سمير جِراج(2)
صحفي مستقل مقيم في لندن
بمناسبة حديثه مع قناة بي بي سي الإذاعية الرابعة كجزء من برنامج “تاريخ العالم في 100 تحفة”، يروي الكاتب عبد الرزاق قرنح عن عثورهِ على قطعٍ من الفخار الصيني حين كان شابًا في زنجبار. قال:
“كان ذلك في فترة لاحقة فقط، حين تبدأ بالذهاب إلى المتاحف، أو تسمع هذه القصص المستمرة عن الأسطول الصيني العظيم الذي زار شرق إفريقيا، لتصبح هذه التحفة حينئذ شيئا ثمينًا، وهو مؤشر على شيء مهم – التواصل. ثم ترى التحفة نفسها، وترى اكتمالها ووزنها وجمالها. إنه شيء لا مفر منه – هذا الوجود على مدى قرون لثقافة بعيدة مثل الصين”.
يمكن عدّ قرنح كاتبًا زنجباريا، وكاتبًا من شرق أفريقيا، وكاتبًا أفريقيًا، وشخصًا يكتب عن عوالم المحيط الهندي، وككاتب بريطاني يتناول قضايا الذاكرة، والاستقرار، وإيجاد مساحة لنفسه. ورغم أن عوالم شخصياته تبدو محطمة، مثل شظايا الفخار الصيني، إلا أنها تكافح لتكون مكتملة وقيّمة وجميلة.
تستهل أحداث روايات قرنح ببدايات جديدة. يبدأ الرجل وظيفة جديدة ستغير حياته. في مكان آخر، يعود شاب تم تجنيده للخدمة العسكرية لصالح قوة استعمارية إلى وطنه. إن موضوع النبذ والتخلي هو موضوع يعود إليه قرنح في جميع رواياته. تبدأ رواية “الحياة بعد الموت” قبل الحرب العالمية الأولى مباشرة في -شرق إفريقيا الألمانية-، بما يعرف الآن باسم تنزانيا. تتتبع الرواية شخصياتها من خلال مراحل من الاضطرابات والصراعات الخطيرة: هزيمة الإمبريالية الألمانية، والاستعمار من قبل البريطانيين، ومن ثم الاستقلال. ينصب التركيز على تأثير هذه الأحداث والاستعمار على الأفراد، وكيف يمكن للناس المضي قدمًا والالتقاء وبناء حياة وأسرة باختيارهم.
يمكن اعتبار رواية “الحياة بعد الموت” تكملة لرواية قرنح “في الجنة” المرشحة لجائزة البوكر عام 1994، حيث يتم إرسال الشخصية الرئيسة يوسف للعمل عند تاجر كتسديد دين لوالده. تشبه خلفية هذه القصة قصة حمزة، إحدى الشخصيات في “الحياة بعد الموت”. (العبارة المكررة من رواية في الجنة “إنه ليس عمي” تظهر عندما يكشف حمزة أخيرًا عن حياته الماضية). وتلتقط رواية الحياة بعد الموت خيط الزمن بعد انتهاء رواية في الجنة.
قال قرنح عند حديثنا عن كتابه الأخير: “أظن أنني كنت أرغب دائمًا في الكتابة عن الحرب، ثم قبل عامين، اتضح أنه الوقت المناسب للكتابة”. لا يميل قرنح إلى إجراء بحث موجّه، وبدلًا من ذلك يراكم معرفته وفهمه عن الاستعمار، ويفكر في القصص التي سمعها (“الخبرة والتقارب، ومن ثم هناك دائمًا عنصر الحظ”). على هذا النحو، لم يشعر بأي ضرورة خاصة لكتابة رواية “الحياة بعد الموت”. لكن توقيت نشرها يتسم بالحظ لأن القوى الاستعمارية السابقة مثل بريطانيا وألمانيا تواجه مرة أخرى تحديًا لفحص تاريخها. يقول قرنح: “هو تعامل مستمر مع هذه القضايا وعلينا أن نواصل القيام به”، مضيفًا أنه “كان هناك دائمًا، كما يبدو، المناخ الحالي لمهاجمة الغرباء [والعداء] للآخرين. لكن هناك، في الوقت ذاته، رد دائم، كما أظن”.
