رحمة المغيزوي
كاتبة عمانية
شهر صفر من عام بعيد
مغارة عائشة
(1)
ما يجب أن تعرفه جيدا أن «ناصر بن أحمد» الذي كان يفترش تراب الساحل الرطب في وقتها، ذكر لي في آخر لقاء بيننا أنهما كانا هيكلين عظميين لا أكثر، وأن قطع الملابس البالية أبانت العظام بلون أبيض مخيف، وأن تجويفي العينين كانا متسعين كثيرا وبهما غربة صارخة، وأن الكبير منهما كان يحنو على الصغير ويمد ساعده لتكون وسادة لرأسه.
تلك الذكرى أعادتها إليّ نساء الحي وهن يتجمعن على شاطئ البحر، لينثرن الحكايات والملابس وبعضا من الحزن والأسى ، وعندما شعرن بظلي قريبا منهن، سكتن، وران عليهن ثقل كذلك الثقل الذي أحسست به في ذلك اليوم، كنت في وقتها قد ركضت من المغارة إلى البيت، و«أمي الهاني» تسارع خطاها خلفي وكأنها تذكرت شيئا قد نسته، وصلت فشرعت الباب على اتساعه، وقفت في وسط الدار، كان هواء البيت ثقيلا والسير فيه مرهقًا، وعند باب غرفة والدي زادت حدة الأمر، ثم دخل «ناصر بن أحمد» عندما تناهى إلى مسمعه صوت «أمي الهاني» الباكي، وبراحة يده غطى عيني عن المنظر الماثل أمامي، غشي علي، ولم يبق شيء في ذاكرتي غير عتمة الظلام والألم في الساقين، وملمس أصابع «ناصر بن أحمد» على وجهي، ثم لا شيء آخر يريح ذاكرتي من التفكير المرهق، أعترف لك أن نفسي تحدثني بوجود فجوة كبيرة وهامة منذ فترة خروجي راكضة في ذلك اليوم من فم المغارة إلى داخل البيت، فلا أجد في داخلي إلا الخواء، فلم أملك أن أعرف نقطة الانطفاء التي حدثت فجأة في ذاكرتي، ذات مرة عدت إلى «أمي الهاني» ووجهت إليها سؤالي المكرر:
-أين أمي؟
خلتها تداري دمعًا في عينيها بعدما ولتني ظهرها.
– ماتت، الله يرحمها.
خرجت من عندي، وقد زاد انحناء ظهرها، أما «ناصر بن أحمد» فطوال تلك السنوات وأنا أنتظره عله يضيء شيئا نسيته أو سقط سهوا في لحظة خاطفة من ذاكرتي. ولكنه ترك حكاياته للموج والبحر والريح مؤمنا أن للزمن هباتٍ يتفضل بها علينا نحن البشر وأن الأمر سيأتي في وقته المناسب، كان دائما يعاملني تلك المعاملة التي كرهتها مع الأيام.
-أنت مثل العصافير الصغيرة، لا تعطى كل شيء مرة واحدة. تقتات على الحبوب فلا تُنثر لها تلك الحبوب دفعة واحدة وإنما على جرعات متتابعة وبكميات صغيرة.
في المرة الأولى عندما حدثني، سألته.
– لماذا لم نَمُت أنا وأنت مع الذين ماتوا في شدة المرض؟!
– إكبري أولا ثم تعالي إلي لأجيبك كما تريدين.
ثم أعطاني ظهره وولى وجهه شطر البحر. كبرتُ ولكن بعيدا عن ناظريه، لم يرَني إلا بعد أن قررتُ الزواج من «مطر»، فأعاد إلي النظرة التي أحببتها فيه كلما دقق النظر إليّ فمرت بي ذكرى ملمس يديه على وجهي. ودفء احتضانه لي.
(2)
يقولون هنا: ضع حكايتك وأسرارك في صندوق شخص غريب وسوف يحملها وينساها وهو مغادر.
