال علم الأعلام الجغرافية (طوبونيميا) الذي تم توظيفه لمعرفة كل ما يتعلق بتسمية الأماكن بمنطقة تيسة والتحولات الطارئة تاريخيا بناء على دراسة السيميائي المغربي عبده الفيلالي في فصل رأس خيط الكبة المُخبل (ص 115)، والخطاب النقدي السيميائي الذي يعكس السيرورة المعتمدة في إنتاج الدلالة: الانطلاق من سرديات (قصة عبد الله أعراب والفراط)، ومعلومات لمؤرخين (الفشتالي، وابن زرع، وابن خلدون، واليوسي، ولازاريف، ومحمد المودن، ومحمد مزين، وعجيسة بن ولدان…)، وأقوال شخصيات (شخصية مصطفى،وجلال، وكريم…). تهب هذه الخطابات السارد/الشخصية (كمال) النقطة الأولى لإرساء الدلالة المتعلقة بمصدر التاج والوسام السلطاني. فهي تُمثل المعرفة والشرط الموضوعي لإدراك ما هو مُفترض داخلها، ولإطلاق سيرورة اشتغال المؤول الديناميكي عبر فتح باب التأويل، وبالتالي تحيين تلك الخطابات عن طريق تأملات الذات واستقصائها، ثم إيقاف تلك الحركية والسيرورة كل مرة عند مرسى دلالي. ويشكل هذا الأخير دليلا جديدا تُواصل بواسطته حركية التأويل سيرورتها (استقرار عائلة أسلاف شخصية المهياوي قبل القرن العشرين أو في بدايته)، أو عدم الاقتناع في كل مرة بمعلومات أو محكي عن قصة الفراط وأعراب. ويمكننا أن نستدل على ذلك بقرينة لفظية من الرواية حين تصريح السارد/ الشخصية (فرضت علي نتيجة تحليلي هذه المعلومة الجديدة، أن أبحث، في تاريخ تمرد بوحمارة، ص164) أو في عنوان الفصل الأخير من الرواية الموسوم بـ سديم التاريخ وسراب التأويل (ص179). وتعكس عملية التشكل الخطابي الوسط الذي يتم فيه توليد النص السيري لرواية “وادي اللبن”: “النص يحيل على سلسلة الخطابات المروج لها داخل الحقل الثقافي للتشكل الخطابي (الذاكرة المرتبطة بجماعة ما والفرد داخل نفس الجماعة)18”.
تتولد الخطابات التي تشكل بنية الملفوظ السيري في رواية عبداللطيف محفوظ أثناء فعل التذكر وكتابة ما يتم تذكره سواء كان حوادث شخصية ترتبط بالطفولة وهي استرجاعات دافئة (ص30) تقيم صلات وصل عميقة مع العمل السيري السابق للكاتب والموسوم بـ(رهاب متعدد)، أو وقائع تاريخية شهدتها المنطقة وتحفظها كتب التاريخ. فالحوادث الشخصية المسترجعة تقدم مستوى قيميا أخلاقيا تؤسسه اللغة على ما هو مرجعي عبر تشخيص القيم الاجتماعية السائدة في الستينيات والسبعينيات بمدينة فاس (وضع المارة بشارع محمد الخامس/ طقوس أيام الجمع بالنسبة للحرفيين والتجار/ والعرف المتمثل في خروج النساء رفقة أطفالهن للاستجمام، صص 30-31/ دهليز مخفر الشرطة رفقة عمر التاهلي ص36)، أو بمنطقة تيسة (حدث فيضان وادي اللبن وضياع ممتلكات الفراط وأسرته خاصة الصندوق الحامل للوسام السلطاني، ثم التضامن الذي أظهره السكان لتعويض ما فقدته الأسرة). وتتداخل العديد من الحوادث الشخصية مع وقائع تاريخية شهدتها المنطقة من قبيل قصة الوسام السلطاني الضائع من الفراط والتاج السلطاني لعبدالله أعراب وعلاقتهما بالوقائع التاريخية في المنطقة.