تتم تصفية الأحداث التاريخية، في عمل قرنح، من خلال التجربة الفردية. تتسارع الأحداث نسبيًا، رغم أن وتيرة أحداث “الحياة بعد الموت” تمنح وقتًا كافيا لـ حمزة وعافية، إذ تستحضر جانبهما الرومانسي في لحظات أكثر هدوءًا وينمو حبهما أمام الشدائد.
الرواية، في جوهرها، عبارة عن سلسلة من الصور النفسية التي تعالج الصدمة – وكما يوحي العنوان – لما يأتي بعدها. تشعر بعض الشخصيات، مثل بي آشا، بالمرارة والظلم، في حين يستطيع آخرون مثل حمزة تجاوزها.
تحتفي رواية “الحياة بعد الموت” بالمجتمع من خلال ترابط شخصياته، ومن خلال اللقاءات بينهم، عن أولئك الذين هم بالفعل على هامش المجتمع إلا أنهم يتجاوزون الحدود المجتمعية. خليفة، على سبيل المثال، هو الطفل الشرعي لرجل آسيوي وامرأة أفريقية ويمكنه السفر في كلا المجتمعين. كانت هذه العلاقات مألوفة عبر المجتمعات في زنجبار والمدن في البر الرئيس لتنجانيقا وشملت أفرادًا من عائلة قرنح نفسه.
تعد قصته، عن كيفية مجيئه إلى المملكة المتحدة هربًا من النظام السياسي القمعي في زنجبار في الستينيات، بمثابة قصة تأسيسية لكتاباته. يتذكر قرنح كيف تضافرت جهود عنف وإرهاب الدولة مع انعدام الأمن الاقتصادي والقيود المفروضة على الكلام والاحتجاج. ” كان مكانًا خطيرًا للغاية حين غادرت، تم سجن الناس، و كان هناك مجال ضئيل جدا للمناورة، والعمل، أو حتى التعبير صراحة عن الاستياء”. تم وصف البيئة السياسية القمعية في زنجبار والبرّ الرئيسي لتنزانيا بالتفصيل في رواية قرنح “عبر البحر” المنشورة عام 2001، حيث تبلغ المظالم الصغيرة والقسوة والتنديد ذروتها بالاعتقال والسجن والإذلال. إن تجربة الشعور بالوحدة والاضطراب والصدمة، لشخص جاء حقا إلى المملكة المتحدة كلاجئ، هي أشياء صبها نحو كتاباته. أخيرا، استغرق الأمر ثمانية عشر عامًا لتوجيه هذه التجارب إلى روايته الأولى.
تسافر رواية “الحياة بعد الموت” طويلا وبعيدا، ويبذل قرنح جهدًا لاستعادة هذه الزمن بأكثر من طريقة. يتميز هذا الزمن الذي يمتد لأكثر من خمسين عامًا، وله تقويم محدد، بالتواريخ والأحداث. إن لتأثير الاستعمار تاريخًا طويلًا ومعقدًا، حيث نتذكر أن الأنظمة التقليدية للتجارة – مثل قوافل رواية “في الجنة” والمجتمعات التي شكلتها – قد تم محوها من قبل الإمبريالية الألمانية والبريطانية. يقول جيوردانو ناني، في كتابه لعام 2012: إن الوقت نفسه كان إمبرياليا، وأن على الناس أن يتوافقوا مع أنظمة الوقت الأوروبية، ويرجع ذلك جزئيًا إلى العمليات البيروقراطية. وهناك إشارة إلى ذلك تجلّت في وقت لاحق بكثير في التاريخ في رواية قرنح “عبر البحر”. فالشخصية الرئيسة ترفض استخدام الهاتف، وفي الوقت نفسه تزعج الناس بهدوء وتستمتع بحقيقة أنه لا يزال يتعين عليهم زيارته دون سابق إنذار.
تقاعد عبد الرزاق قرنح للتو من التدريس في جامعة كِنت، حيث كان له تأثير عميق على طلابه. تروي “هناء علي” كيف كان أول معلم أسود في حياتها. “لقد انتظرت 21 عاما”. كانت مكانته “هائلة” كروائي وأكاديمي، وانتابها إحساس بالخوف الشديد في البداية . تقول هناء:”كنت تعرف أنك مع نجمٍ حقيقي في القاعة. إنه أحد أولئك الذين حين يدخلون القاعة تجلس أمامه احتراما بشكل مستقيم”. كان موقع القاعة التي عقدت فيها هناء ندواتها مع البروفيسور قرنح يتيح للطلاب رؤيته، يقترب من الجسر عن بعد، مما دفعهم إلى التفكير في مدى استعدادهم الجيد. كان يذكرهم بالإنسان والهاتف، بالصبر أو الراحة، وبظروفه التي نعيش فيها. “لم يكن شخصًا يسمح لك أن تغادر ببساطة، لقد أراد أن يبث إحساس الالتزام في الناس”،قال علي، الذي قد يفكر مع نفسه، “أحتاج أن أواجه نفسي”.
