تنشر نزوى في هذا العدد فصلين من كتاب سيرة حياة الحكيم بوذا للراهب الفيتنامي ثيت نات هانه، والتي نقلها الى العربية الشاعر والأديب الإماراتي عادل خزام. حيث تصدر قريباً.
وتقع هذه السيرة في نحو 600 صفحة وتتناول بالتفصيل حياة المعلم الحكيم سيدهارتا الملقب بالرجل المستنير (البوذا) وتسرد تفاصيل حياته التي تمتد لثمانين سنة، والتعاليم والخُطب والمواعظ التي ألقاها. وقد اعتمد مؤلفها بشكل حصري تقريباً على النصوص التي تسمى (العجلة الصغرى)، متعمداً استخدام القليل جداً من نصوص الماهايانا، وذلك من أجل إثبات أن الأفكار والتعاليم الأكثر انتشاراً المرتبطة بالماهايانا، يمكن العثور عليها جميعها في نصوص لغة بالي القديمة (بالي نيكايا)، والمخطوطات الصينية القديمة (الآجما). وتتضمن السيرة السوترات المكتوبة بلغة ماهايانا كونها تقدم طريقة أكثر ليبرالية وأكثر اتساعاً للنظر إلى التعاليم الأساسية للبوذية وفهمها. وهذا قد يساعد على منع التقيّد بالتعاليم التي تأتي نتيجة الفهم الخاطئ ووجهة النظر الضيقة والجامدة للتعليم والممارسات.
تجنب المؤلف ادراج الكثير من المعجزات التي تستخدم في كثير من الأحيان في التعاليم لتجميل حياة البوذا وتعظيمها. البوذا نفسه نصح تلاميذه بعدم إضاعة الوقت والجهد للتدرب من أجل الحصول على قوى خارقة للطبيعة. ومع ذلك، فقد تضمنت هذه السيرة الكثير من الصعوبات التي واجهها البوذا في حياته، سواء من المجتمع الخارجي الكبير، أو مع تلاميذه وأتباعه في مجتمعه. وإذا كان البوذا يظهر في هذا الكتاب كرجل عادي، فان ذلك يعود إلى إعادة سرد هذه الصعوبات والمشاكل التي واجهها.
l الفصل الأول
المشي من أجل المشي
تحت ظلال أشجار الخيزران الخضراء، كان المتدرّب الجديد الراهب الشاب سفاستي، يجلس برجلين متقاطعتين متأملاً بهدوء في حركة دخول وخروج الهواء من أنفه. وقد مضت عليه أكثر من ساعة وهو على هذا الحال في الدير الذي يتوسط غابة الخيزران. وعلى الحال نفسه كان هناك المئات من المتدربين يتأمّلون بالطريقة نفسها، بعضهم تحت الأشجار والبعض الآخر في أكواخ القش الخاصة بهم.
المعلم العظيم غوتاما، الذي يلقّبه الناس بالبوذا، يعيش في هذا الدير مع نحو أربعمائة من أتباعه. ورغم هذا الزحام، إلا أن السلام والهدوء يعمّان المكان. أربعون هكتاراً تحيط بهذا الدير كلها مزروعة بأنواع مختلفة من أشجار الخيزران التي جُلبت من جميع أنحاء إقليم موغادا الى هذا المكان الذي يبعد نصف ساعة مشياً على الأقدام عن راجاغاها عاصمة الإقليم. وكان ملك الإقليم بيمبسارا قد منح غابة الخيزران هذه إلى البوذا وأتباعه منذ سبع سنوات مضت ليمارسوا تأملاتهم فيها.
فرك سفاستي عينيه بهدوء وابتسم حيث لا يزال شعور بالتنمل يسري في رجليه المتقاطعتين وهو يحركهما ببطء منهياً جلسة التأمل. شابٌ في الحادية والعشرين من عمره، وقد مضى على ترسيمه راهباً ثلاثة أيام فقط بواسطة المبجّل ساريبوتا أحد أتباع بوذا المقربين. ولكن قبل ذلك، كانوا قد حلقوا شعره البني الكثيف بالكامل.
* * *
كان سفاستي سعيدا بانضمامه إلى مجتمع البوذا. الكثير من المريدين هنا ينحدرون من عوائل وسلالات نبيلة مثل المبجّل ناندا وهو أخ البوذا، وديفداتا، وأنورادها، وأناندا. وعلى الرغم من أن سفاستي لم يتم تقديمه لهؤلاء، إلا أنه كان يعرفهم من بعيد حيث تبدو مظاهر الجاه والنبل على وجوههم حتى وهم يلبسون الجلابيب المتقشفة للرهبان.
“أحتاج إلى وقت طويل قبل أن أكون صديقاً لأحد هؤلاء النبلاء” فكر سفاستي، وعلى الرغم من أن البوذا نفسه هو ابن ملك، إلا أن سفاستي لم يشعر بوجود حاجز بينه وبينه. فهو من طبقة المنبوذين الممنوع لمسهم، شخص غير ملاحظ ينحدر من الطبقات السحيقة جداً وفقا للتراتب الاجتماعي والطبقي. لعشر سنوات قبل ذلك كان يعمل في مهنة رشّ وغسل الجواميس في الماء. لكنه منذ أسبوعين، صار يعيش ويمارس طقوس التأمل مع الرهبان وكل من حوله يعاملونه باحترام ويبتسمون وينحنون له. إلا أنه لم يتكيّف بعد على هذا الوضع، وكان يساوره الشك في قدرته على التأقلم مع هذه الظروف التي لم يعتد عليها، وكان يعتقد أيضاً أنه يحتاج إلى سنوات لكي يشعر بالراحة التامة من وضعه الجديد هذا.
