تختار بركات تأسيس عالم مسرودها الجديد على عماد الطفولة ؛ العتبة الأولى للبكارة ومساحة البياض الأولى التي لم تشبها شائبة، ولم يمسسها ضير بعد، لتنتقل تدريجيا إلى خطوات الألم في درب التجربة.
فـي السردي ومقتضاه
نحتاج دائما أن نتساءل ـ التساؤل المرتبط بقلق المعرفة، طبعا ـ عن الأسس التي تنهض عليها الأجناس الأدبية، لا من أجل تفكيكها نظريا، مرة أخرى، وليس لصنع خرائط جمالية ذهنية ننظم فيها سيرة الجنس الأدبي وسنن تدبيره، فإن تلك عملية موكولة إلى الدرس الأدبي، والنقد المتعين به تخصيصا. إن مدعاة التساؤل من وجهة نظرنا، وفي السبيل الذي سنذهب فيه، قرينة بمنهجية، لنقل ببساطة بطريقة وشاغل قراءة لا تكتفيان عادة بالتلقي الحيادي أو العابر، بل يحفزهما الفضول لإعادة العمل إلى جذوره بغية إعادة تركيبه، بما يكشف أصله وفصله، وخطط اللعب الراسمة له بالأدوات المختلفة لهذا اللعب.
نظن أنه لا يوجد- مثل الرواية- جنس أدبي قادر بمكوناته، ورؤاه، وطرائق بنائه الفنية، وبعد ذلك الأنساق الناظمة له، على توليد الأسئلة المتصلة بنشوء العملية الإبداعية وتجديدها لفهم متواصل للعمل الأدبي، ولفحص اوليات اشتغاله ؛ هذه التي ينبغي أن نعتبر القارئ، ومن باب أولى الدارس، شريكا للكاتب في ضبطها ورسم خط مسارها. ذلك أن الجنس الأدبي ـ لتكن الرواية في حالتنا ـ إذا كان هو تاريخ بنائه من داخل التجربة الإبداعية، ومن ثم انتظامه في حلقاتها وشجرة الأنساب الكبرى التي سيلتحق بها وإن استطاع أن يمد نسبها، فهو في الآن عينه تاريخ قراءته وسيرورة تأويله تصنع من العمل الضعف، وتلقحه بطاقة إنجاب التعدد. وهذا هو الفهم الأنسب لمقولة »العمل المفتوح« التي قرئت كنسق لتعدد التجنيس المنبني على انزياحات النص واختراقاته، وفق تصور معلوم في تاريخ النقد الأدبي الحديث، بإيطاليا تحديدا، بينما يغفل بعض أهل الفهم منظور »مكتبة بابل« البورخيسي، من جهة، والتدخل الحاسم لإوالية القراءة المركّبة ـ ذلك المختبر الهرمنوطيقي الخطير ـ بوصفها أداة حاسمة في إنجاز العمل الأدبي للوصول به إلى اكتماله، لو صح له ذلك، وفي الحد الأدنى، من باب المفارقة، إفساد براءة تلقيه، فضلا عن حسن نواياه المزعومة.
من نافلة القول أن الاندراج في سياق هذه المقاربة يتطلب، علاوة على الوعي بالنقد، نصوصا مؤهلة ويتـأهل بها. إننا كثيرا ما نتحدث عن الأدب، عن الشعر والرواية، بإطلاق، والحال أنه لا توجد في النهاية إلا نصوص مفردة بها وعلى هدي تكوينها وبذخها الإبداعي تبنى نظرية الأدب، فيما يهتم تاريخ الأدب بالكم إلى ما لا نهاية. من المفيد أن نستحضر هذا الطرح الذي هو أبعد ما يكون عن الانتقائية بقدر ما يعتبر الأدب زبدة وشذرات، وهو ما كان النقد الأدبي عند العرب في القرنين الثاني والثالث الهجري سباقا إليه، ولا عجب أن يبني غريماس، بعد قرون مديدة عن هذا النقد، نظريته السيميائيةـ العاملية باختبار قصة واحدة لموبسان، »صديقان«، كأنها الأدب كله، وإنها لكذلك. وليس الذوق الذي لم يعد مقياسا أبدا، اتصل بالاستحسان أو النفور، ما يجيز التأهيل، ومن ضربه أي رغبة عنيدة، مدعية وملحاح. والتقليد مهما تقّيد بالقواعد واقتفى الأثر، لا ولا الاستمداد من المبذول المجاري لذوق عام آخر، أضف إلى هذا حتى الالتزام باشتراطات من طبيعة سوسيو ثقافية، وأخرى تروجها ما يشبه »النّحل« والحلقات النقدية وما في حكمها؛ إن ذلك كله زبد يذهب جفاء، أما الأدب الذي ينفع الناس، طبعا بالجمال ونظام الفن وتدبير حزن الوجود، فهذا يمكث في الأرض، أي في التاريخ العريق لشجرة الابداع الإنسانية.
ليس مثل الرواية ما يجيز هذا التصور، الذي نعتبره محك تأهيل الآداب وصعودها في مراقي نضجها أو بقائها تراوح رقعة التعلم والمستنسخ. ونحن نرى في مجافاته أو الإشاحة عنه بالدوران في المتاهات »المحلية« التي لا تفضي إلى أي منفذ، أو إعلان التعلق بواحدة من »الصرعات« التي ليست لها، بالطبع، أي علاقة بالأدب، أي بالكلام المنشئ ذي النسق التعبيري بجمالياته المخصوصة، لا أكثر من تصريح بالنوايا ؛ نقول إن في هذا، ونظير له وفير، ما يعوق قدرتنا في كتابتنا الأدبية العربية الحديثة عن وضع تجربتنا التاريخية والإنسانية في القوالب والهيئات المؤهلة لها تعبيريا بدون تحفظ أو خوف على صحة التواتر النسبي إلى تلك الشجرة المعلومة، من نحو. وهو، أيضا، ما جعلنا نتخبط، إلى ما لانهاية، في تجريبية نظرية تسعى، على الأغلب، للانتماء إلى نهايات التحليل النقدي أو الإلتحاق بها متغافلة عن المقدمات، متعيشة على سقط المتاع النقدي، الذي لا يستطيع تأسيس أي تقاليد أو أن تعترف به هذه، ولذا يظل يراوح مكانه، ومعه نبقى بعيدا عن طرح الأسئلة الأم، أي تلك التي تنجب ـ تنتج النص، تؤسس الجنس الأدبي وتعيد، منذ أمس واليوم، وغدا، من نحو آخر.