وتعتمد الرواية في التمثيل السردي للأحداث الماضية على تقنية تداعي الذاكرة، والتي تمزج بين التذكر والتفكير بشكل يتيح التعرف على الوجود المُحتمل لمستويين زمنيين: زمن له صلة بفترة الطفولة المسترجعة وفترات تاريخية معينة، وزمن استرجاع تلك الفترات لإحياء قيم والتشكيك في نظام من القيم. الربط بين المستويين -يشكل أحدهما الحاضر- يعني مواجهة الإرث التاريخي للمنطقة بشكل يقود نحو التشكيك في الدلائل (العلامات) التاريخية بالاستناد إلى نموذج تحليلي تنهجه الشخصية الرئيسة، ويضمن تنظيم الكاتب لفعل السرد عبر فترة زمنية مزدوجة. وباعتماد هذا النموذج تتجنب رواية “وادي اللبن” السقوط في النزعة الماضوية بتمجيد الماضي أو التاريخ الرسمي، لأن التاريخ والحقائق تُفهم بشكل أفضل كلما ابتعدنا عنها.
كما أن التدرج الكمي للأحداث التاريخية في الرواية يعتمد منظورا كيفيا أي: التدرج بين الإشارة إلى حقبة غامضة تعكسها جملة في الفصل الأول (سرق رجال التحرير تاج جدنا الذي أهداه إياه السلطان)، ثم تقديم أحداث تلك الحقبة بشكل تدريجي -يمكن أن نلمسه بالانتقال من فصل إلى آخر-، والاشتغال على هذه الأحداث. فالصيغة المُعتمدة في إدماج التاريخ في رواية “وادي اللبن” لا تجعل منه صورة جامدة، بل هو المشهد الذي يتم فيه إعادة بناء الذات والهوية الفردية والجماعية. وبذلك، نشهد توسيع ساحة الحاضر الذي يتغذى عن طريق فعل التذكر من الماضي أثناء البحث النشط لاكتشاف جذور الحاضر وهويته في الماضي القريب (الطفولة) والبعيد (الوقائع التاريخية).
كل هذا يدفعنا للحديث عن علاقة الذاكرة بالرغبة في رواية عبداللطيف محفوظ أي: تَحوُّل حاضر الشخصية بالكامل إلى ماض للتحقيق والبحث النابعين من رغبةِ وذاكرةِ هذه الشخصية المسؤولة عن سرد القصة المزدوجة لكونها منغمسة في الماضي ومتسائلة بخصوص فترة لم تعشها. وهي رغبة تنحو اتجاه خلق مسار فكري يخترق التاريخ الرسمي: فلم تُعط معركة وادي اللبن حقها ولم تُنصف بالشكل المرغوب فيه كما هو الشأن بالنسبة لوادي المخازن. وتتحقق تلك الرغبة عن طريق الإرادة التي جعلت الشخصية تنشد إعادة تشكيل تاريخ المنطقة باعتبارها فردا من جماعة بشرية تطمح إيجاد البديل الإيجابي لمشكلات حاولت تلك الجماعة البحث عن حل دال لها. فالرواية تعكس رؤية جماعية و”وجهة نظر متعددة توحدت حول مجموع الواقع19″ بمنطقة وادي اللبن، كما أن خطابها “يسجل أحوال أمة محددة التاريخ والمساحة واللغة، ومحددة خيبات الأمل20”.