وأنا لا أعدك أنني أملك تلك الحكاية المترابطة التي تتوقعها، لكني أعيش متلازمة نسيان كامل لما حدث في بيتنا من جهة، فيما ترافقني ظلال ثلاثة رجال ليس لي نصيب في أي واحد منهم إلا نصيب التعب والنصب، على أن أكثر ما يثير قلقي أنني أعيش فترة انتظار لشيء لا يأتي أبدا كما يفعل الجميع في داخل هذا السور.
لأنك غريب عنا….
قررت أن أقف بمحاذاتك، وقفة الند للند، والغريم للغريم، أن أتحدث إليك دون وجل، فالذكريات والوجوه تختلط على امرأة مثلي تسير وهي تستشعر ثقل الأيام وبرودة الليالي في هذه السنوات من حياتها .
ما يجب أن تعرفه أن الغرباء لا يمتد لهم عرق هنا إلا بمقدار ما تقبلهم الأرض ويباركهم البحر، كل من الأرض والبحر معنا ماكران لا يقبلان إلا من يعصره الماء المالح حتى يسري دما في جسده وينبت له لحم على عظامه من لون ترابنا، وهذا لا يحدث إلا نادرا.
عندما وقفتَ أمام المغارة ورفعتَ قلمك لتكتب شيئا على الدفتر الذي لا يفارق يدك، تبدى وجهك قريبا مني، كدت أن أناديك باسمه ولكن النظرات التي رأيتها في عينيك لم تشبه نظراته، كنت واثقا وتسير باعتداد كبير وامرأة شابة تسير بجانبك، وكان يحمل قلقا مؤلما طوال عمره الذي ربيته فيه ولم تبحث عنه امرأة غيري، ولكني سأخبرك بما اختزنته في داخلي، سأنقل إليك إحساس الشرفاء عندما يدافعون عن أوطانهم فلا يردهم خوف مما قد يحصل، ولا تثبطهم مناظر الموت التي تكون شاخصة أمامهم، وأنا هنا لأدافع عن شيئين لا أملك سواهما بعد هذا العمر، فهذه المغارة وطني الذي عشت فيه خوفي ثم داريتُ فيه من الآلام ما لا تشفى غالبا في أجساد النساء، وذلك البيت بيتي الذي شطرت فيه نفسي شطرين، فضيع أحدهما الآخر، فما عادا يلتقيان إلا في حلكة المغارة ليجادل أحدهما الآخر دون فائدة.
وأنت غريب حقا، ستتبعك غربتك كظل رغم أنك تكلمت مع أغلب أهل القرية وجلستَ في كل مكان من السور، وربما سيغزو رأسك بعض أفكارهم التي انتقلت إليهم في سلسلة ممتدة من ظهور الأجداد، لذا سيعز عليك أن تتكلم مع امرأة مثلي، ثم سيعييك ربما أن تناديها باسمها مجردا.
– عائشة..
فالنساء هنا لا تنادى بأسمائهن مباشرة، وإنما تنادى وهي ملتصقة باسم أب أو زوج أو ابن، وأنا لا أملك كل ذلك، بعدما مات أبي وأنا طفلة فنسيه الناس داخل السور، ثم تزوجتُ رجلًا استنكرت القرية زواجي به، ثم ها أنا دون ولد بعد أن غاب «عبدالله بن مطر» عني قبل أن يلصق بي صفة الأمومة بشكل كامل، ثم كان ذلك الألم الذي يخزّني بصمت مؤلم كلما تذكرتُ أن «ناصر بن أحمد» مات ولن أراه إلا في تلك الكوابيس التي لا تتركني أنام دون أن يخبرني إن كان أحبني أم أني كنت متعلقة به لأنه صديق أبي لا أكثر.
وستعلم عندما يحول الحول وينتهي هذا كله أن الغرباء لا يشاهدون إلا القشور، ولا يملكون ذلك المصباح الذي يضيء دواخلنا، يبقون على العتبات الأولى دون أن يسمح الزمان أو المكان بأن يحتلوا مساحات البوح الضامر فينا.
