تروم هذه المقاربة تأويل بعض إيحاءات المعنى الثّاوية في تجاويف الملفوظات الوصفية في رواية «قرّة العين» لجيلالي خلاّص(1)؛ فغنيّ عن القول إنّ التّحليل السيميائي ينحو، أساساً، نحو التأويل الّذي لا يغفل خلفية النص اللسانية والثقافية كما يعتقد إيكو، وإنّ غاية هذا التأويل، عند غريماس، هي تحديد النسق الثقافي المتضمَّن في المعاني الموحية.
وأحسَب أنّ مقاربة من هذا القبيل ستحاول استمالة الباحثين إلى العناية، أكثر، بملفوظ الوصف الّذي غُيِّب في معظم الدراسات المحايثة الّتي جعلت من السرد عنواناً للخطاب، ومن الوصف زينة له وعبدا طيّعا للسرد في الآن ذاته كما يقول جينيت.
ويمكن، في حدود ما أعرف، أن أستثني من هذه الدّراسات، الّتي انصرفت إلى تحليل السرد وآليات تشكّله في الخطاب، تلك الدراسة الرصينة الّتي نهض بها فيليب هامون عن الوصف، وهي دراسة سأركن إليها في مقاربتي هذه نظرياً على الأقلّ. كذلك، ينبغي أن أُلمِْحَ إلى محاولة غريماس وفونتنييْ تأسيس نظرية سيميائية للأهواء تُعنى بالمشاعر والعواطف الّتي تحمل الذات على الفعل، وهي نظريّة تصبو إلى تجاوز النّقص المنهجي الّذي شهدته السّيميائية السردية حين اهتمّت، فقط، بالفعل نفسِه من حيث تَمَظْهُرَاتُهُ الصّيغيةُ (الواجب، الإرادة، المعرفة، القدرة) وأنماطه (فعل معرفي، فعل إقناعي، حمل على الاعتقاد faire – croire، فعل تأويلي، فعل ذرائعي، فعل جسدي faire somatique) ووظيفته في تحديد دور الشّخصية في البرامج السردية (عوامل وأدوار عاملية).
وعلى هذا الأساس، لا تكون الغيرة، مثلاً، صفة تميّز ذاتا عن ذاتٍ أخرى فحسب، إنّما تكون دافعَها إلى الإساءة أيضاً؛ فالهوى انفعالٌ حيويٌّ (وهو يحيل، في الوقت عينِه، إلى تصوّر قيميّ للعالم من لدن الفرد أو الجماعة أو الإنسانية قاطبة) يشحَن الفعل ويوجّه مساره نحو تحقيق رغبة الذّات الهوِية. ومن ثمّ، فإنّ الأهواء (الحب، الكراهية، الإيثار، الأَثَرَة، الكَرَم، البخل، التّواضع، الكِبْر، الحِلم، الغِلْظَة،…) هي مواضيع تحدّد كينونة الشخصية، وتحليلها يصبّ في حقل السّيميائية الوصفية الّتي لا تعتبر الإسنادات والقرائن والتّسميات والصفات والحالات والكينونات مجرّد خلفيات ملحقة بالسرد كما تذهب إليه السّيميائية السردية والشعريّات عامّة.
1 – التّواصل السردي:
لقد تحوّل السارد من محدّث، في التراث الشفوي، يُحيِّن كفاءته التلفظية لاستمالة المسرود له والتأثير فيه إلى قائم بحبك الخطاب السّردي؛ فهو يجري الأحداث في الخطاب من خلال الرواية بعدما يَسْطُرها الكاتب في قرطاس؛ فيقدّم الفعل أو يؤخره أو يرتبه أو يضمِّنه فعلا آخر…، ويروي الكلام (والكلام فعل من وجهة نظر السيميائية السردية) أو يعرضه أو ينقله، ويصف الكائنات والأشياء (الورقية طبعاً) وصفا ذاتيا أو موضوعيا، عبر رؤية سردية تحدّد علاقته بالشخصية؛ فقد يقص السارد أكثر ممّا تعرفه الشّخصية عن نفسها (التبئير في درجة الصفر)، وقد تحكي الشخصية أكثر ممّا يدركه السارد عنها (التبئير الدّاخلي)، وقد يكتفي السّارد بسرد ظاهر الأحداث دون النّفاذ إلى أعماق الشخصيّة (التّبئير الخارجي).
إنّ السارد، سواء أكان شاهدا على الأحداث أم مشاركا فيها، عاملٌ يمتلك كفاءة تخييلية مَعينُها الكاتب الّذي يمدّه بالأخبار والوقائع عبر التّواصل المشترك(2)، بحيث تؤهّله تلك الكفاءة للاضطلاع بوظائف خمس وضعها جينيت بناءً على وظائف التّواصل اللساني الّتي صاغها جاكبسون؛ فالسارد:
1 -يقتفي الأحداث ويتعقّب الأخبار مهما حاول التملّص من ذلك ومهما جرّب بعض الكتاب إقصاءَه أو تهميش دوره (الوظيفة السردية).
2 – يسجل تمفصلات السرد وترابطاته وتناظراته وتعارضاته (الوظيفة التّنظيمية).
3 -يستعير بعضاً من خطاب «الحكواتي» قصد إبلاغ المسرود له، الحاضر (شخصية تقاسم السّارد التواصل السردي) أو الغائب (شخصيّة يستحضر السارد صورتها أثناء السّرد) أو المفترض (القارئ الضمني)، ولفت انتباهه، كقوله: «زعموا أنّ»، «يروى أنّ»،… (الوظيفة التواصلية).
4 -ينفعل بالقصّة فيتفاعل معها بإبداء رأيه في مسألة أخلاقية أو فلسفية في شكل شهادة تومئ إلى مصدر خواطره ودقّة ذكرياته وعواطفه الّتي استفزّها مشهد ما (الوظيفة الإشهادية).
5 -يفسّر إيديولوجية الكاتب ونظرته للمجتمع والعالم، وقد ينفرد بإيديولوجيته فيعبّر عن رؤيته الخاصة للأشياء من حوله (الوظيفة الإيديولوجية)(3).