وتجدر الإشارة إلى أن الرواية ليست تاريخية بل تنطلق مما هو تاريخي ومعروف لتبنيَ مرجعا تخييليا يسائل قضية الحقائق التاريخية من خلال الشخصية الرئيسة والكاتب. فكلاهما لا يحتفظ بكيان مستقل بل هناك تجربة إسقاطية تفاعلية يحمل قسماتها الخطاب السيري الروائي. فالعملية التفاعلية تخلق سمات هذا الخطاب المستقل عن محوريْ تكوينه التخييلي والمرجعي والمشدود إليهما في نفس الوقت، مما يجعلنا نتحدث عن استعارة تفاعلية تفقد فيها الثنائيات وجودها المستقل (التخييل/ المرجع، والكاتب/ الشخصية، والذاكرة الفردية/ الذاكرة الجماعية، والأنا/ الآخر، والماضي/ الحاضر…). ويكون ناتج هذا التفاعل تنشيط الذاكرة وإعادة الحركة في التاريخ والماضي لبعث الحياة فيهما بشكل يستجيب لتطلعات الجماعة والفرد من خلال الصرخة التي أُطلقت في أحد المقاطع السردية الأخيرة من الرواية بشكل يعكس تصدعات الصمت التي تسكن تاريخ المنطقة، وذلك حين قول الشخصية: آه يا تيسة، يا أرض الفروسية وحلبة القتال الشريف والضال، يا مهبط الموت والحزن، يا مأوى الفقر واللااستقرار…(ص187).
علاقة “المشهد السينوغرافي21” بلعبة الضمائر في رواية “وادي اللبن”
إذا كان السرد فعلا متعديا يستدعي مؤلفا وموضوعا للكتابة، فإنه يتطلب الشكل المناسب للتعبير عن مكانز الرحابة التي تجود بها الذاكرة وينسجها المحور التخييلي في حبائك النص. ففعل السرد متصل بعدد من العناصر الأساسية التي يمدنا بها نسق اللسان وفق ضوابط ثابتة قصد تأليفها، علما أن هذا التأليف أو التركيب يُسنِد للمتكلم دور المستعمل لهذا النسق على نحو يهبُهُ صفة المرسل الذي يتقاسم مع طرف ثان كفاية هذا الترصيف. هنا، ينبغي أن نميز بين وضعيتين: في الوضعية الأولى، نتحدث فيها عن الكاتب الفعلي للعمل الأدبي ونعني عبداللطيف محفوظ مؤلف رواية “وادي اللبن”. نلج في هذه الوضعية عالم النص الروائي السيري بوصفه نصا تتداخل فيه العديد من الخطابات التي تشكل بنيته: إنه جهاز تواصلي يمكن تحديده انطلاقا من الشروط السوسيو-تاريخية المتصلة بالنشاطات الاجتماعية والمؤسسات المنضوية تحتها مثل الدين، والأدب، والسياسة، واللسانيات… فالواقع في النص ممثَّل انطلاقا من وجهة نظر خاصة تعكس من يتكلم أو يكتب، ومرجعيته التاريخية والاجتماعية، والتي حاولنا ملامستها حين حديثنا عن علاقة الذاكرة بالمسار التوليدي للرواية. أما في الوضعية الثانية، فنستحضر القارئ الذي يتحاور مع جهاز أدبي خالص داخل زمن ومكان محدَّدين بواسطة السارد المتلفظ عبر النص. في هذه الوضعية نكون أقرب إلى مشهد تلفظي يمكن من خلاله أن يلتقيَ وعي القارئ بالنص المفصول عن شروط ﺇنتاجه… ففي رواية “وادي اللبن” يتأرجح “التلفظ المكتوب ضمن مستويين: الكاتب المتلفظ أثناء الكتابة، والكاتب الذي يجعل -داخل ما يكتب- الشخصيات تتلفظ. آفاق جديدة تُفْتَحُ أمام الأشكال المعقدة للخطاب انطلاقا من الإطار الشكلي المحصل عليه هنا22”. لذلك، سنتناول جهاز التلفظ في رواية “وادي اللبن” مادام” كل نص أو جزء من نص يضع صوب أعينه فعل التلفظ ذاته من أجل التأثير في المتلقي23″.
