* يخيل لمن يقرأ كتاباتك انك تنبذ الحوار، وانك تعتبر كل موعد ضربا من الإهانة.. انني أستشعر الصعوبة التي قد تفرضها محاورتك لكنني مستعد لأحاول فعل ذلك. فإذا نحن بدأنا بطفولتك في رومانيا، فهل ما زلت تستحضر تلك الفترة؟
– نعم استحضرها وبقوة. ولدت في Rasinari قرية في منطقة Carpates الجبلية، تبعد عن مدينة Sibiu باثني عشر كيلومترا، أحببت هذه القرية كثيرا، وكنت أبلغ العاشرة يوم غادرتها للالتحاق بثانوية Sibiu لن أنسى ما حييت ذلك اليوم، أو بالأحرى، تلك الساعة التي اصطحبني فيها أبي استأجرنا عربة يجرها حصان، بكيت طيلة الوقت، كان لدي الاحساس بأن أيامي السعيدة انقضت، كانت لهذه القرية الجبلية بالنسبة للطفل الذي كنت فوائد جمة : قبل الفطور، كان بإمكاني أن أضيع حتى منتصف النهار، ثم أعود للبيت، لأضيع بعد ذلك ثانيه حتى المساء. ولقد استمر ذلك حتى سن العاشرة، للا قامة الجبلية تك فائدة أخرى، فخلال الحرب الكونية الاولي سبي الهنغاريون والدي باعتبارهما رومانيين، وبقيت أنا وأخي وأختي في كنف جدتي. لقد كنا أحرارا تماما، على الاجمال، كانت تلك أياما رائعة، أحببت الفلاحين كثيرا، وأكثر من الفلاحين أحببت الرعاة، كنت أكن لهم احتراما خاصا يوم فرض علي توديع ذلك العالم، أحسست وكأن شيئا تهشم بداخلي للأبد، بكيت وبكيت، ولن أنسى ذلك أبدا.
* من يستمع اليك، يظن انك اقتلعت، حقيقة، من موطنك الأصلي…؟
– نعم اقتلعت من الارض، من هذا العالم البدائي الذي أحببته كثيرا والذي منحني الاحساس بالحرية، وجدت نفسي، اذن في Sibiu، المدينة الشديدة الأهمية في النمسا الهنغارية. انها عبارة عن مدينة حدودية تقح بالعسكر وتتعايش فيها اثنيات ثلاث، بدون مشاكل كما تلزم الاشارة الى ذلك : الألمان، والرومان، والهنغاريون. الثقافة الألمانية، كانت بالتأكيد، الثقافة الحقيقية، الهنغاريون والرومان كانوا مجرد عبيد يحاولون الخلاص، كانت بمدينة Sibiu مكتبة ألمانية شديدة الاهية في نظري، على أية حال، بعد قريتي الأصل، وباريس، تبقى Sibiu المدينة الأحب، في العالم. اذا كان لكلمة حنين من معنى، فانه الأسف لكوني كنت مجبرا على ترك قريتي، في العمق، العالم الحقيقي الوحيد هو العالم البدائي حيث كل شيء ممكن، وما من شيء مضمر.
* اقتلعت، اذن، المرة تلو المرة :؟
– بالتأكيد، مرات كثيرة، هناك أولا واقع كوني فقدت طفولتي، ثم كل حياتي في Sibiu، لماذا كانت Sibiu مدينة هامة بالنسبة الي؟ لأن هناك عشت أكبر مأساة في حياتي، مأساة استمرت سنوات طوالا، وطبعت بقية أيامي، كل كتاباتي، كل تفكيري، كل ما حققت، كل هذيا ناتي، كان مصدرها تلك المأساة، ففي العشرينات من عمري فقدت كل قدرة على النوم. أتذكر أنني كنت أتجول لساعات وسط المدينة Sibiu مدينة جميلة للغاية، مدينة ألمانية ثميدت في العصر الوسيط، أخرج، اذن، حوالي منتصف الليل وأتجول في الشر ارع. ببساطة لم يكن هناك سواي وثلة من العاهرات في مدينة فارغة يلفها الصمت.. أتوه لساعات في الأزقة، كشبر، وجميع ما كتبت فيما بعد أنا مدين به لتلك الليالي. كتابي الأول (على ذرى اليأس) يعود الى تلك المرحلة، لقد كتبته وأنا ابن الثانية والعشرين، وهو عبارة عن وصية لأنني كنت أفكر في الانتحار، لكنني عشت، لم أكن أمتهن مهنة، وكان هذا شيئا مهما للغاية. الحق أنني لم أكن أصلح لأي عمل لأنني كنت دائم السهر والتجوال الليلي في المدينة. فكيف سأمارس عملا أثناء النهار، لم استطع امتهان مهنة. كنت أتوفر على شهادة اجازة، وأنهيت دراساتي الفلسفية في بوخاريست الخ… لكنني رفضت أن أعمل استاذا، لاني لم أكن استطيع وبعد أن أسهر الليل كله، إلهاء التلاميذ، أن أتحدث في أشياء لا تهمني في شيء. ليالي Sibiu تلك، كانت إذن أصل رؤيتي الى العالم.
