شاعر وناقد من المغرب.
للشاعرة نمط كتابي مسكون بوجع الكتابة ووحشة المكان، وفتنة التوغل في أرخبيلات الحلم بقصيدة دافئة تخترق أسوار الحياة وتمضي طويلاً في سراديب النفس الملتحفة بشغف الكلمات الحارقة تتحسس صمتها وحزنها في شغب الكتابة الشعرية، وتعلن زواجها الجنوني المقدس بالفوضى، الفوضى المعقلنة التي ترمي بك لنهر اللغة، النهر الذي يغسل غربة الشاعرة واغترابها، وأحزانها وعزلتها، وأشجانها وآمالها. تقول الشاعرة في القصيدة رقم 21:
كل ما كان لي
تركته على الحبال
القمصان
وتلك الجثث المزرقة
كأظافري
كسماء في العقد
تمطر الغابة
بضحك حامض وخذلان
كل ما حلمت به
خذلني
وكأن قدمي الصغيرتين
مخلوقتان للانزلاق.
من خلال هذا المقطع الشعري نلمس شعرية الفضح والبوح من خلال فضاءات اللغة المشاكسة، فضح عنيف لذات تتستر وراء الكلمة هربًا من تصدع الذاكرة، بهذا نلمس هذه الغنائية الجميلة الحزينة التي تؤرخ بصمت لذاكرة تعشق السفر في أرخبيلات قصيدة حبلى بالاحتراق والنبوءة والوجع، تعري صداقة مصنوعة من الورق فقط تدنس جماليات هذا العالم الهارب من بشاعة الإنسان. تقول في القصيدة رقم 32:
الباب المعدني الأخضر
ذو القضبان العديدة والحارس الأوحد
الذي كنا ندخله في الصباح ركضًا
والحقائب الصغيرة تقفز على ظهورنا
مثل ضفادع تبعتنا من النهر البعيد
الباب- عتبة الجنة في الخروج مغلق على طفولتنا
يدي تحثني على ملامسة حديد مبتل
لا أجرؤ.
تعانق بوحها الطفولي الحزين المندس في ثنايا الأسفار والذكريات، في تضاعيف مدن النفس وحدائق الطفولة المشرعة على أزمنة التمدرس وأمكنة المدرسة الهاربة من رحم الزمن الراسخة في أقبية الذاكرة. تتأبط بصمت جرحها البهيج لتعانق شغب الحرف المشتعل وتضمن لذاكرتها المبتلة بالشوق ألق الوجود وفتنة القصيدة الحبلى بالشوق والوحدة والانخطاف، لهذا فالشاعرة تشبه غربتها الموحشة وقصيدتها المتوحشة فقط، إنها هجرة الجنون المفتون ببهجة الشعر، وطقوسه النائمة في غابات الكون. تقول في القصيدة رقم 35:
أرجح الاحتمالات الطيبة لكل السوء الذي حدث
المحبة خدعة
والحنان مشبوه
لكنني- رغم حدة الألم- سأستمر في تصديق ما لا أراه.
إن ممارسة الوهم على الذات بـ(تصديق ما لا تراه) كفعل احتمائي يهدف إلى امتصاص الفراغ والفقدان والخواء الذي تعيشه الذات المبدعة التواقة لكتابة نبض سرها وهشاشتها. تفضح أسرار الذاتي بقلمها وتكتب بحبر شجنها ألمها. بين القلم والألم تبقى الذات الشاعرة معرضة للتخريب المتوالي والنسف المستمر، ففي تخريب صمت العالم بالكلمات تصبح القصيدة شاهدة عيان على جرح الذاكرة، وهذا النسف لفضاء الجسد عبر مسالك اللغة ومحراب الصورة الشعرية، هو الذي يجعل الكلمة تحبل بجنين/قصيدة يولد قبل أوانه ليصرخ في وجه العالم والحياة، دعونا نجمل قبح هذا العالم بالكلمات الشفافة، الصادقة التي تسعد الكائن البشري وتدخل السرور إلى قلبه وروحه. تقول في حسرة وحزن في القصيدة رقم 27:
ليست هذه مدينتي، أعلم
الخواء ضيق
ما من رفاق في هذا البلد البعيد يوسعون الروح والأمكنة
أكثر وحدة من جثة لم تألف عتمتها بعد
الذين أخمدوا صرختي بتراب
عادوا على منازلهم
في انتظاره
سرير وامرأة
أدخن الفقد
رئتين متفحمتين
تنتفضان بسعالك
كي أضع غيما يؤنس ظلي
وأجعل من السقف سماء صغيرة.
