خالد عزت
في السادس من أيار عام 1992أذيع في باريس نبأ وفاة أسطورة السينما في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي “مارلين ديتريش”، بعد قليل انتشرالخبرالفاجع بين استديوهات السينما وصناعها في أرجاء مختلفة من العالم، لكنني عرفته في اليوم التالي كطعنة في القلب.
ذات مرّة كتبت اعترافًا عن ولعي بوجه مارلين منذ أن رأيته في المرة الأولى التي ولجت فيها دار العرض المجاورة بصحبة عائلتي، حيث كان يعرض لها الفيلم الشهير الملاك الأزرق der blaue engel بجوار فيلمين آخرين في نفس البرنامج نسيتهما بطبيعة الحال.
كنا في سنوات السبعينيات، وكان الفيلم الأشهر لملكة الإغواء ما يزال يستعاد عرضه بين الحين والآخر في دورالعرض الشعبية من فئة الدرجة الثانية والثالثة، حتى بعد انقضاء ما يربو عن أربعين عامًا على إنتاجه؛ فقط من أجل استكمال زمن العرض في الحفلة المسائية التي تستمر إلى ما بعد منتصف الليل.
كانت المرّة الأولى لي التي أرى فيها وجهًا بشريًا منعكسا أمامي على”الجدار/الشاشة” بمثل هذه الضخامة المفرطة لعينيْ طفلٍ تيقظت حواسّه دفعة واحدة، وهو يجلس في العتمة السحرية لصالة العرض الرثّة، يحدّق متحيّرًا إلى الوجه العالق أمامه في جلسته القلقة غير المستقرّة، وسط صخب المتفرجين وهرجهم من حوله.
في هذه الأجواء الكرنفالية المنقرضة أطلت عليّ مارلين بوجهٍ آسرٍ كبلّورة متفجرة بضوء الشهوة المهلكة، يؤطّره صوتٌ أجشّ كفحيحٍ جنسيٍّ يُشارف أن يكون ذكوريًّا قحًّا، لكنّه يَكبح جماحَ نفسه وراء غلالة رقيقة تقع بين عالمين دون أن يكشف عن انتسابه الحقيقيّ إلى أيّهما.
لم أكن قد رأيت من قبل شيئًا يُماثله في رعبه المغوي، الذي دفعني إلى النعاس من فرط خوفي ومحايثته لي في الفيلمين التاليين، وعندما فتحت عينيّ؛ وجدت نفسي في الفراش، نظرت للحيظات إلى سقف الحجرة ثم عدت ثانية إلى النوم العميق.
تخايل أمامي بحزن ذلك الوجه المغري في صوره المبعثرة: وجه مثلث التكوين، ينتهي بذقن مستدقة كمنحوتة من رخام، له عينان تحدّقان باتساع في وقاحة متملكة، كما لو كانتا تريدان التهام كل ما يقع في مجالهما البصريّ، ثم وجنتان بارزتان تلقيان بظلالهما الناعمة على جانبيه.
إنه وجه غريب لامرأة أجادت لعب دور المرأة محطمة القلوب على الشاشة، وفي الحياة، وهي تقف في صلابة تراقب العالم عن بعد، غير مكترثة بما يحدث حولها، تحدق بمللٍ وضجرٍ دون أن ترى شيئا، فعيناها تنظران دوما إلى نقطة غير مرئية تقع في الأمام.
وفي لعبة المقاربات المجازية رحت أستعيد في ذهني على الفور إحدى قصص الكاتب الأرجنتيني “بورخيس” كنت قرأتها قبل وقت طويل، عندما تموت معشوقة الراوي الممثلة الأرجنتنية بالغة الجمال والشهرة “تيوديلينا فييار” التي كانت صورها تتصدر أغلفة المجلات الشعبية في ثلاثينيّات القرن الماضي، لكن بفعل الظروف تنسحب عنها الأضواء وتتوارى عن الأعين لتموت فجأة، فيذهب الراوي لحضورمراسم تشييع جثمانها؛ لكنه يقرأ في وجهها كل اللحظات التي مرّتْ بها عبر أطوار حياتها: السلطة، العاطفة، الرعونة، الامتلاك، التضحية. فخلال السهر إلى جانب أجداث الموتى يعمل تقدم العفن على أن يستعيد الميّت وجوهه السالفة.
قبل أسبوع واحد من رحيلها تناهى إليّ أنها سقطت في غيبوبة عميقة، وأيقنتُ في نفسي بأنّها النهاية المرتقبة لوجه شغفت به طيلة حياتي. وعلى نحو ما فكرت في ذلك الثقب الأسود الذي انزلقت داخله، منتزعة نفسها من قوانين الجاذبية التي كبلتها، فبإمكانها الآن أن تجمع في يدها كل لحظات حياتها التي عاشتها في الماضي، أو التي لم تحدث بعد.
أثناء ذلك، التقطت عيناي وجه شيخوختها المدَّمر، وهي ترزح تحت ثقل عمر مديد امتدّ بها إلى العقد الأخير قبل المائة، كانت الصورة الفريدة تتخلل التقارير الإخبارية التي أخذت تلاحق الوقت في تقديم سرد موجز لحياتها، وأيضا تهيئة مشاعرعشاقها إلى اقتراب لحظة وداعها لعالمنا.
فى الصورة كانت جالسة على مقعد متحرك، متخذةعرضا وضعية شبه جانبية “تروكار” بالنسبة إلى عدسة التصوير، وقد ارتدت معطفًا ثقيلًا من الفراء، حاجبة شعرها وراء عمامة داكنة اللون. لبرهة أغمضت عينييّ، لم أحتمل رؤية الوجه الساحر وقد اهترأ وأصابه التدمير، بينما كانت عيناها المكدودتين تحدقان بنظرة عدائية وشرسة إلى الخارج.
كيف لي أن أصف ذلك الإحساس المرعب الذي اخترقني برجفة حسيّة تجاه تلكما العينين اللتين كانتا تطقطقان أمامي على سطح الصورة الفوتوغرافية بنظرة ممتلئة بشرر القسوة البليدة، التي حملت إليّ في التوّ صورة التشوّه الداخلي الذي يفوح بنتانة جسدها في شيخوخته الكئيبة.
خمنتُ على الفور أن الصورة الاستثنائية التُقطت لها خلسة بطريقة ما، فلم تكن تسمح بأن يقترب منها أي مصور صحفيّ منذ قرارها بالاحتجاب عن الظهورعلى الشاشات في منتصف السبعينيات، عندما ظهرت في آخر مشاركة لها بالتمثيل عام 1975 في فيلم “مجرد جيجولو”. باستثناء ظهور مفاجئ هنا وهناك كمغنية على المسرح في السنوات الأولى من السبعينيات مستعيدة الصوت البعيد للولا اللعوب في الملاك الأزرق، الذي يشبه أنين رغبة لا تعرف الارتواء.
ظلت مارلين متكتمة دوما على أسرار حياتها الشخصية خاصة مراحل صعودها إلى عالم السينما، وعلاقاتها الجنسية والعاطفية الملتبسة، معلنة تذمرها من ملاحقة الكاميرات لها، وأنها تريد أن تعيش البقية المتبقية من حياتها في عزلة كأي شخص عادي، وقد طفح بها الكيل من مارلين الأخرى؛ المرأة الأسطورة التي تريد لها الآن أن تدفن بلارحمة.