ليس ما نعلن حكم قيمة، بقدر ما هو استفزاز مقصود بمثابة دعوة أخرى للانتباه إلى وجود متن أدبي عربي حديث، محدث وحداثي، أيضا، تتضافر فيه كل أسباب المعقولية والتعبيرية، هو المتن الروائي المتشكل الآن تراثا، والذي غدا بوسعنا تصنيفه وقراءته كتراث، وهذه أعلى رتبة يمكن أن يصل إليها الأدب لاصطفاء حداثته. لا اعتماد هنا بالضرورة على الكم المتراكم حتى وإن مثّل المضمار المادي كمواد خام هي جماع ما يكتب في جنس أدبي، فالتراكم شرط وجود المتن ولا يفتي حتما بأصالة النوع، ومن ورائه بجدارة الكيف. النوع نصوص مؤسسة، تتسم بخصائص الجنس الأدبي، أولا، لتنتقل إلى اختبار واجتهاد خصائصها، المستقلة والرافدة في آن، مكونة بذلك تراكما موسوما بها هو المعتمد لدى الباحثين في نحت ملامح التيارات والمراحل والقطائع التي يحدثها الروائيون الموهوبون، المجددون. الآخرون وجدوا ويوجدون حتما بحكم إصداراتهم، فهذا فعل ما في ذلك شك، لكن التاريخ الأدبي شيء آخر، قل إن مقاييسه ومجال نشاطه أكبر من أن يحصر في فعل واحد، وأصغر، أيضا، من أن تعثر عليه ضمن مساحة شاسعة من سهول وغابات القول الأدبي أو ما في حكمها، ما يحتم رسم دليل سير ومعجم رموز وعلامات وأيقونات. وبما أن الأدب الغربي، الرواية الغربية أضحت تراثا، أي أنها حداثية منذ لحظة ولادتها، فهي تتوفر حقا على هذه العدّة. يتسلح بها الكاتب والدارس والمعلق العابر، وزاد لقارئ لا يقبل أن يذهب إلى الغابة ويلفى نفسه هائما على وجهه. أعني كما يذهب القارئ العربي الذي تراه في كل مرة وكأنه يكتشف الأدب للمرة الأولى، ويتعلم الرواية دراسة أو هواية في غياب الدليل. لا لتعذر وجوده، فهو ممكن دائما، ويحتاج إلي إعداده باستخراجه من ركام تاريخ الأدب، والتخلي عن تلك القسمة الاصطناعية بين قديم وحديث، دعك من سجن النصوص في شرنقة الأدب الوطني، القومي، بالإنتقال إلى البحث عن أدبيته. أدبية ذات اتجاهين : واحد أفقي، تتكون به الرواية، مثلا، وتتحاور في سياق التاريخ والانبناء العامين. وثان عمودي، هو السيرة والصيرورة الشخصية للنص وصاحبه، وعليها المعّول.
كأن نقول، مثلا، إننا سنتحدث، سندرس الرواية العربية، وهذه الرواية كما كتبت في بيئة اجتماعية وثقافية هي لبنان. نفسها التي تغلي بالتيارات والأساليب، وتحتل فيها تيمات كبرى حيزا كاملا باعتبارها مناط الصراع السياسي والإجتماعي، وكل ما يكتب يتبأر حولها. لكن في قلبها، ومن حيث تتناسل إما »شرعا« أو بكيفية هجينة روايات تفرض نفسها على الواقع الأدبي، بحكم انتمائها إلى التيمة السائدة أو ابتزازا، استطاع أفراد قليلون، والأصيل قليل دائما، أن يجعلوا من رواياتهم مدماك النص الذي يصنع صيرورته الخاصة بعد أن انبثق من الرحم العام ضمن رؤية سوسيولجية مشتركة، وباستخدام الأدوات التعبيرية المتاحة للجميع. إلى هؤلاء تنتمي هدى بركات وتأتي في صدارتهم، ولكل انتماء، بطبيعة الحال شروط ومحددات. يأتي في أولها أن يمتح الكاتب من معين عام قبل أن يصبح له منهل ذو مذاق، ذلك أن الصفات تكتسب بعد الموروثات، وهذه عماد كل من يمشي في درب إبداع مفترض، سواء تعلمها في الطريق أو نضحت في ثمار محصلة التجربة. والمعين العام وضع اجتماعي، من غير شك، ومناخ ثقافي مركّب، سواء كان الإرتباط به بالسلب أو الإيجاب أو الحياد. وهو في الكتابة يأخذ ضرورة معنى الانتساب إلى تقاليد معينة وملزمة في الأدب بدونها لا يستقيم القول، على الأقل في بداياته، وليس لهذا علاقة بالتقليد ولا بالتجديد. وفي حال إنتاج روائي بيئته أو مصدره لبنان يأخد المعين مدلوله المباشر المتمثل في ما التقى الاصطلاح اللبناني إجمالا على تسميته بـ»الحرب الأهلية« ؛ هذه التي بسبب طولها الزمني، وجذورها، وتداعياتها، وامتداداتها، باتت تشكل حياة بأكملها، رغم أنها النقيض في معناها فهي الحياة الوحيدة الممكنة. الدليل على ذلك أن عشرات النصوص الروائية لاذت بها، واتخذتها فضاء وموضوعا ولم تتنفس تلك الحياة إلا بشخوصها وبمصائرهم، حية بقيت أو إلى الفناء آلت.
