المعركة التي دارت رحاها 1964- 1965م حول المقالات التي نشرها د. لويس عوض في جريدة الاهرام، القاهرة، وعام 1964 م في الرمق الأخير، هي معركة ذات قطب واحد هو محمود محمد شاكر، وكان حصيلتها كتابا من أرفع كتب النقد الأدبي الحديث من حيث الأداء الفني البحت، وإن مخل في محاورها أطراف كالزوار المجتازين يلمون في لحظة عبور ريثما يرحلون. وانها لتتجاوز مركز الخلاف الا وهو ما ذهب اليه لويس عوض من وجود مؤثر يوناني مسيحي في تكوين أبي العلاء المعري رسالة الغفران، إلى دوائر متراحبة تنداح من حوله وتتماوج، ولهذا يعنى هذا المقال بتناول سياق الخلاف في ثلاث قضايا، تتجاوز التفاصيل إلى جذر القضية.
اول القضايا: منشأ أثر رسالة الففران في وامعة دانتي "الكوميديا الالهية"
والثانية: الأثر العري الاسلامي في الكوميديا الالهية عند الدارسين
الأوروبيين.
والثالثة. مقولة لويس عوض في جريت الأهرام وملابسات المعركة ودوافعها وحواتيهما.
ا – أثر رسالة الغفران في الكوميديا الالهية :
على نقين ما شاع في بيئات المثقفين والدارسين العرب، حتى صار من المسلمات الثابتة التي لا يتأتى نقضها بحال، فان الكتاب العرب هم الذين سبقوا الى تناول هذه القضية، وذك منذ اواخر القرن التاسع عشر الميلادي. ففي عام 1897م انعقد مؤتمر المستشرقين في باريس، وحضره باحث عربي يدعى عبدالرحيم احمد، صمتت المراجع من بعد عن الاحتفال بسيرته واسهامه العلمي، على الاقل فيما يتصل بهذه القضية الحيوية، وكننا نعرف أنه قدم بحثا في ذلك المؤتمر عنوانه :"لمحة عن أبي العلاء وأثاره"، وقد حفظ لنا مرجع "مهم" نصا من ذلك البحث، حيث قال: عبدالرحيم أحمد انه اطلع على رسالة الغفران لابي العلاء المعري، وهي مخطوطة يومئذ،لأن طبعها لم يتسن إلا من بعد ذلك بسنوات، وفي عام 1902م على وجه التحديد، ثم وصفها وقارنها بكوميديا دانتي فقال.
"انما مؤلف ثلاثي يشبه تقريبا مؤلف دانتي، أقول تقريبا لأنه لا يختلف عنه إلا بروح النقد، ذلك أن سياق الأثر وهدفه متفقان". هذه أول إشارة إلى مسألة الأثر والتأثير. وفي عام 1902، تنشر مجلة الهلال، في القاهرة، سلسلة مقالات تحت عنوان "علم الأدب عند الافرنج والعرب " بقلم "كاتب فاضل " ضمها من بعد كتاب يحمل العنوان نفسه، "كاتب فاضل"، سنعرف من بعد أنه الكاب الفلسطيني "روحي الخالدي" 1864-1913، وفي إحدى تلك الحلقات، يقمؤ روحي الخالدي:
"الكوميديا الإلهية أو المضحكة الإلهية أشبه برسالة الغفران التي حررها المعري قبل تأليف الكوميديا بأكثر من قرنين ". ومن بعد روحي، يأتي باحثان مشهوران ومتميزان، أولهما سليمان البستاني الذي ترجم الياذة هوميروس من اليونانية القديمة الى اللغة العربية ترجمة ضافية، وصدرها بدراسة متعقمة ومجودة جعلها مقدمة لها، وطبعها أول مرة عام : 1904، جاء فيها:
"وإن من أحسن ملاحم المولدين : ملحمة نثرية جمع فيها صاحبها شتيت المعاني، وأوغل في التصور حتى سبق دانتي الشاعر الإيطالي وملتن الإنجليزي الى بعض تخيلاتهما الا وهي رسالة الغفران لأبي العلاء العري". وثانيهما: جرجي زيدان، صاحب دار الهلال الذي نشر عام 1907 مقالا في مجلة الهلال دون أن يعزوا إلى نفسه صراحة، ثم ظهر المقال نفسه من بمد داخل كتاب "تاريخ أداب اللغة العربية" المنسوب صراحة الى مؤلفه جرجي زيدان، وقد جاء فيه :
" إن ما صنعه المعري في رسالة الفئران يشبه ما كتبه أعظم شعراء الطليان في روايته المسماة "الرواية الالهية" ويشبه ذك ما كتبا ملتن الشاعر الانجليزي في روايته "ضياع الفردوس واسترجاعه"، ولكن هذين الشاهرين متأخران في الزمان عن ابي العلاء، فان دانتي توفي سنة 1321م نحو740هـ وابو العلاء توفي 449هـ، فهو قبل دانتي بنحو 1321 نحو سنة، فلا بدع ان قلنا انهما اقتبسا هذا الاسلوب عن شاعرنا المعري".