2 – الكفاءة الوصفية:
ولأنّ الخطاب لا يستقيم على ساق السّرد وحدها؛ هذا السرد الّذي يقوم على التخييل المستقل ببنيته ومعناه عن اللّغة (حيث تستطيع الرواية الشّفوية، المتغيرة دوماً، أو الصورة السينمائية الصامتة، كنسق دالّ، أن تنقل السرد مثل اللغة تماماً)، فإنّ الوصف، باعتماده على المعرفة الّتي تمر، حتما، عبر اللغة، يحتاج، من جهته، إلى كفاءة تسبق تحقّقه في الخطاب؛ إذ يجب على السارد، في حال الوصف الّذي يتقوّم به الخطاب ويكتمل، أن يكون ملمّاً بعالم الكلمات إذا ما ابتغى التعريف بعالم الأشياء، ذلك لأنّ التّواصل الوصفي يقوم على اليقين الّذي يحثّ الموصوف له على مطابقته بما يتخلّل فكره من معرفة تتّسم بالجزم والإطلاق، بينما يقوم التّواصل السردي على الخبر الّذي لا يُخضعه المسرود له لمعيار الصّدق أو الكذب، لأنّ مصدره الخيال المتسامي على الواقع الّذي انطلق منه.
لذلك، يتّكئ الواصف (وهو السارد نفسه الّذي ينهض بوظيفتيْ السرد والوصف في آن معاً)، حين يروم وصف الشخصيات والأمكنة (ثمّة علاقة وثيقة بين الشخصيّة والمكان في العملية الوصفية)، على معرفته الموسوعية بالمعاجم (معجم الأسماء، معجم الألوان، معجم البلدان، معجم الحيوان، معجم الأساطير،…) والمدوّنات Nomenclatures (فهارس المفردات العلميّة والتقنية) ليحوّل إلى الموصوف له معرفته للواقع الّذي لا يُعرف ولا يُعرَّف إلاّ بالتسمية؛ «هنا اللّسانيات والبلاغة يستعير منهما المفردات ليصف أقوال الشخصيات، وهناك البستنة يستعير منها الألفاظ ليصف نبات الطّبيعة، وهنالك العمارة يستعير منها الكلمات ليصف معلماً، وهنالك التقنية يستعير منها المصطلحات ليصف آلة،…»(4).
يقول الواصف مسخِّراً الإمكانات المعجمية الدالة على العمران واللّون والحيوان والنبات للإحاطة بجمال «قرّة العين»: «مجموعة البنايات المشيّدة بدت هي الأخرى شامخة مهيبة وسط ذلك الاخضرار الفردوسي. كانت تنبثق وقد طليت بالجير الأبيض مزهوة بغرفها ذات النّوافذ الزجاجية الواسعة وملحقاتها من حظيرة للأبقار وإسطبل للخيول والبغال وزريبة للأغنام وخمّ للدجاج وسجنة للأرانب. كلّ هذا كان وسط ديكور خلاّب تلونه الأزهار الحمراء والصفراء والبنفسجية الّتي غرست أو نبتت من تلقاء نفسها على ضفاف الترع والسّواقي المائية الّتي تتفرع وتتشعّب في كلّ الاتجاهات. إغراء ساحر، مأدبة خيالية بالنسبة لبدو كانوا وهم يمرون من هاهنا بعد سنوات طويلة من الغياب يروون ظمأهم بالمياه المتدفّقة عبر تلك التربة الّتي كانت توصم بأرض «الظّمأ» حيث هجرها البشر والطيور والحيوانات والزواحف والسلاحف والحشرات باستثناء أصنافها الّتي تتحمّل الحرّ والظمأ»(5).
وتتآلف مثل هذه الإمكانات المعجمية مع معجم البلاغة، حيث تكثر التّشبيهات والاستعارات الّتي تفيد معاني الإشعاع والانبعاث والنّماء والنّقاء والخصب والفضل، وهي معان يريد بها الواصف تحويل الجمال الفعليّ الّذي ترفل فيه أرض «بوزاهر» إلى جمال فنيّ يقطر حساسيةً وشعريّةً، مثل قوله: «شارفت النجمة القطبية على الهلاك وراح القمر يحاول عبثا أن يستعيد سلطته المهدّدة بالفتور وهو يضع ذراعه الثقيلة على شكل منجل أمام ناظريه حاجبا عن بصره هول سقوطه. من الشّرق، أعلن سلطان النّهار عن مقدمه القريب، تسبقه عربته العاجية اللاّمعة. انطلقت قُبَّرَة كقذيفة مقلاع علي لكحل أيّام مراهقته الطائشة وأشارت إلى نهار حارّ رائق، بينما انبرت الضفادع والخنافس والصراصير الّتي أرهقتها ليلة أرق طويلة تستعدّ لنومها الأول»(6).
وفضلاً عن معرفته الموسوعية بالأشياء والكلمات، يمتلك الواصف إستراتيجية (بتعبير إيكو) وصفية تؤلف، إلى جانب إستراتيجيته السرديّة، إستراتيجية النّص ككلّ، حيث إنّ «العمليّة الوصفية حين تبدأ، سواء أكانت واقعية أم موهِمة بالواقعيّة، تفرض على الواصف اللّجوء إلى الانتقاء والاختيار، نتيجة ازدحام الأشياء والتّفاصيل، الشّيء الّذي يحتِّم عليه تنشيط بعضها وتخدير البعض الآخر. ولا تتمّ عملية الانتقاء هذه ببراءة أبداً، وإن كانت تبدو أحياناً كما لو كانت تلقائية، لأنّها بالضرورة ترسم أثراً جليّاً للأبعاد المعرفيّة والسيكولوجية والإيديولوجية. تلك الأبعاد الّتي تُتَرجمها لعبة الانتقاء والرّصف»(7).
إنّ الإستراتيجية الوصفيّة تتطلّب انتقاءً للصّفات لا مناص منه؛ فتارة يسهب الواصف في وصف تفاصيل الجسد وجزئياته، ويوجز في وصف أغوار النّفس ومكنوناتها (والإسهاب لا يعني الرصف والاستقصاء كما لا يعني الإيجاز الانتقاء والاختيار)، حيث يقول: « كان عبد الرحمن شابا أسود في الثلاثين من عمره. بشرته أبنوس مذهّب قليلا عند الكتفين. أنفه مستقيم دقيق. شفتاه غليظتان. ذقنه طويل صلب. كفه مربّعة. أذناه صغيرتان كأذنيْ قط وعيناه لوزيتان يظللهما حاجبان طويلان غامقا السّواد وجبينه عريض بارز ورأسه بشعره المزيت يشبه رأس صقر من صقور الصحاري الإفريقية. كان عبد الرحمن يتنفّس الصحة وهدوء البال ويتذوّق طعم الحياة الحلو. من شخصه القويّ المتزن، ينبعث إشعاع جذّاب يجعلك تحس بنفسك مدفوعا إليه بميل خطير «(8).