ستعرف؟! هناك في مكان لا أستطيع تحديده في داخلي يعوي ذئبان، كلما سكت ذئب المغارة وهدأ ناداه الذئب الساكن في بيتنا وأنا أحتمي بأحدهما كلما صاحب العواء بكاء قديم يتجدد كل لحظة وينهش أفكاري بعنف. فأين يمكن أن تحتمي امرأة مثلي من أوهامها وخوفها إذا أزلتَ تلك المغارة أو هدمت البيت في سبيل إعادة بناء سور «سلمان» العتيق؟
انظر إلى من حولك، منذ جئت مر «محرم» سريعا وها هو «صفر» يخطو خطوات الرحيل في هذه السنة، كنت أعرف أنك تراقبني، وأنا أقف غير بعيدة عن جمع الشباب الذين تهيأوا لإشعال النار، رفعت صوتا أردته أن يكون قويا ولم تجرحه سنوات الألم والبعد ولكن تشعله الحاجة والشوق.
– عبدالله، عبدالله.
قبل أعوام..
قريبا كان يجلس مني، يغالب لحنا كان ما يزال يحرك وجدانه فيطرب لمثله ويسمعه عذبا وكأنه عائد من الأزمان البعيدة، كانوا قبل يوم قد جمعوا الأخشاب اليابسة من المزارع وبطون الأودية، ثم رأينا من فرجة السور الشرقية المتهدمة منذ زمن لم نعلمه، كيف كانوا يضعونها في ترتيب معين ويصبون عليها البنزين بتؤدة وهدوء.
في سنتها كان شهر «صفر» قد وأد قمره أخيرا ولم يكن هنالك شيء يكنس ذلك الظلام إلا نجيمات افترشت السماء والنار التي أوقدت في الخشب المرصوص على طول الساحل، وعند انتصاف النهار كنت قد حملت في جيوبي بعضا من الأرز النيّئ وقليلا من الزبيب والتمر ودخلت «المغارة»، ارتقيت الصخور كما تعودت سابقا فجرح أصبعي الصغير نتوء قديم ولكني نجحت أن أفرغ جيوبي ووضعت ما أحضرته معي في اناء كنت قد ربطته بحبل في سقف «المغارة» حفظا له من بلل البحر الذي كثيرا ما يغضب هنا فيرمي زبده في كل مكان. أما هو «عبدالله بن مطر» كما أصبحت أناديه بعد أن مات «مطر» فقد غمرني بلحنه وصوته الذي اكتسب تلك البحة المميزة للرجال في هذه المرحلة من العمر..
طالع صفور يا نبي
وهذا ربيع الأولي(1)
يتحرك حولي في رقص غير منتظم وأنا أساير ذلك كله، عندها اكتشفت أن الأرحام التي لا تثمر أطفالا تكون عطشة لوجودهم من حولها حتى يداخلها حبور مفتعل أنها مرت بدورة الزمان فحبلت ثم أنجبت ثم أرضعت وهي لم تعالج جدبها، وعندما ستوقن أن ذلك ما هو إلا قبض ريح وأن حصاد السنوات كان هشيما تذروه الرياح في اتجاه. صوته ذكرني بصوت «أمي الهاني» قبل ثلاثين عاما عندما دخلت إلى هذه المغارة بنفس اندفاعة الآن وقالت:
-اخرجي يا «عائشة».. طار المرض والنار أكلت ما تبقى منه.
هز داخلي شيء عنيف، رجحت -بداية- أنه صوت أمي وقد عادت بعد غياب طويل، ملمس ثوبها من الحرير الأحمر ما يزال ملتصقا بيدي، واستدارة وجهها الأبيض تراقب أقل حركة تصدر مني، قالت لي:
-اسمعي يا عائشة
لم أسمعها في وقتها ، بكيت كثيرا ولم أنصت لها، ولكن «أمي الهاني» سمعتها، فأخذت منها صرة ملابسي القليلة والزاد الموجود في بيتنا ثم أمسكت بشدة يد الطفلة التي كنتها، وخرجت.