فجأة شعّت ابتسامة في أعماقه عندما فكّر في وضع راهولا، ابن البوذا الذي يبلغ ثمانية عشر عاماً. تربى راهولا مع جماعة البوذا منذ أن كان في العاشرة من عمره. ومنذ اسبوعين فقط أصبح سفاستي وراهولا صديقين مقربين. وكان راهولا هو الذي لقّن سفاستي طريقة مراقبة التنفّس أثناء جلسة التأمل، وكان يعرف تعاليم وأسلوب وتقنيات التأمل جيداً على الرغم من أنه لم يصل بعد إلى مرتبة الراهب، إذ يتوجب عليه الانتظار حتى بلوغ العشرين من عمره لكي تُمنح له صفة (بيكهو) وهو اللقب الذي يطلق على الرهبان البوذيين.
* * *
تذكر سفاستي ما حدث معه قبل اسبوعين، عندما جاء البوذا إلى قريته يوروفيلا بالقرب من نهر غايا ليدعوه كي يصبح راهباً. عندما وصل البوذا، كان سفاستي بمعية أخيه روباك خارج البيت يعتنيان بالجواميس، وكانت شقيقتاه بالا ابنة السادسة عشرة، وبيما ابنة الثانية عشرة وحدهما في البيت. تعرفت بالا على البوذا في الحال، فركضت من فورها لتبحث عن سفاستي، لكن البوذا ناداها وقال: لا داعي لذلك. أنا والرهبان ومعي أيضاً ابني راهولا سنُكمل سيرنا بهدوء إلى ضفة النهر لنقابل أخيك هناك. كانت ساعة العصر قد حانت عندما وصل الجميع إلى سفاستي وروباك حيث كانا يفركان الجواميس التسعة في نهر نيرانجارا. وما أن لمحا البوذا حتى قفز الأخوان بسرعة إلى الضفة. ضمّا راحتيهما وانحنيا بإجلال له.
قال البوذا وعلى وجهه ابتسامة دافئة: “لقد كبرت بسرعة”. لم يقو سفاستي على النطق وهو يرى البوذا بملامحه الهادئة وابتسامته الودودة المحبة ونظراته العميقة، لذا أدمعت عيناه. كان البوذا يرتدي رداءً زعفراني اللون مصنوعاً من رقع قماش مختلفة. ولا يزال يمشي حافياً كما اعتاد قبل عشر سنوات حين التقاه سفاستي لأول مرة في مكان ما لا يبعد كثيراً عن هذه البقعة. عشر سنوات عندما كانا يجلسان معاً لساعات على ضفة نهر نارنجارا وتحت ظلال شجرة البودهي التي تبعد عشر دقائق مشياً من الضفة.
لمح سفاستي نحو عشرين راهباً وراء البوذا وهم يرتدون الزي الزعفراني نفسه ويقفون بأرجل حافية، وبالتدقيق أكثر لاحظ أن جلباب البوذا أطول قليلا من بقية الرهبان بنحو شبر. وعلى جانب البوذا راهب مبتدئ يقارب عمره عمر سفاستي. نظر الراهب الشاب إلى سفاستي مباشرة وحياه بابتسامة، قام البوذا بوداعة ووضع يديه على رأسي سفاستي وروباك وأخبرهما أنه توقف هنا في طريق عودته إلى راجاغاها. وأنهم سيكونون سعداء بالانتظار إلى حين ينتهي سفاستي وأخيه من تحميم الجواميس ثم المشي معا إلى الكوخ.
في طريق العودة، قدم البوذا إليهما ابنه راهولا، الراهب المبتدئ الشاب صاحب الابتسامة. كان راهولا يصغر سفاستي بنحو ثلاث سنوات، لكن لهما نفس الطول. وكان لا يزال (سامانيرا) أي أنه مبتدئ. لكنه يرتدي لباساً يُشبه إلى حد بعيد لباس الرهبان الكبار. تقدم راهولا ليتوسط الأخوين بود ووضع ذراعيه على كتفي صديقيه الجديدين. سبق له أن سمع كثيراً عن سفاستي وعائلته من والده وشعر أنه يعرفهم حتى قبل لقائهم. وسرعان ما استجاب الأخوان أيضاً إلى حركة راهولا الودودة هذه وبادلاه التحية بالمثل.
ما إن عادا إلى كوخ سفاستي، حتى بادره البوذا بطلب أن ينضمّ إلى الرهبان ودراسة التعاليم (الدارما) معه. قبل عشر سنوات، عندما قابل سفاستي البوذا لأول مرة عبر له عن رغبته للدراسة معه. وافق البوذا في ذلك الوقت. واليوم، بعد أن بلغ سفاستي الحادية والعشرين من عمره، عاد له البوذا ولم ينس وعده له.