الوجه الثاني في هذا الانتماء هو الإدراك الطبيعي والواعي في آن بأنه لا توجد حياة أخرى مبذولة، أو ممكنة، كما نسميها، إلا ما شكّل الأوضاع الذاتية والعلاقات الاجتماعية والإنسانية في أتون زمن الحرب، هي وحدها أو ما يقع على هامشها، لا غيرها. ما ينعكس، آليا وتلقائيا، على الرواية والمشتغل بها، وذلك بتفكيك التيمة المسيّدة، واطراح بداهتها شبه المبتذلة، بحكم أنها صارت على كل الألسنة وحبرا لأي قلم : نعني توصيف وتصنيف »رواية الحرب«. كأنه يمكن أن يوجد شيء أو شأن آخر في زمن لا اسم له إلا الحرب. نحن نعلم أن النقد الأدبي السوسيولوجي، البنيوي التكويني منه أو العام، معني بإثارة مثل هذه القضايا، لكن مشكلته، وقد قرأنا بعضه في أبحاث جامعية لبنانية منشورة ومرقونة، أو في التعليقات الصحفية، أنه اختزالي ومصادر للمطلوب ؛ النص لديه شفيع لمسبقات لا أقل ولا أكثر، ورؤية العالم التي هي المكون المركزي تتبعثر في تشكيلة من العناوين »الموضوعاتية« باعتبارها مادة النص وعالمه ودلالاته، كما لو تعلق الأمر بأصناف من الطعام في مائدة واحدة، فيما الرؤية ليست للعرض وإنما هي الكمون، وهي حتما ليست فردية بل جماعية أو على الأقل تصور مجمّع عن واقع كلي، مركب.
ونرى الوجه الثالث لأطروحة الانتماء العام، ناجما نوعا ما عن سابقه، من الانحياز شبه الكلي للرواية العربية في لبنان، خلال الفترة المشمولة بهذه الدراسة، إلى موضوع الحرب أو مادته أو ظلالها ؛ هو انحياز مسبق، غير مفكّر فيه بالضرورة. صحيح، كما قلنا، بأن الحياة انقلبت حربا كلها، ولكن الأدب لا يعرف عادة الانقلاب في رؤاه وأشكاله بين عشية وضحاها، ولذا تصبح الكتابة هنا انخراطا في الواقع لا صوغا، بالضرورة، للأدب، وتأكيدا آخر لمقولة الواقعية في حدها الحرفي. في بيئات أخرى يسمى هذا أدب المقاومة، كما نعرف عن أدب المقاومة الفلسطينية، القريب منا زمنيا وجغرافيا والتزاما ووجدانا، طبعا. أو في آداب غربية، فرنسية وإسبانية وسوفياتية، وهي جلها لا تؤخد على محمل الإبداع بقدر ما تصنف تعبيرا عن موقف أدبي في ظرف تاريخي ؛ موقف الدلالة الواقعية تتماهى مع الحدث مناط القول. ليكن، فهو موقف اللقاء المشترك، ذاك الذي يغدو منعطف افتراق المواهب وانطلاقها بعد ذلك في كل اتجاه.
ورابع الوجوه، وليس آخرها، للانتماء العام، أن يحس الكاتب بوجوده ندا بين أنداد، مستمدا طاقته وجذوة إبداعه من ذاته فيما هو يعيش ويتحرك في المصهر العمومي للحياة. إنها خاصية أخرى تدخل بها هدى بركات في المدار الجمعي لجيلها بمعاناته، وثقافته، والصراعات المحتدمة في زمانه، قبل أن ينفرد كل طائر بتغريده ؛ هذا الذي يحقق انتماءه إلى الموسيقى العظمى للوجود.، وبدونها لا يكون. وهي كائنة، لا بصفتها الأنثوية في الطبيعة، ولا بابتزاز الإحالات المستحقة أو العسفية لهذا المرجع. إنها امرأة تكتب، لا أنثى كاتبة، ولا تبيح لنفسها ولا لأي متلق أن يصنفها في تلك الخانة الاستهوائية اللا نقدية المسماة »الأدب النسوي«، يتلهى بها بعض النقاد الذين افتقدوا كل مشروع نقدي، وغالبا ما تلوذ بها مغشوشات الموهبة، واللواتي يستعملن الأدب كما تستعمل الحلي الزائفة لاستجداء اعتراف قسري لا يصمد مع الزمن. وبالطبع، فلا مجال هنا، للحديث عن الحساسية الأنثوية وملامحها في الإبداع وما شاكل، مما لا يسمن ولا يغني في أي تحليل سديد.
أضحى بوسعنا الآن، وقد انتهينا من هذه الوجوه، الإنتقال طوعا وانقيادا إلى ما يمكن اعتباره قطب الرحى في تجربة كل كاتب، وهو ثابت ما ينفك يرسخ عند هدى بركات يصنع قطبها. ذكرنا سابقا بأن الكاتب، الروائي في خطتنا، لا بد له أن ينتسب إلى شجرة الأدب العامة بمؤهلات معلومة، وما ذلك عليه بهين، فكيف لو ارتهن تحقيق جوهر هويته بأن يوفر لكتابته »حالتها المدنية« و»دفتر تحملاتها« الخاصين بها. هنا حيث نستطيع الغرف من النبع والوصول إلى المصب، تدفعنا ريح السرد الرُخاء في المجرى الدافق بينهما. وقد تحقق لمن أضحكت الحجر بعض هذا وما يمتد. ومن حسن مجترح القراءة النقدية لعمل هذه الروائية أن يجد أمامه هذا المعطى المركزي، ملتقى كثافة تجربة وسيرة كتابة، فليس أصعب من معالجة خطة نصية ناشئة، كما ليس أكثر خطلا وخطرا على الدارس، وعلى الناقد، من اجتزاء نص واحد بمعزل عن إنتاج صاحبه. لا بغرض التاريخ، ولا التتبع التيمي، ولا رصد مراحل التطور الفني لمجمل نتاجه (كذا)؛ ذلك كله يتأتى لنا رسم خطوطه البيانية في خريطة موازية بمهارات قرائية متداولة، وإنما لأن العمل الواحد، المفرد، لا بد أن يتعدد، وهو يحتاج إلى ذلك في سلسلة النسب المتواشجة، الشرعية، للعمل الكبير. ومما لاريب فيه أن القراءة النصية الحرفية، السيميائية، مثلا، في غنى عن هذا المسلك لأن الأمر ببساطة قرين أساسا منذ البداية باختيار منهجي. الاختيار ذاته الذي يملي فروضه، ويلزم الدارس لدى تبنيه بأن يخضع التلقي ـ وهي حالتنا هنا، كما ينبغي التوكيد ـ لوقوع العمل المدروس في سلسلة نسب نصية تنحو إلى الأدبية الروائية، وليس إلى الأدب الروائي، عموما، بما أن كاتبته باتت تستند على تراث، وتنذر المتلقين بفعلها، بحكم نزوعها الحقيقي أوالإيهامي لإحداث القطيعة مع»تراثها«، من أجل الرواية دائما.