في ذلك اليوم البعيد وعلى طرْقات «أمي الهاني» مشفوعة بصوت الفرح والحبور، نكثت العهد الذي ماتت أمي عليه وخرجت، وللنهار صحوة شباب في ريعانه، آذى الضوء الساطع عينيّ، وأنكرت ما قالته «أمي الهاني» أمسكتها من كتفيها والدموع تجرح خدي بصوت باكٍ:
– صحيح ما تقولين؟
ردني صوت «عبدالله بن مطر» إلى العام الذي رقص فيه أمامي، وضع قمة رأسه أمام ناظري، طلب مني كعادة الناس هنا أن أقوم بكي رأسه بشكل خفيف، وضع يده على قلبه وكأنه ينتزع شيئا منه ثم وضعها قريبا من قلبي، كور قبضته جيدا، ورمى شيئا وهميا في البحر:
-هذا حزن العام المنصرم رميناه في البحر.
شعرت أنني أصبحت خفيفة مثلما يحدث كل عام في مثل هذا الشهر، مع أنهم كانوا يقولون إن «موسم الصفري «يكون في أول شهر صفر وفيه تنتشر الأمراض والعلل والخوف والألم وأن رياحا غير مرئية تصفر في أجواء المكان فتجوب المكان باحثة عن الأرواح الضعيفة حتى تقبضها إليها، لكني ربطت صفر دائما بفرح صغير يسكن الروح كلما حل موسمه.
لم أتمالك نفسي طوال تلك السنوات إلا أن أحدق مليا في وجهه وأنا أطرح ألف سؤال وسؤال عن ما يحيط بنا، كنت أدغدغ نفسي بالسؤال الأهم:
-أي فتاة من خارج السور يمكنني أن أزوجها هذا الشاب؟
منيت نفسي وكل شيء يتراقص أمامي أن كل بيت سأدخله، سأصوغ لأهله جيدا الكذبة التي لقنني إياها «مطر» طويلا وأخبرهم أن
– هذا عبدالله بن مطر.
ثم سأسكت لتبدأ كل الأمهات في البحث المطول، فتقبل به فتاة يتيمة ليس لها من الدنيا إلا حظوظ الفقراء، عندها يصبح لدي بيت آمر فيه وأنهي، ويصبح لي حفيدان أضع أحدهما على ساقي والآخر أرفعه بين يدي. فتغمرني السعادة كبقية النسوة هنا، عندها سيختفي صوت أمي وصورتها وليالي المغارة المقيتة وأحداث تلك الليلة التي تقاسمت أحداثها بيني وبين «أمي الهاني»، ثم أسكتنا كل معنى آخر لها ولم تخرج من طي الكتمان، وها أنا ازحف بسرعة نحو الشيخوخة صامتة، بينما لازالت عيون «أمي الهاني» تنتظر عودة «هلال» التي طالت.