* خولت لك تلك الليالي اكتشاف فضاء عجيب، اكتشاف شيء مفتوح، شيء فتان؟
– صحيح لكن في حالتي الخاصة هناك سوابق، لقد اكتست رؤيتي الى الأشياء في وقت مبكر، هذه الرؤية التي لم أدرك الالتها الا في سن السثرين، حيث استوعبتها بطريقة منتظمة. علي أن أشير بدءا الى أن والدي كان قيسا، لكن أمي، في المقابل، لم تكن مؤمنة، ولهذا، ربما، كانت أدت استقلالية فكرية أكثر من أبي.. كنت في العشرين، إذن، يوم خطر ببالي، ذات ظهيرة، ما زلت أذكر، وفي حضرة أمي أن أرتمي على مقعد قائلا "لقد سئمت، تماما. أجابتني أمي: "لو كنت أدرك ما سيحدث لك، لكنت أجهضت". خلق لدي هذا الأمر انطباعا غريبا، لكنه ليس سلبيا. وبدل أن أثور، أذكر ذلك، ابتسمت، لقد كان ذلك بمثابة وحي، أن تكون نتاج الصدفة، من غير لوازم ولا اكراهات، كان ذلك بمعنى ما، نوعا من الحرية. لكن ذلك أثر علي بقية حياتي. أمي، بعد أن قرأت بعض كتاباتي بالرومانية (كانت تجهل الفرنسية)، قبلتها، قليلا أو كثيرا، أبي على عكس أمي، كان شقيا، كان مؤمنا، وان كان من غير تعصب، انها مهنته كقس. لقد أزعجه، بطبيعة الحال، كل ما كتبت، ولم يكن يدري كيف يواجهني. أمي وحدها كانت تدرك أبعاد كتاباتي، وهذا شيء مثير، لأنني استخففت بها بداية الأمر. لكنها قالت لي يوما: "بالنسبة الي، لا شيء غير سبستيان باخ". منذ تلك اللحظة، أدركت الثبه بيني وبينها، حقيقة، لقد أورثتني الكثير من النقائض، لكن أيضا، بعض القيم. هنا تكمن الهامات تطبع حياة كاملة. في هذا الوقت، تحديدا، حدث شيء ما ذو دلالة، تعلمون أنني كتبت كتابا، هو الثاني أو الثالث، منحته عنوان (دموع وقديسون)، نشر باللغة الرومانية عام 1937، ولقد تم تلقيه بفتور في البداية، لأن الناشر كان في بوخاريست، لحظة كان الكتاب جاهزا، في حين كنت أنا في.vosarB تلفن الي ليقول باستحالة نشر الكتاب، الحقيقة أنه لم يقرأ الكتاب لحظتئذ. ولم يفعل ذلك إلا لاحقا، قال لي: "لقد اغتنيت بفضل الله. ولهذا لن أنشر كتابكم". (يضحك سيوران). انه تصرف تلقائي. قلت له : "إنه، في العمق كتاب ديني". فافحمني بالقول : "ربما، لكنني لن أنشره". إنها السنة التي جئت فيها باريس، وكنت قد قلت له : "أنا ملزم بمغادرة البلد، علي أن أكون في باريس بعد شهر". فقال لي: "هذا ممكن. لكنني في غنى عن كتابكم". كان هذا كل جوابه !. ولجت مقهى مهيض الجناح وقلت في نفسي "ماذا فاعل أنا الآن؟". لقد أحببت كثيرا ذلك الكتاب لأنه جاء ثمرة أزمة عقدية، عثرت، أخيرا، على ناشر، أو بالأحرى كتبي قال لي: "أنا سأتكفل بنشر كتابك". هكذا غادرت رومانيا قاصدا باريس. نشر الكتاب في غيابي عام 1937، ووضع ذلك والدي في حالة مسبة. كتبت الي أمي وأنا في باريس: "لقد فهمت كتابك. لكن كان عليك الا تنشره ونحن أحياء لأنك وضعت والدك في موقف حرج جدا، وأنا كذلك باعتباري رئيسة النساء الارثوذوكيات… انهم يستهزئون بي في المدينة". هكذا طلبا مني بالحاح سحب الكتاب من السوق، لكن الكتاب كان قد طبع بلا ناشر، لهذا لم يكن له انتشار واسع. لقد استوعبت أمي رغم ذلك، فحوى الكتاب، قالت لي: "نلاحظ أنك تعاني من فصام، فهناك تجديف الى جانب الحنين". كان ذلك الكتاب نتيجة أزمة متولدة عن الأرق. ولهذا كرهت دائما الناس الذين يستطيعون أن يناموا، إنني أجد ذلك غير مفهوم، لأنني لست أتمنى الا شيئا واحدا: أن أنام. لقد تعلمت شيئا، إن ليالي الأرق، رغم ذلك، من الأهمية بمكان.
* إنها ليالي السهاد التي تنتح فيها…؟
– لا ننتج فيها فقط، بل كذلك، وهذا هو الأهم، نفهم فيها، انظر: الحياة بسيطة : يستيقظ الانسان، يقضي سحابة يومه يعمل، يتعب، ثم ينام. يستيقظ من جديد ليعيد نفس الشيء، ان ما يمنح ظاهرة الأرق غرابتها انه لا انقطاع لسيرورة النوم لكن الأرق صاح في قلب الليل، طيلة الليل، بالنسبة اليه ليس هناك فرق بين الليل والنهار، انه نوع من الزمن اللانهائي الأبدي.
* الشخص الأرق يعيش زمنية أخرى؟
– مطلقا. انه زمن آخر، عالم آخر، ما دامت الحياة غير محتملة إلا بالانقطاع، بعدم الدوام، في العمق، لماذا نحن ننام؟ إننا ننام ليس فقط لنستريح، بل كذلك لننسى، ان الشخص الذي يستيقظ صباحا بعد ليلة من النوم يتوهم انه سيبدأ شيئا ما. لكنك ان قضيت ليلة سهاد لا يبدأ أي شيء، في الثامنة صباحا أنت في نفس الحالة التي كنت عليها في الثامنة مساء. فيتغير فهمك للأشياء جميعا، بالضرورة، إن عدم ايماني. أبدا بفكرة التقدم، وعدم سقوطي ضحيتها، يعود للأرق تحديدا.
* هل يتعلق الأمر بلحظة نرى فيها العالم سلبيا؟
– سلبيا أو ايجابيا ما شئت. لكننا نكتسب مفهوما آخر للزمن، لم يعد الزمن هو الذي يمر، بل هو الذي لا يمر، وهذا يغير من طبيعة حياتك، لهذا اعتبر ليالي الأرق أكبر تجربة يمكن اكتسابها طيلة الحياة، انها تطبع بقية أيامك، هكذا نفهم لماذا يلجأ الى حرمان المتهمين من النوم أثناء التعذيب : بعد ليالي قلائل، يعترفون بكل شيء! ان سر الحياة، سر الانسان يكمن في النوم، فالنوع هو ما يجعل الحياة ممكنة، لي اليقين اننا اذا حرمنا البشر من النوم، ستكون هناك مذابح غير مسبوقة، وسينتهي التاريخ.
هذه الظاهرة فتحت عيني للأبد لأعترف ولأقول : ان رؤيتي الى الأشياء هي نتيجة هذا الأرق، وأكاد أقول : "أرق العقل". انه اعتراف مبالغ فيه، لكنه في نهاية الأمر، حقيقي، أضف الى ذلك، وهذه ظاهرة مثيرة، ان عشقي للفلسفة، للغة الفلسفية حيث كنت مولعا بعلم الاصطلاح الفلسفي… هذا العشق أمحى بسبب الأرق، لقد أدركت أن الفلسفة لن تفيدني في شيء، لن تجعلني أتحمل الحياة، خاصة الليالي، هكذا فقدت كل أمل في الفلسفة.
* لكنك ظفرت بصداقات في الميدان الأدبي.
– نعم بالتأكيد، حدث هذا يوم تأكدت من أن الفلسفة لن تفيدني في شيء، وأنني لست في حاجة الى رطانة الفلاسفة، على كل حال، فالأدباء بالنسبة الي أفضل، ان دوستويفسكي، في نظري، هو العبقري الفذ والروائي الأكبر، عنده نجد جميع ما فتمناه، جميع الفضائل، لقد قرأت الأدب الروسي كثيرا، تشيخوف، طبعا.