وتارة يستغني الواصف بإيحاءات النّفس عن حقيقة الجسد وما يصدر عنه من أفعال ؛ فيقول: «في الغرفة، كانت بختة تنتظر. إنّها صبورة وذكية، لا يقلقها شيء مهما عظم أو تفاقم. غير أنّ بالها لا يهدأ حين تطرق فكرة ما ذهنها النّبيه، خاصة إذا تعلّق الأمر بأخيها علي لكحل. منذ وفاة أمّهما، تحول كلّ حبها الدافق إلى أخيها مثلما يتحوّل نهر هرهار بمياهه المتدفّقة إلى أقرب بحيرة أو بحر، مستهزئا بالجبال والفجاج والأكمات والتّلال. كذلك بختة. فالعراقيل والصعوبات وضروب الفشل تعتبر في عالمها أحداثا مجهولة، تافهة. إنّها حازمة، تحسن مزج الرقة والاستقامة بقوّة عزم نادرة. حين تتّخذ قراراً، لم تكن تحب التراجع عنه أبدا. عندما يحدث لها أن تضيّع فرصة، فإنّها تعتبر ذلك خسارة معركة ليس إلاّ. ففي الغد تعود للهجوم من جديد بعزيمة أكثر قوّة وتصميم يفتّت الحجر الصّلد»(9).
وغالبا ما يبسُط الواصف الميزات الجسديّة وأحوال النفس بشكل مرتّب وبِمَرَّةٍ (في هذا النّص على الأقل، وفي النّصوص الواقعية عامة)؛ فهو لا يستنكف عن استقصاء السّجايا والنّوايا والعواطف والرغبات والنّزوات الّتي تعتور ذات «علي لكحل» على امتداد ثلاث صفحات ويزيد قليلا من الفصل الخامس بوثوق ويقين ممزوجين بأخبار عن جهاده ونشأته في وسط يجتمع فيه اللّين والقسوة، وتقترن فيه العناية بالصّرامة.
وإذا قام الواصف بوصف المكان، فإنّه، عادة ما، يقرنه بالشّخصية ليوحيَ (المكان) بتصنيفها الاجتماعيّ وليشهد على إيديولوجيتها وأعمالها: «كانت غرفة الحاج أحمد بسعة عنبر نوم جماعي. في وسطها، سرير قصير كبير مسند إلى الحائط ومغطّى بإزار محلي الصنع ذي ألوان زاهية. قبالته ارتفعت المدخنة الضخمة بجذعها المصمم من الأجور المملوء الأحمر، فوقها تربّعت لوحة واسعة، كُتب عليها بخطّ مذهب وعلى بقعة سوداء ذات نجوم فضية كلمتان: اللّه (على اليمين) ومحمد (على اليسار). وعلى كلّ طرف، علقت بضفيرة وردية شمعة بيضاء صمّمت بشكل حلزوني طولها لا يقل عن نصف متر. في إحدى الزوايا، فرش بساط الصّلاة، وفي الأخرى واجهته المكتبة المقدسة. فلئن كان الأب أميّا لا يفقه شيئاً في الفرنسية، فهو علامة في لغته العربية»(10).
ولا شكّ أنّ تقديم الواصف للمكان من وجهة نظر الشّخصية يُضفي على الوصف أدبيّة وجماليّة قد لا يحققهما الوصف الموضوعي المباشر؛ ففي ذلك نَأْيٌ عن الواقع الّذي يحيل إليه صوت الواصف العليم (قياساً إلى السّارد العليم) الملتبس بصوت الكاتب، حيث يمكن للشّخصية أن تنقل، من خلال رؤيتها الّتي يترجمها خطاب الواصف (فذلك جزء من إستراتيجيته الوصفية في نصّ واقعي مثل هذا؛ فالشخصية لا تستطيع أن تنقل الوصف بلغتها الخاصّة بها)، للموصوف له صورةً للمكان مفعمةً بعواطفها وأفكارها وأمانيها، ممّا يفضي إلى تجريد المكان من بعده الطوبوغرافي وإكسابه بعداً رمزيا ينضح قيما ثقافية.
ثمّ، إنّ هذه الصّورة الذاتية المفارقة للصّورة الواقعية تعكس اتّصالاً أو انفصالاً بين الشخصية كجسد والمكان كطوبوغرافيا من جهة، وتعكس، من جهة أخرى، تناغماً أو تنافراً، ليس بين سمات الشخصية وخصائص المكان، كما يخال هامون، بل بين القيم الّتي تعتنقها الشخصيّة والقيم الّتي تؤلّف المكان، لأنّ الشخصية ليست، فقط، طولا وعرضا وعمقا، إنّما هي، إلى جانب ذلك، روح وفكر وهوى، كما أنّ المكان ليس مجرّد بناء وامتداد ونتوء، بل هو، أيضا، تاريخ تصنعه الحقيقة والأسطورة، الطّبيعة والثّقافة، المدنية والبداوة، القانون والعرف،…
وعلى هذا الأساس، يمكن تحديد أربع صِلات بين الشّخصية والمكان كالآتي:
أ – اتّصال جسدي وتناغم قيميّ.
ب – اتّصال جسدي وتنافر قيميّ.
ج – انفصال جسدي وتنافر قيميّ.
د – انفصال جسدي وتناغم قيميّ.