إن استعمال الضمائر في الرواية يدفعنا إلى التمييز بين الضمير النحوي وهوية الشخصيات التي تشير إليها هذه الضمائر. فهيمنة الضمير الدال على المتكلم المفرد يسمح بعرض الذاتي والجماعي دون مخاطر بحيث يشكل جهاز التلفظ أهمية مقارنة بمحتوى الرسالة. يتضمن الضمير البعد الاجتماعي والجماعي مما يجعل “الأنا تتحول إلى ضمير عابِر للشخصي24” je transpersonnel نحو الجماعي. تُجسد الأنا في خطاب الرواية السيرية حالة الانقذاف التي تعني الخروج من الواحد إلى المتعدد، لتؤلف تطورا لحركة تدريجية (تطور الحدث بالانتقال من فصل إلى آخر من فصول الرواية) وفقا لقانون التكامل المؤَسس على مبدأ الامتداد الجوهري للواحد الساري في شمولية الخطاب الروائي. كما أن ضمير الأنا انبثاق للذات وتفتُّحٌ لإمكاناتها، لأن الأنا توحد بين السارد والشخصية في الرؤية المصاحبة من أجل استدراج القارئ إلى عوالم منطقة وادي اللبن وفاس. فالصيغة السردية الدالة على الواحد هي انعكاس لصوت الجماعة وما تختزنه ذاكرتها من وقائع تاريخية وفق رؤية فنية تشخص الأفكار المجردة ضمن أحداث محسوسة. فالتمثيل التشخيصي للزمن المفقود أو التاريخ غير المكتوب لمنطقة وادي اللبن يتم تسريبه في أحداث وتعليقات للشخصية الرئيسة (كمال) وملاحظاتها في إطار تفاعلها مع باقي الشخصيات (المهدي، ومصطفى، وكريم، وجلال…).
فرغم هيمنة ضمير الأنا، توفقت الرواية -عموما- في التخلص من الذاتية الصرفة، والأنا المعزولة لقدرتها على تمثيل القيم ومساءلتها ضمن تصوير فني يستوعب مختلف الانتصارات والإحباطات التي شهدتها المنطقة في عالم مُتخيل يشبه الخلق الأسطوري للتاريخ بدلالات معاصرة. كما شكلت هذه الأنا نقطة تعادلية بين الفردي والجماعي، وبين الكاتب والسارد/ الشخصية، وبين السارد/ الشخصية والقارئ، وبين الكاتب والقارئ. تخلق الأنا في هذه الحالة لدى القارئ نوعا من الالتباس والغموض لكونه يبقى مترددا حائرا في أي من القطبين يتابع، ليكون في النهاية أمام خلق جديد هو ناتج العلاقة بينهما، وليكتشف جمالية الغموض التي تطبع هذا الجنس الأدبي.
فعندما يباشر الكاتب عبداللطيف فعل التلفظ موظفا ضمير المتكلم، فإنه يصُكُّ معادلة توهم بأناه الحيادي الذي يخلع عن الضمير السردي حضوره في الخطاب. وبذلك يكون السارد/الشخصية ماثلا وحده على نحو يلغي -ظاهريا- في الخطاب الحضور المتعين للكاتب. لكن هذه الحيادية لا تعني إلغاء الكاتب، بل تجعله يشغل خانة خارج ضمير المتكلم وباقي الضمائر دون أن يُفقده ذلك خصوصيته وتعيُّنه داخل الخطاب الروائي السيري. لاشك في أن إحساس القارئ بضرورة أن يُوجد الكاتب فاعلا مُتلفظا في الخطاب الروائي أمر طبيعي، على ألا يُفهم الفاعل نحويا أو سرديا، بل أنطولوجيا. فالكاتب يتمتع بوجود قبلي سابق على فعل التلفظ والسرد ذاته، وأما ما يأتي به السارد/الشخصية المتلفظ في خطاب رواية “وادي اللبن” فهو دلالة على حضور أحد أبعاد هذا الفاعل، إذ يمكن للقارئ أن يتعرف عليها دون عناء (سكنى الكاتب وشخصية كمال، وأصولهما، ومهنتهما…). وبذلك يمسي السارد/الشخصية مفعولا داخل حبائك الرواية لفاعلها عبداللطيف محفوظ الذي يعيد التقاء ذاته عبر ما يتلفظ به ذاك السارد. فالأنا توحي بالصيغة المحسوسة لتموضع الكاتب الحيادي الذي يخرج من حلقة ضمائر روايته ليقيم في وسط مغاير ومستقل عن وسط السارد/الشخصية، على أن هذا الاستقلال نابع من كون انفصال السارد/ الشخصية لا يتحقق إلا وهو حامل معه زمن الكاتب وزمن منطقة وادي اللبن المستعادين ليتم تجاوز ما كان منسيا ومفقودا في الذاكرة الفردية والجماعية.