* متى تحديدا، شرعت في قراءة دوستويفسكي؟
– منذ البدء لكنني لم أستوعبه الا فيما بعد، خلال ليالي الأرق استوعبت عمله. إنني في كل الأحوال، لا أحب سوى المرضى الكبار، وعندي، الحق يقال، أن الكاتب غير المريض هو تقريبا، وبشكل صريح، شخص من الدرجة الثانية.
* تبدو النزعة الدوستويفسكية جلية في كتابك "دموع وقديسون" مع هذه المرأة التي هي في نفس الوقت عاهرة وقديسة.
– نعم، صحيح، سأحكي لكم لماذا كانت لهذا الكتاب أهمية خاصة لدي باستمرار، كنت في Brasov خلال السنة الوحيدة من حياتي التي حدث فيها وأن مارست مهنة. كنت أستاذا للفلسفة، في الثانوية، لكن سيتأكد لي، لاحقا، استحالة مزاولة هذه المهنة، ولم يكن يدور بخلدي سوى فكرة واحدة : السفر الى فرنسا فرارا ودرءا لهذه المهنة. مروري من ثانويةBrasov كان حقيقة، كارثيا، كانت لي حكايات مع التلاميذ، مع الاساتذة، مع الناظر.. باختصار، مع الجميع، نجحت، أخيرا، في الذهاب الى باريس، لكن، وكما أشرت الى ذلك سابقا، ثار الجميع في وجهي يوم صدر كتابي عن القديسين، باستثناء مثابة أرمينية، في ربيعها السابع عشر، كتبت الي رسالة مؤثرة، لقد كان ما حدث لي حدثا أقنعني انه اذا كنت أحمل قلقا دينيا، فانني لن أؤمن أبدا. في العمق فقدت وهما عظيما.. أعدت قراءة المتصوفة، لكن الذي أثارني عند هؤلاء هو الشيء الخارق المتمثل في امكانية حديثهم الى الله، كما يتحدث الواحد منا، نحن البشر، إلى الآخر.. بالنسبة الي، افرحني كثيرا أن يقض مضجعي، فالأيمان يظل بذلك ممكنا، حتى اليوم، لا أستطيع القول انني في منأى عن الاعتقاد. لكن الذي ألاحظه هو انني لا استطيع أن اؤمن، ان الايمان هبة، هناك، حقيقة، كثير من الناس يثيرون هذه المسألة، بشكل ملتبس، ولكن بالنسبة الي، هذا مستحيل.
* إذن، حتى في هذا الوقت المبكر، كان الفلاسفة والمتصوفة أكثر أهمية من فيلسوف كهيجل أو كانط.
– أهمية قصوى بالتأكيد، القديسة تيريزا دار فيلا لعبت دورا مؤثرا في حياتي، لقد تأثرت عظيم التأثر بالسيرة الذاتية لاديث شتاين. هل تدري كيف تابت هذه المرأة الى الله بأ كانت في زيارة، يوما، لصديقة لها فيلسوفة، وبعا أن هذه كانت خارج البيت وتركت لها وريقة تخبرها فيها بعودتها بعد ساعة من الزمن، فقد انكبت اديث شتاين على كتاب حول حياة القديسة تيريزا، فاستمالها جيدا.. انه سبب ايمانها، تبدي جميع الكتابات عن ايديث شتاين استغرابها ودهشتها لهذا المسألة، والأمر لا يستدعي أبدا دهشة واعجابا، فلتيريزا أسلوب يستعليه التأثير فيك كليا، وان كنت أنا شخصيا، لم أغير موقفي بعد قراءتها، لم أؤمن، لانني افتقر للالهام الديني.. لقد علمتني القديسة تيريزا الشيء الكثير، بل خلقت لدي اضطرابا، لكن الايمان هبة تولد مع الانسان. استطيع أن أعيش كل الأزمان، باستثناء الايمان نفسه، الذي هو بدوره أزمة، لكنها أزمة الأخرين، وليست، أبدا، أزمتي، معنى هذا انني قد أعاني الأزمة، لكنني يقينا، لن أعاني الايمان.
* وماذا عن الشعراء؟
– استمالتي الشعراء، طبعا، لكن هناك، كذلك، هذه الظاهرة البلقانية جدا: ظاهرة الكاتب المحبط، بمعنى الكاتب الموهوب جدا، لكنه لا يصير كاتبا، الذي يقدم وعدا لكنه لا يفي بالوعد. أصدقائي الكبار في رومانيا لم يكونوا كتابا، البتة، لكنهم كانوا محبطين. كان هناك خاصة شخص كان له كبير الأثر على تكويني: شخص درس اللاهوت وكان من المفروض أن يصبه قسا، كان عليه فقط، ليتحقق ذلك. أن يتزوج، يوم الرواج، والجميع في انتظاره، قال في نفسه انها حماقة واحتفر، انتظره الجميع طوال اليوم في الكنيسة ولم يظهر الا بعد أشهر عدة. كان له تأثير كبير علي. لم يكن موهوبا، ولا كان بمقدورا الكتابة، ولا يطالع الا لماما، لكن معرفته بالطبيعة البشرية، وبالنفسية الفطرية للانسان كانت، ببساطة، فريدة لم ألاحظ قط، انا أخطأ بصدد شيء ما، كان ذا ذكاء مطلق، وكان مجرما وعنيفا، خالطته بانتظام، واحدة من الذكريات العالقة بالذهن، وستظل، هي ليلة قضيناها معنا في Brasov سهرنا حتى الخامسة صباحا نجوب الشوارع، تهنا طيلة الليل، وفي ختام حوارنا انتابني دوار، لاننا دمرنا كل شيء، كل شيء، كان أشد قسوة مني فيما يتعلق بالانكار والنفي. أسر الي كذلك بكثير من خفايا حياته خلال هذه المحادثة الحميمة. أسرار لم يفه بها يوما أمام أحد، بفضله، تعلمت الى أي مدى يمكن للإنسان أن يذهب. فيما يتعلق بالنفي والانكار ذهب هو الى أقصى الحدود.