إنّ صورة «بوزاهر» المستبطَنة في ذهن «علي لكحل» تشي بانتماء الشّخصية إلى المكان الّذي انفصلت عنه سبع سنوات، هو عمر الحرب التّحريرية، حيث تمثِّل «قرّة العين» الرحم الّذي يمنح الرّيع والبركة بعد تمنّع وصدود، تماما مثل الأمّ الّتي تهب الحياة لوليدها بعد مشقّة وعسر؛ فقد نفر منها جدّه، واستعصت على أبيه «الحاج أحمد» بالأمس، وها هو اليوم يروم تخليصها من قهر الطبيعة. إنّه يُقْسِم أن تظلّ أرض «بوزاهر» حضنا دافئا يقيه من تقلّبات الدهر وكيد الزّمن، لأنّها مَعين الدّعة والخير والصّبر والحب، ولأنّها التاريخ بأفراحه وآلامه، إنجازاته وإخفاقاته: «ببطء، رفع علي لكحل، الّذي غاصت إلى أعماقه هذه الرؤيا (الدانتية)، ذراعه اليمنى في حركة محتجة أمام محكمة الطّبيعة هذه وقال: بوزاهر.. أقسم باللّه العليّ العظيم أنني سأنقذك، عليّ اليمين سأحييك. ستشفيك الجرارات من الانجراف وستنجدك من الجفاف المقيت الآبار المحفورة في نهدك الكريم»(11).
كذلك، يُفترض أن يكون الواصف على دراية بالإستراتيجيات الوصفية الّتي ينتهجها الواصفون الآخرون؛ فيعمد إلى معارضتها حذوا أو نقضا، اجترارا أو تنقيحا؛ فلا عجب إن قام واصف «قرّة العين» باستمداد إستراتيجيته الوصفية، أو بعضٍ منها، من نصوص عبد الحميد بن هدوقة الّذي يعدّ، بحقٍّ، رائد الرواية العربية في الجزائر، ونجيب محفوظ الّذي يعدّ، بلا ريبٍ، عميد الرواية العربية في مصر لا بل في الوطن العربي كلّه؛ فإذا كان ابن هدوقة قد انشغل بالقرية وأنشأ يصف مشاهد الطبيعة فيها وصفا تركيبياً موحياً (نادراً ما يلتقي التركيب مع الإيحاء؛ فالتّركيب يهدف إلى الإيهام بالواقع، أمّا الإيحاء بالواقع فهو الغاية من الاستبدال) تتطلّبه الرومانسية الثّورية، فإنّ محفوظ قد أسَرته المدينة بحاراتها الشعبية العامرة بنماذج إنسانية أبدع في وصفها وصفا يدنو من التّصوير الفوتوغرافي الّذي تقتضيه الواقعية الطّبيعية. وفي الملفوظات الّتي أوردتها وفي غيرها ممّا تطفح به الرواية ما يُستدلّ به على إلمام الواصف بالإستراتيجيات الوصفية السابقة على نصّه وتمكّنه من استثمارها بطريقة لا تفسد عمليته الوصفية ولا تسيء إلى نصوص الآخرين.
وبهذا الشّكل، لا يُمكن النهوض بالعملية الوصفية إلاّ إذا توفّرت كفاءة وصفية سابقة في الوجود على أداء الوصف؛ كفاءة ذات طبيعة معرفيّة تسمح للواصف بالإحاطة بالواقع (الأشياء أو المواضيع)، وبالملفوظ (الكلمات – الأيقونات)، وبالتّلفظ (الإستراتيجيّة الوصفية)، وبخطابات وصفية أخرى (التّناص الوصفي).
3 – الميثاق المعرفي:
إذا كان الميثاق التّخييلي يحمل المسرود له على الاعتقاد بصحّة ما يرويه السارد دون أن « يتّخذ النص وعاءً لأهوائه الخاصة، وهي أهواء مصدرها عالم آخر غير عالم النص، ولا يقوم النّص سوى بإثارتها بشكل عرضي «(12)، فإنّ الميثاق المعرفي، الّذي أفترضه، يختبر كفاءة الموصوف له القائمة، هي الأخرى، على المعرفة بالأشياء والكلمات؛ فالموصوف له لا يطمئنّ بالرتابة والخمول اللّذيْن، عادة ما، يكتنفان قراءة الوصف باعتباره وقفة أو فسحة يستريح فيها الـقارئ (ذلك الكائن من لحم ودم الّذي يتوجه إليه الكاتب – الكائن من لحم ودم، هو الآخر، بنصّه المكتوب) من كَبَد اقتفاء السرد، ولكنّه يستحضر كفاءته المعجمية ليؤوّل دلالة الوصف الحاملة لمعان متعدّدة ولانهائية، حيث إنّ اللغة الوصفية الّتي تمدّ الواصف بالمعاجم والمدوّنات لا تطابق الموصوف، كما قد يظنّ الموصوف لَهُ ابتداءً، بل تماثل الواقع -المثال بوساطة الكلمة – الأيقون؛ « فكأنّ الوصف مماثل (icône) مزوّد بطاقات هائلة من الجمال الأدبي الّذي تكون غايته رسم صورة الغائب في صورة حاضرة «(13).
(البقية بموقع المجلة علىالانترنت)
ومن ثمّ، يكون الموصوف له مدعواً لتأويل الوصف بتحليل آليات اشتغال المعجم ذات الطّبيعة التوزيعية (تناثر أسماء العلم وأسماء الجنس وأسماء الأشياء وأسماء الأماكن والنّعوت والأحوال والأفعال نفسها في مساحة النصّ خاصة إذا كان الوصف متشابكا مع السّرد)، والاستبدالية (اصطفاء اللّون والشكل والحجم والطول والصّوت والرائحة…)؛ فيعكف على تصنيف مخزونات العناصر المعجميّة ومعرفتها وترتيبها وتحيينها(14). وذلك خلافاً للتّحليل السيميائي للسرد الّذي ينهض فيه المسرود له بتأويل منطقيّ لتركيب البنية السّردية وتحوّلاتها.
وبهذا الشّكل، يصبح التواصل الوصفي، القائم على الميثاق المعرفي، مسرحاً للتّنافس بين ذاكرة الواصف وذاكرة الموصوف له؛ فبينما يتباهى الواصف ويتفاخر بكفاءته المعجمية الّتي تَسَعُ الموصوف، ويعمد إلى وضع ذاكرة الموصوف له موضع الامتحان لقدرتها على معرفة صفاته، ينبري الموصوف له لاختبار صدق تلك الصفات وصحّتها انطلاقا ممّا خبره في الواقع وما ترسّخ بذاكرته من كلمات، خاصّة إذا كان الملفوظ الوصفي ينتمي إلى نصّ واقعي.