إن استرداد الضائع، والمُبدد عن طريق تسجيل الكاتب للصوت السردي على سطوح روايته باسم شخصية كمال تُخرج التلفظ من خانة التعبير إلى فعل نداءٍ يريد أن يأتي بالمنسي في تاريخ منطقة تيسة ليصير معلوما. لكن هذا النداء يجلب معه نظامه الخاص والمطروح في سياق يزاوج بين الذات الفردية والجماعية التي تتخذها الأنا مرجعا. ولا توجد هذه الذات إلا مُضمرة في فعلها أثناء التلفظ تحت وطأة التصريف إلى الماضي أو المضارع. ذلك أن البنية المميزة للجملة في رواية “وادي اللبن” موكولة للفعل الذي يُكسب الذات الفردية والجماعية حق الانتساب إلى ضمير الأنا. فالبحث عن الذات في رواية “وادي اللبن” يتمظهر في مساحات تصريف الأفعال نفسها بحيث تُحدث (الذات) في زمن الفعل تغييرا عضويا يتحقق بولوج ضمير المتكلم في صميم بنيته. وبهذا لا نغالي إن قلنا إن الذات في رواية “وادي اللبن” لا تتحقق إلا وهي منخرطة في أفعال التذويت التي تؤشر على بناء هوية جماعية. فالتذويت في هذه الحالة لا يقتصر على تحديد وجهات التصريف للأفعال التي تجيء بالذات مضمرة في الأنا، بل يسعى إلى الإبلاغ عن الطريقة المؤسسة للهوية النقدية في الخطاب الروائي السيري لعبداللطيف محفوظ. ونعني عدم الارتياح لأي جواب نهائي عن كل سؤال موجه إلى الذات بخصوص المحكيات الفرعية ذات الصلة بمصدر التاج والوسام السلطاني، أو المحكيات ذات الصلة بالزمن الطفولي. هذا يؤشر على أن سؤال الذات بخصوص من تكون متعلق بلحظات التساؤل وظروفها المتباينة بعد سرد كل قصة متوالدة -أكانت متعلقة بالطفولة أو الوقائع التاريخية-، مما يدل مرة أخرى على أن الذات لا تملك ثباتها الخاص بمنأى عن طوارئ انشغالاتها المرتبطة بذكريات الطفولة أو الوقائع التاريخية لمنطقة تيسة ووادي اللبن: فجماع العلاقة البنيوية بين الفردي والجماعي في الذات يفسر أنها ليست سكونية، بل تكوينية تكاد توجد خارج هويتها.
ويرجع اصطناع الأنا -في الرواية- إلى الرغبة في الانطلاق من الحاضر إلى الماضي لاستعادة الزمن الضائع، وكأن الزمن المستعاد يحتوي الزمن الضائع الذي تؤسسه الحياة الأدبية للكاتب عبداللطيف محفوظ وشخصية كمال في الخطاب الروائي عندما تستحضر ذاكرة ماضيها الطفولي وذاكرة منطقة تيسة. كما أن التمثيل السردي للوقائع التاريخية التي شهدتها المنطقة تؤكد على حدود كل معرفة تاريخية: فشخصية كمال تنطلق من المحكيات حول منطقة تيسة والوثائق التاريخية ثم تنتقل إلى التفسير وإيجاد الأسباب من أجل فهم الأحداث والوقائع ذات الصلة بالتاج والوسام والمنطقة. إن إغراءات السرد الواقع في شراك الذاكرة القائمة على الصور المتبقية من الماضي الطفولي، والوقائع التاريخية ثُمثل في حاضر الأنا الفردية والجماعية الماضي الغائب. فاسترجاع الغائب والمنسي هو نسيان للإساءة وتصحيح للذاكرة الجماعية بمنطقة تيسة ونقدها ومحاولة إعادة الاعتبار لها. إنه بحث عن الاعتراف بالنسيان إنصافا لماضي تيسة، أو هو “تكذيب ذاكرة جماعة حين تنكمش على ذاتها وتغلق أبوابها لتعيش داخل عذاباتها وآلامها الخاصة بها25”.