غالبا ما يستخدم قرنح الكلمات والعبارات السواحلية في كتبه، ولا تختلف رواية “حياة بعد الموت” عن ذلك. تدفع كتاباته القارئ بلطف إلى الاعتراف بدور الاستعمار في استخدام اللغة وتأثيره على الأدب. في الفيلم الوثائقي “أفريقيا تقلب الصفحة” لقناة بي بي سي، يروي البرنامج الجدل الذي دار بين شينوا أشيبي وانجوجي وا تيانغو حول ما إذا كان يجب الكتابة باللغة الإنجليزية (أشيبي)، للوصول إلى جمهور أوسع، أو الكتابة باللغات الأفريقية كجزء من عملية إنهاء الاستعمار (تيانغو). “حين قرأتُ روايات قرنح كطفل آسيوي شرق أفريقي نشأ على الساحل السواحلي (والدي من مومباسا)، ابتسمت للأصوات الشائعة التوضيحية على الصفحة. حين تحدثنا عبر الهاتف، جازفت ببضع عبارات ترحيبية وتفسيرية مثل -بابا يانغو أناتوكا مومباسا- قبل العودة إلى اللغة الإنجليزية.
تتحدث شخصيات قرنح عن هويات معقّدة. بالنسبة إلى هناء علي، كان لهذه التجربة صدى حتى إنها جعلت رواياته موضوعًا لنيل درجتها في الدكتوراه. تجمع كتبه بين التأثير الثقافي للإسلام والانتماء الإثني والإثنية المختلطة جنبًا إلى جنب مع الصدمة المنتشرة للاستعمار والاضطراب في الغرب. فقدت بعض الشخصيات الثروة أو المكانة، وتظاهرت بأنها أقل مما كانت عليه من أجل المواءمة مع ما هي عليه الآن. تظاهرت الشخصية الرئيسة في رواية “عبر البحر” بعدم التحدث باللغة الإنجليزية، فقد قيل لها أن هذا الادعاء سيرجح حصولها على اللجوء. يُجبر المرء على الكذب أو التلاعب بالحقيقة من أجل الامتثال أو التعامل مع النظام. يتجلى ذلك، أيضًا، في “الحياة بعد الموت” حيث كان الأشخاص الذين كانوا في الجيش الاستعماري الألماني(3) يُعاملون بريبة من قبل المحتلين البريطانيين الجدد، على الرغم من حقيقة أن الكثيرين أجبروا على القيام بهذه الأدوار – وأن البريطانيين فعلوا الشيء نفسه في مستعمراتهم.
“قاتَلَ المُستعمَر لأسبابٍ معقدة”، يشرح قرنح. بعضهم أعجب بالقوة الإمبريالية والمكانة التي ارتبطوا بها ، وكان هؤلاء هم الأشخاص الذين تطوعوا للانضمام إلى قوات الشرطة الاستعمارية والجيوش الاستعمارية. لقد وفّروا سبل العيش والمكانة داخل مجتمعهم مع بعض الاستقرار في حياتهم. ويضيف: “اختار عدد من الأشخاص بسعادة، وعن طيب خاطر، أن يكونوا في هذا الجانب وأن يقاتلوا من أجله”.
يعد الاستعمار الألماني وصراعه مع بريطانيا سياقا وجزءا من التجربة الشاملة التي من خلالها تتطور الشخصيات. ربما يُظهر ضابط في الجيش الألماني -في صورة مصغرة من الاستعمار نفسه- انبهارًا بأحد جنوده وسلطته عليه، متفاخرًا بقدرته على تعليمه اللغة الألمانية جيدًا بما يكفي لقراءة شيلر، بينما يمارس عقوبات وحشية على نفس الرجل. هناك تلميح من الحنان والانجذاب الجنسي المحتمل تجاهه.،تُركت هذه العلاقة دون تفسير. يقول قرنح: “هو لا يريد الاعتراف بذلك، لا يريد أن يفهمه، لا يريد أن يفهم لماذا يشعر بنوع من الحنان تجاه هذا الرجل”.
