تعود نشأة السينما الإيرانية بالأصل إلى السنوات الأولى من القرن العشرين، بفارق بضع سنوات فقط عن اكتشاف البشرية لفن السينما، فقد عرفت طهران أول كاميرا سينمائية عام 1900، أدخلها ملك إيران «مظفر الدين شاه»، وكانت أول لقطاتها هي مشاهد من زيارته الملكية إلى أوستاند ـ بلجيكا. لاحقاً تحولت السينما الإيرانية لتكون بمثابة أداة دعائية للملك الوريث «رضا شاه» وبقيت كذلك حتى فترة الخمسينيات، حيث تخللتها محاولات فيلمية أساسها التسلية، متأثرة من جهة بالسينما الهندية التي أسست لاحقاً لما عرف بـ«سينما بوليود ـ Bollywood cinema»، ومن جهة ثانية بالتراث الشعري الفارسي الكلاسيكي و القصص الملحمية التي ظهرت في أفلام مثل: «شيرين وفرهد 1934» و«الأمير الفارسي 1949».
منذ مطلع السيتينيات، بدأت السينما الإيرانية تؤسس لهويتها الجديدة بعيداً عن التوجه التسلوي سالف الذكر، تجلى ذلك في بروز عدد من الأسماء اللامعة والمفصلية كالشاعرة والمخرجة فروغ فروخزاده، ومسعود كيمياوي، وداريوش مهراجي، وفروغ غافاري، وإبراهيم غويستان.
قدم هؤلاء المخرجون معالجة مختلفة لمواضيع أفلامهم المستقاة من الحياة اليومية، برزت فيها مقدمات أولى للمعالجة الشعرية، من هذه الأفلام: «المنزل أسود «1962، «ليلة الأحدب 1964» ، «البقرة 1969».
إلا أن النقلة الأوضح في تاريخ السينما الإيرانية كما يعيدها كثير من المؤرخين السينمائين تعود إلى ما يعرف بـ «الموجة الجديدة في السينما الإيرانية» والتي ظهرت بعد الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، مؤسسة لصعود جيل جديد من الأسماء البارزة في الخريطة السينمائية العالمية أمثال: محسن مخملباف، بهمن قبادي، عباس كيارستمي، و بهرم بيازي وآخرين غيرهم. هذه الأسماء وغيرها ممن لحقهم مهدت الطريق لما عرف لاحقاً بـ «السينما الشعرية الإيرانية».
لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن مصطلح «السينما الشعرية ـ Poetic Cinema»، كمصطلح سينمائي نقدي، يعود في أصوله المبكرة إلى المخرج الإيطالي الفذ بيير باولو بازوليني (1922ـ 1965)، والذي اقترحه في نظريته المنشورة عام 1965، والتي حملت عنوان «سينما الشعر».
من هذا المنطلق يقوم هذا البحث على تحليل العناصر الأولية المكونة للسينما الشعرية كما وردت في نظرية بازوليني «سينما الشعر»، ومحاولة رصد تطبيقها وتحققها في نموذج من السينما الإيرانية الحديثة وهو فيلم «أين منزل صديقي ـ 1987» للمخرج عباس كيارستمي، وذلك بهدف استكشاف جوانب من جماليات الصورة في السينما الشعرية الإيرانية.
لكن قبل البدء في عرض النظرية، لا بد من التنويه أن استخدامنا لمصطلح «الصورة» أو «الصورة السينمائية» في هذا البحث، يستند إلى تعريف شوهيني شوادري وهاورد فين «للصورة المفتوحة» باعتبارها مكوناً لا يقتصر على الدوال المرئية فقط بل يتعداها نحو «كلية اللقطة» كدال يتضمن «الكادر، والمشهد والمكونات الصوتية». هذه الصورة المفتوحة «ليس بالضرورة أن تكون صورة استثنائية، بل قد تكون صورة محض اعتيادية تنتمي للحياة اليومية».(شوادري وفين، 2003).