الإحساس بالاغتراب على مستوى المكان والعالم الجواني للذات الشاعرة يفجر اللغة في بستان القلب، ويعيد للذاكرة بهاء الإشراق، والشاعرة تشتهي السكن في قلعة الكلمات وتضاعيف الروح الدافئة. الاحتماء في محراب القصيدة من قسوة الزمن المندس في تضاريس الذات المبدعة، القلقة، المتأزمة بالوحدة والخواء والفراغ، والقصيدة في مجموعة «شمس مؤقتة» احتفال عنيف بدهشة البياض وأنين النفس في أسفارها نحو البحث المستمر عن مدائن للحلم والطفولة والأشجان والأحزان عبر الارتماء الفاتن في أحضان اللغة المتشحة بالحنين وهروب الذكريات.
وسوزان عليوان شاعرة مفتونة بالحياة، مسكونة بالرحيل المفاجئ في أرخبيلات القصيدة المدججة ببراءة الطفولة والحلم والانعتاق، إذ إن الذات المبدعة تجد في ثنايا الكلمات المشتعلة بوحًا واعترافًا، قوة الانجذاب نحو عالم داخلي متأزم وحزين، تصبح الكتابة الشعرية في قصائدها حربًا ضد النسيان والصمت و انفلات الذكريات، رهان على اقتناص الكلمات الهاربة من عمر الإنسان ولحظاته الهادئة والمتوترة والقلقة، مشاغبة، حزينة ترسم على مسرح الزمن تصدعات البوح وشساعة الأبجدية. تقول بحنين فاتن:
لم نكن نشعر بخشونة البرد
أو بالخفافيش العالقة بصوف معاطفنا
كنا نسير
كالتماثيل
مقنعين بأحجار من كهوفهم
كارثة لا تعني أحدًا سوانا
حملنا الصناديق
ومشينا نحلم
بخشب التوابيت يخضر
يعود أشجارا نتسلقها
إن الاعتماد على الذاكرة الاسترجاعية لزمن هارب من تجاويف الحياة، ومحاولة القبض على طفولة نائمة في أحضان الروح، يجعل الذات الشاعرة تستلذ براءة الفترة وأحلامها الغجرية المندسة في شقوق الكون، وبهذا ينفتح النص الشعري عندها على شروخ الذات وانكساراتها في احتراقها الحميم مع تجليات المجال الإدراكي بكل تشعباته وانخطافاته، بهذا تصبح القصيدة راهبة تبحث عن أفق فسيح لتمارس غوايتها وعشقها وفسحتها المطلة من شرفات الشجن على جزر الألم والذكرى والحلم (بخشب التوابيت يخضر) حلم استعادي مشرع على بهاء اللحظة المشتهاة في زمن سيطر عليه الزحف الإسمنتي وتكلس علاقات الإنسان بمحيطه، والكتابة بمختلف أجناسها ضرورية للمصالحة مع الذات وعري التصدعات. هكذا تقول ببوح عنيف:
لن نألف الضغينة التي تجمعنا
وأقدامنا المثبتة في دائرة
لن تطأ هذه العتمة ثانية
ربما، بعد أيام قليلة
نعود بلا لشمس إلى المقهى
بلا عصافير على الحواف.