ان كل من تناولوا القضية، لم يفيضوا في تناول امر التأثير والتأثر مفصلا، وانما اكتفوا بالكلمة الجامعة واللمحة الدالة، على أن جرجي زيدان يوثق السبق الزمني لابي العلاء المعري، بل يمضي في ثنايا المقال الى اثبات العلاقات الثقافية بين مناطق إيطاليا حاليا والثقافة العربية في الشرق العربي عن طريق الحروب الصليبية خاصة، علاوة على. أن البستاني وجرجي زيدان كليهما من اهل الشام، من قوم ابي العلاء الذين ينتمون مثله الى تلك الرقعة الجغرافية من بلاد العرب، والبستاني وجرجي معا ملمان باللغة اليونانية القديمة، وباللغة السريانية، وهي لفغ سامية، نقلت اليها معارف اليونان، ثم نقلت تلك المعارف بدورها من السريانية الى العربية، على ايدي المترجمين السريان من أهل الشام والعراق خاصة.
ولكن تلك الاشارات التي اجمعت على تأثير رسالة الغفران في كوميديا دانتي، من لان عبدالرحيم أحمد الى جرجي زيدان، إنما صدرت عن كتاب هرب، ونشرت وأذيعت قبل عام 1919م، وكانت أخر اشارة عام 1907، اما من بعد عام 1919، فسنجد كتابا أخرين من العرب والشرقيين، ينسجون على المنوال نفسه، ويعبرون عن الفكرة ذاتها.
2 – الاثر العربي الاسلامي في الكوميديا الالهية: المساهمة الاوروبية
الاب ميجويل أسين بلاثيوس قس أسباني كاثوليكي المذهب ولد عام 1871 وتوفي عام 1871 وتوفي عام 1944م درس العربية واهتم بدراسة الفلسفة الاسلامية والتصوف، نال الدكتوراة عام 1896م، اي قبيل العقاد مؤتمر المستشرقين في باريس الذي قدم فيه عبدالرحيم احمد بحثا عن المعري الذي حوى وقفته عند اثر رسالة الغفران في الكوميديا الالهية.
في عام 1919م وفي مدريد، نشر كتابه "المصادر الاسلامية للكوميديا الالهية" بالاسبانية، فأقام الدنيا، وأحدث من أدوي الضجيج، ما يعتبر اما كارثة عملية، واما علامة على منعرج خطير في تاريخ الفكر. دانتي، صاحب النصوص المقدسة في ايطاليا، وذو المكانة السامقة التي تسمو فوق كل القمم اللامعة في أوروبا، فجأة، يتحول من كاتب نال المجد لأنه أتي بإبداع لم يبق اليه، وارتاد طريقا جديدا شقه في الصخر، معتمدا على عبقريته الفذة، يمتح من ينابيعها الفياضة والمتجددة، يأتي من يجعلا متأثرا بالتراث العربي الإسلامي، إن كان بلاثيوس هذا كاثيوليكيا يدين بالولاء لبابا الفاتيكان على حفا في مدينة روما، فهو بلاشك اسباني استبدت به عصبية متشددة لبلده اسبانيا، حتى أعتمه عن رؤية الحق، واستبانة الدرب اللاحب، فهرع ليقول : إن هذا المجد الذي ينسب إلى ايطاليا واللغة الإيطالية بفضل ما كتبه دانتي الليجري، إنما استقاه من مصادر عربية إسلامية كانت في الأناس، أي في اسبانيا التي كانت مسلمة على ذلك العهد، فنحن معشر
الأسبان أحق بالفضل، وتحمس كتاب فوصموا ما قاله بلاثيوس بالفضيحة العلمية التي تدل على تهافت حركة الأستشراق في اسبانيا وضعف تكوينها العلمي، وسطحية فكرها، وهشاشة عودها وضحالتها، واستثير الرأي العام في ايطاليا، بين عامة الناس، ووسط خاصتهم في البيئات. الثقافية والأكاديمية، الى درجة أن من أقدم عل ترجمة كتاب بلاثيوش إلى الإيطالية من الأسإنية، لم يجد ناشرا مغامرا يكن أن يقدم كي نشره وترويجه، وفي أفر الأمر انصاع لما أملته الضرورة، وانحنى في وجه العاصفة، وقبل بأن ينشر الكتاب المترجم مشخصا، في شكل نحيل. وأسين بلاثيوس يومئذ أستاذ كرسي اللغة العربية في جامعة مدريد، قضى أكثر من عشرين عاما بعد نيله درجة الدكتوراة، يبحث في التراث الإسلامي، ولا سيما ما يتصل منه بالعقيدة والفلسفة، وأثره في أوروبا ابان العصور الوسطى، ومبدأ عصر النهضة.