على وجه الدقة لا أحد يعرف ما الذي جرى لها خلال السنوات المتأخرة، وحتى مماتها !، تلك الفجوة في صيرورة حياتها، التى لا يمكن التكهّن بما كانت عليه إلا في ظلّ الصور والمواقف السابقة التي يمكننا القياس عليها، أي الماضي الذي يغرق الحاضر بأمواجه، والذي تريد مارلين محوه إلى الأبد بوصفه وصمة عار. وباستثاء ماكتبته ابنتها “ماريا ريفا” في كتابهاعن حياة أمها الشخصيّة والفنية، من أجل طلب الشهرة وجلب المال، الذي لا يمكن الركون إليه، نظرًا للمشاعرالمضطربة؛ إن لم تكن العدائية التي كتبت الابنة من منظورها ذكرياتها عن الأم باعتبارها واحدة من أساطير السينما في عصرها الذهبي؛ فإننا لا نملك شيئا عن النهايات.
في العام 1982 سعى المخرج والممثل الألماني “ماكسميليان شل” للقائها في شقتها بباريس، كي يقنعها بتصوير فيلمٍ تسجيلي عن مسيرتها، لكنها ترفض أن تظهرصورتها بوصفها امرأة مسنّة أقرب إلى حطامٍ بشريٍّ على الشاشة، مكتفية بصوتها فقط، لكنّه قام بعد تسجيل المقابلة بتشييد ديكورمطابق لشقتها للإيحاء بواقعية اللقاء المصور.
في الحوار كانت تنتقل بين اللغتين الإنجليزية والألمانية، وهي تحكي ذكرياتها بصوتها الأجش الهادئ لدرجة البرود، دون أدنى انفعال عاطفي مع مواقف حياتها السابقة بكل مفارقاتها، وهي تشير إلى نفسها في الماضي بضمير الغائب، كما لو أن شخصيتها قد انفصمت مثل مرآة مشروخة تعدد وتشطر الذات إلى ذواتٍ متعدّدة.
في النهاية، نجحت مارلين فى فرض صورة العزلة والصمت اللذين أرادتهما لنفسها فى الحاضر، تاركة لنا صورها وأفلامها ومخلفاتها الشخصية في الماضى كلعبة نلهو بها في لحظات التأمّل في أبعاد الوجود الإنساني المفارق، ملازمة جدران شقتها بباريس مكتفية بالجلوس لفترات قصيرة في شرفتها تطل بنظرة مرتعشة على حركة المارّة بالشارع، غيرعابئة بما يحدث حولها.
كانت تشتهي “الغياب” وأن تختفي من الحاضر كوجود شخصي محسوس حتى يطويها النسيان بلمسة سحريّة، وبصورة غير ممكنة في عالم تهيمن عليه الصور والشاشات، لكنها كانت تخبئ اليقين تحت إبطيها، موقنة بأنه حتى مع غيابها الجسدي فستظل تمثيلاتها البصرية حاضرة حضورًا مُدهشا غير قابل للغياب، كأيقونة، لا كإنسانة مآلها إلى التراب.
فعلى مدار أكثر من خمسين عامًا وهبتنا مارلين نفسها طواعية كموضوع للتأمل/ للكتابة / للنحت / للتصوير/ للرسم، وبشكل لا واعٍ أرادت في دخيلتها الذوبان في المرئي، وقد أيقنتْ مبكّرًا أن وجودها كائنًا في المرئي ولاشيء آخر.
ببطء، كنت أغرق في بيوجرافيا غامضة من الصوروالأفلام والشرائط الموسيقيّة، عدتُ إلى ألبوم صورها الملتقطة لها في طفولتها، بدت أمامي مارلين أو ماريا ماجدالینا فون لوش – وهذا هو اسمها الحقيقي- في تتابعات بصريّة لا تشي بما ستكون عليه بعد سنوات قليلة. مجرّد طفلة شاحبة الوجه تجلس داخل استديو تحدق بذهول ناعس في عدسة التصوير الفوتوغرافية، مرتدية أثوابًا بيضاء بحواشٍ مطرزة على موضة بداية القرن الماضي.
كنت أفكّر وأنا أنظر إلى صور طفولتها أن ذلك الحزن المعلق في مقلتيها سيدوم معها حتى النهاية، حتى مع محاولاتها دفعه بعيدًا إلى الأعماق تحت سوط لهجتها الحادّة، أو تحت قناع المرأة الفتاكة التي تقود الرجال إلى مصائرهم. ففي تلك المرحلة المبكّرة من طفولتها يتولّد لديها الإحساس بالتهديد، وأن العالم مكان غيرآمن، بعد الموت الفجائي للأب” Lonie Dietrich ” الذي كان يعمل في الشرطة البروسية، بُعيد نزوح العائلة من ضواحي برلين والاستقرار بمدينة فايمار، ولكن سرعان ما تتزوج الأم ذات الشخصية المتسلطة من ضابط يعمل فى الجيش الألماني لكنه يموت بدوره لاحقا على الجبهة في نهاية الحرب العالميّة الأولى، وهو الحدث الذي سيترك أثره العميق على صيرورة حياتها فيما بعد، وسيدفعها غريزيًّا إلى حالة من التعلّق العاطفيّ الشديد بصورة الأبوين الغائبين، لدرجة التوحّد الجسديّ بطباعهما “كشكل من أشكال الدفاعات النفسية” في تقليدها للمشية العسكريّة التي اشتهرت عنها لاحقا.
مَشْية لها مظهر ذكوري، تتسم بالمهابة والرزانة في خطواتها المنتظمة والواثقة، حتى وهي تؤدي على الشاشة أدوار الراقصة اللعوب بفتنتها الجسديّة، لكنها تؤدي دورالعاهرة على نحوٍ مغاير من النمط الشائع والمألوف في الأذهان. إنها تتنقل بين عشاقها في ثبات وقوة تميل إلى السيطرة وامتلاك الرقعة التي تقف عليها بقدميها، فهي تؤدي إغواءها المقتدر بلاغنج أو أدنى اهتزاز عاطفيٍّ يفرضه عليها تكوينها الأنثوي، كما لو أنها تريد إحداث الصدمة بالكشف عن الهوّة القائمة بين الداخل والخارج، بين مظهرها وكينونتها. لكنها في الوقت نفسه ودون أن تدري كانت تعكس صورتها الراسخة في أعماق روحها، والتي تنحو إلى الانطوائية والفردية المتأهبة دوما لافتراس النوع، معمقة داخلها حالة من الانقطاع بينها وبين العالم من حولها.
تتوارى صور الطفولة ذات الوجه الملائكي إلى الخلف، لتفسح مكانًا لصور مراهقتها القلقة والمشوشة. كانت مراهقة ماريا ماجد إلينا أشبه بحياة فوق بركان مستعر، فصور الدمار التي خلفتها الحرب ظلت ماثلة دوما أمامها، بالإضافة إلى التحوّلات التي أخذت تعصف بتاريخ بلدها بعد هزيمتها وضياع الإمبراطورية البروسية وتحولها إلى جمهورية فايمارweimar، حيث تبدأ حقبة جديدة تنحصر بين عامى”1919-1933″ تلك المعروفة بحقبة جمهورية فايمار، التي تعدّ بعثًا جديدًا للقوميّة الألمانيّة، وانتعاشًا صاخبًا للفنون والعلوم والصناعة، وغالبًا ما يستشهد بها بصفتها واحدة من أكثر الحقب ازدهارًا في الإنتاج الفكري والثقافي في التاريخ البشري. ففي تلك الآونة ستدشن مدرسة الباوهاوس لمؤسسها “والتر جريبوس” مفاهيمها في العمارة والبناء، التي ستغير وجه أوروبا وأمريكا خلال القرن العشرين بأكمله.
