إذا كانت طفرة الصوت الإبداعي الأنثوي في اليمن من منتصف تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم توجب تراكماً كمياً يمكن للقارئ المتابع أو الناقد أن يلمس فيه نصوص الخبرات الحياتية.. تلك التي تكاد تضيع في زحام نصوص البوح والشكوى، ونصوص التمرد الاجتماعي ذات المنحى الحقوقي، ونصوص الجسد الممتلئة بالشهيق المجاني الفج.. ناهيك عن نصوص المحاولات البائسة .. فإن إجراءاً كهذا لن يتم مقطوعاً عن الواقع المنتج لتلك النصوص.. لذلك فإني لست هنا بصدد تعييب تلك النصوص بكل مسمياتها وتوصيفاتها فهي نتاج ظروفها.. ومحكومة بالسياق التاريخي والاجتماعي والثقافي لمبدعاتها.. فقد كانت رحلة المبدعات عبر ما يزيد عن عقدين من الزمان معركة ليست بالهينة مع عقلية اجتماعية متسلطة تسحق الوجود الآدمي للمرأة ، ولا تترك في روحها نافذة للأنين، فضلاً عن الإبداع..
ربما كانت تجربة الشاعرة سوسن العريقي نموذجاً مميزاً لمحاولة تبين الانتقالات التي وسمت جزءاً من مشهد الكتابة النسائية في اليمن.. فرغم أن مجموعاتها الأولى (مربع الألم) الصادرة سنة 2004م، كانت من مجموعات شعرية قليلة في المشهد الشعري اليمني بكل ممثليه (الشعراء والشاعرات) تمثل بداية ناضجة وقوية الإعلان عن نفسهالإفادتها من تجارب من سبقنها أو لتخلصها بحكمة من قصائد التأتأة اللغوية والفنية.. وتأتأة الوعي أيضاً.. إلا أنها لم تخل من آثار البوح والشكوى التي تتماهى مع سائد النضال الإبداعي الأنثوي ضد القهر الذكوري والاجتماعي بشكل عام:
نعيش في الظل
نرتضي العيش في الهامش
ولا نريد أن نصدق
أننا
في الحقيقة أموات
أما في مجموعتها الثانية (أكثر من اللازم) التي صدرت سنة 2007م فإنها تضيف قدراً كبيراً من التأمل لجدلية العلاقة بين المرأة والرجل في ظل شروط اجتماعية و ثقافيةمجحفة تميل دائما لصالح هذا الأخير الذي سيبدو مخاتلاً أنانياً ومتسلطاً في معظم الأوقات :
أدخل في كينونة الحلم الممتد
براكين ضوئية في دهاليزك
لكني أتعثر بأزمنتك الظامئة
إلى إعادة صياغتي على مقاسك
لكن تجربة سوسن العريقي تبدو أكثر نضجاً في مجموعتها الثالثة «ماذا لو تحول دمي على شوكولاته» 2011محيث تلتصق النصوص بمصادر الوجع الإنساني.. وتولف مشاهده.. عبر جمل فيها قدر كبير من الوضوح ..وضوح الثقة لا الصراخ.. لذلك فالنبرة ليست احتجاجية بمقدار ما هي حجاجية تتلامح فيها الندية الممزوجة بشيء من التهكم:
ما زلت تتسلى
برمي الحصى
في بحاري
لالشيء
إلاّ
لتستمتع برد الفعل
كونه في كل مرة
يختلف تماماً
عن توقعاتك
نص تجدد ص16.
مع هذا فالنصوص ليست ضدية.. الآخر فيها ليس هو الجحيم.. كما أن الذات ليست مثالية ولا جنّة..
النصوص هنا تحاول مقاربة الحياة بوصفها غير نموذجية أصلاً.. بسبب طبيعتها أو طبائعها الأزلية وبسبب طبائعنا نحن وعاداتنا وطرق عيشنا، وزوايا رؤيتنا وثقافتنا.. ولكن ذلك لا يجب أن يكون محابس لوجودنا وقدراتنا على اقتناص لحظات الحياة الدافئة حتى ونحن على يقين من أن كل اكتمال يؤدي إلى النهاية:
الشوق يتوهج لينطفئ
الموجة تكتمل لتتلاشى
الحلم يتحقق ليموت
وهاهي مشاعري تكتمل
فهل أنت جاهز للفراق
نص اكتمال ص15
معظم نصوص المجموعة تضعنا أمام علاقة شد وجذب أو شد وإرخاء بين الذات والآخر.. تصور ما نعبر به في علاقاتنا من تقابلات في الرغبات والدوافع حيث تتولد من تلك التقابلات إرباكات لا نهاية لها… بعضها يعيدنا إلى البداية الأزلية في أسطورة مبدأ الجنس البشري آدم وحواء فحوى المعادلة: يجري الرجل خلف المرأة حتى يمتلكها أو بالأحرى يمتلك قلبها.. وحين يتحقق له ذلك يبدأ بالبحث عن امرأة أخرى أو نساء أخريات ليبدأ في عين الوقت لهاث المرأة خلفه
تسلية
شغلت وقتك بي
………………….