قاد روباك الجواميس بمفرده ليسلمها إلى مالكها السيد رامبولا، بينما جلس البوذا على مقعد خشبي صغير خارج كوخ سفاستي وظل الرهبان واقفين خلفه. كان الكوخ مبنياً من الأخشاب وسقفه من القش. يمتد على مساحة صغيرة جداً لا تكفي لاستضافة الجميع. بادرت الشقيقة بالا بالكلام وقالت لسفاستي: أخي رجاءً اذهب مع البوذا. روباك قوي ويستطيع الاعتناء بالجواميس لوحده، وأنا قادرة على تولي شؤون البيت فلا تقلق، يكفي أنك قمت برعايتنا لعشر سنوات. آن الأوان أن نتحمل العبء بأنفسنا.
الشقيقة الأخرى بيما التي كانت تجلس إلى جانب برميل الفخّار الذي يجمعون فيه ماء المطر، كانت تنظر إلى شقيقتها الكبرى بالا من غير أن تنطق بكلمة، عندما التقى سفاستي بالبوذا لأول مرة كانت بالا في السادسة من عمرها، وروباك في الثالثة وبيما لا تزال رضيعة، وفيما كان روباك يلعب بالرمل، كانت بالا تدير شؤون المنزل وتطبخ بنفسها للعائلة الصغيرة.
بعد ستة أشهر من وفاة والدهم، توفيت الأم وهي تلد طفلتها. ووجد سفاستي نفسه مسؤولاً عن عائلة كاملة وهو في الحادية عشرة من عمره. عمل في وظيفة لغسل وفرك الجواميس، ولأنه كان مجداً في عمله، استطاع أن يُطعم عائلته، وأكثر من ذلك، كان يأتي بالحليب لشقيقته الصغرى بيما.
أدركت بيما الصغيرة أن سفاستي ينظر اليها وكأنه يطلب موافقتها على الذهاب، فابتسمت. ترددت للحظة ثم قالت: «أخي اذهب مع البوذا» وأشاحت بوجهها سريعاً كي تخفي دموعها. كانت قد سمعت مراراً أخيها سفاستي وهو يعبر عن رغبته بالذهاب لدراسة تعاليم البوذا، وتمنت من كل قلبها أن تتحقق له هذه الأمنية، لكن عندما حانت هذه اللحظة، لم تستطع إخفاء مشاعر حزنها.
في تلك اللحظة، كان روباك قد سلّم الجواميس إلى مالكها وعاد إلى القرية. وهو قادم، تناهى إلى مسمعه صوت شقيقته بيما وهي تقول: اذهب مع البوذا. ساعتها أدرك أن ساعة مغادرة أخيه قد حانت. نظر إلى سفاستي وبادره بالقول: «نعم أخي، اذهب مع البوذا» ثم دخل جميع أفراد العائلة في حالة من الصمت. نظر روباك إلى البوذا وقال: سيدي المبجّل، أتمنى أن تقبل بأخي ليكون طالب علم لديك، لقد كبرت بما فيه الكفاية لأستطيع الاعتناء بهذه العائلة. ثم التفت إلى أخيه وهو يحبس دموعه. قال: “أخي، إن استطعت، اطلب من البوذا أن تزورنا بين فترة وأخرى”.
وقف البوذا ومسح بيده على شعر الصغيرة بيما، قال: أبنائي، آن وقت طعامكم، سأترككم وأعود غداً صباحاً لاصطحاب سفاستي، ويمكن بعدها أن نمشي جميعاً إلى نهر راجاغاها. أما الليلة، فسوف نبيتُ أنا والرهبان تحت شجرة البودهي.
قبل أن يتخطى حاجز البيت، التفت البوذا إلى سفاستي وقال له: غداً صباحاً لا تحتاج أن تجلب معك أي شيء، الملابس التي عليك تكفي.
في تلك الليلة ظل أفراد العائلة الأربعة يقظين حتى وقت متأخر. ومثلما يفعل الأب حين يغادر عائلته، أوصاهم سفاستي بأن يعتني كل منهم بالآخر. فقد كان ملهمهم لسنوات طويلة. لم تستطع بيما الصغيرة أن تحبس دموعها أكثر، وسرعان ما أجهشت بالبكاء وهي تعانق أخاها. لكنها عادت ورفعت رأسها، تنفست بعمق، وابتسمت له. لم تكن ترغب أن يشعر سفاستي بالحزن. ورغم أن بقايا الزيت في القنديل لم تكن تسمح إلا ببعض الضوء الخفيف، إلا أن ذلك كان كافياً كي يلحظ سفاستي ابتسامتها ويقدرها.
في الصباح التالي وصلت سوجاتا، الصديقة المقربة من سفاستي. جاءت لتودعه، وكانت قد التقت البوذا بالأمس في طريقها إلى ضفة النهر، وهو من أخبرها أن سفاستي سيسلك طريق الرهبان. سوجاتا وهي ابنة كبير القرية تكبر سفاستي بعامين، وسبق لها أن التقت بالسيد غوتاما قبل أن يصبح البوذا. حملت جرة من الفخّار تحتوي على بعض الأعشاب والأدوية وقدمتها لسفاستي ليأخذها معه. وقفا ليتحدثا قليلاً، وسرعان ما وصل البوذا والرهبان إلى المنزل.
كانت الشقيقتان ومعهما روباك قد استيقظوا مبكراً لوداع أخيهم الأكبر. اقترب الراهب المتدرب الشاب راهولا ليتحدث برفق معهم وشجعهم على الاعتناء بأنفسهم ووعد أنه في أي وقت، حين يكون ماراً قريباً من المنطقة، سيعرج على قرية يوروفيلا ليزورهم. عائلة سفاستي الصغيرة، وسوجاتا، رافقوا البوذا وأتباعه إلى ضفة النهر، وهناك ضمّ كل منهم كفّيه ليقولوا وداعاً للبوذا، للرهبان، لراهولا، وسفاستي.