سينما الشعر عند بازوليني:
تنقسم نظرية بازوليني حول سينما الشعر إلى قسمين رئيسيين هما «الصورة الإشارية، والخطاب الحر غير المباشر»
v الصورة الإشارية
يقارن بازوليني بين «لغة الأدب المكتوب» ولغة «الصورة المرئية» انطلاقاً من افتراضه أن اللغة، أي لغة، هي «نظام إشاري» يمتلك آليات تعبير متقاربة، ويرى أن وظيفة «اللغة الأدبية»وظيفة «تواصلية وعملية»، تقوم على استخدام مفردات هي «الكلمات» كحوامل بسيطة للمعنى. في حين أن «لغة الصورة» ذات وظيفة «اعتباطية» تقوم على استخدام مفردات أيضاً هي «الصور» كحوامل غير بسيطة للمعنى، غير بسيطة كونها مراوغة ومفتوحة على التأويل.
لكن بازوليني يوضح أن اللغة المنطوقة لا تتحقق لوحدها، بل تمضي بالترافق مع إشارات أو إيماءات “مرئية”من شأنها تغيير معناها، ما يجعل بداخل كل منا “نظام إشاري بصري” نستخدمه”لقراءة” الواقع حولنا.
هذه العلاقة بين اللغوي والبصري تتجلى كما يرى بازوليني في “حقيقة أن يمشي الإنسان وحيداً في الشارع، بآذان مغلقة كلياً، دون أن يمنعه ذلك من إنشاء حوار داخلي بين ذاته وبين محيطه.(هذا الحوار) يعبر عن نفسه باستخدام وسائط مرئية تتكون من هيئات المارة حوله، إيماءاتهم، إشاراتهم، حركاتهم، صمتهم، تعابيرهم، ردود أفعالهم الجماعية، مثلاً: حين ينتظرون أمام إشارة المرور الحمراء، أو حين يتجمهرون حول حادث اصطدام في الشارع، أو أمام صرح ما».
يرى بازوليني أن المصدر الأساس لمفردات هذا «الحوار» الصامت بين الذات والمحيط، هي مجموعة الصور القادمة من «عالم الذكريات والأحلام»، أو ما يدعوها بلغة «الصورة الإشارية» Im_sign» والتي هي بالمحصلة لغة «السينما الشعرية».
لكن السؤال المطروح هنا لماذا لغة «الصورة الإشارية» هي لغة تناسب السينما الشعرية؟
يجيب بازوليني عن هذا السؤال من منطلقين اثنين هما:
1. المفردات الأولية للغة الصورة الإشارية:
لتوضيح هذه المكونات يحلل بازوليني العلاقة البسيطة بين “صور عالم الذاكرة والأحلام” وبين آليات ممارسة السينما. فمثلاً في حالات التذكر التي يقوم بها الإنسان (بما فيها عمليات الاستدعاء والإدراك) يستخدم سلسلة من الصورة الإشارية، بطريقة شبيهة جداً بآليات ترتيب وطريقة عمل المشهد السينمائي.
أيضاً يمتلك “الحلم” ذات المكونات الأولية التي يمتلكها المشهد السينمائي: “اللقطة المقربة، اللقطة الطويلة، اللقطة الواسعة وغيرها.. “فلغة الحلم ـ السينما هي لغة حرة “قبل ـ قواعدية، وقبل ـ صرفية”، وهي بعكس اللغة الأدبية، لغة لا معجمية، ذلك بأن مصدرها هو الهيولى أو الهباء (chaos) فلا قاموس يقود نظامها، ما يجعلها حرة ومنفتحة.
2. دور المؤلف السينمائي في استخدام هذه اللغة:
يعتقد بازوليني أن ممارسة الكاتب في الأدب هي ممارسة جمالية ذات بعد تقني أحادي، في حين أن المؤلف السينمائي يمارس دورين مزدوجين: الأول لغوي تقني، يتلخص في جمع المفردات (الصور) من مجموعة احتمالات لا حصر لها منها (الذاكرة، الأحلام، المحيط الخارجي، النأمات) والثاني هو إثراء هذا الخليط في مراحل تركيبه معاً. بمعنى آخر» يقوم السينمائي بترتيب الصور الإشارية التي قام بجمعها في اقتراح تعبيري للوصول إلى المعنى الذي ينشده» .