في هذا العالم المتشابك والمعقد في صراعاته التاريخيّة أخذت “ماريا ماجد الينا” تتحسس أولى خطواتها بصورة متعثّرة. فى إحدى الصور التي تم التقاطها لمارلين في تلك المرحلة السنيّة تظهر لنا وهي تعزف على الكمان، محتضنة الآلة بين ساقيها في وضعيّة متهكّمة. وفي صورةٍ أخرى ملتقطة في عام 1926 تظهر في حفلة موسيقية بمصاحبة فرقة جاز، وهي واقفة تغني على البيست بشعرها المقصوص، مرتدية ثوبا منسوجًا من فتل الحرير يكشف عن ساقيها الطويلتين والمبهرتين بغرابة انسيابهما الناعم.
كانت قد التحقت بإحدى الأكاديميات الموسيقيّة لتعلم العزف على آلة الكمان؛ متأمّلة أن تصبح في يومٍ عازفة أوركسترالية محترفة؛ لكنها لم تكمل دروسها لضعف جسماني أصاب أصابع يدها جعلها غير قادرةعلى مواصلة تدريباتها الموسيقية، فحولت وجهتها إلى عالم الرقص والغناء فى مسارح الكباريهات حيث تختلط العروض البرلسك الراقصة بالاسكتشات الهزلية بالإثارةالجنسية الكاريكاتورية؛ لكنها لم تكتفِ فقط بتحويل مسارها من الموسيقى إلى الرقص والتمثيل؛ بل أيضا قامت بتغيير اسمها الأصلي “ماريا” إلى “مارلين” مختلقةً الاسم الجديد من الحروف الهجائية الأولى من اسمها الثنائي.
وكعاداتها دائما في تغيير مساراتها بشكل فجائي، بفعل شيطان الضجر، والرغبة في العثورعلى مكان مثالي تجد فيه موطئا لقدميها، وذاتها الممكنة، كما لو أنها تودّ أن تخبرنا بأنها الصورة التي تُوجد فيها بإرادتها، فسرعان ما تهجر مسارح المنوعات لتلتحق في العام 1922 بفرقة المخرج الشهير ماكس رينهارد مشتغلة ببعض الأدوارالصغيرة “كومبارس”بمسرح برلين، واضعة نفسها على الدرجات الأولى كممثلة تحت إمرة مخرج له اعتباره في نطاق المسرح الأوروبي.
لم يكن وجه مارلين قد تشكّل بالصورة التي نعرفها الآن، كانت على حدّ قولها في وصف مظهرها: شاحبة الوجه، نحيلة القد، ذات شعرٍ طويل يضفي عليها مسحة من الإعياء والمرض.
مجرد فتاةعادية لم تنضج أنثويا بعد، لها ردفان مسطحان، وساقان طويلتان، وجسد يسير على خلاف مع المخيلة الجنسية السائدة آنذاك. لكن القدر لن يدعها تنتظرطويلا حيث سيلتقطها المخرج النمساوي الأصل جوزيف فون ستيرنبرغ “1894- 1969” بالصدفة وهي تغني وترقص بأحد الكباريهات مرتدية ملابس رجالية كامرأة فخورة بمظهرها الذكوري”butch “- وهو ما سيظهره فيما بعد في فيلمه المغرب – في الوقت الذي كان يعمل فيه على تحويل رواية الكاتب الألماني هنريش مان “الأستاذ أونراث professor untruth” إلى فيلم بعنوان الملاك الأزرق لحساب شركة “UFA Film”.
وكأن كل الصدف قد اجتمعت لتهيئ لها طريقها نحو النجومية، عندما تواتيها الفرصة بالتمثيل في أول فيلمٍ ناطقٍ في السينما الألمانية، فسمع الناس صوتها لأول مرّة عبر التقنية الجديدة، بينما على الجانب الآخر أدّى دخول الصوت إلى تعميق مأساة كثير من نجوم السينما الصامتة وانسحابهم بعيدًا عن الأضواء، لعدم تكيّفهم مع الاختراع الجديد.
تكشف لنا الصورالفوتوغرافية الملتقطة لجوزيف فون ستيرنبرغ في سنوات العشرينيّات عن وجه حاد التقاطيع، تشي ملامحه بالترفع الارستقراطي والانطوائية، ويبدو شديد التأنق في ملبسه على موضة العصر. عندما التقاها في “ملهى البار” الشهير بدت له في بادئ الأمر أشبه بربة منزل سمينة تحاول جاهدة أن تبدو كأنثى جذّابة؛ لكنّه فجأة هتف في غبطة وهو يشير إليها: “هذه هي لولا”. في هذه اللحظة كان ستيرنبرغ قد عثرعلى بغيته الفنية التي بحث عنها طويلا.
إنه لقاء القدر الذي وضعها أمام مخرج يمتلك حساسيّة مرهفة، الذي كان في حقيقة الأمر يبحث عن مرآة لروحه في صورة امرأة. إن أسطورة بيجماليون الخالدة تتجلى بشكل معاصر في العلاقة الملتبسة بين مخرج يمتلك سطوة الموهبة وممثلة ناشئة لم تكن لتستوقف بجمالها أحدًا من قبله، وعندما رأى وجهها فتن بها إلى حدالشغف، وأبصر فى الوجه ما لم يره الآخرون.
كانت مارلين حينئذ فى الثامنة والعشرين من عمرها، ولم يتسنّ في هذا العصر لممثلة في مثل عمرها أن تتربع على عرش السينما فجأة، وهي تقترب من الثلاثين، باستثناء امرأة واحدة هي ممثلة الإغراء “ماى ويست” التي ستظهر على الشاشة لأول مرة في العام 1932 وهي في الأربعين من عمرها.
في التو أصبحا عاشقين لا يفترقان، أسلمت له نفسها طواعية بلا عناد، وعلى غير طبيعة شخصيتها التي تميل إلى إخضاع الآخرين لإرادتها، وقد وجدت ملاذها في صحبة المخرج العبقري ليقوم بتشكيل حياتها من جديد، بعيدًاعن الأجواء التي عاشتها في الملاهي الليليّة وسط عوالم المخنثين، مع كونها في ذلك الوقت كانت زوجة لرودلف سايبر والد طفلتها الوحيدة ماريا سايبر “الذي سيعمل لاحقا مساعدًا مع ستيرنبرغ في الأفلام التي سيحققها لمارلين في هوليوود”.
لكن مارلين في حقيقة الأمرلم تكن تبادل ستيرنبرغ عاطفته، وشغفه الحسي بها، ظلّت تنظرإليه بوصفه مخرجًا مقتدرًا، معتبرة إياه مجرد درجة في رحلة صعودها المهنيّ ليس إلّا.
في المقابل منحها ستيرنبرغ كلّ ماعنده، وقد وقع أسيرًا لسحر تمثاله، فبخبرته وبحسه الفني أدرك الإمكانيات التمثيلية التي ينطوي عليها وجه مارلين، وكيفية تصويره وتطويعه في مواضعات وزوايا محددة، قادرة أن تخفي وراءها ضعفها كممثلة، وقلة حيلتها في تجسيد المواقف الدرامية المعقدة التي تتطلب جهدًا من المؤدي في إبراز المشاعر.