مشاعر مختلطة ما بين الحزن والفرح كانت تعتمر في قلب سفاستي. شعر بانقباض في معدته، كانت هذه المرة الأولى التي يغادر فيها قريته يوروفيلا. قال البوذا إننا نحتاج عشرة أيام لنصل إلى نهر راجاغاها. معظم الناس يسافرون بسرعة، لكن البوذا والرهبان يمشون ببطء وهدوء. ولأن سفاستي اضطر أن يمشي ببطء مثلهم، فقد ساعده ذلك على أن يهدّئ من روعه قليلا. كان يرى نفسه وهو يغوص وينخرط بالكامل في تبعيّة البوذا، وفي الدروس التي تشرح منهجه (الدارما)، وفي مجتمع الرهبان البوذي (السانغا). ورأى أن هذا هو طريقه للخلاص. التفت للوراء في محاولة لاقتناص اللمحة الأخيرة للأرض الوحيدة التي يعرفها، ورأى من بعيد ما يشبه الملامح المتلاشية لأفراد عائلته وصديقته سوجاتا بالكاد تظهر بين ظلال الأشجار.
بدا لسفاستي أن البوذا يمشي فقط ليستمتع بالمشي. وأنه غير معني بالوصول إلى أي مكان على الإطلاق. وكذلك كان يفعل بقية الرهبان. فلا أحد منهم يبدو قلقاً أو عَجلا للوصول إلى أي وجهة. كانوا يمشون ببطء وبتوازن. مغمورين بحالة من السلام التام وكأنهم في نزهة معاً. ومع ذلك فقد كانوا يقطعون مسافات لا بأس بها كل يوم.
في كل صبيحة، كانوا يتوقفون في أقرب قرية لتسوّل الطعام من أهلها. يمشون في الشارع وراء بعضهم في طابور يتقدمهم البوذا. سفاستي كان في آخر الصف، تماماً خلف راهولا. كانوا يمشون بكرامة وبهدوء، منتبهين إلى تنفسهم وخطواتهم. وبين لحظة وأخرى، كانوا يتوقفون عندما يتقدم الأهالي ليقدموا لهم الطعام في الأوعية التي يحملونها. وبعض الناس كانوا يقفون على الأرصفة لينحنوا لهم بنوع من الاجلال. بعد أن يتسلّم الرهبان الطعام، يقوموا بدورهم بمباركة الناس والصلاة لهم.
بعد انتهائهم من توسّل الطعام، يغادر الرهبان القرية بحثاً عن مكان تحت الأشجار أو المروج المعشبة حيث بإمكانهم الجلوس وتناول الطعام. يجلسون على شكل حلقة مستديرة، ويتبادلون الطعام دورياً في حال كان هناك وعاء لأحد الرهبان لا يزال خاليا. قام راهولا بملء جرّة بالماء من جدول قريب وحملها بعناية للبوذا. بعد أن ضمّ البوذا كفّيه وفتحهما لتتخذا شكل زهرة اللوتس، قام راهولا بصب الماء على يديه ليغسلهما. واصل راهولا عمله هذا مع بقية الرهبان وصولا في النهاية إلى سفاستي الذي لم يكن يملك بعد وعاء طعام، لكن راهولا غرف نصف طعامه وجمعه في ورقة شجرة موز وقدمه لصديقه الجديد. قبل أن يباشروا بالأكل، ضمّ الرهبان أكفهم، ثم ترنموا بصلاة قصيرة، بعدها تناولوا طعامهم في صمت تام، وبتركيز وادراك مع كل قضمة.
بعد أن فرغوا من الأكل، ذهب بعض الرهبان لممارسة تأمل المشي، وبعضهم فضّل التأمل جالساً، وغيرهم أخذ غفوة. حين تنتهي فترة الظهيرة الحارة من اليوم، يستكملون طريقهم مرة أخرى حتى حلول المساء. كانت الأماكن المفضلة لديهم للمبيت هي الغابات الخالية من الضجيج. وكانوا يظلون سائرين حتى يجدوا مكاناً مناسباً. كل راهب كانت لديه وسادة خاصة به، كثير منهم كان يقضي نصف ليله جالسا القرفصاء على الوسادة، برجلين متقاطعتين في الوضعية التي تسمى (اللوتس)، قبل أن يفرش رداءه ويخلد أخيراً للنوم. كل راهب كان يحمل معه رداءين، الأول الذي يلبسه، والثاني يستخدمه كلحاف وغطاء من الريح والبرد. جلس سفاستي متأملاً مثل الرهبان، وتعلم أن ينام على الأرض متوسداً جذع شجرة.
عندما استيقظ سفاستي في صباح اليوم التالي، رأى البوذا والكثير من الرهبان وقد أفاقوا قبله، ودخلوا في حالة من التأمل العميق والخشوع التام. ظلوا هكذا إلى أن ارتفعت أشعّة الشمس في الأفق، بعدها يبدأ كل راهب بطيّ ردائه، ثم يحمل وعاء الطعام الخاص به، لتبدأ رحلة يوم جديد.