فـي المتن وتبعاته
على الرغم من تعييننا لرواية واحدة للكاتبة مؤشرة في »سيدي وحبيبي« (بيروت ـ دار النهار ـ 2004)، فإننا نقصد متنا بكامله، ونحتاج للتعامل معه بوصفه كذلك، ومن هنا تأتي أرجحية مقولة التراث الشخصي عندنا. يعرف قاموس روبير الفرنسي المتن بأنه: »مجموعة قطع، أو وثائق تخص موضوعا واحدا«، وبالتسليم بأن شأن الرواية جنس أدبي تعتمل فيه جملة مكونات، الموضوع أحدها لا واحدها فإن المتن البركاتي يشتمل عندئذ على مجموع الروايات التي أنشأتها صاحبته، والعمل المعنون قطعة منه. إنني والقارئ، إذن، مدعوان لاستحضاره ووضعه أمام أعيننا وهو غائب فيما نحن نقرأ شاهدا، وبدون ذلك تكون القراءة تجزيئية والتحليل مبتسرا. طبعا نحن نستدعي قارئا مواظبا، لا هاويا أو متصفحا، تماما كتعاملنا مع المتن الذي لا ينجزه أي منشئ هاو أو واضع بضع حكايات. بهذا التنبيه لنستحضر عملين نعدهما أساسين لهدى بركات : »أهل الهوى«(د ن ـ 1993(و»حارث المياه« (1998). يعتبر الروائي الالماني بروخ أن أفضل طريقة لفهم ظاهرة هي بمقارنتها بغيرها طبعا. لكن هل تجوز المقارنة في سياق متن واحد، خاصة إذا كنا نؤمن بوجود رؤية كلية يمتح منها العمل ويجليها في القطع المتواترة. يعلمنا الأدب المقارن الذي برع فيه الألمان تحديدا أنك تحتاج في هذا المضمار، أول شيء، إلى مادتين أوعنصرين أجنبيين عن بعضهما أو لا يثبت المطلوب. لكن، لا شيء يمنعنا من استخدام مفهوم المقارنة إجرائيا، وخاصة إذا كانت الرواية مناط الدرس ستحيلنا، بأسلوبيتها، وهيكلتها، وطريقة تجنيس الجنس الأدبي فيها، إلى نموذج يختلف عنها وتكاد تنكره، وببروز وجه التماثل والتضاد سيصبح فهم ظاهرة المتن، ومنع العمل المخصوص، أفضل.
تنتسب الروايتان الأوليان إلى فضاء الحرب اللبنانية المشتهرة باسمها المعلوم، وعالمها يصنع في هذا الفضاء كما تنسج علاقاتها ومصائرها ضمنه. هذه معلومات مبذولة في الطريق عن كل رواية ارتبطت بهذا الزمن وحدثيته. إن للحرب اللبنانية الآن خزانتها الأدبية، والروائية في قلبها، ولا نعلم إذا تم توثيقها وأرشفتها على الوجه المطلوب مما سيفيد، في الحقيقة، من جوانب عدة، نظن الموضوع والأزمات المرصودة في أساسها. سيكون هاما، من نحو آخر، بالغ الأهمية للذين يحشرون أنفهم أبعد من الحفر السوسيولوجي أن يمتحنوا النصوص بعد أن عبرت اللحظة التاريخية المأزومة المسوغة لها تيميا وموضوعيا، ولم لا وجدانيا وفيها كثير مفرط في الحنين والتأسي، مغمور بالحس الفجائعي حتى النخاع، بما يجعلها أقرب إلى بكائيات ومرثيات رثة في شكل لوحات وسرديات متهافتة، منها إلى روايات. إن ما يزول بزوال الموضوع يلتحق بالتاريخ، وتكون له قيمة الشهادة Le temoignage وما تكمن فيه هاتان السنادتان وقد وقف على قاعدتهما ليتسنم الذرى الأخرى، فقد أدرك مرامه : الرواية من غير شك. لا يوجد هنا تبجيل ولا مفاضلة، ولكن حديث في صميم الأدب بما أنه يمتلك أدواته المستقلة لصوغ العالم، ولتدبير الحزن والفرح فيه على السواء.