كما أنّه أضفى على مارلين في تصويره لها حسًّا بالنعومة والطراوة؛ متأثّرا بأسلوب التصوير الباروكي في عنايته بإبراز تكوينات الجسد البضّ في حركته وسكناته وانثناءاته داخل أطر جماليّة لإبراز الحسية الوحشية التي تشيع منها. متفنّنا في رسم الأجواء الغنائية lyrical التي تعكس حسّه المُرهف إزاء العوالم التي يقوم بمعالجتها بنزعة باروكية أصيلة، وفي عنايته الفائقة بالأماكن التي تحيا داخلها شخصيّاته، والتي تعاني جميعها حالة قدريّة من التصادمات العمياء والتفسخات العاطفية والمشاعر المضطربة وفوضى الحواس المنفلتة.
لقد أخضعها ستيرنبرغ كليا لمخيّلته في تشكيل صورتها الجديدة، وجعلها مطابقة للمرأة التي تتوق إليها روحه، وفقا لمخطط نحتيّ صارم: نزع الأضراس الخلفيّة بحيث تشكلت أجواف الخدود على خلفية عظام الخد الناتئة للأمام، رفع قوسي الحاجبين حتى تطالا الجبهة من أجل إبراز تجويف العينين الأكثر زرقة وجمالًا في العالم، مع إسباغ هالة من الغموض عبر النظرات الطويلة المرسلة من بين جفون مسترخية ونصف مغلقة.
بينما تكفل السيد ماكس فاكتور لمستحضرات التجميل بالبقية المتبقية؛ فقام بتعزيز حضورالوجه الطاغي بوضع لمساته الأخيرة لتأطير الوجه وأيقنته، وجعل عینيها أكثر اتّساعا كبئرعميقة ومظلمة لا يمكن سبر أغوارها، عبر إضافة طبقات من ظل العیون، ومع استخدام أسلوب سموكي للعینین بدا خدها أكثر تورّدًا، وشفتاها واضحي المعالم؛ ومن ثم فقد تصدّرت صورة مارلين الأيقونية منذ ذلك الوقت الدعايات الترويجية لأدوات التجميل تحت عنوان: “إطلالة مارلین دیتریش الأسطوریة “. وبمرورالوقت صارت النسخة المصطنعة هي الأصل؛ حاجبة وراءها الوجه الحقيقيّ لمارلين في إعادة تصنيعه كلاهوت مرئي مقدّس للجمال، وفقا لسلطة الأيقونة.
أما ما تبقى لها من حياتها الأولى فهما ساقاها الرائعتان؛ إنهما الشيء الوحيد الذي ظلّ على حاله كإرث توارثته عن أسلافها الجيرمان، اللتان ستقوم بزرعهما كحربتين قاتلتين أمام أعين المتفرجين عند ظهورها في فيلم الملاك الأزرق.
لقد أصبحت صورتها الآن مزيجًا من نساء روبنز الأكثر بضاضة، مليئة بشبق الحياة والجنس، التي يحلم بها جميع الرجال العاديين فى الطرقات، وفي الوقت نفسه تحاكي في أسلوب حياتها اليومية صور النساء في لوحات الرسّامة الطليعيّة ” Tamara de Lempicka” وكتابات الكاتبة اناييس نن anis nun مقدمة نفسها بوصفها امرأة عصرية تعشق حياة الترف والبذخ في المدن الحديثة كأسلوب حياة، وتتمتع بالقوة والنفوذ المتحدية لرواسب الإرث الأخلاقي الفيكتوري.
عندما طالعت مارلين صورتها الجديدة في المرآة لأول مرة افتتنت بصورة الوجه حسب قولها. لقد سقطت في اللحظة التي رأت فيه وجهها منعكسًا أمامها أسيرة مرحلة المرآة، إنها اللحظة الحاسمة للانسحار وانكشاف الذات المخبوءة، وأيضا ميلاد أسطورة نرسيسيّة معاصرة.
إن “رؤية الوجه” بالأخص يتعلق بحالة الافتتان بالذات والتعلق بها، مثل نرسيس الذي فتن بوجهه الجميل بمجرّد أن رآه منعكسًا أمامه على سطح ماء، فظلّ مكانه يهيم بصورة الوجه حتى ذبل ومات، فنبتت عندئذ زهرة النرجس وولدت منها الأسطورة. إنّه الشيء الوحيد دونما أعضاء الجسد الذي لا يمكن رؤيته إلا مقابل أداة خارجيّة كالمرآة أو عدسات التصوير. يمكن لمسه لكن لا يمكن رؤيته على الإطلاق، فالمرآة هي المقياس الوحيد لقياس تحوّلات الوجه نحو الجمال والشباب، ثم إلى الشيخوخة والعجز. فمنذ تلك اللحظة الفارقة ستلازمها المرايا كظلها في كل مكان تذهب إليه بوصفها رفيقة درب متواطئة في الخفاء مع آلة الزمن.
فيما بعدعلّق جوزيف فون شترينبرج قائلا: “إنه لم يخترع شيئًا لكنّه أبرز سحر جمال ديتريش الحقيقيّ، مخفيًا أوجه قصورها، ونتيجة لذلك تبلورت الصورةالحقيقيّة لأفروديت”.
لقد غيّرت مارلين من أشكال الوعي بالجمال خلال النصف الأول من القرن الماضي بابتكار صورة محايثة ومصقولة للخيال الذكوري، صورة غير إنسانية في جمالها، ولا تمت بصلة للمرأة العادية التي تمشي في الشارع وتقوم بأعباء الحياة اليومية. إنها ليست أكثر من صورة افتراضية يستحلب عبقها في أحلام اليقظة، ولا تعي إلا نفسها ومكانها السماوي هو شاشة السينما، حيث لا تتبدَّى للبشر إلا وسط الظلام.
فدائما ما نظر المصورون إلى وجهها كأيقونه مثاليّة للجمال الأنثوي “خاصّة في الحقبة الذهبيّة لهوليوود ” عبر استخدام تقنيات التصوير الناعم، والضوء المشع المنعكس عن العواكس الضوئية، والتناقض الحاد بين درجات الأبيض والأسود، والظهور في وضعيّات استاتيكيّة تتسم بالغموض، وتوحي بالثقل المقدّس للمرأة المختبئة وراء أثواب أشد غرابة في تصميماتها بفضل مخيّلة مصممي الأزياء “ترافيس بانتون وجان لویس وتشانیل وإلسا شیافاریلي ودیور”، التي يصعب محاكاتها كمجرد أثواب لتزيين الجسد في الحياة اليومية، فهي أثواب وضعت “لترتدينا داخلها” بالنظر، حيث تتبدَّى لنا مارلين عبر تلك الأثواب في صورة كائن أسطوريٍّ مقدّس وقاسٍ لا يمكن التكهّن أبدا بما تنطوي عليه دخيلته في الأعماق الموحشة، فالأسطورة تحتاج دومًا إلى عمليات ضخّ خياليّة كي تعيش داخلنا.
كانت صورة مارلين السينمائية محكومًا عليها بالنجاح؛ لكنّها أصبحت منفصلة عن ديتريش الحقيقية في الحياة، التي تمّ دفنها في مقبرة النسيان، ولم يعد أحدٌ مهتمًّا باستردادها من الماضي، وقد تحوّلت الحياة الشخصيّة الخاصّة لديتريش إلى جزءٍ من عملها المهني في التمثيل والسينما، مجرّد عرضٍ فنيٍّ استعراضيٍّ مُبهر ومرعب في الوقت نفسه، ومجال للاستنزاف اللغوى عبر تناقل الحكايات السريّة عنها، من أجل شحن الأسطورة كمنتوج خياليّ بالوقود اللازم لاستمرارها، ولتأكيد أنّ مارلين ليست أكثر من كائن خياليٍّ ينتمي إلى عالم الأحلام ولا يمتّ للواقع بصلة.