مشياً بالنهار، وراحة في الليل. ظل الحال يتكرر هكذا لعشرة أيام إلى أن وصلوا إلى راجاغاها عاصمة ماغادا. كانت تلك المرة الأولى التي يرى فيها سفاستي مدينة حقيقية. عربات تجرها الخيول تعبر الشارع، مبان سكنية ممتدة على جانبي الطريق، وصيحات الناس وصخب العامة. لكن صمت الرهبان ظل مستمراً وبهدوء كبير كما لو أنهم على ضفة النهر أو وسط حقول المروج. القليل من العامة كانوا يتوقفون لإلقاء نظرة على موكب الرهبان هذا، والقليل أيضاً كان يميز البوذا من بينهم وينحني له اظهاراً للاحترام. واصل ركب الرهبان طريقه بهدوء، محافظين على نمطهم إلى أن وصلوا إلى ديرهم في غابة الخيزران. ليس بعيداً عن المدينة.
على الفور انتشر خبر عودة البوذا ومرافقيه إلى الدير. وخلال دقائق فقط، تجمع نحو أربعمائة من الرهبان للترحيب بعودته. لم يتحدث البوذا كثيراً، لكنه سأل عن حال الجميع وصحتهم وكيف هي ممارسات التأمل. ثم قدم سفاستي إلى ساريبوتا، وهو المعلم نفسه الذي يتولى تدريب راهولا. ساريبوتا هو معلم المبتدئين في دير غابة الخيزران، ويتولى مراقبة وتدريس نحو خمسين من الرهبان الجدد، وجميعهم ممن لم يمض على وجودهم هنا أقل من ثلاث سنوات. أما رئيس الدير فكان راهباً آخر اسمه كوندانا.
طُلب من راهولا أن يشرح لصديقه سفاستي طبيعة الحياة هنا في الدير. كيفية المشي، الجلوس، الوقوف، أسلوب إلقاء التحية على الآخرين، وكيفية التأمل جلوساً أو وقوفاً، وكيفية مراقبة حركة التنفّس. أيضاً قام بتعليمه كيفية لبس رداء الرهبان، وطريقة استجداء وتوسّل الطعام، وتلاوة التعاليم، والصلوات، وكيفية غسل وعاء الطعام الخاص به. ولثلاثة أيام متواصلة لم يفارق سفاستي راهولا للحظة، وذلك لكي يتقن هذه الأمور جيدا. بالمقابل وضع راهولا جل تركيزه لتعليم صديقه، لكن سفاستي كان يدرك أنه يحتاج لسنوات لكي يتقن هذه الأمور ويؤديها بشكل طبيعي. بعد هذا التعريف المبدئي بطبيعة حياة الدير، قام ساريبوتا بدعوة تلميذه الجديد إلى كوخه، وشرح له ماذا يعني أن تكون راهباً بوذيا أو (بيكهو).
البيكهو، أو السالك في طريق الرهبنة، هو من يترك وراءه عائلته ليتبع البوذا كمعلم، والتعاليم (الدارما) كطريق يقود إلى اليقظة، ومجتمع بوذا (السانغا) كتجمع يقدم الدعم للراغبين في هذا المسلك طوال رحلتهم. حياة الراهب بسيطة ومتواضعة. التوسّل من أجل الحصول على الطعام يعزز التواضع ويعد أيضاً وسيلة للتواصل مع الآخرين لمساعدتهم لرؤية طريق المحبة والفهم، وهي التعاليم التي يلقنها لهم البوذا.
قبل عشر سنوات من الآن، وتحت شجرة بودهي، كان سفاستي وأصدقاؤه يستمعون إلى البوذا وهو يتحدث عن طريق اليقظة باعتباره طريق الحب والفهم. ولذلك كان من السهل عليه أن يفهم ما الذي يقصده ساريبوتا بكلامه. ورغم ملامحه الجادة أثناء الكلام، إلا أن ساريبوتا كان يُظهر ابتسامة ودودة وشغفا حنونا. أبلغ سفاستي أنه ستكون هناك طقوس لقبوله رسميا كراهب جديد، وقام بتلقينه الكلمات التي يجب عليه أن يرددها أثناء ذلك.
ساريبوتا نفسه، هو الذي ترأس طقوس التقديم لنحو عشرين من الرهبان الجدد. البوذا كان حاضرا هناك، وكذلك راهولا. وقد أضاف حضورهما على سفاستي المزيد من الفرح. كان ساريبوتا يردد بعضا من نصوص الـ (غاثا) القديمة، ثم تلى ذلك عملية حلاقة شعر سفاستي في مواضع مختلفة قبل أن يمرر ساريبوتا موس الحلاقة إلى راهولا الذي أكمل الطقس بحلاقة شعر رأس صديقه. ثم قدم ساريبوتا له ثلاثة أردية ووعاء طعام. ولأن راهولا دربه جيداً، لم يجد سفاستي صعوبة في ارتداء لباسه الجديد، ثم ضمّ كفّيه وانحنى للبوذا وبقية الرهبان تعبيرا عن امتنانه العميق لهم.