* ونفيك أنت وانكارك تجسدا في كتاباتك؟
– استمر النفي والإنكار في الكتب، لكن، ابدا، ليس في الكتب وحدها، لقد شكل هذا الشخص بالنسبة الي. في كل الأحوال، تعبيرا عن الذكاء في يأسه وخطورته، ان الذكاء، في العمق، يتعارض والحياة، ان هذا النوع من الانكار يمكن ان يقود صاحبه الى الانتحار، انه العدم، حقيقة، يصل الشخص الى الوعي المطلق بالعدم، في حالات كهذه، ليس أمام الانسان سوى الانتحار، او التدين أو… لست أدري. انها حدود بلغتها في حياتي كثيرا من المرات، لكن ليس ابدا بنفس حدة هذا الشخص، المثير في الأمر انه شخص يمنه الانطباع بكونه مغتبطا وصافي السريرة، لم يكن عدوانيا ولا دنيئة، لكنه كان عاجزا عن تكوين أدنى وهم عن أي شيء كان، هذا، بدوره، نوعا من المعرفة، لانه، في العمق، ما تكون المعرفة ان لم تكن تقويضا لشيء ما.
* المعرفة المضللة؟
– انها ليست مضللة، فقط، كل معرفة تصل أروتها خطيرة ومضللة، لان الحياة – وأنا أتحدث عن الحياة نفسها لا عن المعرفة المسمدة فلسفية – ليست محتملة الا لأننا لا نبلغ أبدا مداها، أي مشروع، مهما يكن، لا يمكن تحقيقه الا اذا كان لنا حوله حد أدنى من الأوهام، من دون ذلك، من دون أوهام، ننتهي الى الفشل، ان الذكاء المطلق هو العدم، سأضرب لكم مثلا حتى أبين بوضوح أكثر الجانب الشيطاني لشخصية صديقي. تيمت، ذات يوم، بامرأة شابة، وعندما لاحظ كيف استهوتني قال لي: "لا معنى لهذا الحب، أبدا". كنت قد تعرفت اليها للتو، كان حبا من أول نظرة، هو يعلم ذلك، لكنه قال لي: "هل انتبهت جيدا لقفاها؟" أجبته انني لم أبدأ مشاهدتي من القفا. "انظر جيدا" قال لي. نظرت الى قفا المرأة رغم أنني وجدت ذلك حماقة تامة ودناءة فريدة. نظرت فلاحظت دملا في قفاها، ضرب صديقي بكل شيء عرض الحائط. لقد أثارني ذلك بشدة، هذا الجانب الشيطاني في شخصه، كان مستحيلا ان يصبح شخص كهذا قسا. كان عليه أن ينتبه الى هذا الاستحالة، لا شعوريا، فيفر يوم زواجه، نظرته الى الحياة كانت سلبية. والنظرة السلبية الى الحياة ليست بالضرورة معرفة خاطئة، انها ببساطة شيء مناقض للحياة ذاتها.
* هل كان هذا الشخص ثمرة بلقانية محضة؟
– نعم، صحيو، بسبب افتقاره للاعتدال، لنذهب بعيدا حتى نشرح هذا أكثر: ان فكرة المجاملة في الغرب، في الحضارة الفرنسية تحديدا، هذه الفكرة، اجمالا، ما هي؟ انها حدود نقبلها بتبصر. لكن بالمقابل يستحيل الحديث عن حضارة بلقانية، ليست لدينا أدلة على وجود هذه الحضارة. نحن، في البلقان، مجبولون على التطرف، روسيا والأدب الروسي خاصة، شبيهة لنا في هذا، تمثيلا. لدي حساسية قوية تجاه الضجر، لقد ضجرت طيلة حياتي، والأدب الروسي يتمحور حول الضجر. انه العدم الدائم، أنا نفسي، عشت ظاهرة الضجر بشكل مرضي، ولقد فعلت ذلك لانني أحببت أن أكون ضجرا، لكن المشكل هو ان الضجر يتحول الى شيء شنيع كلما صار عادة.
* هل الضجر بهذا المعنى جزء من زمنية مختلفة؟
– نعم بالتحديد. ان الضجر، في نهاية الامر، سببه الزمن، رعب الزمن، الخوف من الزمن، وعي الزمن، تجلي الزمن، الذين لا يملكون وعيا بالزمن لا يضجرون، الحياة ليست محتملة الا اذا فقدنا الوعي بكل لحظة تمضي، من غير هذا، لا نستطيع الاستمرار، ان تجربة الضجر سببها الوعي المخرج بالزمن.
* حكيت قبل قليل نادرة تبين ان كل كتابة تخفي صوتا باطنيا.
– هناك بواطن في كل أعمالنا، وهذا هو الأهم نفسانيا، اننا لا نعرف الا الظاهر، الجانب المصطنع، نصل الى ما هو شكلي، لكن الأهم هو الوصول الى المضمر الذي هو سر كل موقف وقصد، ولهذا فكل أحكامنا على الآخرين، وكذلك أحكامنا على أنفسنا، أحكام خاطئة، نسبيا، ان الجانب الدنيء مموه، وهو الجانب الأعمق، بل أقول انه أعمق ما في النفسر البشرية. وهو الجانب الصعب المنال. الكتاب الكبار هم تحديدا، الذين يستشعرون هذه البواطن، دوستويفسكي خاصة، انه يكشف سر كل ما هو خبئ، كل ما هو دنيء، بل أكثر من ذلك، سر ما هو تراجيدي، هؤلاء هم علماء النفس الحقيقيون، أعرف، شخصيا كثيرا من الناس كتبوا روايات لكنهم فشلوا، ميرسيا إيلياد نفسه كتب كثيرا من الروايات لكنه فشل. لماذا؟ لأن هؤلاء لا ينقلون الا الظواهر الخارجية ويغفلون ينابيع الاحاسيس. ان أصل الاحساس صعب القبض عليه، لكنه هو الأهم، يبدو هذا جليا من خلال كل الظواهر، الايمان الديني مثلا… الخ. كيف تتكون الأحاسيس؟ لماذا تستمر؟ هذا هو الرهان. وحده الذي يملك حاسة التنبؤ يستطيع ادراك المصدر، والمؤكد ان العقل عاجز عن هذا الادراك.
* هل تبحث عن هذه الينابيع ختن في مقروءاتك..:؟
– نعم. وفي حياتي كذلك، ما هو مشكلن ليست سوى جزء من الحقيقة. لهذا فالروائيون الحقيقيون قلة، يستطدر أي واحد كتابة رواية، لكن لا يكفي أن نكتب رواية. دوستويفسكي بالنسبة الي، هو الذي استطاع الذهاب حتى الينابيع، ينابيع الفعل، ندرك جيدا لماذا الشخصيات في رواياته قامت بهذا العمل او ذاك، كلامي لا علاقة له بالتحليل النفسي، لا علاقة له البتة، لأن التحليل النفسي يسعى الى الاشفاء، وهذا ليس هو المهم. ان الجانب الشيطاني في الانسان هو ما يجب فضحه، لكن، كيف السبيل الى ذلك.