وبخلاف اللغة الأدبية، فإن لغة «الصورة الإشارية» هي لغة يختلط فيها الذاتي بالموضوعي، هذا الاختلاط هو لب السينما الشعرية. يسوق بازوليني هنا مثالاً من فيلم «كلب أندلسي ـ 1929 «للويس بونويل وسلفادور دالي، حيث يعتقد أن لغة الفيلم من ناحية «ذاتية» كون مصدرها الحلم أو «الجوهر البهيمي» للعناصر، وهي من ناحية أخرى «موضوعية» لأنها تقدم صورا من الواقع. بالتالي فالاقتراح الشعري الصرف يقف على الحدود التي يختلط بها الذاتي بالموضوعي.
v الخطاب الحر غير المباشر
يطرح بازوليني في الجزء الثاني من نظريته سؤالاً بسيطاً في ظاهره لكنه عميق في معناه: «كيف يمكن للغة الشعر أن تتحقق في السينما؟ وهل حقاً هذه اللغة ممكنة في السينما؟ وهل يمكن لأسلوب «الخطاب الحر غير المباشر» (الذي طالما ميز الشعر)أن يجد طريقه للصورة السينمائية؟».
v الشخصية ـ الذريعة:
للإجابة على هذه التساؤلات يقوم بازوليني على تحليل عناصر ما يدعوه مفهوم «اللغة الشعرية التقنية» وهي: «الذاتية والأسلوب ودرجة الوعي». فوجهة نظر المخرج (الذاتية) تتحد مع وجهة نظر شخصيات الفيلم، لكنها تختلف من مخرج لآخر فهي محكومة بشروط (الأسلوب)، الذي يميز عمل كل مخرج عن نظرائه (الوعي).
لتوضيح ذلك يعود بازوليني إلى نماذج من أفلام «سينما الفن الأوروبية» بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يرصد أمثلة من أفلام ميكيل أنجلو أنتنيوني وجان لوك غودار.
في فيلم «الصحراء الحمراء 1964 Red Desert» لـميكيل أنجلو أنتنيوني، يعتبر بازوليني الفيلم فيلماً «شعرياً» مبرهناً وجهة نظره بالاستناد إلى عدد من اللقطات. ففي المشهد الذي يصور دخول شخصيتين إلى منزل العمال العصابيين، نرى في اللقطة الأولى في مقدمة الكادر اثنين أو ثلاثة من زهور البنفسج خارج التركيز (out of foucs)، وفي لقطة أخرى في ذات المشهد، نرى زهور البنفسج في خلفية اللقطة هذه المرة لكنها داخل التركيز (in foucuse) بالتزامن مع خروج الشخصيتين. يدعو بازوليني هذه الشكلانية الأسلوبية «مفتاح الفيلم» وهي تتحقق عبر ميزتين:
الأولى : التجاور المتتابع لوجهتي نظر مختلفتين كلياً تجاه ذات الصورة، ذلك هو مشهد مكون من لقطتين، تصوران نفس الجزء من الواقع، الأول عن قرب والثاني أبعد قليلاً، أو أولاً من الأمام والثاني بشكل غير مباشر. هذا يقود إلى إصرار يصبح ملحاً، كما لو أنه «أسطورة واقعية».
ثانياً: طريقة دخول وخروج الشخصيات من الكادر».
يتابع بازوليني أن أنتنيوني بهدف الوصول إلى هذا الشكلانية الأسلوبية، ابتكر ذريعة (pretext) وحمل عليها رؤيته الذاتية للعالم. هذه الذريعة هي شخصية جوليا (لعبت دورها الممثلة مونيكا فيتي) التي تعاني من مرض «عصاب الاغتراب». فمن خلال عينيها ينظر أنتنيوني إلى العالم، جاعلاً رؤية امرأة مريضة للعالم رؤيته هو، محملاً هذه الرؤية هذيانات ذات طابع جمالي».