ومن جانب آخر صارت ديتريش وما تمثله من أفكار ونزوع إلى الغرابة في ممارسات حياتها اليومية بظهورها في أوساط التجمعات الأمريكية التقليدية والبيورتانية، مرتدية أزياءها الرجالية، وربطات العنق، والبيريهات التي تشبه “الكاب” العسكري مائلةً على جبهتها العريضة، والسيجارة مشتعلة دوما في زاوية فمها، قوة دفع حداثية للجدال الثقافيّ والسياسيّ الدائر آنذاك حول حريّة المرأة والمساواة الجنسيّة، في وقت اعتبر ارتداء المرأة للأزياء الرّجالية خرقا للأعراف الموروثة وخروجا عن المألوف؛ لكنّها أشاعت ذوقها بين النساء في الأوساط الطليعية المثقفة، محافظة بإصرار في سلوكها المتحرر والصادم على النمط الشائع للحياة في جمهورية فايمار.
إن الحركات النسائية الطليعيّة في عشرينيّات القرن العشرين تدين بالفضل إلى ستيرنبرغ لاختراع صورة مارلين ديتريش أو المرأة التي تعتمل داخلها هرمونات الذكورة والأنوثة معا. فلم تكن مارلين سوى إحدى النسخ الأولى التي ظهرت في عشرينيات القرن الماضي ضمن سلسلة طويلة من الطبعات النسائية لشخصية “femme fatale” التي تنتهي في نهاية المطاف إلى شخصيّة كاترين كاتبة البيست سيللر في فيلم “غريزة أساسية ” في تسعينيّات القرن العشرين. تلك المرأة ذات الخيال الجنسي الجامح التي تجتذب إلى فراشها الرجال النرجسيين لتقوم بقتلهم، في سلسلة من الجرائم الجنسيّة من أجل نسج حبكات قصصها، لتمتزج حياتها الشخصية بحياة شخصياتها الأدبية المخترعة.
فى العام 1930 أنجز جوزيف فون ستيرنبرغ فيلمه المنتظر، سبقته حملة دعائية واسعة للمنتج إريك بومر، وقد تصدرت ملصقات الفيلم واجهات دورالعرض مرسومًا عليها الوجه الوقور للممثل” إميل ياننجز” في لحيته المشذّبة وشاربه البروسيّ الكث ونظارته البسماركية، تظلله من أعلى الوجه البريء لمارلين بزرقة عينيها الناعستين، وشبه ابتسامة خجلى مرسومة بعناية على شفتيها المصبوغتين، وعلى رأسها ترقد بميل ومكرالقبعة عالية الطوق التي تشي بالمغامرة العاطفية المنتظرة.
مجرد تقديم رومانسي حالم ومخادع للثنائي”ايمانويل راث/لولا” قبل الولوج إلى حلبة تحطيم الذات في ملهى الملاك الأزرق، حيث يرسم ستيرنبرغ صورة مصغرة واستعارية للمجتمع الألماني في تدهوره وصراعاته الثقافية المختلفة بعيد انتهاء الحرب، كما أنه يقدّم ضمنيًّا صورة قاتمة لعوالم المدن الحديثة في تناوله للصراع الجنسي بين الرجل والمرأة.
فصورة “لولا / مارلين ” التي تشير بخيلاء إلى المرأة الجديدة وهي تدهس بقدميها كافة القيم المتوارثة، ستصبح منذ تلك اللحظة أنموذجا للتجمعات النسائية feminist الناهضة بقوة آنذاك في أوروبا وأميركا، التي تجمع في بوتقة واحدة كافة التفاعلات الثقافية التي يموج بها المجتمع الجديد من أفكار عن الجنس والزواج والعائلة والصراع الطبقي والحرية الفردية.
أما صورة “البروفيسور راث” فهي تقف على النقيض من الزهو الأنثوي، بشخصيته الامتثالية المنغلقة على أفكارها، الذي يُعاني كبتًا جنسيًّا ويميل إلى العزلة في حياته اليوميّة، بحيث يقف مراقبًا الحياة عن بعد، كما أنّه وسواسيّ obsessive مستسلما فيّ أريحيّة ساذجة للإرث الثقافيّ لتيار الحداثة العُليا الذي كوَّن له معتقداته حول صورة العالم، بتلك النرجسيّة المُهلكة المفتتنة بنفسها، وبخلق يوتوبيا زائفة من حولها.
تبدأ لعبة الأقنعة في السقوط عندما يكتشف الأستاذ”راث ” أن تلامذته يذهبون خلسة إلى أحد الملاهي الشعبيّة الرخيصة “الملاك الأزرق” لمشاهدة الراقصة الماجنة”لولا” التي تبيع صورها العارية للمراهقين، وفي محاولته إنقاذ طلبته يذهب إلى الملهى؛ لكنّه ما إن يراها عند ظهورها على المسرح وسط “الكورس” تغني بصوتها الكسول : “لقد صنعت من الهوى من أعلى رأسى إلى أخمص قدمي “حتى يقع في شباك فتنتها الحسيّة وهو يحدق فيها غيرمصدّق لما يراه من هول جمالها الصارخ، وهي تتبختر بمشيتها المتثاقلة مسمّرة يديها في خصرها، وقد التصقت الجوارب بساقيها الطويلتين، والقبعة المذهّبة مائلة على شعرها المتموج. ومع أنه يعلم أن لولا امرأة شبه عاهرة تستغل جمالها من أجل انتزاع الأموال من زبائن الكباريه إلا أنه يندفع إلى الزواج منها تحت وهم أنه قادرعلى تغيير حياتها التي جبلت عليها؛ لكنّه ما يلبث أن يتخلّى عن وضعه الاجتماعي وعمله بوصفه مدرسًا متحوّلًا إلى مهرج ضمن عروض الكباريه، وتابعا ذليلا للولا التي تمارس خياناتها في زوايا الكباريه، دون أن يملك لنفسه دفعًا عن مواصلة السير في طريق الآلام.
لم يكن الملاك الأزرق مجرّد فيلمٍ في تاريخ السينما، إنما هو بالأحرى علامتا تنصيص تجلس بينهما امرأة اسمها مارلين، وسيسجل تاريخ السينما في أدبياته تجسيدها البارع لشخصية لولا العاهرة، التي ستحتلّ مكانتها المرموقة عاليًا في تاريخ الفرجة السينمائية. أمّا عشّاق مارلين فلن يتذكروا كثيرًا الأصل الأدبيّ الذي رسم الشخصية المتخيّلة؛ بل سيذكرون بولهٍ مارلين كأصل للشخصية المجسدة على الشاشة.
إن ردود الأفعال بين شخصيتي “لولا/ مارلين” تتطابقان في المرآة؛ فالمرأتان تشيع منهما نفس الروح الكلبية cynicism بأفكارهما الهجومية والصدامية الموجهة نحو التقاليد والأفكار السائدة، فضلا عن قلة الحياء والسوقيّة والجرأة التهكمية الساخرة المبطنة بالازدراء والتعالي، سواءعلى الشاشة أو في الحياة اليومية.
فلا أحد قادر على التمييز بين صوت مارلين، وصوت لولا، ومن منهما التي يتكلم إلينا، بتلك النبرة الدافئة التي لها وقع غامض في تقطعها وتدفقها المحسوب، وهي تغني مرتدية ملابسها العارية المثيرة المصممة بخيال أيروتيكي مذهل، والمختارة بعناية على هوى ستيرنبرغ وعينيه الشبقتين.
