مصطفى مَلَح
شاعر مغربي
سَيّاراتُ الإِسْعافِ بِذاكِرَتي..
أَتَخَيَّلُ سَبْعَ جَنازاتٍ:
قَصَبُ النّايِ المَثْقوبُ بِأَنْفاسٍ لِرُعاةٍ،
سِرْبُ سَماواتٍ يَسّاقَطُ في عَقْلي،
عَجَلاتٌ تَبْلَعُ ظِلاًّ،
هاوِيَةٌ تَتَحَرَّشُ يَوْمِيًّا بِشُعاعٍ،
غُصْنٌ يَصْدِمُ إِحْساسَ العُصْفورِ،
زَبانِيَةٌ يَرْمونَ الحُزْنَ بِتابوتي..
سَيّارَةُ نَقْلِ المَوْتى..
تَأْكُلُني!
الوَرْدَةُ أَخْطَأَتِ التَّعْبيرَ،
لِذاكَ أَصابَتْ جُنْدِيًّا في بارِجَةٍ..
والطَّلْقَةُ أَخْطَأَتِ التَّصْويبَ،
فَحَطَّتْ مِثْلَ النَّحْلَةِ في يَدِ عاشِقَةٍ!
في اللَيْلِ تَطيرُ النَّمْلَةُ فَوْقَ الرّيحِ،
وتَقْتَحِمُ العُصْفورَةُ جُحْرًا تَحْتَ الأَرْضِ!
تُرى،
هَلْ أَخْطَأَ صيّادُ السَّمَكِ الأَعْمى،
حينَ اصْطادَتْ يَدُهُ مَوْجًا؟
أَمْ أَنَّ المَوْجَةَ عَنْ قَصْدٍ عَلِقَتْ بِالخَيْطِ،
لأَجْلِ العَيْشِ بِيابِسَةٍ لا يَغْرَقُ فيها الماءْ؟!
القُبْلَةُ تُخْطِئُ ثَغْرَ الزَّوْجَةِ،
فيما ثَغْرُ الجارَةِ بِالمِرْصادِ لَها!
ويَموتُ الزَّوْجُ بِحادِثِ سَيْرٍ،
إِثْرَ صِدامِ العُمْرِ،
بِمُرْتَفَعٍ في التَّلِّ،
فَتَبْكي الزَّوْجَةُ عِنْدَ خُروجِ الرّوحِ،
وتَأْبى الجارَةُ إلاّ عَوْدَةَ تِلْكَ الرّوحِ،
لِتُصْبِحَ ذاكِرَةً في غُرْفَتِها!
تَبْكي امْرَأَتانِ حِدادًا..
أَرْمَلَةٌ في الدّاخِلِ،
وامْرَأَةٌ في الخارِجِ،
تَفْتَرِشانِ صَليبَ الحُزْنِ وتَنْتَظِرانِ رُجوعَ النَّهرِ!
المَرْأَةُ يَلْزَمُها رَجُلٌ مِنْ ثَلْجٍ،
تُنْشِئُهُ بِيَدَيْها الماكِرَتَيْنِ كَما شاءَتْ:
طَوْرًا صَنَمًا مِنْ ماسٍ في مَمْشى الصّالونِ،
وطَوْرًا تَحْجِزُهُ بَيْنَ الموناليزا والمِشْجَبِ..
لَيْسَ سِوى رَجُلٍ مِنْ ثَلْجٍ،
يَعْجِزُ عَنْ إِبْصارِ الشَّمْسِ،
لِهذا لا تَحْتاجُ إلى بَشَرِيٍّ مِثْلي،
اعْتادَ على تَكْسيرِ القُفْلِ،
وإِرْباكِ الأَقْفاصِ،
وحُبِّ الرّيحِ!
أَيُمْكِنُ لِلْوَعْيِ المَكْسورِ،
تَخَطّي سورِ الوَهْمِ،
وجَمْعُ شَظايا مِنْ قَلَقٍ عَلِقَتْ بِجَوانِبِهِ؟
هَلْ يُمْكِنُ أَنْ أَتَخَطّى إِدْراكي؟
مَثَلًا: أَنْمو في حَقْلِ فَراغٍ،
أَلْمَسُ قَلْبَ مَلائِكَةٍ،
أَتَخَلّى عَنْ جَسَدي وأُبَدِّلُهُ بِجَناحِ عُقابٍ،
أَسْبَحُ داخِلَ يابِسَةٍ،
أَبْني جَسَدًا فَوْقَ الأَشْجارِ،
وآمُرُ آخِرَ روحٍ كَيْ تَتَسَلَّقَهُ مِنْ أَخْمَصِهِ حَتّى أَعْلاهُ..
أَرى في القِمَّةِ روحًا تَلْبِسُ أَغْصانًا؛
روحًا تَتَخَلَّصُ مِنْ جَسَدٍ هَرِمٍ لا يَصْلُحُ للتَّجْديفِ..
أَيُمْكِنُني تَقْشيرُ الوَعْيِ،
وسَكْبُ الفَجْرِ الذّائِبِ في يَدِهِ؟
لا بُدَّ مِنَ التَّخْمينِ،
فَقَدْ تَعْلو الأَشْجارُ،
ولَيْسَ بِإِمْكانِ الجَسَدِ المَكْسورِ تَسَلُّقُها،
في تِلْكَ الحالَةِ تَحْتاجُ اليَدُ طينًا آخَرَ،
كَيْ يُبْنى جَسَدٌ حُرٌّ وسَليمٌ،
حَتّى يَرْتَقِيَ الأَشْجارَ فَتَسْكُنُهُ الرّوحُ!