من حدائق القصيدة وبساتين الشعر تعلن الشاعرة رحلتها المقدسة في تضاعيف الذات وتعاريج النفس، تؤثث مشهد الحزن بأغنية الكلمات الحارقة، لأن التجربة الحياتية هي التي تغذي التجربة الشعرية وتغنيها بأبعاد ودلالات ورؤى كثيفة ومكثفة، والعودة إلى المقهى كرمز للصداقة ودفء الأحبة ونشيد العلاقات (بلا شمس) هي عودة إلى الظلمة البدائية وغياب قسري للنور والحياة، إذ إن الظلمة هي الموت والتلاشي والضياع في أقبية هذا الكون الفسيح، وإن المزج بين السريالية السحرية (بلا عصافير على الحواف) والتوتر الانفعالي الداخلي هو ما يدفع الشاعرة للغوص في عالمها الباطني لاقتناص لحظات الاشتعال والتوهج الذي تعرفها الذاكرة لحظة ميلاد القصيدة. تقول الشاعرة المفتونة دائمًا باللون الأزرق لون البحر والطفولة والصفاء والارتياح النفسي:
ليس الأزرق لونًا أو سماء أو بحرًا
الأزرق لوحة طفولتي
الأزرق عصفور بلا شجرة.
أسماك في العينين، في الرئتين، في العروق.
والشاعرة متأثرة بالرسام الفرنسي مارك شاغال (1887-1985) الذي ملأ لوحاته بخيال حكايات بلاده وألوانها، أعطى الأزرق فسحة ضوئية لعالمه التشكيلي والإبداعي، هذا الافتتان باللون الأزرق كان تكريسًا وامتدادًا لأمكنة عاشت فيهما الشاعرة (لبنان، ماربيا، قبرص، مصر…) بهذا سيظل متنها الشعري تؤثثه بكلمات مشاغبة يخلق بذاكرة المتلقي فوضى معقلنة تشعل في الذات نار القصيدة التي تحرق الجسد برقصات اللغة وتراتيل الحروف.
ستبقى مجموعة «شمس مؤقتة» للشاعرة اللبنانية سوزان عليوان مشرعة على قصائد مشاكسة تسافر في أرخبيلات الكون بتجلياته الكثيرة والمتنوعة، تحتفل بالحياة بتناقضاتها وأشيائها الصغيرة والحميمة، لحظة الكتابة يعتريها جنون فاتن يرحل بها إلى ملكوت الكلمات، ووطن الدهشة تبحث في قصيدتها عن سلاح يحارب عزلة الذات وانمحاء الذاكرة، من خلاص الروح في عنف الكتابة ورعشة الوجع الجميل.
رأيت قصيدتي تغادرني
(كالمكان
كمربعات الإسمنت والمقاعد)
روحًا تحلق فوق الجثة
ثم تتجه نحو النفق.
من أقاصي الفتنة الشعر إلى عرس متخيل المعنى الذي يمتد من سواحل الوجع في أصقاع الذات إلى حدود الشجن النائم فوق أبراج الذاكرة، ومغادرة القصيدة/قلعة الفضح والبوح، للجسد/خزان الذكريات والطفولة والخرابات، مغادرة وقتية وليست مستمرة لأن روح الشاعرة تقتات من نبض القصيدة، والشعر هو الرئة التي تتنفس من خلالها هواء النقاء والصفاء والسمو نحو عالم بهي وقصي، إنها كتابة حبلى بالانتظار والاغتراب. تستجيب لنداء الداخل، هذا الداخل المتصدع المحفور بوجع الكتابة، المتوتر باستمرار، و المسكون بحميمة السؤال عن ماهية الحياة وأبجديات الموت في أسفارها الرهيبة إلى مدائن الجسد المتشبث بنشيد الحياة. تقول:
هكذا أعود
في ساعة متأخرة من التعب
لعل الجمر الذي في الأعضاء
يستحيل رمادًا
أخرج عن سياق الكؤوس والأصدقاء
أغادر الضحك مكانًا لا يتسع لانسكابي
أتبع الوقت الذي مر كغريب
تحت النافذة
لم يعد في القسوة ما يدهش
يدي اعتادت سقوط خواتمها
وأشباح المحبة خارجة من المناديل
حين ألوح.
كيف يمكن سبر أغوار هذا النص الشعري المسكون بفتنة التجسس على نبض القلب وأحلام الذاكرة الشغوفة بامتلاك لحظات الزمن الهارب والمنفلت، لغة حميمة، دافئة، مشاكسة، متمردة تستطيع حذف الحزن من أرشيف العمر وتعيد للقلب وردته المسروقة زمن الطفولة.