شغلت.. وقت فراغك بي
وحين امتلأت بك
بحثت عن امتلاء آخر
وهويت أنا في الفراغ
نص تسلية ص18
أليست هي الثيمة نفسها التي انبنت عليها مسرحية بجماليون كما تصورها توفيق الحكيم… وكما توحي بها مزدوجة أرسطو ؟
تكرار مشاهد التقابل في نصوص أخرى مثل (مشهد ص 23) ،(غربة ص 27) ، (الركن البعيد ص 23) ، (أظافر ص 44) ، (برمجة ص 48) ، (غروب ص 49).. ينبهنا إلى مقدار تشظي العلاقة بين الذات الآخر في دلالات تشرحهالنا مشاهد متعددة يتوازى في تقديمها فعل التقابل بين ذاتين بأفعال وجمل التقابل اللغوي… ما ساعد على جعل النصوص مرايا لحالات إنسانية تتبدل أفعالها النفسية باستمرار:
بكامل فرحي
سآتيك
وبكامل قسوتك
ستبادر
بإيقاظ حزني
من
سباته
(أظافر ص 44)
كذلك في نصوص (كثافة ص44 ) ، ( برمجة ص48) ، (غروب ص49) ، (أحادية ص50) و (غطاء ص51 ) ترتكز المفارقة على ضدية المشاعر والطباع والعادات والأفعال في العلاقة مع الآخر الذي يترمد في الوجدان نتيجة الإطمئنان لوجوده والتشبع بأنفاسه بمقدار ما يتألق حضوره في زحمة الشوق إليه غائباً تتمناه الحواس كلها.. كما هو الآخر الدي نراه روحاً ويرانا مجرد جسد ، ونضيء له فيظلم لنا .. ونتجلى له في مرايا جمال متعددة فيما هو ينمطنا وفق تصوراته الخاصة :
تشرق من عيني وردة
تغني في قلبي نجمة
ما زالت في أعماقي شجرة
………………..
………………….
لكنك لا تراني
إلا بعين نفسك
أحادية ص 50
****
على طول وعرض نصوص المجموعة كان الكثير من الأشياء اللزيمة لحياتنا المهملة في تفكيرنا وكتاباتنا حاضرة بقوة تجعلها بالغة الدلالة على ما يندس بين جوانحنا.. تضيء الداخل لكنها تساعد على إبعاد النصوص عن لغة التهويم أو الانفعالات الحادة.. يتبدى ذلك مثلاً في استنطاق اللحظات المكرورة والعابرة التي نمر بها أو تمر بنا دون تفكير لأنها في الغالب لحظات غرائزية تتخلق في غرائزنا أو نتطبع بها تكويناً وخلفيات ثقافية:
ها أنت تستعد
لرسم
ابتسامة
مكوية
فالمصعد ينفتح
على وجوه
لم تألفها من قبل
(مجايلة ص 22)
وفي هذا السياق ترسم بعض النصوص ما يشبه السيرة للكائن مع تفاصيل الحياة الصغيرة التي تنمنم وجودنا في عيشنا المشترك مع من نحب أو مع من نساكن أو مع الناس من حولنا، ومع الأفكار والأشياء وخلجات النفس:
تنفتح لي
آذان كثيرة
في الجدران
………………………
حين لا تسمعني
حين لا تنتبه لما أقول
حين ترد بـ: نعم
والإجابة
لا تستدعي الموافقة
(بدائل ص 25)
وهو متصل أيضاً بقدرة الشاعرة على تجسيد الأفكار من خلال إيحاءات متراكبة تتألف مشاهدها فنياً من استعمال تقنية المفارقة ورؤيوياً من تسخير حواس الجسد المختلفة لتصوير التجربة الحياتية المعبر عنها.. وذلك يمنح النصوص تأثيراً جاذباً، ويفسح أمام المتلقي استبصاراً أكثر اتساعاً وعمقاً لمعضلة وجوده..
من جهة أخرى ثمة استفادة مميزة من اتصال الشاعرة بعالم التصوير السينمائي لمضاعفة الإيحاء المشهدي للصورة.. وذلك يتأكد حتى في العنوان كما في نص (زووم) ص 36:
نكبر
في ظل الشمعة
وتبقى الشمعة
صغيرة
نتعانق
في ظل الشمعة
وتبقى الشمعة وحيدة
تتمرى النصوص في مجموعة من الخسارات التي لا نتعامل معها كمآس.. بل نقبل في الغالب بها.. ونتعايش معها وعلى رأس تلك الخسارات ما نجربه باستمرار مع الأمكنة حين تفقد قدرتها على إدهاشنا في استعادة أحاسيسنا الأولى بها مهما استعنا بحواثّ الروح أو محرضات التذكر ولوازمه.. فلا شيء يستطيع مباغتة الاعتياد.. ولا حيلة تكسر الرتابة والتكرار الممل بعد فقد عيوننا لالتماعات الدهشة:
أكرر المحاولة
المكان هو المكان
الشاي يشربنا باعتياد
لم نألفه
أستعير الإحساس القديم
أجلس على نفس الطاولة
لكن الدهشة الأولى
انسحبت بهدوء
(اعتياد ص 40)
كذلك ما نجربه في علاقتنا مع الآخر الذي طالمنا حلمنا به… إشتقنا إليه.. وتقنا لاكتشاف عوالمه.. والتعرف على أعماقه، لكن اتحادنا به أو اقترابنا منه بمقدار ما يوصلنا إلى المعرفة به.. يقتل حرارة شغفنا به.. إذ لا يبقى فيه ما يدهشنا.. بل يتخلق من اكتشافه رتابة الألفة.. وبرودة الاعتياد فيما نحن ندأب مفتشين عما يثير الحماس:
يورق وجهك
سطراً
سطراً
فأظل
أبحث
فيه
عن هامش(رتابة ص 42)
تبقى الإشارة إلى أن تناول مثل هذه التجربة في عجالة – كما فعلت – لا تعدو أن تكون مجرد دعوة للقارئ إلى الاقتراب ، وإلا فعوالم الشاعرة في هذه المجموعة كما في مجموعتيها السابقتين أكثر رحابة وامتلاءاً واستعداداً بأكثر من مقترح للاقتراب والمقاربة .
علوان الجيلاني\
\ شاعر وكاتب من اليمن