»سيدي وحبيبي« هي الفيصل، بحكم إثباتها أن السابق عليها باق روائيا، تعبيرا أدبيا فوق أنه سجل تاريخي بعينه، يشترط به اللاحق وبه يدعم، أيضا، أدبيته الخاصة. في هذا الترابط الجدلي تكمن الخاصية الفنية لسرديات هدى بركات بتعينها في سلسلة متواليات حكائية يتقوى بناؤها وعالمها، كما تتكاثف شجونها، بتضعيف عوالمها، وتنويع أنوية ـ جمع نواة ـ الصراع فيها لتلتقطه دوما أنا ساردة، منطلق بؤرة الخلق والدمار والتلف، ومنتهى الألفة المنسجمة بالتناغم اللازم الذي يحتاج إليه أي تعبير فني يروم قول المأساوي ولا يسقط في الابتذال. وتتجلى الخاصية الثانية الأساس في هذا المنحى في كتابة تنزع إلى النقض ـ وهو ضرب من النقد ـ الذاتي لأسلوبها لكي لا يستقر في أسلوبه ويستمر في توتر لا ينقطع بتفاعل مع التوتر الدرامي الذي يصنعه الروائي بحبكته ومنوال حكيه. ما من شك أننا مع سرد يتميز بانتقالاته المربكة، القلقة، والتي قد لا تكون محكمة دائما وهي ترصد من جهة المتلقي غير السلبي، أي المشترك في نشاط قراءة النص أو إعادة كتابته من زاوية إواليات التلقي. ما يقودنا إلى خاصية ثالثة مناطها في كون تواتر النقض يؤدي إلى تعدد مستويات السرد بحسب الأدوار التي ينفذها بين حكي، ووصف، وحوار، ومونولوغ داخلي، أو وفق التدلال الذي تنطوي عليه كل متوالية سردية وأداة على حدة. سنستقرئ حتما الخاصية الرابعة لهذه الكتابة المطروحة أسلوبيا على مستويي التنوع والتفاوت الباحثين عن الانسجام طورا، والمفتقرتين له طورا آخر، فنيا طبعا. إنه في الواقع تذبذب في عملية تبئير السرد بحسب موقع السارد. وخلافا لما ينص عليه النحو السرداني ـ ذي التطبيقات المدرسية الآن ـ فإننا نذهب إلى أن فعل التبئير ليس شكليا البتة، قاربناه من وجهة نظر جان بوييون أو عالجناه وفق توزيع جيرار جينيت ؛ عندنا، بالإضافة إلى الترسيمات المعلومة، أنه دال على مدلول متعلق برؤية وعالم السرد، وبـ»إيديولوجيته«، لو شئنا، كناظم قولي في هذا المحفل السردي أو ذاك. وكلما تعددت المحافل تناسلت منها المستويات، وفيها على الدوام تقريبا تمفصل بين الذات والمجال الذي تتحرك ـ يمكن تسميته موضوعا من باب التبسيط ـ وهما محوران يتغذيان من بعضهما في كلا الروايتين، صنيع دودة ماريو فارغاس يوصا بصاحبها، فينبثق منهما محور ثالث هو طقس أو روح التذويت الذي تمارسه الكاتبة على عملها، تسترت بقناع السارد أو أتى منداحا في بوح الشخصيات تنضغط تحت هول قوة عاتية ـ الحرب، طبعا ـ وينشطر مصيرها بعيدا عن أي اختيار.
ليس التذويت مهيمنة وحسب في الفعل السردي لهدى بركات، بل هو موسيقى الرواية، أو إنه الإيقاع الدفين يسري في أوصال العمل من البداية إلى النهاية به تحصل الرواية على استحقاقها أو لا تكون. حين يخفت هذا الإيقاع ينقلب السرد إلى نثر مبتذل مقصود للحياة اليومية، ذلك أن السرد الروائي كأسلوب كتابة جاء لتحقيق هذا الهدف مع التبدل الجوهري الذي اعترى البنيات الإجتماعية والاقتصادية للمجتمع الغربي، أي انقلابا على روح الملحمة وتعبيرها، كما تتبنى ذلك الأطروحة اللوكاتشية الشهيرة. أما حين يعلو فإنها الغنائية عندئذ ما يبسط سيادته (LE LYRISME)، الشيء الذي قد يدفعنا إلى التساؤل عن مدى تجاوب هذا الأسلوب، هذا الإيقاع، مع سرد مبؤر حول الحرب وشخوصها وجنونها، من جهة، وعما إذا كان هذا المنزع لا يؤهل حقا لإنشاء أعمال موضوعية قادرة على الإرتفاع فوق النبر الذاتي، البوحي، الاعترافي، الشعري إجمالا، واستيعابه في رواية تصهر المقياس الإستطيقي والمفهوم الوجودي في لحمة واحدة، من جهة أخرى. رب قائل : ألا يعد كلامنا معادلا للقول بأشكال ما قبل ـ روائية، ويُنظر إليه بمثابة تصنيف، بل وترتيب قدحي، ما قد يشي في النهاية بوقوعنا في تناقض مع ما أخذ عندنا درجة الاستحقاق؟ الحقيقة أنه لاينبغي طرح هذا التفكيرلا بصيغة الإستفهام، ولا التعجب، أيضا، لأن المراد منه محاولة رسم العلامات الفارزة للسرد البركاتي، وتشخيصها عودا على بدء، انطلاقا من رواية»سيدي وحبيبي«.
ولعل أول ما يلفت النظر في هذا العمل أنه مختلف، على الأقل من حيث الظاهر، عن عمل الكاتبة برمته، لدرجة إمكان نسبته إلى آخر، وبالطبع فالآخر هو ما أصبحت عليه المؤلفة، بعد تفاعل مع الزمن، أو تعامل مع التعبير السردي، أو إحساس وفهم مغايرين لتجربة شكلت محور أعمالها السابقة، هي وزملاء لها احترقوا إنسانيا بنار تلك الحرب. ولأمر ما تختار بركات تأسيس عالم مسرودها الجديد على عماد الطفولة ؛ العتبة الأولى للبكارة ومساحة البياض الأولى التي لم تشبها شائبة، ولم يمسسها ضير بعد، لتنتقل تدريجيا إلى خطوات الألم في درب التجربة، بمعنى اختبار الحياة البغيض. وليس مثل الطفولة وسيلة لصوغ الحياة في رعشاتها الأولى إلى حدود البراءة والسذاجة. فكيف والبطل ـ لم نعد نستخدم هذا المصطلح في السرديات، ولكن مساره الفعلي، الحكائي دوما بطولة كاملة ـ يحمل إسم »وديع«، كإشارة أولى على مفارقة الوداعة التي تولد وستكبر في محيط الذئاب الذين سيحولونها إلى وحش كاسر. رغم الاستهلال الذي يظهرهذا البطل وقد تحول وقطع شوطا في طريق مصيره، وفي البحث والمنال الخاصين اللذين سماهما خضوعا وحبا، إلا أن الرواية سرعان ما تطلّق بدايتها الفعلية التي ستسير بها، على وجه العموم، وبارتجاعات محدودة، في سرد خطّي متصاعد، إذا ما توقف في محطات الإستبطان أو المونولوغ الداخلي أو بعض اللوحات وغيرها من مقتضيات حكاية ورؤية هذا العمل، فإنه ما يلبث أن يستأنف المضّي على خطى كرونولوجيته تارة، وحدثيته تارة أخرى.