رجل يشبه المطر
(1)
كن على ثقة أنني… لم أسْهُ ولكنني تناسيت، فالأيام مرهقة لمن هم في مثل عمري -يا بني- إن جاز لي أن أدعوك بهذا اللقب، فمن هم في مثل عمري كان من المفترض أن يكون لهم أبناء في مثل عمرك أو أكبر بقليل، ولكنني كما قالت «أمي» «كلما مرت خشبة صور على مصيرة(2) عبرني الزمن وانتهى أوان ذلك كله، وما بقي في الذاكرة إلا صورة لـ«هلال» وصبيحة، وقبلها سكنت صور «سلمان» في رؤوس من عاشوا في داخل السور، وهي صور لا أعدك أن تكون واضحة كل الوضوح وربما سمعت من غيري حكايات أكثر انصرافا في زمان عز فيه العدل والأمر بالقسط. ولكنني عاهدت نفسي أن أقص عليك ما علق في ذهني من أحداث بقية ثابتة في كل جزء من أجزاء هذا السور الذي تعتزم إعادة بنائه، فما شعرت به وأنت تتحدث مع العمال الذين جاءوا معك أنك تريد تجسيد من بقي منا على قيد الحياة وكأنك لا ترمم السور فقط وإنما ترمم نفوسا عاشت فيه، ولا تعيد تشكيل مواده الخام بقدر ما تعيد بناء الروح فيما بقي لنا من أجساد.. وتعيد تمجيد أولئك الذي رحلوا من زمن بعيد. وفي الوقت الذي كنت أراقبك وأراقب في يدك الأوراق التي لمحت أنها تحمل الكثير من الرسوم التي لم أفهمها فخلتك «سلمان» الذي تحدث عنه الناس هنا طويلا، وعندما بدأت مع من كان معك من العمال في رفع الحجارة العتيقة خفنا نحن الشيوخ في هذه المنطقة أن تخرج لنا وجها كنا ننظره ولم يعد كما كان. حملنا الوهم أن تحت كل حجر جرفة وادي أو صوت التطام القنابل بالبيوت داخل السور.
بوجودك معنا ستجد أن الصباح يشرق مرتين في هذه القرية، مرة عندما تسمع بوضوح جلبة في كل بيت من بيوتها، فترتفع أصوات الهمهمات والكلمات التي تخرج من الأفواه التي لم يغادرها النوم تماما، كانوا في ليلتهم قد احتضنوا التراب وناموا بملابس مبللة بعرق النهار ولم يسعهم تعبهم من استبدالها، ثم تسمع وقع أقدامهم ثانيا متوجهة إلى جهتين لا ثالث لهما فبعضهم يتجه إلى شمال القرية جهة البحر حيث المراكب الرابضة باستكانة على الشاطئ الذي مشطته أقدامهم طوال يوم الأمس حتى أن آثار أقدامهم بقيت بصمة علي التراب الرطب، وإن محت الأمواج بعض الآثار فإن (عبود الأصم) كان قادرا على أن ينسب كل أثر إلي صاحبه بيسر وسهولة. أما البعض الآخر فيتجهون إلي النخيل الباسقات التي بدأت شمس حارقة منذ ثلاثة أشهر في إنضاج ثمرها بهدوء كان كافيا لتعليق أنظارهم إلى هاماتها ليتفحصوا مراحل ذلك النضج ويقيسوا المحصول الذي سيتم جنيه بطول بال وخبرة مكتسبة من رحم ذاكرة أجيال ممتدة على أرضهم. وبين أولئك الذين يتحدثون إلى البحر بغمر قاماتهم فيه وبين أولئك الناظرين إلى قمم النخيل يكون هنالك أشخاص يقومون بالأمرين معا فلا يعودون إلى بيوتهم إلا بعد أن يكون نهار الصيف قد انهزم وقلّت حدته، وبدأت بوادر الظلام تغزو المكان رويدا رويدا.
ثم يأتي الشروق الثاني، شروق الكون بضيائه وشمسه، وكان أهل القرية لا يؤمنون بهذا الشروق، فهو بالنسبة إليهم شروق الكسالى والمرضى والعاجزين عن السير معهم، إذ من يحتاج إلى شمس الأرض حتى يستيقظ إذا كانت في داخله شمس تلهب نفسه باستمرار، إلا شخص يكون وجوده في العائلة أشبه بعاهة يتذكرها رب العائلة في كل صباح وتزيد وطأتها كلما شح التمر في عذوق النخيل أو أمسك البحر الرزق في جوفه، عندها يولي نفسه وجهة لا يعرفها ويعتصر قلبه ألم الخوف من الجوع أو التعرض لذل السؤال، وفي مثل ذلك الشروق نهضتُ على رفسة قوية من قدم والدي، جعلتني أقفز من على فراشي، تعودت منه أن يسألني كلما رآني صحبة «هلال» أو تأخرت في النوم ولم أصل الفجر سؤاله المعتاد:
– اذا نمت من الذي سيطعمك؟
كدت أقول له إني مريض ولكني خفت أن يضربني والدي أكثر ويزيد من الكلام فأسمعه يحلف بأغلظ الأيمان على قتلي أو منعي من الأكل، ثم أراه يصوم ثلاثة أيام في وقت لا يتحمل فيه الصوم إلا من كان في مثل صلابة والدي، فيداخلني قلق عليه، وتحمل نظرات أمي عبئا لم أكن قادرا على تحمله بعد.