لاحقا في ذلك الصباح، تدرب سفاستي لأول مرة على تسوّل الطعام باعتباره راهباً. انتشر الرهبان في مجموعات صغيرة وذهبوا مشيا إلى مدينة راجاغاها. سفاستي كان من ضمن المجموعة التي يقودها ساريبوتا. بعد أن عبروا بخطوات قليلة خارج الدير، قام سفاستي بتذكير نفسه بأن توسّل أو تسوّل الطعام هو وسيلة للتدرب على الطريق. ركّز انتباهه على تنفسه ومشى كل خطوة بهدوء، وراءه كان يمشي راهولا. ورغم أنه أصبح راهباً الآن، إلا أنه يدرك أن خبرته أقل من راهولا. ولذا، تعهد في أعماقه أن يبذل كل ما في وسعه لتحقيق الفضيلة والتواضع التواضع في ذاته.
l الفصل الثاني
الاعتناء بجواميس الماء
كان الجو بارداً ذلك اليوم. بعد تناول وجبة الظهيرة بانتباه وصمت، قام كل راهب بغسل وعاء الطعام الخاص به وافترش كل منهم وسادته على الأرض ليجلسوا قبالة البوذا. السناجب الكثيرة التي تعيش في غابة الخيزران تتحرك وتتصرف بحرية بين الرهبان، بعضها كان يتسلق أعواد الخيزران ليختلس نظرة على جلساتهم واجتماعاتهم. لاحظ سفاستي أن راهولا يجلس قريبا من البوذا مباشرة، لذا وبهدوء تقدم هو الآخر حاملاً وسادته وجلس بالقرب منه واتخذ كل منهما وضعية زهرة اللوتس. في ذلك المناخ الهادي والمحاط بالهيبة، لا أحد يتكلم. عرف سفاستي أن كل الرهبان كانوا يركزون على تنفسهم بانتظار أن يبادر البوذا بالحديث.
كانت منصة جلوس البوذا على ارتفاع كاف كي يراه الجميع بوضوح. وكانت له هيبة ملكية، عيناه تشعان بالحب وتفيضان بالتعاطف والرحمة وهو ينظر إلى المجتمعين من حوله. طافت عيناه على الجميع وحين مرّتا على سفاستي وراهولا ابتسم، ثم بدأ بالحديث.
” اليوم أريد أن أتحدث لكم عن العمل في رعاية جواميس الماء. ماذا يجب على صبي الجواميس الجيد أن يعرفه، وما يجب أن يقوم به. الصبي الذي يعتني بالجواميس جيداً، لا بد أن يعرف كل جاموس على حده. وأن يدرك طبيعة وسلوكيات كل جاموس في عهدته، وكيف يقوم بفرك جلودها، والاعتناء بجروحها، وطرد البعوض بعيداً عنها بواسطة الدخان، وايجاد طريق مناسب لهم للمشي والعبور. يحبّها، ويحرص على ايجاد ممرات ضحلة لها كي تعبر النهر. يحاول أن يجد لها الحشائش الندية والماء الصافي والمروج المعشبة. وأن يجعل الجواميس الأكبر سناً تعمل بجدية لتكون قدوة للأصغر سناً.
“أيها الرهبان. كما أن هذا الصبي يعرف الجواميس التابعة له، على الراهب أيضاً أن يعرف تماما أعضاء وعناصر جسده. وكما أن صبي الجواميس يعرف شخصية وطبيعة كل جاموس في عهدته، ينبغي للراهب أن يعرف أيا من أفعاله أو كلامه أو أفكاره، التي تستحق أن يقوم بها، وتلك التي لا تستحق. وكما أن صبي الجواميس يقوم بغسلها وفركها وتنظيفها، على الراهب أيضاً أن يطهّر عقله وجسده من الرغبات والتعلق بالأشياء، والغضب والنفور.”
فيما كان يتحدث، لم يشح البوذا بنظره عن سفاستي. شعر سفاستي أنه هو نفسه كان مصدر حديث البوذا وكلماته. وسرعان ما استرجع ذكرياته قبل سنوات عندما قابله البوذا وطلب منه أن يشرح بالتفصيل ما الذي يقوم به من عمل للاعتناء بجواميس الماء. وإلا من أين سيأتي أمير نشأ وتربى في قصر، بمعلومات عن تربية الجواميس والاعتناء بها؟
على الرغم من أن البوذا كان يتحدث بصوت هادئ، إلا أن صوته كان واضحا وسلساً إلى درجة أن الجميع لم يفوتوا سماع حتى كلمة واحدة. قال، “وكما أن صبي الجواميس يعتني بجراحها ويداويها، على الراهب أيضاً الاعتناء بأعضاء حواسه الست. العين والإذن والأنف واللسان والجسد والعقل، بحيث لا تتعرض للإلهاء والتشتت. وكما أن صبي الجواميس يقوم بحمايتها من لسعات البعوض بإضرام النار والدخان، فان الراهب يستخدم التدريبات التي تقوده إلى اليقظة لكي يخبر من يحيطون به بكيفية تجنب هفوات الجسد والعقل. وكما يجد الصبي الطريق المناسب لجواميسه لكي تعبر، فان الراهب يتجنب تلك الطرق التي توهم العابرين فيها بالشهرة والثراء والمتع الجنسية، وأماكن اللهو. وكما يحب الصبي جواميسه، فان الراهب يتمتع بالسلام والسكينة التي يحصل عليها في جلسات التأمل. وكما يجد الصبي الممرات الضحلة في النهر لكي يعبر مع جواميسه، فان الراهب يدرك (الحقائق الأربع النبيلة) لفهم طبيعة الحياة. وكما أن الصبي يبحث عن الحشائش الطرية والماء العذب لجواميسه، فان الراهب يدرك أن (الأسس الأربعة لليقظة) هي طريق التحرر والخلاص. وكما أن الصبي يختار الحقول قليلة العشب لكي لا تجور الجواميس أثناء رعيها وتأكل أكثر مما ينبغي، فان الراهب يبني علاقته مع المجتمع من حوله بعناية كونه يستجدي منهم الطعام بما يكفيه. وكما يحرص الصبي على جعل الجواميس الأكبر سناً قدوةً للأصغر منها، الراهب أيضاً يتكئ على حكمة وخبرة من سبقوه. الرهبان والراهبات الذين يتبعون هذه النقاط الاحدى عشرة، سوف يحرزون مرتبة الكمال (الآراهات) في غضون ست سنوات من التدريبات.