لاحقًا في “الحياة بعد الموت”، نواجه حركة “إعادة الاستعمار(4) التي ازدهرت في ظل الحكم النازي والتي اجتذبت العديد من العسكريين السابقين الذين قاتلوا في الجيش الاستعماري الألماني خلال الحرب العالمية الأولى. من أشهر هؤلاء، بيومي محمد حسين، الذي هاجر إلى ألمانيا في أواخر العشرينيات من القرن الماضي وتزوج وأنجب أطفالًا من امرأة ألمانية، قبل أن ينخرط في حركة “إعادة الاستعمار”. عمل كممثل في أوائل الأربعينيات وتم إرساله لاحقًا إلى معسكر اعتقال لإقامته علاقة خارج نطاق الزواج مع امرأة بيضاء. تعكس رحلة إلياس المأساوية رحلة حسين، ذلك الانبهار بالقوة والمكانة والهوية التي يمنحها ارتباطه بألمانيا، بغض النظر عن صعود النازية. يعد التخلي الثاني عن أخته عافية (التي تعني “الصحة” باللغة السواحيلية) في سعيه لإعادة بناء الماضي عملاً مربكًا من الإهمال.
“نحن نرى أو نسمع أو نتعلم القليل جدًا عن لقاءات ألمانيا الاستعمارية والتجارب الاستعمارية الألمانية في القارة الأفريقية” ، هذا ما يلاحظه طالب سابق آخر لقرنح، وهو الدكتور فلوريان شتادتلر، وهو الآن كبير المحاضرين في آداب ما بعد الاستعمار في جامعة إكستر. عند الحديث مع شتادتلر، يُلاحظ جليا غياب هذه الأحداث في الأدب والروايات على وجه الخصوص -ربما لأن ألمانيا لا تزال تتصارع مع مسألة كيف يمكن لبلد -شعب- أنتج أدبًا وفنًا وموسيقى عظيمة، أن يكون قادرًا على هذه الأعمال الوحشية الشنيعة. ومع ذلك، فقد أحرز المؤرخون الأكاديميون مزيدًا من التقدم في مسائل الاستعمار الألماني وإرثه. كانت حياة بيومي محمد حسين، على سبيل المثال، موضوع سيرة ذاتية وفيلم وثائقي. ومع ذلك، ركزت المناقشات التي جرت إلى حد كبير على الفظائع والإبادة الجماعية التي ارتكبت في ناميبيا، الواقعة في جنوب غرب أفريقيا الألمانية سابقًا.
يشير قرنح إلى أن حنة أرندت في كتابها الشمولية، رسمت خطًا عن الممارسة العنيفة والإبادة الجماعية للنظريات العرقية في المستعمرات وتطور النازية التي بلغت ذروتها في الهولوكوست. علاوة على ذلك، يلاحظ تناقض الإمبريالية، التي تدعي أنها تهتم بالشعب بينما تقتلهم في النهاية. “من الصعب فهم العنف والقسوة التي أصبحت ممكنة بطريقة ما من خلال الأفكار العرقية”. عانت تنجانيقا من عنف لا نهاية له، وتم سحق أي تمرد أو عدم انضباط من قبل الناس في ذلك الوقت. ومع ذلك، يضيف أنه كان يوجد خطاب قلق من المستوطنين الألمان والسلطات الاستعمارية بشأن تحسين الصحة والتعليم والزراعة. يقول: “هناك تناقض غريب، أظن أن الإمبريالية تتضمنه: من ناحية الإكراه العنيف، ومن ناحية أخرى نوع من الموقف الأخلاقي العام”.
كما هو الحال مع العديد من كتب قرنح الأخرى، يتغير المكان لتمكين حمزة وابن عافية من السفر غربًا، إلى ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية. هناك سيدرس ويبحث عن إجابات شخصية عن سبب مغادرة إلياس وما حدث له.
تجمع نهاية رواية ” الحياة بعد الموت” بين موضوعات الاختيار، وتفكك الحب، والذاكرة والتاريخ. تدفعنا القصص القوية التي يرويها قرنح في رواياته إلى دراسة خياراتنا الخاصة وإلى أين قادتنا اليوم.