نعتبر هذا النهج اختيارا يظهر السرد وهو يتبلور في السنن الفني للقصة التقليدية، التي تضبطها الوحدات الثلاث المحكمة، كما عرضها فورستر في كتابه المرجعي عن فن القصة. بذا يمثل الإختيار إياه الإشارة الأولى المعلنة من الكاتبة عن نيتها إحداث تغيير في مسار طريقة سردها سنراه، مع تتبعنا لحكاية العمل Story، ولطريقة العرض، ومن خلال الموقع المركزي الذي يحتله سارد ثابت كلّي الحضور والعلم والفعل أيضا. هو التغيير الذي يقطع مع ما انتهجته في »أهل الهوى« و»حارث المياه« والمُملى، كما سنرى، في ضوء تجربة من طينة مختلفة عن سمت ونفس الحبيب الجديد، لو قبلنا العبارة تجوزا. ما لن يفوت القارئ الإيجابي أن يتوقف عنده مستحضرا ومغترفا من فم النبع ونحن برفقته نحاول الاسترجاع فيما نبغي التقدم إلى الأمام. لعلها طريقة شبيهة بما ذهبت إليه الكاتبة، أو بالأحرى سارد قصتها، هذه الشخصية من ورق، الذي تضيف إليه دور الشخصية الأولى الفعلية، في ورطة مركبة. لنطلع على بعض التفاصيل تجمع عناصر حكائية وعاملية وحدثية، وبالإجمال المختصر الواجب معرفته عن كل قصة حتى يتيسر لنا تتبع وفهم تحليلها الفني، فموقعها، بالذات، في خط إنتاج مؤلفها، المدار الأصلي لاهتمام هذه الدراسة.
يتكفل »وديع« عمليا بكل شيء، من البداية إلى مشارف النهاية، وهو يروي القصة بمجرياتها وأوضاع شخوصها ؛ بدءا منه هو المتوهم أنه ابن عائلة موسرة فيما هي تعيش في الكفاف بدخل الأب الذي يعمل طباخا لدى أسرة ثرية، ومن ثم تتعيش العائلة بالبقايا التي يستفيد منها آخرون مثل »أيوب« رفيق المدرسة، والذي سيحتل مساحة كبيرة من اهتمام وديع، واهتمام السرد، بما يظهره تارة مكملا وأخرى نقيضا للبطل المفترض أو الذي ينمو. إنهما معا يعيشان في فضاء المدرسة كمختبر لتربية وعلاقات من شأنها شحذ شخصية وديع ورسم توجهه في المستقبل، هي ووضعيته الإجتماعية العائلية، بانتقاله من التلمذة المسالمة، الخجول إلى فتوة أو مراهقة تخلى فيها طوعا عن المدرسة ليصنع بيده ما سيصبح مصيره الشخصي الذي سيقوده إلى السيد والحبيب. سيختلط، أولا، بأفراد عصابة من الفتيان يحملون جميعا كنيات، فيبدأ واحد منهم ليصبح رئيسهم، المشرف على عمليات السرقة وبيع المخدرات، وبسرعة لاـ زمنية، أي حدثية وسيكولوجية، كأننا مع قصة خوارق، يعرض نفسه وقد صار»قبضاي« كاملا بجرائم قتل، واقتتال مع عصابات، وبيع وتهريب الأسلحة، وأتباع له هو العراب الجديد، طبعا الذي لابد له من خليلة (سامية) لتكتمل الصورة. أما السيناريو فلا يكتمل إلا بانتقاله لأسباب متضاربة من محيط نشاطه العصابوي، بيروت، التي لايذكر اسمها ولا توصف معالمها إلا لماما، ليستقر به المقام في قبرص هو وسامية في وضع الزوجة. هنا حيث تنعطف حياة وديع من رئيس وسيد إلى موظف محاسب في شركة وتابع لمن سيصبح له السيد والمعبود، سواء في شخص الشيخ الكبير صاحب الشركة، أو في صورة مديرها الجديد ذي الطباع الشاذة، حتى لا نقول الشاذ ؛ هذا الذي سينقاد له الذئب المدجّن ويمسي ظلا له، تابعا كالجرو ومضحيا من أجله بكل شيء وصولا إلى عرضه ومضجعه، بعد أن كان قد أصيب برهاب عات، وحالة فصام، وفتور همة شاملة كعلامات انقطاع عن الحياة.. ثم، فجأة اختفاؤه غير المحدد الأسباب شأن رحيله الأول، لتتولى الزوجة المشتركة في لعبة الخديعة الكبرى مهمة إغلاق دفة رواية تبدو وكانها مغلقة منذ البداية.