صوت مليء حتى الضجر بالشهوة، مشحون بالرغبة في الانزلاق إلى جوف ظلمة، ورغم دفئه العذب المدغدغ للحواس والداعي إلى عناق جسدي، فإنّ إيقاعه الرتيب بفعل التكرار والإملال لنفس اللزمات والإيماءات المصطنعة يخلق حاجزًا عقليًّا كثيفًا بينها وبين عالم الكباريه الذي كفّ عن إدهاشها.
ومثلما كان قدر الشاعر رامبو مرتبطًا بكتابه “فصل في الجحيم” الذي وَسَمَه في حياته ومماته؛ فإن مارلين ومصيرها النهائي ارتبط ارتباطًا وثيقًا بفيلم الملاك الأزرق الذي رسم لها صورة انطبعت في العيون إلى الأبد، وستظل ملتصقة بجلدها، تلازمها كظلها على مدارِ سنواتٍ طويلةٍ حتى توضع قبرها؛ حيث ستحفر “لولا” بوجه “مارلين ” مجرى عميقًا في تاريخ الثقافة السينمائية على المدى البعيد.
فبعد ما يقارب الخمسين عامًا، وفي عام 1981 سيستعير المخرج الألماني “راينرفيرنرفاسبندر” في فيلمه “لولا”السمات الدرامية لشخصية “لولا/ مارلين’لحساب بطلته “بابارا سوكووا” التي تعمل أيضا مغنية شبه عاهرة في كباريه، حيث تستغل جمالها من أجل الحصول على الأموال لشراء الملهى إبان حقبة المعجزة الاقتصادية فيما بعد الحرب العالمية الثانية. كما سيعيد فاسبندر إلى الأذهان في فيلمه “lili Marleen” الأغنية الشهيرة لمارلين ديتريش بنفس الاسم، التي سجلتها في العام 1934 وراجت حينئذٍ في سوق الأسطوانات الأكثر مبيعا، التي سينطلق منها إلى موضوعه الذي يدور حول مغنية كباريه مبتذلة “هانا شيجولا” التي تتشابه في حياتها مع السمات الشخصية لمارلين أثناء فترة صعود النازية؛ حيث اعتادت أن تغني الأغنية الشهيرة “ليلى مارلين” لزبائن الملهى؛ مما جلب إليها شهرة وعلاقات واسعة مع أوساط السلطة النازية، لكن سقوطها يأتى مع اكتشافها الحب مع شاب يهوديّ مطارد من قبل الجستابو.
لا يجد المرء صعوبة في العثور على وجه الشبه بين صورة الأستاذ راث مع محبوبته اللعوب، وبين صورة المخرج العاشق في شكل من أشكال كسر الإيهام وانزياح الخطوط بين الواقع والخيال، وفي موقف كل منهما من المرأة”لولا / مارلين” التي أحبّاها معا، وأوردتهما موارد التهلكة، الذي يصل في مقاربته الرمزية إلى وضعية الأمثولة التي تحكي عن الغواية والجسد الذي تسكنه الشهوة السوداء.
فحالة الإذلال العاطفي التي عانياها معا، وجعلتهما يسقطان في وهدة عميقة من الألم النفسي، عبر تجربة مشاعر متشابكة ومعقدة من الغيرة والتملّك والانفلاتات العاطفية المتقلبة، في لعبة الحب والهجر والصراع مع الذات في رغبتها المستحيلة لاسترجاع صورتها القديمة التي دفعهما الحب إلى مزايلتها.
إن مشاعرالعشق والعواطف المكبوتة والشبق الجنسي الذي جربها ستيرنبرغ في علاقته بمارلين “كما لوكان نسخة طبق الأصل من شخصيات الكاتب المسرحي أوجست سترندبرج” تمتزج بحالة من الهذيان الإبداعي في خلق أفلام مطبوعة بحس شخصيّ مؤلم، التي ستضطلع ببطولتها ممثلته الأثيرة؛ وبين عامي “1930- 1935” يحققان معًا أعظم إنتاجاتهما السينمائية، التي ستترسخ من خلالها الصورة الذهنية المعروفة عن مارلين: المرأة اللغز.
لم يكن جمال جسد مارلين منبعه الإفراط والوفرة في تكوينه الأنثوي، كانت تمتلك جسدًا رهيفا كورقة بفرة رقيقة. ثديان صغيران ينبتان على بلاطة الصدر كثمرتى كمثري، وخصر نحيل زلق، ووركان ضيقان كوركي صبية عذراء. كانت جاذبيّته الخفيّة تكمن في ذلك التناسق الرياضي المذهل، وتلك السيميترية الذهنية الباردة، فجسدها يتجه إلى الداخل لا إلى الخارج، كأنما ليؤكد لنا إنه جسد خُلق من أجل النظر والتَوَلّه؛ فأعضاء جسدها عمليًّا تخلّت عن دورها في الإغراء لصالح الملابس الفخمة لتحرز لمرتديها وجوداً مرئيا وتخيليّا.
مع حقبة الخمسينيّات بدا الناس كما لو أنهم يريدون نسيان إرث الماضي الذي أدّى إلى حربٍ عالميّة وموت ملايين البشر. كانت هي الأسطورة الوحيدة الباقية من الماضي، التى ما تزال حيّة على الشاشة في العصر الجديد الذي انشغل فيه الناس بالعمل في المصانع وإعادة تشييد المدن التي دمرتها الحرب. ببطء كان الضوء ينسحب عن وجهها، وبحدسها أدركت أن مجدها يوشك على السقوط، وأن الأساطير أيضا تموت.
لكنها لم تستسلم، شرعت في التّو باكتشاف وجهها من جديد، وهي في الثانية والخمسين، في مجموعة من الصور الفوتوغرافية قام بالتقاطها المصوّر الأمريكي الشهير ميلتون غرين “1922¬-1985” في أربع جلسات تمّت على مدار أعوام 1952/ 1953 /1955/1972. تقريبًا سجّل ميلتون تحوّلات وجه مارلين عبر عشرين عاما، بدءًا من مرحلة الكهولة وحتى مرحلة الشيخوخة وقد بلغت السبعين عامًا من عمرها.
فى مجموعة الجلسة الأولى التي التقطت بالأبيض والأسود تظهر مارلين بصورة جديدة، متخلية عن المشهد القديم بكل فخامته واصطناعيّته. متقشفة وتجريديّة في مظهرها بشعر أشقر قصير تُرك على حاله، مرتدية ثوبًا أسودَ لم تبدله طوال الجلسة، وتبدو كامرأة مهجورة تعاني عزلتها داخل الصور، وقد أشاحت بوجهها عنا في عدّة بورتريهات.
في إحدى الصور نراها موضوعة في حجم متوسط في وضعية إغراء مستميت، معطية ظهرها العاري لنا، ملوية عنقها لتبرز بوضوح ثنيات جلد العنق من الخلف، وقد شوّش الشعر المتناثر على ملامحها. وفي صورة أخرى تجلس على خلفية رمادية محايدة في وضعية جانبيّة، مديرة وجهها إلى الجهة العكسية نحو الجدار، وقد انحسر الثوب عن ساقيها الطويلتين. في صورة ثالثة تقف على خلفية مشعّة بالضوء، في وضعيّة تروكار، وهي منحنية تلمس بأصبعها ربلة الساق العارية بحيث تظهر العروق النافرة على ظهر يدها؛ بينما تُركت على الأرض كأس ويسكي تنتظر تجرّعها بفارغ الصبر.