في الوقت الذي يصنف فيه بازوليني شعرية أنتنيوني بأنها شعرية «شكلانية»، فإنه يصنف شعرية جان لوك غودار «تقنية شكلانية ـ أصيلة»، لكن لا يعني هذا التوصيف أن غودار لا يحتاج للذريعة ـ Pretext التي لجأ إليها أنتنيوني، حيث يرى بازوليني أنه بشكل طبيعي، يلعب غودار اللعبة الاعتيادية، فهو أيضاً يحتاج شرطاً غالباً (سمة) لبطل الفيلم من أجل أن يضمن الحرية التقنية، والشرط المكشوف للعلاقة مع الواقع. بالتالي أبطال غودار الرئيسيين هم أيضاً مرضى، أو بكلمات بازوليني «إنهم الزهور المشرقة للبرجوازية»، لكن غودار يضفي على ذريعة انتنيوني ما يطلق عليه بازوليني «نظاماً ارتصافياً» مؤلفاً من آلاف التفاصيل التي يصعب تمييزها عن بعضها البعض، وهي ما تجعل غودار متمايزاً عن الشعرية الكلاسيكية.
فوراء كل فيلم نراه كما يرى بازوليني يوجد فيلم آخر يود المخرج لو أنه يستطيع إخراجه إلى الضوء دون ذرائع أو شخصيات، هذا الفيلم الآخر هو البنية الاساسية للسينما الشعرية، كونه مؤلف من موحيات روحية وتمارين أسلوبية سواء اختفت وراء الذرائع أم لا.
يختتم بازوليني نظريته بالحديث عن دور الكاميرا في خلق لغة السينما الشعرية باعتبارها «منتج الصورة التقني» حيث يرى أن شروط اللغة الشعرية في السينما تقوم على «جعل الكاميرا تشعر» بعكس رؤية معظم المخرجين حتى نهاية الستينات، والذين كانوا يجتهدون لإخفاء «مشاعر» الكاميرا، كما هو الحال في أفلام عظيمة مثل «أضواء المدينة ـ1931 «لشارلي شابلن أو «عين الشيطان – 1960» لأنغمار بيرغمان. لكن بازوليني يستدرك حيث يرى أن السينما الكلاسيكية العظيمة تمتلك شعرية داخلية، تشبه شعرية تشيخوف أو ميلفيل حيث «الشعر في مكان آخر غير اللغة، ما يعني أن الكاميرا تلتزم بأن تكون فوق الحقائق». في حين أن سينما ما بعد الستينات وعلى الأخص سينما «الواقعية الجديدة» تستخدم بهدف «كسر الوهم» تقنيات عدة (كالاهتزاز، التقريب والتبعيد، تغيير العدسات والفلاتر، الكاميرا المحمولة)، هذه التقنيات ساهمت في كسر تعصب السينما الكلاسيكية لصالح حرية أكبر، وحولت اللاانتظام هذا إلى قواعد للغة السينمائية الشعرية.
في هذا الجزء سنحاول تفحص العناصر التي اقترحها بازوليني: «الصورة الإشارية (مصدرها ودور المخرج في استخدامها) والخطاب الحر غير المباشر (الذريعة)» في فيلم «أين منزل صديقي» لعباس كيارستمي.
عناصر الشعرية السينمائية في فيلم «أين منزل صديقي»
مع عودته إلى المنزل يكتشف التلميذ أحمد أحمدبور أنه أخذ عن طريق الخطأ دفتر الوظائف الخاص بزميله في الصف محمد رضا زاده. يعلم أحمد تماما أن المعلم القاسي وجه في ذات اليوم إنذارا أخيراً بالطرد بحق رضا زاده إن لم يقم بكتابة وظائفه المطلوبة. لذا يقرر البحث عن منزل صديقه ليعيد له دفتر الوظائف. يخترق أحمد قواعد أمه التي تمنعه من الخروج من المنزل ويهرب باحثاً في القرية المجاورة عن عنوان منزل رضا زاده، يواجه عدة مصاعب في رحلة البحث كونه لا يعلم عن زميله في الصف سوى اسمه. في اليوم التالي يصل أحمد إلى الصف متأخراً، في ذات اللحظة التي يفتش فيها المدرس عن الوظائف، نكتشف أن أحمد قرر كتابة الوظيفة بالنيابة عن زميله ليحول دون طرده من المدرسة.
يشير الباحث الإيراني حميد دبشي أن فكرة الفيلم بالأصل مستوحاة من قصيدة للشاعر سهرب سبهري، تحمل ذات عنوان الفيلم، يقول فيها الشاعر:”إلى أي مدى سوى يذهب الولد الصغير لحماية صديقه من عقاب محتم؟”.