راح سفاستي يصغي باندهاش. كان البوذا يتذكر كل كلمة قالها سفاستي قبل عشر سنوات من الآن، وكان قادراً على ربط كل التفاصيل وادخالها في شروح تدريبات الرهبان. فكر سفاستي أيضاً بأن البوذا يوجه كلامه لجميع الرهبان، وكان لديه شعور مضمّر بأن البوذا كان يعنيه بكلامه مباشرة، الا أن أعين بقية الرهبان لم تلتفت له، وكانت كلها موجهة للبوذا.
هذه بالتأكيد كلمات يجب أن تُحفظ عن ظهر قلب. كانت هناك مصطلحات من مثل (أعضاء الحواس الست) و(الحقائق الأربع النبيلة) و(الأسس الأربعة لليقظة) التي لم يفهمها سفاستي بعد. سوف يسأل راهولا عنها لاحقا ليشرح له معانيها. لكنه شعر بأنه استوعب معظم معاني الكلمات التي قالها البوذا.
استمر البوذا في الكلام. وأخبر المجتمعين حوله عن اختيار الطريق الآمن للجواميس لكي تمشي. اذا كان الطريق مليئاً بالشوك فان الجواميس قد تُجرح وهذا قد يؤدي لإصابتها بالعدوى. وإذا لم يعرف الصبي كيف يعتني بتلك الجروح، فان جواميسه قد تصاب بالحمى وقد تموت. هكذا يجب أن تُقطع الطريق. إذا لم يجد الراهب الطريق السوي فانه قد يتأذى في عقله وفي جسده. الجشع والغضب قد يعمقان جراحه ويجعلان من الصعب عليه أن يصل إلى مرتبة الاستنارة أو يعرف طريقها.
توقف البوذا عن الكلام، وطلب من سفاستي أن يصعد ليقف إلى جانبه على المنصة. ضمّ سفاستي كفّيه فيما ابتسم البوذا وهو يقوم بتقديمه إلى مجتمع الرهبان.
“قبل عشر سنوات، التقيت بهذا الصبي قرب نهر غايا، وذلك قبل أن أصل أنا بنفسي إلى طريق المعرفة الحق. كان عمره في ذلك الوقت أحد عشر عاماً، وكان هو من أرشدني وقدم لي حشائش الكوشا لاستخدامها في حشو الوسادة لأجلس عليها تحت شجرة البودهي. كل شيء قلته عن جواميس الماء كنت قد تعلمته منه. لقد كان صبي جواميس رائعا، وأنا واثق أنه سيكون راهباً جيداً.
كانت العيون كلها تتجه نحو سفاستي، وشعر باحمرار إذنيه وخديه، ضمّ جميع الرهبان أكفهم وقدموا له التحية، فرد عليهم بمثلها. ختم البوذا موعظته (الدارما) وطلب من راهولا أن يردد على مسامع الحاضرين (الطرق الستة عشر للتنفس الادراكي). وقف راهولا وضمّ كفّيه وراح يردد هذه الطرق بصوت واضح ونقي كأنه صوت جرس. عندما فرغ، ضمّ كفّيه مرة أخرى وحيا الجميع. نهض البوذا وسار متمهلاً عائداً إلى كوخه. بعدها حمل جميع الرهبان وسائدهم وتفرقوا كلٌ إلى بقعته في الغابة. بعضهم يمتلك كوخاً، ولكن كثيرون ينامون ويمارسون التأمل في العراء تحت أشجار الخيزران، فقط عندما تمطر بغزاره تراهم يتجهون للأكواخ أو صالات المحاضرات تجنباً للبلل.
معلم سفاستي، المبجّل ساريبوتا أشار عليه أن يتشارك في بقعة خارجية مع راهولا. عندما كان راهولا صغيرا كان يتشارك أحد الأكواخ مع أحد المعلمين الذين تولوا تدريبه، لكن الآن تم تخصيص بقعة له تحت الأشجار. سفاستي كان سعيدا لمشاركة صديقه هذا المكان.
لاحقا في ذلك اليوم وبعد الانتهاء من جلسة التأمل. مارس سفاستي المشي التأملي وحيداً. اختار ممراً خاليا لتجنب الانشغال بالآخرين. لكنه وجد صعوبة في التركيز على تنفسه، وكانت أفكاره تشرد وتأخذه بعيداً إلى أفراد عائلته وقريته البعيدة. شطح به الخيال إلى نهر نارنجارا، رأى بوضوح شقيقته الصغيرة بيما وهي تشيح بوجهها لإخفاء دموعها. وأخيه وهو يعتني بجواميس المالك رامبولا وحيدا. حاول أن يبعد هذه الصور من رأسه وأن يركز فقط على تنفسه وخطواته، لكن الصور استمرت في التدافع والظهور. شعر بالعار بأنه لا يستطيع التحكم بنفسه ودفعها إلى ممارسة التأمل، وأنه ربما لا يستحق ثقة البوذا. فكر أن يستعين لاحقا براهولا. كانت هناك أيضاً بعض النقاط التي لم يستوعبها تماما في موعظة (الدارما) التي تحدث بها البوذا في ذلك الصباح. لكنه كان واثقا أن راهولا سيشرحها له. مجرد التفكير في راهولا بعث في نفسه الشجاعة والهدوء. وسرعان ما استطاع أن يركز من جديد على تنفسه وحركة خطواته البطيئة.