لا شك في أن الأنا التي تحتوي الذات ظلت طيلة مسار الحكي أمينة لانتمائها ومنغرسة في تاريخ منطقة تيسة ووادي اللبن، غير أنها تخلق مسافة بينها وبين هذا الانتماء عند توظيف ضمير الغائب بالمحكيات الفرعية ذات الصلة بالوقائع التاريخية وذكريات الطفولة المعاشة بالمنطقة. ويسمح -هنا- ضمير الغائب بتبني فكرة أو دحضها دون أن يكون السارد شخصية مقحمة داخلها، كما يتيح توجيه السرد نحو الأمام انطلاقا من الماضي تأويل الوقائع التاريخية المطروحة بالمحكيات. فضمير الغائب في الرواية يخلق مسافة للتواصل مع الماضي دون أن تفقد الشخصية الرئيسة (كمال) انتماءها بوصفه انتماء مشروطا بوجود “علاقة تتأسس على مسافة تتأرجح بين الابتعاد والاقتراب. وبذلك، فالتأويل يعني أن نجعل قريبا ما كان بعيدا (زمانيا وجغرافيا وثقافيا)26”. فالتماسف الذي يتيحه الضمير السردي الدال على الغائب هو شرط التصحيح الديالكتيكي للانتماء الذي لم تختره الشخصية الرئيسة أو الجماعة في الحاضر لأنه كان قبلها، فضلا عن كون هذا الانتماء مُساهمة في تصحيح التاريخ الرسمي الذي يظل مفتوحا أمام كل جديد. هنا، يعلو الخطاب السيري في رواية “وادي اللبن” بالحقيقة والواقع عن طريق المحور التخييلي ليشكل عالما مبنيا على فكرة الانتماء والتماسف الذي يسمح بضخ مرجعية جديدة للوقائع التاريخية والتحقيقات التي تحيلنا إليها ما تختزنه المحكيات الفرعية. ونستشف هذا الأمر حين قول السارد/الشخصية: كنت أنوي، من خلال هذا الكتاب، الدعوة إلى مراجعة المواقف وتفسير التاريخ من خلال حقيقة الصنيع عوض مفعوله فقط، وذلك إنصافا إلى أسلاف أمي، لكنني خفت من مسؤولية الكتابة التجريدية التي تتطلب الاستناد إلى الوثائق الدامغة، وليس إلى الحدس بها، ففضلت كتابة رواية (ص176).
الخاتمة
تستدعي المشاركة الفعلية في ترهين نص السيرة الروائية “وادي اللبن” قراءة الكاتب والسارد/الشخصية للماضي ومنحها انتماء عاما مزدوجا يتراوح بين الرواية والسيرة الذاتية، قصد توجيه فعل القراءة نحو استقبال الغموض العام لرواية السيرة الذاتية دون إعطاء القارئ مهمة الفرز بين المحور الروائي والمحور المرجعي. على هذا النحو تبدو القراءة حقلا مفخخا ومليئا بالألغام وكأن القارئ يُحاول أن يُؤثث التوتر الحاصل بين المحورين لاكتشاف بُعد جمالي آخر وهو بعد يتلقى فيه اقتراحات الكاتب وتأويلاته ليُعيد بناءها ضمن قراءة مفارقة تؤسس لجمالية الحرمان. ونعني بهذه الأخيرة، محاولة القارئ التأثيت لبعد آخر عبر فعل الذهاب والإياب بين عالمين مفارقين (عالم شخصية كمال المتخيلة وعالم الكاتب عبداللطيف محفوظ، بحيث تتغذى فيهما القراءة من فرضيات متناقضة ومتزامنة تجعل القارئ يضع قدما هنا والأخرى هناك دون أن ينال شرف التربع على عرش أحدهما. وتأتي صعوبة توطين موطئ قدمي القارئ في جهة واحدة من التساؤل الإشكالي الموجه لفعل القراءة بشكل تنشأ معه مُتعة استحالة إيجاد إجابة نهائية أو قبول كلا الاحتمالين لتستكين معهما حيرة التساؤل: فالمفارقات المؤسسة لجمالية الحرمان تنبع من القراءة المتناقضة والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن “تُلحق الضرر بمتعة النص، بل من المحتمل أن تثيرها27”.