قد تشرح هذه الإشارة العلاقة القوية بين فيلم كيارستمي والشعر لناحية الشكل ربما، لكنها تثير تساؤلاً أوسع حول الأسلوب الذي اتبعه كيارستمي لترجمة اللغة الأدبية الشعرية، إلى سينمائية بصرية شعرية.
v الصورة الإشارية :الحلم ودورصانع الفيلم
يقوم الفيلم في جوهره على وجود فضائين منفصلين أولي مألوف، وثانوي مجهول هما: قرية أحمد، وقرية زميله رضا زاده، وما يقوم به التلميذ أحمد هو محاولة إقامة جسر بين هذين الفضائين. ترى كاسي ويليامسون أن عمليات الاستكشاف التي تمارسها الشخصية في الفضاء المجهول تمنح المخرج حرية غير مسبوقة، فعناصر البحث والاستكشاف البصرية تقوم على الضياع، والفوضى، والرؤى الغامضة، أي العناصر التي تتقاطع مع لغة الحلم الأصيلة. وفق هذه الفرضية يتحول الثانوي المجهول في النهاية إلى فضاء أكثر إلفة.
إن طبيعة الفضاء الذي تجري فيه عمليات “البحث والاستكشاف” في فيلم “أين منزل صديقي”، أي قرية رضا زاده، تعزز من الحالة الشعرية. ففي مرحلة ما من رحلته يصادف أحمد نجاراً مسناً، يمضي الاثنان معاً وهما يتفحصان الأبواب والنوافذ الخشبية، ويمران على الجدران القديمة والزقاقات الضيقة اللانهائية التي تنعكس عليها إضاءة زخرفية ملونة، تعزز الشعور بالغرق في فضاء حلم مفتوح الحدود().
يشرح رولان بارت عالم اللسانيات أن هذا النوع من النصوص المفتوحة (وهو الفيلم في حالتنا هذه) يشجع المتلقي على “بذل جهد لقراءته” وبالتالي فإن المشاهد هنا ليس “مجرد مستهلك للنص، بل هو منتج له”، بهذا المعنى تبدو الصورة في السينما الشعرية صورة منقوصة المعنى ومفتوحة النهايات تحتاج جهداً ذاتياً من قبل المشاهد لإتمامها.
يتقاطع هذا التأويل مع وجهة نظر سيجموند فرويد، حيث يرى أنه “لايوجد حلم يمكن له أن يكون مفهوماً بشكل تام (…) حيث التأويل لا محدود ومتغير المعنى”. هذا التفسير يتقاطع مع وجهة نظر بازوليني تجاه الصورة الإشارية التي تنبع من الذكريات والأحلام بوصفها خزاناً رئيسياً للصورة الشعرية.
ضمن شرطية الحلم ذاتها، يصوغ كيارستمي علاقات الشخصيات على أساس من اللامنطقية، تشبه تلك التي نعيشها في الحلم. حيث نعاين عن قرب نشوء علاقة صداقة بين التلميذ أحمد وزميله رضا زاده في المشهد الثاني من الفيلم، حين يقع محمد أرضاً أثناء اللعب في المدرسة، فيساعده رضا زاده على النهوض. لحظة واحدة قصيرة وحاسمة، وهي الأولى من نوعها بين الشخصيتين، تبدو كافية لنشوء علاقة عميقة ولتكريس شعور أحمد بضرورة رد دين ما. قد تبدو هذه العلاقة ذات العمر القصير حجة غير كافية لأن يقضي أحمد بقية يومه باحثاً عن عنوان زميله، لكننا نتقبل هذه العلاقة بوصفها علاقة حتمية، لأنها بقدر ما هي واقعية، بقدر ما هي محملة بطاقة شعرية عالية. ينطبق هذا على العلاقة التي تنشأ بين أحمد وبين النجار المسن في القرية.
v الذريعة:
لعب الأطفال دوراً كبيراً في الأفلام الإيرانية في مرحلة ما بعد الثورة، خاصة في سنوات الثمانينات، وبحسب الباحث حميد رضا صدر، يعود ذلك إلى تأثر معظم الممثلين والممثلات بالسينما الإيرانية التجارية التي سبقت الثورة الإيرانية، وأيضا ما تبعها من قيود للثورة الإيرانية على قضايا الجنس، والغناء والرقص في الأفلام». في السياق ذاته يعد كيارستمي أحد أكثر المخرجين عملاً مع الأطفال، منذ بداياته الأولى في فيلم (الخبز والزقاق 1969) حتى مراحل عمله المتأخرة.