* وكيف تقرأ الشعر انطلاقا من هذه الافتراضات؟
– سؤال جيد، لماذا يكون شخص شاعرا كبيرا والآخر لا؟ لماذا يكون الشاعر ركيكا؟ لماذا لا يصمد شعره أمام الأيام ا: لماذا يصمد الشعر الذي يصطاد ينابيع الأفعال، عمق الأمثياء، انه دائما مثير، ملحوظ، شاعري، لماذا يكون شاعر أو تجربة أقل في الحياة شاعرا لافتا؟ لماذا يبدو أكثر من فذ. أكبر من أية تجربة؟ لانه استطاع ان ينقل الينا شيئا يراوغنا، شيئا يراوغ حتى نفسه، انها اذن، ظاهرة غريبة، هناك، حاليا، كثير من الناس يكتبون حكما موجزة، ولقد غدا هذا ظاهرة، بل موضة في فرنسا، لكن ليس هناك أسوأ من هذا، لا شيء هناك، انه وعد بدون أسرار، انها لعبة مكشوفة من غير سر، رغم انها مصنوعة باتقان، انها بلا مستقبل. ان قيمة الحياة تكمن في أن الشخص يجهل سر شخصيته، هنا يكمن، كذلك ممر التواصل بين البشر، من غير ذلك، ننتهي الى حوار طرشان.
* لكن هذا يصبح أكثر تعقيدا في حالتك الخاصة، بالنظر الى ذكا نك كيف نكتب، اذن، كيف نقول شينا لنلا نقوله؟
– اننا لا نفصح ابدا الا عن نصف الحقيقة. في الكلام، الطريقة هي الأكثر أهمية، اننا نؤدي الاشياء جميعا وفق ايقاع ما، وليس الموسيقى وحدها، أحيانا كثيرة، نفتقر الى هذا الايقاع، نفعل أو نقول بلا ايقاع، بكل بساطة، انه شيء غريب للغاية، لاننا لا نستطيع وصفه، بل فقط الشعور به، تفتح كتابا، على سبيل المثال، تقرأ صفحة، ثم لا تعني لك شيئا، لماذا؟ انها ليست خالية من المعنى، لكنها بلا ايحاءات، اننا نجهل مصدر هذا الايقاع الغريب، في كل ما هو أدبي، نوع من اللاحقيقة. انه ما نسميه غياب الضرورة، لكن لماذا غياب الضرورة هذا؟ نلحظ هذا في التواصل اليومي بين البشر، تلتقي شخصا بعد غياب طويل، تتحدثان لساعات ولا تتواصلان، تلتقي آخر، تتحدثان قليلا، ثم تعود الى بيتك مأخوذا مسحورا، هنا تكمن الأصالة الحقيقية للكائنات، ما يحاول الانسان اضماره، لكن يفضحه ايقاعه في الكلام.
* انه شيء كالموسيقي؟
– تماما، كالموسيقي، بالنسبة الي، الانسان الذي يقول : "لا تعني الموسيقى، عندي شيئا"، انسان مائع، لن أطيل معه، انها مسألة خطيرة للغاية، لأن الموسيقى تخاطب ما هو صميم وحميم في الانسان. لا يجمعني جامع بالشخص الذي لا يتذوق الموسيقى، ان شخصا كهذا من الخطورة بمكان، وهو مصاب بلعنة لا يدرك مداها.
* ونحن نتحدث عن الموسيقى، علينا تذكر باخ فورا، باخ الذي تحدثت عنه قبل قليل..
– يخيل الي أن باخ أسطورة. يصعب علي تقبل وجود أناس لا تثيرهم موسيقى باخ، رغم ذلك فهذا النوع موجود، أعتقد أن الموسيقى هي حقيقة الفن الوحيدة التي تستطيع خلق تواطؤ عميق بين شخصين، ليس الشعر بل الموسيقى، الموسيقى ولا شيء سواها، الذي لا يتذوق الموسيقى يعاني علة عظمي، شيء لا يقبله العقل ان يكون أحد لا يتذوق موسيقى شومان او باخ، قد استسيغ عدم تذوق المرء الشعر، لكن اذا تعلق الأمر بالموسيقى، فالأمر مختلف عدم تذوق الموسيقى مسألة خطيرة.
* متى تستمعون الى الموسيقى؟
– في جميع الأوقات، خاصة الآن حيث لم أعد أكتب، توقفت عن الكتابة، بدا لي انه من غير المجدي الاستمرار، لكن هذا الفراغ ملأته الموسيقى، الحياة بلا موسيقى حماقة حقيقية. اننا لسنا في حاجة الى الكتابة ما دمنا لا نستطيع التعبير بالكلمات عن احساس ذي طابع موسيقي. فلم الكتابة في ظروف كهذه؟ في كل الأحوال، لم الكتابة أصلا؟ لماذا نراكم الكتب؟ لماذا نسعي جاهدين الى أن نصير كتابا؟ لقد صار الناس، منذ زمن، يكتبون كثيرا، وهذه هي المعضلة، هذه الانتاجية عديمة الجدوى وبلا معنى، في باريس خاصة، لماذا هذا الالحاح؟ أنا شخصيا، فكرت دائما، في ترك الكتابة جانبا، او الاقلال منها الى أبعد حد، لكنني، في كل مرة، أنساق وراء اللعبة، الآن تأكدت من أنني فقدت القدرة على مواصلة هذه المهزلة، من ذي قبل لم تكن الكتابة مهزلة. كان فعل الكتابة استجابة لضرورة ما، كانت الكتابة، عندي، طريقة في التخلص من نفسي، يجب القول ان أفضل طريقة لاختصار الأشياء كلها، هي الكتابة، ما ان نكتب شيئا حتى يكون قد فقد سحره، صار بلا معنى، لقد قتلنا الشيء كما قتلنا ذواتنا، كانت للكتابة وظيفة ما، عكس الآن، لاحظت أن الذين لا يكتبون لديهم منابع أكثر من الذين يكتبون، لانهم يحتفظون لأنفسهم بكل شيء. ان تكتب، مهناه ان تفرغ نفسك من أجمل ما فيها، الذي يكتب، إذن هو شخص يفرغ نفسه، وهو في نهاية المطاف، يصير عدما، هكذا فالكتاب عديمو الاهمية، اعتقد هذا حقا، لقد افرغوا حتى من كينونتهم صاروا أشباحا، انهم أناس بارزون جدا، لكن من غير كينونة.