العمل علاج ناجع لكل مرض قد يلم بالإنسان هنا، وهو قبل ذلك عاصم لنا من تقلبات الحياة التي قد تؤدي بالمرء إلى هاوية لا تحمد عقباها.
(2)
قبل أن تعرف عن الناس الذين سكنوا السور، يجب أن تعرف عن السور ذاته ، كل ما تسمعه من حكايات وهذيان هنا ارتبط بهذا السور، وعندما سقط لم يشهد أحدنا ذلك السقوط لأننا كنا نحتمي بمزارع النخيل والليمون وقبور المقبرة البعيدة عنه، وعندما تجرأت فئة منا على العودة كان المكان قد أصبح حطاما وانتشر فيه صوت أشبه بصوت أرملة فقدت زوجها الحبيب فجأة. في تلك الأيام تمنينا أن يعود «سلمان» فيشمر عن ساعديه ويأخذ معوله ويبدأ في همته المعهودة في بناء ما تهدم من السور، فيرجع لنا الأمان والطمأنينة والحياة التي عاشها أسلافنا. ولكنه أخلف وعده ولم يعد.
كانت خمس سنوات كاملة عاشها «الغريب» بيننا، من عاصره من الناس قالوا بأنهم شاهدوه في الإشراق الثاني للقرية، ومن عاشره منهم وصفه بأنه كان طويلا دون امتلاء، بشرته تميل إلى بياض لم يألفوه في محيطهم الذي صبغته الشمس بحرارة قاسية وفي عينيه سواد كثيف زادته الرموش الطويلة المكحلة بهاء، وابتسامته حاضرة وكأنه يعرف كل من سكن هذه الديار، ثم كانت تلك الرائحة الطيبة التي تفوح من جسده حتى يأنس بها من يلقاه حتى ظنوه أحد أبناء الشيوخ، لولا ملابسه التي لا تزيد عن ازار يغطي ساقيه ولا يتجاوز الكعبين و«قصيب»(3) خفيف يصل إلى الركبة ثم عمامة بيضاء غالبا ما يلبسها العمال في مناطقهم. وفي يوم قدومه إلى القرية كان يطرق بعنفوان الشباب باب «سعيد بن هلال»، يحمل صرة ملابسه ثم ينزلها، ومن كان حاضرا في المجلس من التجار وصفوه بأنه غريب يبحث عن وطن جديد ليبدأ فيه الحياة بعد أن ضاقت به الحياة في قريته السابقة، ورغم أن الشك داخل الحضور إلا أن «سعيد بن هلال» وافق على تلك الإقامة كما سيوافق بعدها على الأفكار التي سيقترحها عليه «الغريب» بعدما أثبتت له الأيام صدق هذا الرجل ورجاحة عقله. من شاهده من بعدها قال كلمة ظلت تسير في ركب «الغريب» فترة بقائه معنا:
– العيون تحب هذا الإنسان وتألفه.