وقد تصدى لمنتقديه جميعا بالرد الموضوعي المستند إلى الأسانيد والحجر العلمية، وبدأ الميزان يستقيم، وأخذت كفته ترجو، ومنار يستميل قلوب الناس، ويجد قبو امز عقولهم وأفمامهم، وشارك كبار الدارسين من المتخصصين في تراث دانتي والمستشرقين في الجامعات الألمانية
والأسبانية والإيطالية، فأجمعوا على الإضافة المهمة التي قدمها أسين بلاثيوس في كتابه، وأفاضوا عليه من الثناء والتتويظ، ما هو أهل له وحقيق به.
وهذا يعني أن مصادر دانتي ليست محصورة في التراث المسيحي وحده، وإنما هناك مؤثرات عربية إسلامية. إن المركز الذي دار حوله بحث بلاثيوس في كتابه، هو أن دانتي أفاد من فكرة الإسراء والمعراج. وعقد المسلمين، واطلع على ما كتبه ابن عربي على وجه التحديد عن المعراج، وعقد مقارنات بين نصوص ابن عربي، وفترات من الكوميديا الإلهية، رهن بينما مرتكزات إسلامية فالعمة، عن مشاهد القيامة، لا علاقة لها بالمسيحية، على وجه الإطلاق، مثل مفهوم الأعراف، وهي منطقة بين البتة والنار، لا يستحق أهلها عذاب النار، ولا تؤهلهم حسناتهم لدخول الجنة، فيقبعون فيها يحدوهم الأمل في الحظوة برحمة الله تعالى وعفوه الكريم، ويمتازون بأنهم يتلقون الاطلاع على ما يجري من عذاب في النار، ونعيم في الجنة، وفي الأعراف، التي أطلق عليها دانتي مصطلح "لمبو" وضع دانتي الفيلسوفين المسلمين ابن رشد وابن سينا، في حين وضع بعض
باباوات روما في الجحيم.
أما رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، فذات قيمة ثانوية في مرح أسين بلاثيوس، الذي عقد مقارنة تؤكد التشابه وسبق المعري في مواطن متفرقة بين العملين، وهما عنده عملان أدبيان في المقال الأول يتناولان موضوع الرحلة إلى العالم الاخر.
وعنده أن رسالة الغفران على ابداعي يستند إلى أساس. هو حكاية المعراج. عند المسمين.
وإذا كان الكتاب العرب قبل عام 1919م، تناولوا أثر رسالة الغفران في الكوميديا الإلهية، فإنا عرضوا لأثر عمل أدبي عربي السان، في على أدبي مدون باللغة الإيطالية. أما أسين بلاثيوس فيعرض لأثر أعمال دينية إسلامية وقمة المعراج. التي كتبها ابن عربي على وجه التعيين، في عمل أدبي سيحر الروح والتوجه هو الكوميديا الإلهية، وأن التشابه بين ابن عربي ودانتي لا يتبدى في الفكر الفلسفي المستمد من مدرسة ابن مسرة فحسب، بل يتعدى ذلك إلى الصور الفنية التي تحول الافكار إلى رموز، وإلى الأساليب الأدبية التي تعبر عن ذلك الفكر.
وقد ختم أسين بلاثيوس عمله العظيم باستشراف نظر فيه إلى ما سيجد من أمر البعث العلمي، بين المستقبل، قائلا فيه أنه سيتم العثور في المستقبل عشى أدلة علمية، في هيئه وثائق، تثبت اطلاع دانتي على المصادر الإسلامية لقضية المعراج، ولا سيما ابن عربي، وتوفي أسين بلاثيوس عام 1944م قبل أن تجود الليالي بما يؤكد صدق افتراضه العلمي، أو حدسه العجيب. وبعيد وفاته جاء باحثان من اسبانيا وايطاليا كل منهما يعمل منفردا لا اطلاع له ولا علم بعمل الأخر، ونشر كلاهما نصا من وثيقة
معراج محمد، وأثبتا أن قصة المعراج قد ترجمت إلى اللاتينية م الأسبانية والقرنية قبل ميلاد دانتي..