غير أنّ شدّة التنافس بين الذاكرتين ستخفّ، أثناء فعل التّأويل، مع تبلور قناعة لدى الموصوف له بأنّه أقلّ معرفة بالأشياء والكلمات والإستراتيجية الوصفية ولعبة التّناص من الواصف، وبأنّه بصدد تعلّم ملفوظ جديد يجهل عنه الكثير. ومع ذلك، سيجني من هذا التّواصل ذي الخاصيّة التّعليمية، في نظر هامون، نصّاً ومعرفةً ومتعةً.
4 – من نسق المخيال إلى نسق الثّقافة:
ينهض الخطاب الوصفيّ، باعتباره موضوعَ تواصل بين واصف عليم وموصوف له يتوق إلى المعرفة، بوظيفتيْن اثنتيْن هما الوظيفة المحايثة للنّص الّتي تحيل إلى أثر اللاّئحة والوظيفة السياقية الّتي تشير إلى أثر الواقع. ولا ينفصل التّفسير السّيميائي (أو السّيميولوجي كما يسمّيه هامون) للوحدات المعجميّة، إطلاقاً، عن التّفسير التّعليمي الّذي تكمن فائدته في التعرّف إلى واقع يبدو مألوفاً لدينا، كموصوفٍ لهم، لكنّنا، في الحقيقة،لم نستطع، على الأقلّ، أن نعاينه ونشعر به وندركه كما عاينه الواصف وشعر به وأدركه.
ولأنّ رواية «قرّة العين» نصّ واقعي بامتياز، فإنّ تعليمية الوصف تفرض حضورها من خلال رغبة الواصف في إطلاعنا على النّسق الثّقافي الّذي يمدّ المقاطع الوصفيّة ? «ماء الحياة» ويميّزها، في الآن نفسه، عن المقاطع السّردية النّابعة من التّخييل الّذي يُجسِّد ذهنية الإنسان وتصوّره للعالم، حيث «تتّخذ السلوكات البشريّة المتعارف عليها إطاراً مرجعيّاً لتوليد الأنواع الحكائية وترصد التطوّرات والماجريات الممكنة لحالة ما. ورغم وجود مقولات كونية (التّعاقد والاعتداء والمكافأة والانتقام والتّضحية والواجب…)، وتشابه البنى الأساسية، فإنّ لعبة التّوليفات والاختيارات تتنوّع وتتباين حسب طبيعة الثّقافات والمدارس والأذواق الفرديّة»(15). وهذا ما يجعل تحليل السّرد قاصرا عن إدراك المعنى ما لم يصاحبه تحليلٌ للوصف؛ إذ ليس المخيال وحده ما يؤسِّس النّص، بل الثّقافة أيضاً؛ فلقد وعى ليفي شتراوس ضرورة أن تسير الدراسة البنيوية للنّسق اللّغوي والدراسة الأنثروبولوجيّة للنّسق الثّقافي جنبا إلى جنب، كما أدرك بروب، قبله، أهميّة أن يُستعان بالمنهج التّاريخي في تحليل الإسنادات الّتي تغافل عن بحث ماهيتها؛ فالحكاية «تخضع لتأثير الواقع التاريخيّ المعاصر، والشّعر الملحميّ للشعوب المجاورة، والأدب أيضا، والدّين سواء ما تعلّق به من العقائد المسيحيّة أو المعتقدات الشعبية المحليّة»(16).
وبناءً على هذا، تحيل موضوعة «الثّورة» في رواية «قرّة العين»، وهي موضوعة أثيرة لدى الروائيين الواقعيين، إلى بعديْن اثنيْن؛ بعد كونيّ إنسانيّ يتجلّى، سرديّاً، في ذلك المفهوم العامّ للصراع بين الأصيل والدخيل، وبين المستغِّل والمستغَّل، وبين القاهر والمقهور، وبين الظّالم والمظلوم، والّذي تناوله كتّاب من الشّرق والغرب إلزاما أو التزاما في إطار ما عُرِف بالأدب القومي والأدب الثّوري. وبعد ثقافيّ محليّ يتجلّى، وصفيّاً، عبر إحلال الصّراع في بيئة ثقافيّة معيّنة تحتضن رؤية الشّخصية للعالم الّتي، غالبا ما، تمثّل رؤية الواصف – الكاتب، حيث يعمل الخطاب الوصفي على تشكيل مفهوم «علي لكحل» للثّورة انطلاقا من الثّقافــة الّتي يـصـدر عنها في أفـعاله وانــفـعالاته، والّــتي تدفـعـه إلى الثّورة على الـمـحـتلّ الفرنسيّ مــن أجــل «كفكفة دموع الأرامل والمغتصَبات، طمأنة الشّباب وإلغاء تجنيدهم بالقوة للدفاع عن جشع المستعمِرين، مواساة اليتامى الّذين تقرّحت عيونهم من البكاء بدموع اختلط ماؤها بدمائهم بعدما فقدوا آباءهم وأمهاتهم بطلقات ناريّة صادرة عن بنادق أو رشاشات مستعمِرين ضيّعت أناملهم هدوءها الإنساني فضغطت على أزندة تتحكّم في ماسورات مجرمة»(17).
ويتمظهر النّسق الثّقافي، الّذي يُعدُّ الذاكرة الوصفية للنّص، عبر جملة من الصّور «الاسميّة، والفعلية، ولكن الظّرفية أيضاً، نظير الفضاء والزمن»(18)، تمنح الرواية فرادة سيميو – ثقافية من حيث طريقة تناول موضوعة «الثّورة». من ذلك مثلاً:
1 – الأسماء: تهدف أسماء العلم وأسماء الجنس والنّعوت والأحوال إلى تعريف الموصوف له بهوية الموصوف النّفسيّة والاجتماعية والأخلاقية والفكريّة، من قبيل أسماء العلم الآتية: علي، وأحمد، والطيّب، وعبد الرحمان، وجلّول، وبختة، ورقيّة، وسعيدة، وخيرة… واسم الجنس «الحاج» الّذي يُطلق على من استطاع أن يؤدي فريضة الحجّ أو بلغ من العمر عُتِيّا. واسم الجنس «الشّامبيط» الّذي يتسمّى به الشّخص الّذي يسيّر الأعمال في الحقول Champêtre، غير أنّ التّرجمة العربية قد زحزحت المفردة الفرنسيّة عن معناها الحقيقي لتريد بها الشّخص الّذي يسهر على الأمن في القرى، وهو ما يقابل المفردة الفرنسيّة Garde Champêtre، وقد عمل «الشّامبيط» أثناء الاحتلال الفرنسيّ للجزائر وظلّ يحتفظ بمهمته بعد الاستقلال ردحا من الزّمن.