لقد اقتنص ميلتون عبر تلك الصور شيئًا خفيًّا من روحها، كأسطورة في الضباب، وكامرأة تنهبها مشاعر القلق والوحدة بشكل عصابيّ، وتنتظرها في الليالي القادمة برودة قاسية.
لم يبق لها شيء سوى اسمها، وهالة أسطورية باهتة وسط صخب سنوات الخمسينيّات من ثورات العالم الثالث وصراع الإيديولوجيات السياسيّة وتناحر الحركات الطليعيّة في الفنّ. ثم اجتياح حركة الواقعية الجديدة في إيطاليا مع احتلال الأبطال من الفقراء لشاشات السينما، وبدء صعود تيار الموجة الجديدة بكل عنفوانها الجدلي والفلسفي في فرنسا، بالإضافة إلى منافسة جهاز التلفاز ذلك الاختراع الجديد الذي احتلّ مكانه بين قطع الأثاث داخل البيوت.
إشارات وتلميحات عمّقت القطيعة النهائية بينها وبين ماضيها، فعادت إلى المسارح وحلبات السيرك كبداياتها، ترقص وتغني حتى تؤمّن عيشها وتحافظ على الحياة الرغدة التي اعتادتها، لتؤدي عروضها الموسيقية عام 1954 على مسرح فندق ساهارا لاس فيجاس، ثم تنتقل بعده بدءا من الستينيّات إلى فندق الريفيرا مقدمةً حفلاتها بمصاحبة أرمسترونج مغني الجاز الشهير.
ظلت مارلين حتى سنّ الخامسة والسبعين تؤدي بدأب وشجاعة عروضها الغنائيّة على مختلف مسارح العالم بملابسها العارية المثيرة للحنين، متحدّية نظرات الشفقة والرثاء، حتى سقطت مرّة واحدة وهي ثملة على خشبة المسرح أثناء حفل موسيقي في سيدني عام 1975، فكسرت ساقها التي تصارعت عليها في الماضي كبريات شركات التأمين ككنز ثمين، اضطرّت بعدها إلى ملازمة بيتها الباريسي بشارع مونتاني، مقيدة في حركتها على كرسيٍّ متحرّك بعد أن تمّ تركيب دعامة معدنية داخل الساق.
كان صوتها العذب هو الشيء الوحيد الذي بقي معها، لم تغيّره السنون، ذلك الصوت الأشبه بأصوات السيرينيات “كائنات في الأساطير الأغريقية نصفهن طائر والنصف الآخر امرأة” التي كانت تسحر البحارة بغنائها فيتبعونها إلى حتفهم. وكان الصوت هو وسيلتها الوحيدة للاتصال بالعالم عبر الهاتف لإخبار الجميع بأن مارلين الأسطورة ما تزال على قيد الحياة، قوية ومثابرة كما خبرتموها دائما.
أرادت أن تبقي في ذاكرة الناس حتى النهاية ذلك الجمال الشؤم المهلك، والمرأة الحسیّة التي تقاوم شرور الطبيعة. لم ترغب في التقدم بالسن، وناضلت ضد الزمن حتى آخر صرخة أودعتها بين ذراعي عشيق، فأغرقت نفسها في موجات متتالية من قصص الحب الأعمى، كي تطيل أمد صراعها المراوغ لأكثر وقت ممكن بمقدوره أن يباعد بينها وبين السقوط في العجز الجسدي والشيخوخة.
في الوقت نفسه كانت غريمتها الأخرى جاريتا جاربو تخوض سباقات المارثون عبر شوارع مانهاتن، هربًا من المصوّرين الذين كانوا يلاحقونها على مدارالساعة من أجل اختلاس صورة واحدة للأسطورة التي اختفت فجأة عن الأنظار في العام 1941 عندما كانت في السادسة والثلاثين، لتمضي حياتها بعدها محتجبة وراء نظارة سوداء تخفي نصف الوجه بكامله، مرتدية دائما معطفها الطويل الأشبه بجدارعازل تختبئ وراءه، وقد انقضت حياتها وهي تتجول وحيدة في الشوارع الخلفية.
خلفت مارلين وراءها آلاف الصور الفوتوغرافية في مواضعات بصرية غريبة، وبإمكاننا اليوم بعد مرور سنوات طويلة على رحيل المعبودة أن نغرق أنفسنا في طوفان من صورها ونحن نسير في انجذاب خفيّ داخل أروقة القاعة السابعة في متحف برلين للسينما، وقد تقوقع الزمن داخل فتارين زجاجية أنيقة، وأن نطالع أسطورة متجسّدة في المرئيّ دون أن نسأل أنفسنا عمّا يحجبه المرئي فيما وراءه، ويطمسه كليًّا! لقد حوّل المصورون في عصرنا الحاليّ المقولة الدينية القديمة: “بأن مآل الإنسان إلى التراب” إلى وجهة أخرى، فمصير الإنسان يتحدد لحظة الضغط على زر كاميرا، ثمّ ينتهي به حتمًا إلى صورة معلقة على الجدار.
بعد مرور بضعة أيام على رحيلها، أفقتُ على صورتها الأخيرة وهي مسجّاة على فراش مستغرقة في غيبوبتها، التي انفردت بنشرها مجلة ديرشبيجل.
إنها صورة الغياب المطبوعة عبر استساخ لا نهائي للغياب ذاته، التي سجّلت إلى الأبد على ورقٍ حسّاس للضوء خَتَلة ضوئية من غيبوبتها الثملة، مقتنصة بإعجاز كينونة مراوغة فى سباتها القسري فيما وراء المرئيّ. كانت الصورة قد اُلتقطت خلسة عبر باب حجرتها الموارب داخل المستشفى الباريسيّ، حيث لم يكن في مقدورها، في تلك اللحظة الفارقة، اصطناع الوقفة المناسبة في مواجهة عدسة الكاميرا، كما اعتادت أن تفعّل على مدار سنوات شهرتها، أو أن يمنحها السارق “المصوّر الفوتوغرافيّ” بعضًا من الوقت لكي تمعن التأمّل في الوضعيّة المُثلى لكينونتها، التي تشتهي أن تراها متجلّية أمامها عبر صورة ملتقطة.
لا أحد يقدر أن يتكهّن بما كان يتراءى لها من صور على الجانب الآخر طوال فترة غيبوبتها، أو موتها المجازي، وأية أحلام راودتها وهي تتسكع في دوار من ظلمة متقلبة بوجوه قديمة عبرتها في صحوحياتها.
تخبرنا أدبيات الفسيولوجيا عن الغيبوبة بأنها ذلك الانشقاق بين النفس والجسد، وبينما تجول النفس بين ممرات نفقها المظلم الذي قد يطول أو يقصر، فإن وظائف الجسم تتعطل، وتدريجيا تصاب خلايا المخّ بالضمور فيسكت اللسان عن الكلام، وتكفّ العين عن الإبصار، وتصم الآذان، بحيث لا يكون هناك شيء من سمات الكائن الذي نعرفه.
إنّ ما يحيّرني وأنا أعكف الآن على تأمل صورة “التخفّي” تلك هو ذلك التسطيح الأيقوني غير المتعمد من قبل المصور، وتلك السحابة الهشّة التي تغشى المنظر وتغلف غرفتها بغشاوة ضبابية، بينما تركت يديها مرميتين بجانبها في وداعة طفلية، وقد شفّ وجهها في استسلامه النهائي بحلم هادئ، وغاص جسدها الهش تحت عباب من الملاءات البيضاء، متجرّدًا من انحناءاته المُغرية التي خايلت على مدارعقود طويلة مخيّلة عشاقها النهمة إلى التوحّد به، وأيضا مخيّلة هؤلاء المهوسين بالإمساك بما لا يمكن الإمساك به.