يرى دافين أورغون أن حضور الأطفال في أفلام كيارستمي ليس فقط تثبت البساطة التي يتطلبها عكس جوهر الواقع، بل أيضا تعكس الطريقة التي يعالج بها كيارستمي الواقعية، فهو يعالجه عبر عيون الأطفال.
ففي فيلم «أين منزل صديقي» نرى العالم بعيون طفل. نرى من وجهة نظره ردود فعل الكبار، نشاهد العلاقة بين أحمد وأمه، ونعاين عن قرب البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها وكيف يحاكمها ويتعامل معها بارتباك. إن حيرة الطفل تجاه عالم الكبار هي مفتاح رئيسي للقوة الشعرية للفيلم. بالتالي يمكن اعتبار الطفل في هذا الفيلم بمثابة «الذريعة» التي تحدث عنها بازوليني، لكن كيف ترجم كيارستمي ذلك إلى لغة سينمائية؟
يقول كيارستمي في إحدى المقابلات أنه قام باختيار الممثل ـ الطفل بسبب «نظرته». ويضيف شادوري وفين أن وجه أحمد يحمل نظرة « توحي بالاندهاش الدائم، وهي مايجعنا نعيش حالة تأمل مستمرة، رغم أن الفيلم لا يتضمن كثيراً من اللقطات القريبة، حيث يستخدم المخرج لقطات قريبة متوسطة تسمح له بالانتقال بسهولة إلى لقطات شديدة الاتساع، ما يحول دون تفحصنا لهذه النظرة».
في أحد أكثر المشاهد طولاً في الفيلم، نرى أحمد ضائعاً في ظلام زقاقات القرية الضيقة والمتداخلة بشدة، شعور تمتزج فيه المخاطرة بالضياع. في تلك اللحظة تبلغ مشاهدتنا للعالم من عيون الطفل أحمد ذروتها، حيث تنزاح ذريعة المخرج في الفيلم لتصبح ذريعة تلق مفتوح لدى المشاهد. ذلك ما يجعل المتلقي خاضعاً لقانون «الخطاب الحر غير المباشر» بصورة صريحة، فهو ينسج علاقة ذات أبعاد ثلاث: بين نظرة الشخصية ـ الطفل للعالم المعقد حوله، وبين الصورة التي يراها بعيونه، وبين الشعور الذي يعيشه.
يلخص كيارستمي نظرته تلك للسينما بالقول أنها « إمكانية أن توجد عبر كونك غير موجود (…) وأن تظهر عبر الاختفاء».
ضمن هذا الطرح، تتحول مفردات الحياة اليومية البسيطة في الفيلم إلى إشارات غامضة مشؤومة،يحاول أحمد متابعتها في متاهته، في ذات الوقت نسمع بعيدا عن الكاميرا أصوات توحي باقتراب هبوط الليل، مواء القطط، عواء كلاب بعيد، صوت قطار في المدى المفتوح، حضور كل تلك الأصوات دون الصور يزيد في غموض الجانب المرئي من المشهد، ويوحي بالضياع معيداً إيانا كل مرة إلى السؤال المحمول في عنوان الفيلم: «أين منزل صديقي؟».
خاتمة:
يمكن القول في النهاية أن مفهوم «سينما الشعر» البازولينية هي اقتراح واسع يتضمن الكثير من التداخلات، ويحتمل الكثير من التأويلات والتفسيرات. لكن يجب التنويه أن مفهوم «سينما الشعر» لديه يختلف عن نظيره عند مؤلفين ومخرجين آخرين أمثال تاركوفسكي صاحب «النحت في الزمن»، أو غودار وأنتنيوني.
بالمقابل، تمتلك السينما الإيرانية بالمجمل شعريتها الخاصة، رغم استعارتها عناصر موجودة في المفهوم العام لسينما الشعر الذي يشكل بازوليني أحد أطرافه، فهي مبنية على مزج بين الثقافة الإيرانية الأصيلة، وبين مفاهيم السينما الشعرية لدى مخرجين ومؤلفين اصلاء أمثال بازوليني. وتبقى محاولة استكشاف بقية العناصر الشعرية في هذه السينما مرهونة بمدى الخوض في ماهية الثقافة الإيرانية وهويتها الجمالية.