وتتولد الحيرة التي تُراود القارئ عن نفسه وتفتح شهيته بمجرد قراءة الخطاب الافتتاحي للرواية بوصفه مُحَرِّكَ رغبته في المعرفة والتموقع ضمن أحد العالمين، لكن استحالة تحقق ذلك عند استرسال القراءة يزيد من لذته ومن اشتياقه لموطئ أو مُستقر. ولعل الحيرة التي يتفتق عنها كلام شخصية كمال أو الكاتب عبداللطيف محفوظ في رحلة البحث أو الكشف هي التي تستثير متعة القارئ لبناء فرضيات مفارقة تسائل دلالات النص ومرجعياته الغائبة. لذا يُصبح الغائب في النص أشد الحاضرين حضورا في ذهن القارئ لأنه يشكل مرجع التصنيف الجنيالوجي لهذا الجنس الأدبي الهجين. لكن هذا الأمر يتعذر عندما يكتشف القارئ أن الكاتب المتلفظ في الرواية يتورط في لعبة الخفاء والتجلي، أو عندما يُعلن الكاتب رفضه التورط بطريقة ما (الخطاب الافتتاحي/ كلمة رواية بأسفل الغلاف)، والتي لن تكون سوى استعارة متلفظ آخر مُتخيل (شخصية كمال) لصك براءة الكاتب الذي يوهم بالحيادية.
وفي الأخير، لم يبق بديل للقارئ في رواية “وادي اللبن” سوى القبول بلعبة الغميضة التي يحرك خيوطها الكاتب الحيادي حين يُذيب صوته أو يخسره ليصير ملك السارد/الشخصية (كمال)، فيكون الصوت صدى لا يعود مثلما انطلق وأراده عبداللطيف محفوظ. فالنداء الذي يُطلقه الكاتب الحيادي لا يعود كما هو، بل ما يتم استرداده هو صدى صوت الأنا المسافرة في رحلة البحث عن حقيقة يكتنفها الغياب والنقص والتيه والمعاناة. إنه سديم التاريخ وسراب التأويل (ص179) الذي يكسر التطابق بين النداء وصدى الصوت بوصفه النداء وما يأتي معه بعد كل رحلة بحث بشكل يفجر الحَتْمَ التكراري والنهائي للحقائق. فالمُسافر الباحث عن المنسي والمقصي في ذاكرة الجماعة والمنطقة يُحاول ملء المسافة اللُّغزيّة بين ما كان وما ينبغي أن يكون باعتماد مقياس الشك والتأويل الذي لا يأتي بالخطأ والصواب مادام المقياس نفسه ينفتح خارج السياقات المحدودة للتاريخ الرسمي بإحداث الصدع في الحلقة المعرفية له. لكن، وفي كل مرة يتم فيها إعلان براءة المنطقة والذات الجماعية وذاكرتها من كل ما يُعلن عنه هذا التاريخ ويُقال باسمه عن الوقائع الماضية بالمنطقة، يجيء معه هذا الإعلان بما يكسره لتُستأنف الرحلة في ضوء معرفة جديدة تواجه بدورها الريبة والحرمان من الوصول إلى اليقين الذي لا يعرفهما القارئ بدوره.