ومن ثم غدا تأثير الثقافة العربية الإسلامية في الكوميديا الإلهية أثرا راسخا، ونموذجا يضرب به المثل على علاقة التأثير والتأثر في أرفع حالاتها.
3 – مقولة لويس عوض في حريدة الأهرام وملامسات المعركة.
ليس د. لويس عوض من المهتمين بأبي العلاء المعري، وكتابه رسالة الغران، ولا علاقة الثقافة العربية الإسلامية، بالثقافة المسيحية الهيلينية علي أيام أبي العلاء المعري، وحسبنا أن ننظر في هذا الكلام الذي كتبه لويس عوض عام1964م. "وجدت نفسي أعود إلى "رسالة الغفران" بعد ثلاثين سنة بالتمام والكمال، وكنت قد قرأتها في طبعا كامل كيلاني، على ايام الطلب في الجامعة، فقرأتها في الطبعة التي حققتها الدكتورة بنت الشاطيء مع رسالة ابن القارح".
فإذا علمنا أن هذا الكتاب يمثل أطروحة د. بنت الشاهر قدمتها في قسم الشفة العربية، جامعة القاهرة، وطبعتها دار المعارف، قبل نحو ثلاث عشرة سنة، ولويس عوض في الحالتين أستاذ بقسم اللغة الإنجليزية، جامعة القاهرة، والقسمان ينتميان إلى كلية الأداب بطبيعة الحال، فان د.لويس عوض لم يطلع على الرسالة العلمية، ولا على الكتاب المطبوع في حينه، أو في زمن قريب تال له، وإنما اطلع على الكتاب وهو أكمل تحقيق لنص، عندها هم بالكتابة عن أثر اليونان على المعري، أي لخدمة غرض يكمن خار. النص. وغدها نشر مقالاته، لم يكن مجال النشر مجلة علمية متخصصة، وإنما جريدة يومية سيارة، ولم يتبع في تناول المنحى العلمي المقبول من الإلمام بالنصوص اليونانية، والوقوف على ترجمتها إلى اللغة السريانية، وإثبات وصولها الى يد أبي العلاء المعري على نحو ما، وتبيان مئة أبي العلاء بالثقافة المسيحية – الهيلينية في عهدها على أساس من مقومات علمية تدعمها البراهين والمسوغات، وإنما نشر رأيه الذي يبدو في مرأة خصومه استفزازي السمت والغرض، يحمل خصائص مناوشاته الاستفزازية التي دأب على اثارتها.
وبمجرد أن شرع لويس عوض في نشر مقالاته عام 1964 في الأعداد التي تصدر يوم الجمعة، من برياة الأهرام في القاهرة،حتى نهض محمود محمد شاكر عام 1964 للرد عليها في مجلة "الرسالة" التي عاودت الصدور مرة ثانية في القاهرة.
ويبدر أن خلفية السياق يمكن أن تفسر لنا المعركة، وتنه عليها أضواء جريدة، بأكثر مما يفكر أن تتحدث به تفاصيل الخلاف الدائر، أو تنم عنه. فمحمود محمد شاكر رحب بثورة الجيش التي تملث في الانقلاب العسكري الذي رقع يوم 13/7/1952م لأنها خلصت البلاد من حكم أجنبي فاسد، تجسد في عائلة محمد عثر الألبانية الأصل التي سطت على حكم مصر عام 1805م، وتوارثته من بعد، راجدة أزرها في عائلات وشخصيات أجنبية مثلها وافدة عثر مصر، ورافسة نفسها والبلد كلها في فأمة المصالح الاستعمارية، والاستعمار الانجيزي خاصة، وايد محمود محمد شاكر علمية الإصلاح الزراعي، ودعاة توزيع بعض الأراضى بحيث ينتفع منها من لا ارض لهم من فقراء المزارعين لأن من امتلكوا الأراضي كان معظمهم من عائلة محمد علي والمنتفعين منها، استولوا على أراضي الناس المستضعفين والدولة والأوقاف في ظلما وعنوة دون وجه حق، لم يحصلوا عليها عن طريق الشراء الحلال، ولم يرثوها عن أهلهم. ولكن عندما زجت السلطة العسكرية بطائفة من المواطنين في السجون، وبلغه خبر تعذيبهم واساءة معاملتهم، لم يمنعه خلافه الفكري مع اولئك القوم من الاحتجاج على تعذيبهم وإساءة معاملتهم، مما أدى الى اعتقاله وايداعه السجن مدة تسعة اشهر عام 1959م، ولسبب ما منذ عام 1959م أو أول 1953م، احتجب قلم محمود شاكر وامتنع عن الكتابة في الصحف والمجلات، واكتفى بنشر كتب محققة مثل تفسير الطبري، او شعره مثل قصيدته "الترس العذراء". وربما اقترن احتجاب قلمه بتوقف مجلة الرسالة عن الصدور، فلما عادت الى النور، وكتب لويس عوض مقالاته عن الغفران نهض محمود شاكر للرد عيه.