المراجع:
CHAUDHURI, S. & FINN, H. 2003. The open image: poetic realism and the New Iranian Cinema. Screen, 44, 38-57.
CITI, W. 1994. Pasolini Second Victory In: ALLEN RUMBLE, P. & TESTA, B. (eds.) Pier Paolo Pasolini: Contemporary Perspectives 1ed. Kanda, Toronto University of Toronto
DABASHI, H. 2001. Close Up Iranian Cinema Past, Present, and Future, London, New York Verso.
DABASHI, H. 2007. Abbas Kiarostami, Through the Olive Trees In: DABASHI, H. (ed.) Master & Masterpieces. 1 ed. Iran: Mage.
ECO, U. 1967. Articulations of The Cinematic Code. In: NICOLS, B. (ed.) Moveis and Methods. 1 ed. Berkeley and Los Angeles, California: University of California Press.
FRIEDEN, K. 1990. Freud›s dream of interpretation, New York, State University of New York Press.
KALAMI, P. 2007. Poetic Cinema: Trauma and Memory in Iranian Films, USA, University of California.
NAFICY, H. 1999. Iranian Cinema. In: ISSA, S. W. A. R. (ed.) Life and art, the new Iranian cinema. 1 ed. London: National Film Theatre
NICHOLS, B. 1985. Movies and Methods Berkeley and Los Angeles, California, University of California Press.
ORGERON, D. 2008. Road Movies from Muybridge and Melies to Lynch and Kiarostami, New York, Palgrave Macmillan.
PASOLINI, P. P. 1973. The Cinema of Poetry. In: NICOLS, B. (ed.) Movies and Methods. Berkeley and Los Angeles, California: University of California press
REZA SADER, H. 2007. Children in Contemporary Iranian Cinema: When We Were Children. In: TAPPER, R. (ed.) The New Iranian Cinema, Politics, Representation and Identity. 1 ed. London, New York: I.B Tauris.
REZA SADR, H. 1999. Contemprary Iranian Cinema and its Major Themes. In: ISSA, R. & WHITAKER, S. (eds.) Life and Art. 1 ed. London: National Film Theater.
RHODES, J. D. 2010. Pasolini›s Exquisite Flowers: The «Cinema of Poetry» As A Theory of Art Cinema. In: GALT, R. & SCHOONOVER, K. (eds.) Global Art Cinema,New Theories and Histories. 1 ed. New York: Oxford University Press.
ROHDIE, S. 1995. The Passion of Pier Paolo Pasolini, London, British Film Institute
SADR, H. R. 2006. The 1990s. In: SADR, H. R. (ed.) Iranian Cinema a Politica History. 1 ed. London: I.B.TAURAIS.
SAEED-VAFA, M. & ROSENBAUM, J. 2003. Abbas Kiarostami, contemporary Film Directors, USA, Manufactured in the USA.
STERRITT, D. 2000. Tast of Kiarostami. Film Comment, 1.36.
WILLIAMSON, C. 1999. Art Matters: the films of Abbas Kiarostami. In: ISSA, R. & WHITAKER, S. (eds.) Life and Art, The New Iranian Cinema 1ed. London: National Film Theatre.
الهوامش
1- تعتبر فروغ فروخزاده أحد أهم مؤسسي سينما المؤلف التسجيلية بفلمها (البيت أسود) الذي يصور قرية إيرانية كاملة مصابة بالجذام.
2- في عام 1987 صور كيارستمي فيلمه “أين منزل صديقي؟” في منطقة رستم أباد (قرية كوكر) ، وعاد لذات الموقع عام 1992 ليقدم فيلم “والحياة تمضي” مصوراً فيها عودة المخرج لقريته الأولى باحثاً عن بطل فيلمه بعد زلازال ضرب المنطقة. في عام 1994 عاد كيارستمي لذات الموقع ليصور فيلمه الاستثنائي “عبر أشجار الزيتون”. دعيت هذه الأفلام لاحقاً باسم ثلاثية كوكر ـ رستم أباد. (المصدر حميد دبشي 2007)