ومن الأسماء الدّالة على صفات الذّات (علي لكحل) تلك النعوت الّتي يُجملها الواصف في مثل هذا المقطع: «كانت شهرته قد سبقته عند الخاوة (أي الإخوة كما كان السكّان يُسمّون المجاهدين)، ذلك أنّه عُرِف في تكوسة منذ بلوغه سنّ العاشرة بشطارته وذكائه، كما اشتهر في مدينة الضّاية وضواحيها منذ بلوغه الثّامنة عشرة بجسارته ودهائه وقوّة عضلاته المفتولة. كان المطرقة الفولاذية الّتي تدكّ رأس كلّ عربيد طائش يعترض طريقه أو يقذف بالسّوء امرأة شريفة أو يحقر أحد أصدقائه أو أقاربه»(19). ومن الأحوال قول الواصف: «كان يتقدّم فصيلته حاسر الرأس، مغنيا شاديا، مستقيم القامة أبداً»(20).
وتُسهم أسماء الأشياء، كما هو الشّأن بالنسبة للأشياء الّتي تؤثّث غرفة الحاج أحمد، في إضفاء بعد ثقافيّ على الرّواية حين تعرّف الموصوف له، مثلاً، باللّباس التقليديّ الّذي يشيع ارتداؤه في الأرياف والبوادي، مؤكّدةً، بذلك، على أصالة الذّات وارتباطها الحميم بالتّراث والتقاليد، ونافيةً عنها الانبهار بزخرف الحياة. يقول السّارد -الواصف: «كان عليّ لكحل الّذي استعاد ثقته بنفسه متهيّئا تمام التهيّؤ لخوض طريق الضّاية بعد أن ارتدى قميصاً أبيض من نيلون رقيق فوق صدار مجفّف بينما ستر نصف جسده الآخر سروال صحراوي غليظ أسود، جيوبه الجانبية مزركشة الحواف بخيوط فضيّة، أمّا قدماه فقد أسكنهما نعالا واسعة منبسطة. لم يكن إلاّ إبهامه الكبير المفلطح مشدوداً إلى حلقة من جلد ليّن»(21). ومن أسماء الأشياء، كذلك، أسماء الأكلات، مثل: «الكسكس»، و»الشربة»، و»البغرير»، وهي أكلات شعبية تختلف تركيبتها وطريقة تحضيرها من مكان لآخر.
ويُضاف إلى هذه الصّور الاسمية تلك الأسماء الّتي تنصرف إلى التّعريف ببعض العادات والطّقوس المنتشرة في المجتمعات البدوية خاصّة، من قبيل «التّويزة» الّتي تعبّر عن التّكافل والتّضامن الاجتماعيَيْن اللّذيْن يبرزان في تطوّع مجموعة من النّاس لبناء مسكن أو حرث أرض أو جني ثمار. و»الوعدة» الّتي تعدّ احتفالاً جماعياً يعكس مظاهر الجود والتّواد والبساطة والعفويّة؛ ففيها يُطعَم الطّعام (الكسكس) وتشيع فنون القول من شعر شعبيّ وغناء بدويّ ويتواصل النّاس عبر البيع والشّراء، وهي، غالبا ما، ترتبط باسم وليّ من الأولياء. وإلى جانب هذا، يومئ الواصف إلى ظاهرة ذبح الأضاحي الّتي يُبتَغى بها الحمد والشكر للّه أو استرضاء الأولياء أو جلب المنافع أو درء المصائب؛ فقد ذبح «الحاج أحمد» ثوره قربانا لسيدي عابد ليَرفعَ عن ابنه «علي لكحل» طيش الصّبا وشقاوته.
وتقوم هذه الأسماء بموضعة الرؤية الثّورية في إطار القيم الثقافيّة الّتي توحي بها أسماء العلم وأسماء الجنس وأسماء الأشياء وأسماء العادات والطّقوس والنّعوت والأحوال، وهي قيم الطّيبة والاستقامة والصّبر والحزم والحكمة والدّهاء والجراءة والأنفة والشّرف وعزّة النفس والتّآزر والتّكاتف والكرم والتّواضع والعفوية الّتي يعمل الدين على صياغة بعضها كما تعمل الأعراف والمعتقدات على صياغة بعضها الآخر.
2 – الأفعال: تكتسي الأفعال أهميّة كبيرة في التّركيب السردي من حيث دلالتها على تدفّق الأحداث وتحوّلها المستمرّ. لكنّ أهميتها تتبدّى، أيضاً، في ترجمة مشاعر الشّخصية وخواطرها ومُدرَكاتها ورؤيتها للعالم؛ فهي أفعال سرديّة حين تسجل حركة الشّخصية ونشاطها أثناء السيرورة الحكائيّة، وهي أفعال وصفية حين تحيل إلى طبيعة الشّخصية وطبعها وحين تثبت أو تنفي الانسجام والتّوافق بين وظائفها وكينونتها القيمية. ومثال ذلك، في النّص الروائي، الفعل الكلامي الّذي يبيّن فيه «علي لكحل»، في حديثه مع «الطيّب» الّذي سيصبح ألدّ خصومه حين تطبّق السّلطة السياسية قانون الثّورة الزراعية، أسلوب التّعامل مع الناس، بشكل يُفصِح عن حقيقة شخصيّته الّتي تتّصف بالتّسامح والمداراة والتّؤدة والكياسة والحيطة، وهي سمات وميزات تؤهّله لزعامة بني وطنه في إصلاح أرض «بوزاهر»، كما أهّلته قوّته وشجاعته وجراءته، بالأمس، لحمل السّلاح. ولا يخفى ما لهذه الكينونة القيميّة من دلالة ثقافية تعبّر عن موقف الذّات من الآخر انطلاقاً ممّا اكتسبته، في مجتمعها، من أخلاق وآداب وسلوك.