نعلم أنه اختصار، بل اختزال، الهيكل العظمي للرواية لا يغني بتاتا عن قراءتها، فالتفاصيل والأجواء والخلفيات وتعبير الذات دمها ولحمها، وبنيتها الفنية قاعدتها، ومضمونها من مرجعيتها وأفقها في آن. وهي كلها عناصر وتكوينات جذابة للقراءة والفهم والتأويل. أول ما تمنحه يسيرا هو القطع مع عالم الحرب اللبنانية مباشرة (ح ١)، والانتقال إلى ما بدا أن هذه أنجبته وغدا منقوشا فوق جلدها كحروب صغيرة (ح ١ أ. ب الخ..). لا تختفي ح١ ولا تظهر بوقاحة معا ؛ هي إحدى مرجعيات النص وواحدة من مراياه لفحص بعض ما أصاب الشخصيات من ندوب وانجرت إليه من أفعال. إن ح١ لهي، أيضا، أرضية قامت عليها ح١ أ.ب..ما يعني أنها صلبة ومستقرة كواقع معطى لا جدال فيه امتلك تراكما وأنجب أكثر من واقع آخر، من حرب، هو ما يجدر بالروائي الفطن أن يقبض على جمره، فيجليه كنار لاهامش أو هشيم. وليكن هو ذاته هشيم الحرب التي لم تترك ولم تذر، فلم يعد يتناسل منها إلا الدمار والقتل والجريمة والخسّة والفناء المادي والضياع الروحي. نحن نعتبر أن الخطوة الحاسمة في كتابة الرواية، بناء على دينامية حقبة تاريخية ما، يبدأ من نسيانها الذي يتطلب، أولا، تباعدها النسبي، وثانيا، إعادة بنائها وتذكرها بالكتابة، أي بالرواية. ونرى، من نحو آخر، بأن تيمة الحرب، بل الحياة التي تشخصت فيها وبها هي ما سيسرد من الآن فصاعدا، وسرده يتبلور أمامنا، في حدود اطلاعنا، عند هدى بركات، وحسن داود، ورشيد الضعيف. ليس للروائي ما يسرده حقا إلا الماضي ضمن الزمن، وهو يختار ويقتطع، تماما مثلما يشذب وينقح في الصياغة، وفطنة الروائي، كما عند بركات، أن يستخرج الدرّة الكامنة في أحشاء الزمن، وأن يرينا الوجه الآخر لعملته فيصبح الأوكد والأفصح. ليس الروائي مؤرخا، ومن يستوطن التاريخ أو يتخذه مصدرا أساسا ومتكأ لكتابة الرواية أو روبورتاجات في قالبها، روائي فاشل أوتاه في الطريق. الحرب(١) موجودة ووجدت، وهي البؤرة الكبرى التي يلتقي حولها جميع أطراف المحيط، هي التاريخ العام، أما الرواية فتُعنى، أساسا، بالتاريخ الخاص، بالجزئي الذي يصبح مركزيا، وبالجنس الأدبي، يتجنس، وبالماضي الذي يستعاد دوما إلى الحاضر، بالصور والكلمات.
»وديع« بعائلته (أبيه، فقط) وعلاقاته المدرسية، ونموه الإجرامي، ثم السيكولوجي المرضي، انتقالا إلى الإمتدادات العصابية الأخرى، يمثل التكوين الورمي في جسم الحرب، أي الجسم المريض أصلا. وليس أمام الروائي، شأن الطبيب، من وسيلة غير التشخيص، لا مناص. هناك من يختار الوصف، لكن بركات تستخدم ضمير المتكلم ليقول الحالة ويسرد الرواية في آن. إنه رهان صعب ما في ذلك شك، محفوف بصعوبات لا يقل الواحد فيها عن الآخر ؛ فثمة طفل يتكوّن ويفترض السرد أن يرسم في الآن عينه مسار وعيه وتطور ما حوله. ورغم أن السارد في ضمير المتكلم هو آخر وظيفيا، إلا أن التماهي والحلول المتبادل بين موقعهما لمن الدقة والحرج أن يجر إلى أكثر من مزلق، من قبيل أن يقول الطفل ما ليس له، وقد فعل، وأن ينزلق سرد الأنا إلى بوح أكثر من شفاف بلباس فضفاض، ونراه ينأى عن وظيفته ليتحول إلى خطيب مصقع. السارد موضوعي، والمتكلم بطبعه ذاتي، وقابل للموضوعية إذا أحسن التحكم فيه، أي لم يقم بدور شعري ولكن روائي ؛ إنها مسألة »دوزنة« بالمصطلح الموسيقي، التي هي قضية الفن كله. التراوح بين الموقعين، وبالتالي ما يأخذه السرد كوتيرة، هنا اوهناك، مصدره رؤية الكاتب المكونة عن عالم مرصود في ذهنه قبل أن يصبح منسوجا لغويا ومستمدا من المكتوب.