* وماذا عن شخص كبيكت Beckett أين تموقعونه ضمن فولاء الكتاب الذين عاشرتموهم؟
– تعلم، اننا الآن على صلة أقل، لكن بيكيت شخص ذكي لا يتصرف ككاتب، هذا المشكل غير مطروح بالنسبة اليه، هذا شيء رائع عند بيكيت، لم يتصرف قط ككاتب. لم يكن أبدا شخصا نمطيا، مثلنا جميعا، هو يتعالى دائما، على كل هذا، لديه نمط حياتي خاص، انه نمط متفرد عموما، لاحظت ان الناس الذين انتجوا كثيرا، في أي مجال كان يصيرون، بمرور الزمن، أشباحا، ولهذا فالذين لهم الحضور القوي في الحياة هم عادة الذين لم ينتجوا شيئا.
* هل كان لديك اصرار، حتى قبل مجيئك الى فرنسا، على عدم ممارسة أي عمل في هذا البلد؟
– نعم. لقد فطنت الى وجوب تقبل ما قد ينتج عن رفض امتهان مهنة من اهانة او معاناة. رفض النهوض بأعمال لا نحبها ولا يمكن ان نحبها، أعمال لا مثخصية، وحده العمل اليدوي كان بامكاني قبوله، ان أكنس الشوارع مثلا، أي عمل، باستثناء الكتابة او ممارسة الصحافة، يجب القيام بالمتخيل حتى لا أرح قوت يومي، حتى يكون الشخص حرا عليه تحمل كل الاهانات. كان هذا تقريبا برنامج حياتي، في باريس، نظمت حياتي جيدا، لكن الامور لم تكن كما رغبت، انتميت الى السوربون حتى سن الاربعين، وتناولت وجبات الطعام في الجامعة بصفتي طالبا، مع الأسف، يوم بلغت الاربعين كاتبني السوربون : "سيدي، الآن كفى، هناك عمر لا يجب تجاوزه، حدد في السابعة والعشرين". فجأة، سقطت كل مشاريعي للحرية، اتذكر انني سكنت فندقا قريبا من هذا المكان، غرفة عتيقة في السطح احببتها كثيرا، قلت في نفسي: الآن غدت ظروفي أشد خطورة، الى هذا الحد، حل المشكل بطريقة آلية : كل ما كان ينقصني هو الانتماء الى السوربون حتى أتناول الوجبات في مأوى الطلبة تقريبا بالمجان. ما العمل؟ لم تكن لدي امكانية ارتياد المطاعم او العيش عيشة عادية، لم يكن هذا منعطفا في حياتي لكنه كان هما ذا شأن. وبما انني رفضت مزاولة أية مهنة، فقد تعقدت مشكلتي اكثر، من حسن الحظ انني احتفظت بغرفتي في الفندق، والتي لم تكن تكلفني أي شيء تقريبا، لقد احببت ذلك البيت، حقيقة، ذلك البيت السطحي العذب، قريبا من هنا في شارع Monsieur Le prince ثم فجأة، لاحظت انهم شرعوا في طرد كل الزبائن الشهيرين، سواي، كنت على معرفة بمدير الفندق، فلم يقدم على طردي، لكنني قلت في نفسي: سيحدث ذلك لاحقا، ذات يوم، علي، اذن، البحث عن بديل، كان هذا عام 1960، كنت قد نشرت (تاريخ ويوتوبيا) وتعرفت الى امرأة مكلفة بإيجار البيوت. أهديت اليها نسخة من الكتاب ووعدتني بالمساعدة، ثلاثة أيام بعد ذلك حصلت على غرفة، مقابل مبلغ زهيد حقا، وفي مأوى خاص بالمكترين العجرة، حيث لم يكن ممكنا الرفع من سومة الكراء، لقد استفدت من تلك الغرفة أنا الهلوع من الشيخوخة، وان كنت اعتقد ان فعلتي تلك ظلم في حق المالك، هكذا نجحت في حل مشكلتي، كان كل ذلك ضروريا لتفادي ممارسة مهنة ما. شباب اليوم لم تعد لديهم مثل هذه الامكانية، هناك شباب يأتون لزيارتي يبدون رغبة في العيش كما أعيش.لكن فات الاوان،زال كل هذا، ما من امكانية.
* لكنك واصلت العمل، واصلت الكتابة على كل حال، ونشرت كثيرا؟
– نعم هذا صحيح، انك لا تستطيع العيش في النعيم مطلقا، أعني على حساب الآخرين، ادركت انني ملزم بالكتابة، وهذا كان، حقيقة، احساسا داخليا، هكذا نشرت كتابي الأول بالفرنسية، أي "موجزالتفكيك"، ثم بعد ذلك صارت لي اهتمامات واسعة، وكنت تساءلت منذ ذلك الوقت عن جدوى مراكمة الكتب، لم الكتابة ما دامت جمل قلائل هي كل ما يتبقى من الشخص، أليس كذلك؟ لكن يجب الاعتراف بكون الأيام طويلة جدا، ثم ان العمل كان يبعث، بالتأكيد، على نوع من الحيوية رغبة في الاعلان عن النفس، كنت مجهولا تماما طيلة ثلاثين سنة، كتبي لم تكن تباع قط، كنت سعيدا بهذه الوضعية التي كانت توافق فهمي للاشياء، الى حدود المرحلة التي ستنشر فيها مؤلفاتي ضمن سلسلة "كتب الجيب". بدا لي انها الطريقة المثلى الوحيدة للتأثير في قرائي المخلصين، بعد ذلك جاءت اكراهات التجربة الأدبية. لكن أجمل السنوات هي تلك التي يكون الكاتب خلالها مجهولا، ما ألذ أن تكون مجهولا، لهذه الوضعية جوانب مرة، أحيانا، لكنها وضعية رائعة. قدمت طيلة سنوات في الصالونات، حيث جاء علي زمن أحببت فيه احتساء الويسكي. وبعا أنني كنت بلا أهوال، فقد قدمت باعتباري صديقا ليونيسكو وبيكيت. قبلت أن أكون مجهولا، لم لا؟ لم يسع الشخص الى ان يكون معروفا؟
* لماذا قررت، فجأة، الكتابة بالفرنسية؟
– لقد قررت الا أعود أبدا لرومانيا، رومانيا، بالنسبة الي، انتهت صارت جزءا من الماضي بشكل نهائي، كنت على مقاطن البحر، في قرية قرب Deppei عام 1936 حين حاولت ترجمة شعر مالارميه الى الرومانية. ثم فجأة قلت في نفسي: "لست أهلا لهذا الشيء"، بغتة، اتخذت قرار الكتابة بالفرنسية، الى حدود ذلك الوقت أهملت الفرنسية، في حين انني درست الانجليزية كثيرا، بل تابعت دروس الاجازة في الانجليزية في السوربون، اتضح لي يوم قررت الكتابة بالفرنسية انها أصعب مما كنت اتصور، كان ذلك عقابا، كتابي الأول اعدت كتابته أربع مرات، جعلني ذلك أنفر من الكتابة. بعد ان فرغت من كتابة "موجز التفكيك" قلت في نفسي لا داعي للاستمرار في تعذيب النفس، ثم نشرت بمشقة (قياسات المرارة)، قلت لا داعي لتكوين جمل… الخ بعد ذلك واصلت الكتابة رغم كل شيء، ولا بد ان اشير الى ان Paulhan ألح علي كثيرا في التعامل مع N.R.E وعدته، وكان علي الوفاء بالوعد، وسأندم بعد فوات الأوان، هكذا اندمجت بمعنى ما، قبلت، تماما، الانتماء لمحيط الدائرة، كنت مجهولا تماما، لكن ذلك ليس سيئا، في نهاية الأمر، هذه هي سنوات الكتابة الحق، الكاتب من غير قواء، بالكاد يعرفه بعض الناس، لهذه المسألة بعض المساوي على المستوى العملي، لكنها حقبة الكتابة الحق للكاتب انه يشعر انه انما يكتب لنفسه.