لم ير سفاستي راهولا بعد الموعظة، لكنه حين عاد من تأمل المشي وجده يبحث عنه. قاده راهولا إلى عتبة تحت شجرة الخيزران وأخبره أنه التقى قبل قليل بالمعلم الكبير أناندا، وأن الأخير مهتم بالتعرف على قصة لقائه بالبوذا وكيف تعرف عليه.
“ولكن من هو أناندا، قال سفاستي”
“إنه أمير ساكيا وابن عم البوذا. لقد أصبح راهباً منذ سبع سنوات، والآن هو أحد أفضل الرهبان التابعين، والبوذا يحبه ويعزه. إنه هو من يعتني بالمعلم، وقد دعانا أنا وأنت غداً لنلتقيه في كوخه. أنا أيضاً أرغب في سماع كل شيء عن الفترة التي عاشها البوذا في غابة غايا.”
“ولكن ألم يخبرك البوذا بذلك؟”
“نعم، ولكن ليس بالتفصيل، أنا على ثقة بأنك تمتلك بعض القصص لترويها لنا.”
“حسناً، ليس هناك الكثير، ولكن سأقول كل ما أتذكره، يا عزيزي راهولا، كيف يبدو أناندا؟ أشعر ببعض الارتباك”
“لا تقلق، أنه شخص ودود، لقد أخبرته عنك وعن عائلتك وكان ممتناً. دعنا نلتقي هنا في هذه البقعة غداً صباحا قبل أن نذهب لتوسّل الطعام. على أن أذهب الآن لغسل ردائي ليكون جاهزا وجافا غداً.”
قبل أن يغادر راهولا، أمسكه سفاستي من ردائه بنعومة وقال: “هل تستطيع البقاء معي قليلاً؟ هناك بعض الأمور أود أن اسألك عنها. صباح اليوم تحدث البوذا عن احدى عشرة نقطة ينبغي للراهب أن يتبعها. لكني لا أتذكرها كلها. هل يمكن أن تعيدها عليّ؟.”
“أنا نفسي استطيع أن أتذكر تسعا منها فقط. لكن لا تقلق غداً نستطيع أن نسأل أناندا.”
“هل أنت واثق أن أناندا الكبير يتذكرها جميعها؟”
“بالتأكيد، حتى لو كانت مائة وإحدى عشرة نقطة، فان أناندا سيتذكرها جميعها. أنت لم تعرفه بعد، ولكن الجميع هنا يعترفون بقدراته العجيبة في التذكر. يستطيع أن يعيد كل ما يقوله البوذا من غير أن يفوت أدق التفاصيل الصغيرة. كل الافراد هنا ينظرون اليه باعتباره الأكثر معرفة من بين تلاميذ البوذا. ولذا فان أي أحد ينسى ما قاله البوذا يذهب للبحث عن أناندا. في بعض الأحيان يجتمع الرهبان لتنظيم جلسات علمية يتحدث فيها أناندا ويعيد المبادئ الأساسية لتعاليم البوذا.”
“إذن نحن محظوظان. سننتظر لنسأله غداً. ولكن هناك شيء آخر أود أن أطلبه منك. وهو الكيفية التي تهدئ بها عقلك أثناء عملية التأمل في المشي؟”
“هل تقصد أنك أثناء تأمل المشي، وبدلا من التركيز في اللحظة، تطرأ لك الأفكار في رأسك. مثل التفكير في عائلتك؟”
“أمسك سفاستي بيد صديقه، ” كيف عرفت؟ هذا بالضبط ما حدث! لا أعرف لماذا اشتقت لعائلتي كثيراً هذا المساء. أشعر بالاضطراب، ويبدوا أنني لا أملك حلا مناسبا لكي أستغرق في ممارسة التأمل. أشعر بالخجل منك ومن البوذا.”
ابتسم راهولا: “لا تدع مشاعر الخجل تساورك. عندما انضممت أنا للبوذا لأول مرة، فقدت والدتي، وجدي، وعمتي. ولليالٍ طويلة كنت أدفن رأسي في الوسادة وأجهش بالبكاء وحيداً. أعرف أن أمي وجدي وعمتي يفتقدونني أيضاً. لكن بعد فترة تحسن الوضع.”
ساعد راهولا صديقه على الوقوف وعانقه بود.
“أخوك وشقيقتاك رائعون حقا. ومن الطبيعي أن تشتاق لهم، ولكنك ستعتاد على حياتك الجديدة. لدينا عمل كثير لنقوم به هنا. علينا أن نتدرب وندرس. ولكن اسمع، عندما تحين الفرصة سأحدثك عن عائلتي. اتفقنا؟”
أنزل سفاستي يديه الاثنتين وارخاهما، ثم انفصلا. راهولا ليغسل رداءه. وسفاستي ليبحث عن مكنسة لينظف الطريق من أوراق أشجار الخيزران المتساقطة.
ثيت نات هانه
ترجمة: عادل خزام *