اما لويس عوض، فقد حدثت ثورة يوليو، وهو أستاذ في قسم الشفة الإنجليزية، بجامعة القاهرة، ولكنه سرعان ما فقد وظيفته، وخرج من الجامعة وحيل بينه وبينها الى الأبد، وعاني حياة التوقف عن العمل فترة وهو الاستاذ الجامعي المؤهل، وتحول من بعد الى كاتب محترف، وسيق هو الأخر الى الاعتقال في أواخر الخمسينات، ومكث فيه أمدا، ثم خرج من السجن، ليتولى رئاسة القسم الثقافي في جريدة الأهرام الجريدة الأولى في مصر والعالم العربي يومئذ، ويرأس تحريرها محمد حسنين هيكل، ذو الصلة الوثيقة برئيس الجمهورية واوامر الحكم،حتى بدت الاهرام في مقام المعبرة عن الدولة الناطقة باسم اكبر جهة مهيمنة عليها، فللأهرام سلطة إعلامية ونفوذ ادبي، مستمد من وجودها ني القطاع العام، وتاريخها العريق وامكاناتها التقنية واستقطابها لكتاب متميزين، ولكن قبر كل ذلك، لمكانة رئيس تحريرها من رئيس الجمهورية، فهو الصحفي الذي لا يدانيه صحفي أخر في صلته الشخصية، ومشاركته في اتخاذ القرار السياسي وحظوته عند الرئيس عبدالناصر. ولهذا ظفر د. لويس عوض بمكانة مؤثرة، او بالأحرى، بسلطة ثقافية، من جراء رئاسته للقسم الثقافي في جريدة الأهرام، تستمد وجودها من سلطة الأهرام ومكانة رئيس تحريرها، بمعنى. ان جريدة الأهرام هي سلطة ثورة يوليو ورئيس الجمهورية جمال عبدالناصر في مجال الصحافة عام 1964، وفي خارطة هذه السلطة يتفرد لويس عوض برقعة خاصة به في النسيج، وفي ضوء هذا التخريج نفهم ما كتب د. الطاهر أحمد مكي:
"كان الدكتور لويس عوض في. مصر يوجه الحياة الثقافية، وهي تخضع للأحكام العرفية، وكل وسائل الأعلام، فضلا عن انها مؤممة، تحت الرقابة العنيفة الصارمة، يصنع ذلك من خلال موقعين هامين وخطيرين. اولهما: كمستشار ثقافي لصحيفة الاهرام، ايام الأستاذ محمد حسنين هيكل، وكانت الأهرام وقتها مركز قوة، في كافة المجالات، والصحيفة الأول في العالم العربي درن استئناء. والموقع الثاني، كشخص مقرب جدا من الدكتور ثروت عكاشة، صديقا أو مستشارا او كليهما، وكان الدكتور ثروت عكاشة يهيمن على كل جواب الثقافة في مصر بوصفه وزيرا لها، وللمكانة التي كان يتمتع بها لقربه من الرئيس جمال عبدالناصر، وراغبا بصدق. في بث الحياة الثقافية الجادة، وتجديد واقع مصر الحضاري، وصنع من اجل ذلك الكثير دون شك.
ولهذا حين أقدم محمود محمد شاكر على التصدي للويس عوض، كان يعرف حقا سلطة لويس عوض في المجال الثقافي، ومكانته في جريدة الاهرام، ومكانة جريدة الاهرام، وموقع رئيس تحريرها من معمار السلطة، والنفوذ السياسي وهيبة الحكم، بل نميل الى أنه اراد مواجهة السلطة في أعلى قمة لها، من خلال مواجهته لحلقة ثقافية، تمثل وجها من وجود الحكم، وكان في اثناء المعركة، يوجه سلاحه مباشرة الى الاهرام،حين يثير اليها بالاسم، ويأخذ عليها ما يروج له لويس عوض من افكار، ويحملها
المسؤولية التاريخية.