يُخاطب «علي لكحل» «الطيّب» قائلا: «بالإضافة إلى الحذر خلال علاقاتك بالنّساء، عليك أن تكون لبقا في الحديث، متسامحا مع النّاس، ضابطا لأعصابك وحركاتك ولسانك لحظة الغضب. أريد ألاّ ينفرط عقد جأشك في أيّة لحظة، مهما كان الأمر صعبا ومغضبا، مثيرا للأعصاب. الحقيقة أنّ النّاس الضعفاء هم الّذين ينقادون وراء غضبهم فيرتكبون الحماقات الّتي لا تُحمد عُقباها أحياناً. ثمّ لا تنس أن تلبس لباسا نظيفا. فالثّوب النّظيف يُكسِب الاحترام في أغلب الأحيان. أمّا الكلمة الطيّبة الملفوظة في محلّها فإنّها تأخذ وزنها من الذّهب في الحين كما أنّ الحركة اللاّئقة تُقلَّد حالاً. إذا لم يكن في مقدورك شراء ملابس جديدة، اغسل ملابسك القديمة وإذا لم تعثر على العبارة اللاّئقة فالزم الصمت، وإن أتيت حركة، فليس لكيْ تندم عليها في المستقبل، أمّا إن أنهى إليك أحد بشيء وقح فتظاهر بالصّمم»(22).
3 – الفضاء: يعدّ الفضاء نسقا ثقافيا يكتنز رموزاً وإيحاءاتٍ تشي بموقف الشّخصية من المكان سواء كان جغرافيا أو تاريخيا أو اجتماعيا أو فرديا أو عامّا أو خاصّا أو مفتوحا أو مغلقا…؛ فهو مكان طوبوغرافي يتميّز بتخوم وأشكال وأبعاد وأحجام وألوان محدّدة؛ إنّه مكان وليس فضاء لأنّه يفتقر إلى السّردية؛ أي إلى حضور الشّخصية. وهو مكان معرَّف بأسماء توهم بالواقع (ما يسمّيه بارت مُشاكَلة الحقيقة). وهو فضاء وظيفي (أو أفعالي كما يدعوه بارت) يحتضن أعمال الشّخصية مثل فعل الثّورة أو الجهاد (الجبل)، وفعل التّواصل مع الأخلاّء (مدينة الضّاية)، وفعليْ الصّلاة والقراءة (غرفة الحاج أحمد)، وفعليْ الإصلاح والذّود(أرض «بوزاهر»). وهو، أخيرا، فضاء رمزيّ تودِعُه الشّخصية تفسيرها للأشياء ورؤيتها للكون؛ فنظرة «علي لكحل» إلى أرض «بوزاهر» هي نظرة إلى ما توحي به الأرض من خصب ونماء وحياة وطمأنينة وسعادة وانتماء، ومن ثمّ، فإنّ إصلاحَها ممّا لحق بها من ضرر ونسيان سبَبُهما الطّبيعة والإنسان والموتَ دونها كيْ لا تطالها يد التّأميم دليل على الرابطة القويّة الّتي تربط بين أرض «بوزاهر» المختزِنة لقيم موضوعية تثير رغبة الذّات وحماستها وبين «علي لكحل» الحاملِ لقيم ذاتية تتمحور حول إرادة الدّفاع عن الأرض وتملُّكها؛ إرادة تمتزج بالواجب الّذي تفرضه الأرض باعتبارها مكانا رحمياً «يشبه رَحِمَ الأمّ، والّذي يبعث على الدفء والحماية والطّمأنينة في أيّام الطفولة، مثل بيت الطّفولة والقرية، ويظلّ عالقا في الذّاكرة طول العمر»(23).
4 – الزّمن: يطرح الزّمن، هو الآخر، مسألة مُشاكَلة الحقيقة في نصّ واقعي يستثمر تاريخ الجزائر في النّصف الثّاني من القرن العشرين الّذي شهد أعظم ثورة في العالم وما أعقبها من استقلال وتحديّات، حيث يوظّف الروائي زمنا تاريخيا يمتدّ من الفاتح من نوفمبر سنة 1954، وهو تاريخ انطلاق الثّورة، إلى زمن تطبيق قانون الثّورة الزراعية حوالي سنة 1971 من خلال سرد قصّة شخصيّة ثورية تأبى الاستجابة لقرار تسليم أرضها للسلطات العمومية بعدما أفنت ستّ سنوات من شبابها وصحتها في إصلاحها بمعيّة صغار الفلاحين والرعاة؛ فتفضّل الموت على أن تطأ أقدام «الطيّب»، الّذي أضحى رئيسا للجنة الثّورة الزراعية، ترابها وتدنّس جمالها. ويعمل الروائي – السّارد – الواصف على إعادة صياغة الزّمن التّاريخي في خطاب روائيّ يُؤلِّف بين جهاد «علي لكحل» زمن الحرب التّحريرية، الّتي تستمرّ سبع سنوات، ومرحلة عودته إلى قريته «تكوسة» مع بدايات الاستقلال سنة 1962 إلى أن يلقى حتفه.
الخاتمة:
يمكن أن نصوغ، في ضوء هذه المقاربة السّيميائية لرواية «قرّة العين» للكاتب «جيلالي خـلاّص» الّتي استأنست بجهود فيليب هامون في خطابية الوصف، جملة من الوظائف الّتي يقوم بها الواصف أثناء السّيرورة الوصفية بالموازاة مع ما ينهض به «صنوه» السّارد من وظائف وهو يشيّد عالمه السّردي. وهذه الوظائف هي:
1 – الوظيفة الوصفية: وهي، كالوظيفة السّردية المتعلّقة بالسارد، لا فكاك للواصف منها؛ فهي قدَره المسطَّر سلفاً والّذي يمنحه حقّ الوجود في عالم النّص المتخيَّل أسلوبا وصوتا وفكرا.
2 – الوظيفة المعرفية: تفترض هذه الوظيفة تحقُّق كفاءة معرفية لدى الواصف (معرفة بالأشياء والكلمات والإستراتيجية الوصفية والنّصوص) حتّى يستطيع اختبار ذاكرة الموصوف له، ومن ثمّ منافسته والتّفوّق عليه عبر مخاطبة إدراكه الّذي يبقى عاجزا عن الإلمام بالواقع الموصوف ومدلولاته وإيحاءاته.