* هل كانت هناك أسباب سياسية دفعتك لهجرة اللغة الرومانية، ومغادرة رومانيا؟
– ماذا يمكنني أن أصنع بلفتي الرومانية في باريس؟ لقد أحدثت قطيعة مع رومانيا، رومانيا لم تعد موجودة بالنسبة الي، لقد قدمت وعدا، قبل المغادرة، باعداد اطروحة، وهو ما لم يحصل أبدا، على كل حال، رومانيا نمات مجرد ماض، فما جدوى الكتابة بالرومانية في ظرف كهذا؟ ولمن سأكتب؟ ثم ان الذي كنت سأكتبه لم يكن النظام الحاكم ليقبله ابدا، انهم الآن، يسمحون بتداول كتاباتي، وينشر مقالاتي باستمرار في المجلات، بل أكثر من ذلك سينشر لي كتاب يضم كثيرا من كتاباتي، لكنهم، رغم ذلك، يرفضون على الدوام السماح لبعض النصوص بالتداول. تلك النصوص في نظرهم، نصوص وقحة، هكذا ينعتونها، فأنت عندما تصف الوجود بالاستحالة يفضون الطرف، لكنك اذا قلت باستحالة المجتمع يسائلونك، أنت حر اذا تعلق الأمر بالميتافيزيقا، وبا مكانك نكران أي مشيء، لكن اذا تعلق الامر بالمجتمع فتلك مسألة أخرى، معضلة هذه الانظمة انها ترغمك على التفاؤل، انها ترفض الخوض في القضايا الشائكة، ولا تدري ان هناك مسائل لا تقبل الحلول، مسائل مرتبطة بمصير الانسان ورجس التاريخ.
* هل صحيح انكم وقفتم عن طيب خاطر ويتعصب ضد الديمقراطية، نهاية الاربعينات؟
– تعلمون ان الديمقراطية في رومانيا ليست ديمقراطية حقة، كنت ضد الديمقراطية لأن هذه لم تكن تعرف كيف تحمي نفسها، لقد حار بتها لضعفها الشديد، كانت الديمقراطية الرومانية نظاما بلا غريزة بقاء، لقد حاربت شخصا أكن له كبير احترام : انه Julin Maniu رئيس الديمقراطيين الرومان، كتبت مقالة أقول فيها ان مدنيو كان عليه ان يكون رئيسا للحزب في السويد، أو في بلدان شمال أوروبا، لكن ليس أبدا في بلد كرومانيا، على الديمقراطية حماية نفسها بكل الوسائل واثبات حيريتها، لكن مدنيو لم يكن يحارب الا بمفاهيم مجردة ليس لها أدنى حظ في منطقة كالبلتان، كانت الديمقراطية الرومانية عاجزة، لم تكن في مستوى الحقبة التاريخية، ليس لائقا الايمان بالاشخاص، هكذا، لمجرد الايمان، ان اليوتوبيا البلقانية ماكرة، لقد كان الحزب الليبرالي لمدنيو ديمقراطيا، لكن في اللحظات الصعبة لا تستطيع هكذا أحزاب البقاء لانها تاريخيا، متجاوزة.
* وماذا عن الديمقراطية الغربية؟
– تتمتع الديمقراطية الغربية، على كل حال، بحركية ما، لان الديمقراطية هناك ولدت، وتستطيع انقاذ نفسها بنفسها، اللهم الا اذا اخفقت، ومن يدري، ان مشكلة الليبرالية والديمقراطية انهما قد يصبحان في الفترات الصعبة هباء، لقد رأينا ذلك من خلال تجربة هتلر التي هي نتيجة الضعف الديمقراطي، انها قصة واضحة.
* هل كانت تأملاتكم هذه عن الديمقراطية منطلقا لمفهومكم حول اليوتوبيا؟
– نعم لقد كان كتابي عن التاريخ واليوتوبيا تأملا في قصور الديمقراطية قلت في ذلك الكتاب ان المستقبل كله لروسيا، انه لامر عجيب حقا الا تكون روسيا مستولية على كل أوروبا: لكن العلم لم ينته بعد، المؤسف ان التاريخ لا يملك بديلا لتعاقب حكم الكبار، روميا كانت مهددة، تاريخيا، بانتصاراتها، وكان هذا الشيء الوحيد الذي استطاع انقاذ بقية اوروبا، الأمم الحرة في غرب أوروبا.
* ما الذي يربط في فكرك، الشخص بالتاريخ؟
– يحدث ذلك الربط بشكل سيئ جدا، بقلق، ليس هناك جسر، ويبقى القلق هو الحل، على الشخص ان يكون ذكيا، مع العلم ان الإفراط في الذكاء يجعل الحياة غيرمحتملة، ان الحياة لا تكون محتملة الا اذا أغفلنا الخلاصات النهائية.
* هل اخترق الفكر الهندي أعمالكم؟ فأنتم تتحدثون عادة عن النيرفانا، فهل يعني ذلك ابعادا للذكاء، وكون فلسفتكم في حالة نوم؟
– أنا بعيد عن هذا ايضا، لكن البوذية لعبت، تأكيدا، قبل عشر سنوات، دورا أساسيا بالنسبة الي، لقد كنت، على الدوام، بوذيا شيئا ما، اذا أمكن ان يكون المرء بوذيا قليلا، وحتى أقول الحقيقة كاملة : لو خيرت، ولو كان من اللازم اختيار ديانة دون الأخريات، لاخترت البوذية، فباستثناء مسائل قليلة، تبدو لي البوذية مقبولة، بل ملائمة.