اذا استبعدها هذا التخريج فان السلطة نفسها اقامت على اغلاق مجلة الرسالة وايقافها عن الصدور الى الابد، بمعنى قتلها الى الآبد، تتويجا لحملة لويس عوض عليها، ثم صادرت كتاب "أباطيل واسمار" الذي ضمنه محمود محمد شاكر مقالاته في "الرسالة" التي تصدى فيها للويس عوض اولا وأساسا، ولمن دافعوا عنه، ولتيار الثقافي الذي يمثله، ثم انتمت المسالة باعتقال محمود محمد شاكر، في 30/8/1965م ولبث فيه حتى 30/12/1967 م، عندما شفع له محمد أحمد محجوب رئيس وزرا. السودان، لعرفانه بمكانة محمود شاكر واسماعه الثقافي، عند الرئيس عبدالناصر فاطلق سراحه.
وربما يعزو بعض المطلعين أمر السجن الطويل الى ملابسات قضية
الأخوان المسلمين، ومكتبة العروبة التي نشرت كتاب سيد قطب "معالم في الطريق"، ومحمود شاكر شريك فيها، وقد صودر الكتاب، ورضعت المكتبة التي هي دار النشر تحت الحراسة. ولكن تاريخ محمود محمد شاكر يثبت خصومته لسيد قطب في الأتجاه الأدبي منذ المعركة شتي دارت عامي 1937 – 1938م حول الرافعي والعقاد وفي مرحلته الإسلامية، عندما تصدق عام 1952م، في مجلة "المسلون" لبعض الآراء التي أبداها سيد قصب في كتابه "العدالة الإجتماعية في الاسلام" حيث ومع بعض النقد إلى
بعض الصحابه الكرام،وسيؤدي نقد شاكر هذا إلى حذف ذلك النقد من الطبعات التالية للكتاب" فضلا عن موقف محمود شاكر المستقل من حركة الاخوان المسلمين في مصر، فقد انتقد علنا إقدام بعضهم على اغتيال خصرمتهم أو محاولة قتلهم، وعاب عليهم خصومتهم لثورة يوليو في أول أيامها.
وكل هذا الاسباب مجتمعة، تثبت للقاضي والداني. أن لا علاقة لمحمود محمد شاكر بحركة الإخوان ولا ما نسب اليها، وتشهد بذلك براءته من المثول أمام المحاكم العسكرية التي طالت كل من عرته شابة من شبهة، حقيقية أو متوهمة.
وعندئذ لا يكون بين أيدينا إلا ما يكمل السياق في نهاية طرفه، من أن السلطة فهمت الخطاب، في المعركة مواجهة لها وتحديا لنفوذها، ومحمود محمد شاكر نفسه ينبه دائما الى ان الثقافة هي ممارسة للسياسة في أعلى
أوضاعها، وأن السياسة هي ممارسة لموقف ثقافي على نحو ويكمل هذا الموقف أنه بينما يتبه شاكر في السجن، تندم دار الهلال التي تمتلكها الدولة بعد تأميمنا، عن طبع مقالات لويس عوض في كتاب في سلسلة كتاب الهلال صدر عام 1966.
أما قضية الأثر المسيحي الهيليني في رسالة الغفران وأبي العلاء المعري، فمن الممكن أن ينهض باحث بذلك، ويثبت في بحث تام الأدوات، وصول الأثر إلى المعري، ران يسوق الأدلة على ذلك من رسالة الغفران ومؤلفات المعري، ولا يكون أمام شاكر إلا قبول ذلك الرأي إذا اقتنى به. أو التسليم بحق كاتبه في التعبير عنه، ما دام ملتزما بأصول البحث العلمي.
وهكذا يمكن للسياق أن يطلعنا على تبدر القضية عند الدارسين الحرب والأوروبيين هن جهة، وإلى ملابسات ما أثاره لويس عوض، والى الموقف السياسي الكامن وراء المعركة، فإن محمود محمد شاكر نازل السلطة في شخص لويس عوض، واعتبرت السلطة ذلك هجمة "رجعية" وردة معادية للتقدم والتقدمية.
احمد محمد البدوي(أكاديمي من السودان يقيم في لندن)