إنه بلا شك الجسد غير المدرك داخل وعاء الذاكرة البصرية للجماهير التي تعلّقت بصورته الراسخة عندما كانت في أوج فتوتها الفنيّة والجسديّة، لكنّه الآن يقبع معزولا داخل مستطيل الصورة الفوتوغرافية، وقد استحال إلى جسد الهواء الملائكي، مجرد كتلة من اللحم داخل حدود الكادر، تثقلها بالكاد ظلال مترهّلة من الثديين والأرداف والبطن. بينما انفلت الوجه بتقاطيعه المهزوزة، بمقدار ضئيل عن نقطة التركيز البؤري للعدسة، كما لو أنّ يد المصور قد ارتعشت قليلًا لحظة الضغط على زرالكاميرا، بخوف مهتز، وريبة ملؤها الشكّ وعدم اليقين، وهو يقف إزاء هذا الوجه الغريب غيرالمعتاد، الذي يومئ إلينا بمعرفة ما، لكن دون تعرف بالفعل، محاولًا العثورَ على وجه الشبه بين وجه مارلين الذي طالعناه آلاف المرّات عبر الصور والأفلام، ونعرفه تمام المعرفة، وبين هذا الوجه الذي فاجأتنا به في لحظاتها الأخيرة بمراوغته الوجودية، لتدفعنا مجدّدًا إلى النظر والتمعّن في الوجه الحقيقي الذي استبدلته التقنية بصورة أخرى مخادعة.
في مخيلتنا تتجمد صورة مارلين عند مشارف الخمسينيّات من القرن الماضي، وقد تجاوزت الخمسين من عمرها بقليل، متنحية عن أدوار البطولة، قانعة بالظهور على الشاشة في صورة المرأة الخمسينيّة، جامدة المشاعر، التي تحتل ركنا أساسيًّا في حبكة الفيلم، أي الفترة التي أخذت تنحسرعنها الأضواء تدريجيّا تحسّبًا لميلاد أيقونة ثقافيّة أخرى هي “مارلين مونرو” كرة هوليوود النارية التي ستذيب جليد الحرب الباردة بسخونتها وخفتها الراقصة على أنغام موسيقى الروك آند رول، التي ستحلّ صورها النزقة بفضل فنان البوب أرت “اندي ورهول” وصعود تيار الثقافة الشعبيّة الرائجة محل مارلين الأخرى بصورها المتعالية، التي ستوضع في مكانها الملائم في أرشيف المتحف الخيالي دون أن نستشعر غيابها عنّا، أو ننشغل بمصيرها الذي آلت إليه.
لم نفكر لحظة في حقيقة الصورة الأخرى التي أخذت الطبيعة تحفرها على حنايا الوجه، ما دامت صورة التقنية ماثلة أمامنا طوال الوقت عبر دورة الاستنساخ اللانهائى لوجودها المستعار. نحن إذاً في مواجهة عاتية بين صورة الطبيعة الهوجاء، المبلبلة لعيوننا وحواسنا، وصورة الثقافة في حنانها الزائف، التي اغتصبت لنفسها هذا “الآن” الأبدي، وقد ثبت المنظر أمامنا دون حراك، تاركًا لنا حيرة الاستدعاء والتأويل لمعنى الزمن والصيرورة.
فالصورة تخلق كونًا مكتفيا بذاته، غالقة أمامنا كلّ الطرق المؤدية إلى تقصّي ورؤية الأصل، فهي تومئ إلى نفسها بنفسها كأصل لا مرجع له، كخريطة تشير إلى أرض لا نريد ولا نرغب في وطئها بأقدامنا في الواقع. إنها البداية والنهاية لوجود احتلّ في مجرى زمننا الخطي جزءا يسيرًا من الثانية.
من الوهلة الأولى كان من الصعب على شبكيّة العين أن تُمسك في التو بوجه مارلين، وأن تحدد موضعها المكاني داخل حدود الكادر الملتقط، فبعد أن تسبح العين طويلا عابرة كومة خرساء من الأجهزة الطبية الموضوعة في الثلث الأيمن من الكادر داخل بؤرة الارتكاز البصري، قبل أن تستدير لتصطدم بجدار الغرفة، ثم تسقط منزلقة على تلال من الشراشف. وأخيرا ينتبه الرائي بالكاد إلى وجودها دون يقين بأن الممددة أمامه هي مارلين نفسها.
إنها هناك عند طرف الصورة، في تلك الوضعيّة الحرجة من التكوين البصريّ، كما لو كانت مجرّد قطعة تافهة من الإكسسوار أضيفت على عجل، وبلا اكتراث، لكي تكمل ديكورالحجرة داخل المستشفى.
إن ما يزيد من الالتباس الحاسم للصورة التي بين يديّ هو تلك المصادفة الاعتباطية دون قصديّة إحراز المعنى، التي جمعت داخلها في تآخم عضوي بين عناصر التمثيل المرئي للصورة المشوشة بصريّا، والحالة الوضعية لجسد مارلين المشرف على الموت، الذي وضعته المصادفة عند الحافّة المقلقة من المنظورين “الوجودي/البصري” وقد أصبح مهيئا من كليهما للطرد من الصورة بدفعة هينة إلى الخارج، سواء بالسقوط من الكادر، أو بالسقوط من الحياة برمتها.
يكفي فقط أن تحرّك مارلين جسدها قليلا كي تخرج نهائيًّا من حدود عالمنا المرئي المصوّر فوتوغرافيا، وأن تتلاشى من الوجود المتعين أمامنا. لكن هذا الحيّز الفوتوغرافي الماثل أمامنا لم يعد في تمامه حكرًا على مارلين وحدها، بل أصبح فضاءً وجوديًّا منفتحًا على حضور آخر معلق بالنظر والتخيّل.
فهناك المصور الحاضر في فعل الالتقاط، الذي سجّل حضوره الآني لحظة الضغط على زر تثبيت الزمن في مسطح ذي بعدين يغلق معه الباب في وجه “ما قبل/ما بعد”، معلنًا عن ميلاد ذلك الحضور الاستعاري الثابت في مواجهة حضورنا في الزمان والمكان. ثم عالم المرئي كموضوع للالتقاط والنظر الذي لم يعد له وجود البتة لحظة الالتقاط، وقد فقد الإحساس الكليّ بالصيرورة الزمنيّة في غيبوبته اللاواعية، أو موته المجازيّ، بالانقطاع الجسديّ عن العالم المحيط به.
لكن الاستعادة تظل ملازمة وموقوفة على فعل المشاهدة لتلك الصورة، التي تجتذب إليها في مستقبل غير معلوم حضورًا مراوغًا لذلك الرائي المتجرد واللاشخصانى؛ لكنّه في حقيقة الأمر لا يبصر الصورة الفوتوغرافية التي بين يديه، لا يرى مارلين ديتريش وهي تقترب حثيثا من موتها الفعلىي، فالنظرة ترتد إليه بذلك الامتلاء المؤلم، فالصورة ليست الاّ مرآة لانجراحه الوجودي وهو يقف بخشوع ورهبة أمام هذا الوجه في استسلامه الهادئ للالتقاط، والموت.