من مآزق أو مصاعب استخدام ضمير المتكلم في »سيدي وحبيبي«، أن تجد الشخصية الفاعلة نفسها وهي تشغل آلية السارد كذلك، عرضة للنمو والتحول السطحيين اللذين يتمان بالإخبار والكلمات لا بالوصف والحدث، أي ما يبدو مقنعا روائيا لا مريبا ومضغوطا كقرص مدمج أو يستدعي طول تخمين. هكذا تسلمنا الرواية ـ الروائي على الأصح ـ إلى سلسلة أفعال ناجزة بلا مقدمات مريحة، هي هشة غالبا، والقارئ لا يحتاج،هنا، إلى الحجة ولكن إلى الإيقاع والمنطق الداخليين، ينتشران كالأوردة في جسم السرد المحمول على عناصر الخبر والحدث والزمن، خاصة في رواية تنبذ من مدخلها أي نزعة تجريبية ـ باستثناء استهلال يعتمد الفلاش باك، وهو نهج قديم ـ ويتحمل فيها بطلها آلية السرد ليخبرنا ويفسر لنا، وطبعا ليقنعنا أو نقتنع بما يشبه الأطروحة، أوهذا الوضع المذهل لحب يشده إلى سيد، سيده، لا يجد له وصفا ولا معنى(ص ٧و٨) ينثال في عبارات سابحة في التجريد، وبتفلسف قد لا يكون له أي مصدر إلا عند من انتقل ـ نقل نفسه ـ من المدرسة، إلى عالم الفتوّات، فعالم الجريمة في مناخ الحرب الكبرى، وبجريرتها إلى المنفى فالضياع. وكيف خسر وداعته لينقلب ذئبا وزعيما دفعة واحدة، ويتفلسف بعد ذلك حول »زعامته« هذه (ص88 وص90 ـ 91 وغيرها). الحق أنه لا شيء يضاهي هذا الاختلال إلا التحول الذي يجريه وديع على نفسه قسرا وقد أصبح نهبا للخوف، للذعر، على حياته من قتلة في الحرب أكبر وأشنع منه، بيضة فاسدة في محضن عفن، فيغذي فيه اسكيزوفرينيا بلا نظير تلاحقه إلى المنفى القبرصي حيث سيصبح خرعا وشخصية عديمة الإرادة، من الرثاثة بمكان. شخصية، هي بطولة، تعيش ذروتين : واحدة للصعود، وثانية للسقوط، وبين الذروتين مسار حياة مضاعفة بين حربين، وتتكشف عبرهما الأوزار والتبعات وعصاب الذات الهالك، كريشندو لسيمفونية الحرب الفاجعة. فكيف السبيل للإنغمار في هذا كله، ولا نقول فهمه، ما دام مناط الإهتمام في جنس الرواية ليس الشرح ولا الإقناع البارد، لكن التشخيص والوصف ودرامية المواقف بأي أداة يراها الكاتب أنسب، وبالحس والإنفتاح على المحتمل الذي هو أحد ألوان التخييل الذي لا بد أن يرقى إليه السرد الفني؟
نظن أن هدى بركات ناورت على الإجابة عن هذا السؤال مسبقا، وذلك بفطنة الروائي الذي راهن على شيء، بوعي أن الرهان قابل للربح وللخسارة في الآن عينه، وهو يضع نفسه، عمله، على مشرحة وفطنة وعي المتلقي، ويخضع لإواليات تلقيه. يتعلق الأمر في كل عمل محكم باستراتيجية خطاب، يشمل عند الكاتب سلسلة أعمال في عمل واحد. وكما لا يوجد أي كتاب من عدم، فإن روايات هدى متكافلة، سواء بالرؤية وطريقة عرضها أم بمحاولة الإنقطاع عنها والإنزياح فنيا. وفي »سيدي وحبيبي« تشتغل الإستراتيجية على حدود القطع مع ماض نصي، وبمتاخمة حقل جديد على الكاتبة وها هي تحمل متاعها وعدتها وتباشر الإنتقال إليه، خطوة، خطوة. لقد كانت النصوص السابقة مشتعلة بحرائق الحرب، مسالكها وسماؤها مقفلة بالجثث، وبها شخصيات تداس أو تنتهي إلى الفقدان، فلا أمل. كانت الرؤية فجائعية، ومهما سعى السارد إلى إحكام قبضته على مفاصل المبنى الحكائي وإبرازالرؤية من المنظورالواقعي، وفي التشخيصات الأشد فداحة، فإن منبع الخطاب ذاتي، أي شعري، يقع قريبا جدا من نيران الحرب اللافحة، ولذلك جاء قسم غير قليل منه، في صورة أشلاء ولوحات هي لواعج القلب ونشيد الوجدان، في مرثيات للذات والآخرين على صهوات لغة مطهّمة بأصناف المجاز.
تسمى هذه الظاهرة الوجدانية والتعبيرية بـ»الغنائية«. في آخر كتاب له يعرف ميلان كانديرا الغنائية بكونها: »تعيّن طريقة ما في الحياة، وأن القطب الغنائي، من وجهة النظر هذه، لهو التشخيص الأمثل للإنسان المفتتن بروحه الخاصة، وبالرغبة في إسماع صوتها« (Le rideau) ـ الستار، باريس، غاليمار، 2005، ص 106. ويضيف كانديرا، وهو في كتابه هذا يتحدث عن الرواية أساسا، بأن »الروائي يولد من أنقاض عالمه الغنائي« (ص107)، أي كيف أنه من هذه اللحظة يشرع في إحداث تحول في كتابته تمس جوانب جوهرية، وهو ما يعتبر عنده بمثابة اعتناق لمذهبية جديدة (لا ـ غنائية) وقد أصبح فجأة على مسافة مما كان فيه أو عليه.لا نأخذ هذه الأقوال بحذافيرها، وإن كنا نستفيد من الخبرة والتجارب المنبنية عليها، وفي سياقها نضع رواية »سيدي وحبيبي« التي بقدر ما تهتدي فيها صاحبتها بتجربتها الخاصة، والمتفردة في أكثر من ناحية، تنزع في الآن عينه إلى قدر أعلى من النضج بتجاوز الغنائية التي هي مرتبة، ولا ينبغي النظر إليها كمثلبة بالضرورة ـ أي، كعدم نضج، كما يميل إلى ذلك كانديرا ـ. وبما أن تغييرالإتجاه أو المذهب أشبه ما يكون بالردة بالنسبة للمؤمن ترى رواية بركات الأخيرة كأنها في المنزلة بين المنزلتين بين عالمين وأسلوبين، وفي سبيل السيطرة على العالم المرصود بأزمته، والقبض الكلي على ناصية الشخصيات والسرد وكل شيء، فإن ضمير المتكلم، البطل والسارد، ومعه تلك الرغبة الحارقة لقول الأنا (غنائيا) يتحول إلى شرك يقيد منزع التجربة الجديدة إلى اللعب القديم ويشوش على رؤية وإيقاع الانتقال. إنما، ليس بوسع الكاتب أن يضمن شيئا من البداية، وهو روائي حقا لكونه وهو يكتب، وهي تكتب، يتحرر من المسبق والتأويل الجاهز. يبحث ويكتشف ليجد أمامه الرؤية لا الموضوع، والخطاب لا التيمة، والفن أكبر من أجناسه، ونظن أن هذا يسمى عند هدى بركات، وعند كل كاتب موسوم بإبداعه، امتلاك الأجنحة للتحليق في فلك الجدارة الروائية، وهي، أيضا، مقامنا الحرب التي أرسل ثربانتس دون كيخوتى ليكسبها، ولا تزال جبهتها مفتوحة بتوالي الفارسات والفرسان.
أحمد المديني (روائي وناقد من المغرب)