3 – الوظيفة التّعليمية: لا يخلو أيّ خطاب وصفيّ من هذه الوظيفة الّتي يتطلّبها التّعريف بالموصوف (شخصيات، وأشياء، وأماكن، وأزمنة…)، حيث يتقاطع الفعل المعرفي مع الفعل التّعليمي الّذي يهدف إلى تلقين الموصوف له كلمات تحيل، غالبا، إلى الخصوصية الثقافيّة الّتي يتمتّع بها النّص.
4 – الوظيفة الثّقافية: يعدّ الوصف لغة تؤسّس لوجهة نظر جماعة ثقافيّة ما تجد تعبيراً لها في المعتقدات الدينية الصّحيحة منها والخاطئة والعادات والتّقاليد والأعراف والشّعائر والطقوس والقوانين والآداب والأخلاق والمبادئ والقيم الّتي ترفد إيديولوجيّة الكاتب أو السّارد أو هما معاً، ذلك أنّ منشأ أيّ إيديولوجية سياسية أو رؤية للعالم هو ثقافة المجتمع الّتي تعتبر بمثابة الرّقيب والحَكَم والموجّه لفكر الجماعة وشعورها وطموحها؛ فالرؤية الثّورية الّتي تميّز بها «علي لكحل» تنبع من ثقافةٍ ترفض الظلم مهما كان مصدره وصِنفه. ومن ثمّ، فإنّ الوصف يميل إلى التّجسيد والتّخصيص والتّفريد، عكس السرد الّذي ينزع نحو التّجريد والتعميم والكونية.
5 – الوظيفة النّفسية: هي شكل من أشكال الإقرار بحالة وجدانية تعتور الواصف؛ فيعمل على تحويلها إلى الموصوف له ليحمله على الاقتناع Faire – persuader بطبيعة الموصوف (جمال أو قبح، غنى أو خصاصة، سعادة أو شقاء…). إنّ هذه الوظيفة تقابل الوظيفة الإشهادية الّتي يصبو السّارد، من خلالها، إلى حمل المسرود له على الاعتقاد بصحّة ما يسرده من أحداث وأعمال.
الإحالات:
1 – تسرد رواية «قرّة العين» قصّة شخصية مركزيّة هي شخصية «علي لكحل» الّتي تؤوب إلى قريتها، بعد كفاح استمرّ سبع سنوات ضدّ الاحتلال الفرنسي؛ فتعزم أمرها على إصلاح أرض «بوزاهر» الّتي عهدها إليها والدها «الحاج أحمد»، وتعمِد إلى استنهاض همم الفلاّحين والرعاة من أجل بعث الحياة، من جديد، في هذه الأرض الّتي شهدت النّسيان والبوار. وبعدما يتحقّق حلم «علي لكحل»، تهمّ السّلطة السياسية بتأميم أرض «بوزاهر» في إطار تطبيق قانون الثّورة الزراعية؛ فتقرّر الذّات الموت دون أرضها. إنّ هذا النّص يهيمن عليه صوت واحد هو صوت «علي لكحل» الّذي لا يتأسّس على إيديولوجيا سياسية واضحة وجليّة، بل يركن إلى رؤية للعالم ترفض الحيف والجور وتنشد السّلام والوحدة؛ فقد ابتغى «جيلالي خلاّص» رسم صورة مثالية لشخصية إيجابيّة تمتلك الأهلية الأخلاقية والمعرفيّة الّتي تمكّنها من إدارة العقول والقلوب معاً، حيث إنّ الشخصيات الأخرى ليست سوى «عوامل» مساعدة أو معارضة لبرنامجها السّردي.
2 – يريد غريماس بالتّواصل المشترك ذلك التّواصل الكلامي الّذي يتمّ فيه تقاسم المعرفة بين مرسِل عارف ومرسَل إليه غير عارف دون أن يعني ذلك، طبعاً، أنّ المرسِل سيُحرَم من تلك المعرفة. وهو ما يمكن أن ينطبق على العلاقة المفترضة بين الكاتب والسّارد؛ فالكاتب (المرسِل) يحوّل معرفته التّلفّظية – الملفوظية المكتوبة إلى السّارد (المرسَل إليه) الّذي يحوّلها، بدوره، إلى المسرود له في شكل معرفة تلفّظية – ملفوظية منطوقة. وللإطّلاع على مفهوم هذا المصطلح، يُنظر:
A..Greimas : « Du Sens 2 ; essais sémiotiques », Seuil, Paris, 1983, p 44.
3 – Gérard Genette : « Figures 3 », Seuil, Paris, 1972, p 261.
4 – Philippe Hamon : « Introduction à L´analyse du Descriptif », Hachette, Paris, 1981, p 61, 62.
5 – جيلالي خلاّص: «قرّة العين»، دار القصبة للنّشر، الجزائر، د.ط، 2007، ص 143، 144.
6 – الرواية، ص 70.
7 – عبد اللّطيف محفوظ: «وظيفة الوصف في الرواية»، الدار العربيّة للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، بيروت، الجزائر، ط.1، 2009، ص 31.
8 – الرواية، ص 34.
9 – الرواية، ص 96، 97.
10 – الرواية، ص 44.
11 – الرواية، ص 55.
12 – أمبرتو إيكو: «ستّ نزهات في غابة السّرد»، ترجمة: سعيد بنكراد، المركز الثّقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط.1،2005، ص 28.
13 – عبد الملك مرتاض: «في نظرية الرواية؛ بحث في تقنيات السّرد»، المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، د.ط، 1998، ص 287.
14 – فيليب هامون، المرجع السّابق، ص 50.
15 – محمّد الداهي: «سيميائية السرد؛ بحث في الوجود السّيميائيّ المتجانس»، رؤية للنّشر والتوزيع، القاهرة، ط.1، 2009، ص 26.
16 – Vladimir Propp : « Morphologie du Conte », Seuil, Paris, 1970, p 106.
17 – الرواية، ص 13.
18 – غريماس، المرجع السّابق، ص 63، 64.
19 – الرواية، ص 12.
20 – الرواية، ص 15.
21 – الرواية، ص 31.
22 – الرواية، ص 90، 91.
23 – شاكر النّابلسي: «جماليات المكان في الرواية العربية»، المؤسّسة العربية للدراسات والنّشر، بيروت، ط.1، 1994، ص 16.
~ 1 ~
سيدي محمّد بن مالك
باحث وأكاديمي من الجزائر