* لكن هل نحن أحرار في اختيار ديانة ما؟
– ينهض هذا الاختيار على استعداد ذهني تام، اني اقبل بعض المسائل المحددة جدا كالرؤية الى الالم، لكن فكرة الارتحال، او ملامح بوذية أخرى، كيف أقبلها؟ لابد أن يكون المرء ذا تراث حتى يتقبل مثل هذه الأشياء، لابد من اقتسام طريقة التفكير وطريقة رؤية العالم، كيف يمكن تقبل فكرة التقمص، وفكرة مراحل الحياة، مثلا؟ انني أرفض، في البوذية ما هو دوغمائي، عكس الروح التي أقبلها تماما. كل ما تقوله البوذية عن الألم، عن الموت…. الخ، مقبول، أي الجانب السوداوي، هذا الجانب السوداوي، تحديدا، هو ما دفع بوذا الى هجران العالم، ثم ان البوذية، في كل الأحوال، هي الديانة التي تتطلب ايمانا أقل، المسيحية واليهودية يفرضان أشياء أشد دقة وأنت مطالب بالاعتقاد والا شك في ايمانك، عكس البوذية التي تقبل فكرة التخلي، ان الاسباب التي جعلت بوذا يهجر الحياة يمكن تقبلها من غير صعوبة، شريطة أن تكون لدينا الجرأة لاستخلاص النتاج الاخيرة. ان البوذية لا تشترط أي نذر، ولا أي اقرار بالذنب، ولهذا، فهي على أهبة الحلول محل المسيحية.
* أما تزال ذلك المتنزه العظيم؟
– نعم. بكل تأكيد.
* ومازلت ترتاد المقابر؟
– ليس المقابر وحدها، الحقيقة انني أدمنت زيارة المقابر، لكن مقابر اليوم ليست جميلة كمقابر الامس، لقد أصبحت مكتظة، انني عادة ما انصر أصدقائي، بل حتى الناس الذين لا أعرفهم، والذين يمرون بفترة ضيق ويأس بالذهاب الى المقابر أقول لهم : "ان المكوث لمدة عشرين دقيقة داخل مقبرة يكفي، لا للقضاء على اكتئابهم، لكن، تقريبا لجعله متجاوزا". مؤخرا صادفت فتاة أعرفها منذ مدة، وهي في حالة ضيق شديد جراء الحب، قلت لها: "اسمعي، انك على مقربة من مونبارناس، اذهبي هناك تنزهي لنصف ساعة من الزمن وسترين ان مصيبتك غدت مستحملة". ان زيارة مقبرة أجدى من مراجعة طبيب، جولة سريعة في مقبرة هي درس آني في الحكمة، شخصيا، مارست هذه الامور، ان ذلك ليس حلا، لكنه، نسبيا، مجد. ماذا بوسعنا ان نقول لانسان يلفه يأس عظيم؟ لا شيء. تقريبا، ان انجع وسيلة لتحمل هذا النوع من الفراغ هي ان يكون لدى الانسان وعي بالعدم، من دون ذلك، الحياة لا تحتمل، اذا كان لدى الانسان وعي بالعدم، فان كل ما قد يصيبه يحتفظ بنسبه العادية بعيدا عن النسب المجنونة التي تطبع الافراط في اليأس.
* إنه حل سهل، هذا الذي تقدمونه هنا؟
– بكل تأكيد، على الانسان أن يعرف قدره، اعرف، مثلا، كثيرا من الكتاب الشباب الذين ينوون الانتحار لاخفاقهم في مشروعهم الابداعي، أنا أتفهم هذا جيدا، لكنه من الصعب طمانة شخص بلغ هذه الدرجة، ان التجربة الأكثر ايلاما في الحياة هي تجربة الفشل، وكل نفس تذوق الفشل.
* لكن، ماذا يستخلص الانسان من تجربة الفشل؟
– ان الفشل تجربة عجيبة، لكن الكثيرهن الناس لا يتحملونها، نجد هذا عند كل الفئات، عند الناس العاديين، كما عند علية القوم، لكن الحياة، في نهاية الامر، مجرد تجربة في الاخفاق، ذوو الطموح الذين يخططون لحيراتهم جيدا، وينشغلون بالمستقبل، هم من يتأثر بتجربة الفشل أكثر، لهذا أبعث الناس الى المقابر، انها الوسيلة الوحيدة لتقليص وطأة حالة تراجيدية.
* قلت انك توقفت عن الكتابة، أتعتقد ان هذا الحالة ستطول؟
– لست أدري، لكنه من المحتمل جدا الا أعود الى الكتابة ابدا، يرعبني رؤية كل هذه الأكوام من الكتب التي تصدر. هؤلاء الكتاب الذين ينشرون، على الاقل، كتابا كل سنة، انها عادة سيئة، بدا لي انه من غير اللائق الاستمرار في الكتابة، على المرء أن يتعلم كيف يكف عن هذه العادة، لم يعد للكتابة معنى عندي، الكتابة يلزمها شيء من التحمس، لابد من الانتظار، ثم انني قلت في نفسي أنني قد شتمت المقدس، وشتمت العالم بما فيه الكفاية.
* لكنك، في كتاباتك الفكرية، ما تزال تشتم.
– بشكل أقل، أنا مكره على ذلك، ان التقدم في العمر يفرض نوعا من التخلي الطوعي، ثم ان التعب أضحى الآن حقيقة لا مفر منها، نستطيع الاستمرار في الكتابة، في الكلام، لكن هذا الصنيع اذا لم يعد استجابة لنداء داخلي يغدو مجرد عملية محض أدبية. وهذا ما أرفضه، لقد آمنت، دوما، بما أكتب، وهنا، تحديدا، تكمن سذاجتي، ليس هذا التخلي بالعمل الجيد، وهو لا يطابق طبيعة فهمي للأشياء، لكن، ليكن : بديهي اننا اذا كنا نملك مفهوما للعدم، فمن اللاجدوى، بل من المضحك كتابة كتاب، لم الكتابة؟ ولمن؟ لكن، رغم كل هذا هناك حاجيات نفسية داخلية، تخرق هذا الفهم، حاجيات من طبيعة مغايرة، حميمة، عجيبة، ولا عقلية.
اننا لا نستطيع الجمع بين العدم، في أقصى تجلياته، وعمل آخر، العدم ينحي كل شيء جانبا، فكرة الوفاء مثلا، أو فكرة الأصالة.. لكن، هناك، على الأقل، هذه الحيوية التي تدفع المرء الى فعل شيء ما، ان الحياة على ما يبدو، ليست أكثر من هذا: الانخراط في انجاز شيء من غير اقتناع، نعم، هذه هي الحياة، تقريبا.
ـــــــــــ
* العنوان من وضع المترجم. عنوان الحوار الأصلى "دروس الحكمة".
ميخائيل جاكوب محمد الصالحي (شاعر ومترجم من المغرب)