حتى خافوا أن تصل مثل تلك الكلمات إلى نسائهم، فيبدأن بالنظر إليه ومراقبته، وربما الحلم به، ولكن «سلمان» وهذا اسمه الحقيقي أثبت للجميع صدق نيته ونقاء داخله، وأكبروا فيه ذلك التواضع الذي جعله قريبا منهم، ولم يجدوا له عيبا إلا أنه لم يضع يده على حرفة من حرفهم المعروفة لديهم خلال الشهور الثلاثة الأولى من وجوده معهم ويعمل بها، ولكنهم عادوا وعزوا ذلك إلى أنه كان ينظر إلى حياتهم وأعمالهم ليختار ما يناسبه، فكانوا يستغربون سيره الحثيث على شاطئ البحر دُبر كل صلاة فجر وكأنه يقيس لهم المسافة التي يمد فيها البحر أمواجه على أرضهم، ثم يعود ليشاهد المراكب والسفن الراسية قريبا من فرضة المنطقة فيلاقي «المعوشري» فيشعر بأسلوبه الفظ وتعامله القاسي مع الناس ثم يراقب طريقة حسابه والضرائب التي يأخذها عن كل سفينة تمر خلال تلك الفرضة، ويشاهد طريقته في حساب البضائع وحركة البحار التي لا تهدأ على ظهر السفن هنالك، وعندما يعود شرقا حيث يسمع عن السفن وأنواعها فيدقق النظر في البوم والبدن والسمبوق، وعرف «الخشب» ونسب كل خشبة إلى أهلها، ثم يحث الخطى إلى السوق الكبير فيرى كبرة السمك وكبرة الخضار والفواكه والمواشي وأعلافها وبعدها يعود الى القرية، يحسب بقدمه نفس المسافة يوميا حيث يتجه غربا من ضريح «سيدي محمد بوكشيشة» إلى «بن البدو» شرقا ومن سبلة «حسن ولد السيح» شمالا إلى نخل «أولاد مسعودة» جنوبا ثم يجلس ويمسك عودا في يده، يسوي الأرض أمامه فتصبح وكأنها صفحة دفتر يرسم جالسا أولا ثم يرسم واقفا، يمحو بعض الأشياء ثم يرسم غيرها، ينغمس فيها، يشاهدون الشمس تلفحه وهو في مكانه لا يحركه إلا صوت المؤذن لصلاة الظهر، فيسرع الخطى إلى البئر القريبة منه فيستحم منها ويعود إلى خيمته التي بناها له «سعيد بن هلال»، يغير ملابسه بأخرى تشبهها، يصلي بجانبهم فلا يشمون فيه رائحة عرق وإنما تفوح منه تلك الرائحة التي تقرب منه الناس.
كانت الأيام تمر وهو على حاله لا يغير منها شيئا إلا إذا سمع هدير الأمواج، فأخذ يشاهدها بإمعان ويحد النظر فيها كمن يحاول أن يروض وحشا يعرف مكامن قوته ونقاط ضعفه أو إذا أكثر أحدهم من ملاحقته بالأسئلة حول مكان قدومه وأهله وعشيرته، عندها يلزم خيمته لا يخرج إلا في اليوم التالي، «أمي الهاني» قالت عنه:
-هذا الرجل مثل الذي يطفئ النار بالنار.
وبعد تلك الأشهر الثلاثة، جلس «سلمان» تحت سبلة «سعيد بن هلال» ثانيا ساقه اليمنى ومستندا إلى ساقه الأخرى، رافعا رقبته ليكون صوته واضحا
-عمي «سعيد بن هلال».. أنت رشيد المنطقة وأنا أقترح أن نبني سورا للمكان.
وقبل أن يرد عليه أحد، أمسك بعود في يده وأخذ يرسم علي التراب الرطب، في تلك الأثناء كان «سعيد بن هلال» ينظر إلى البحر المترامي أمامه تارة ثم يعود ليحدق إلى ذلك الوجه الوسيم مرات كثيرة ثم يبحث في نظرات الحاضرين عن ما يدله على رأيهم فيما يسمعونه ثم يعود مرة أخرى إلى «سلمان» وما يقوله، ويخاف أن تفوته كلمة ويغفل عن خط من الخطوط الكثيرة المرسومة أمامه بدقة، يحتفظ بذات القسمات حتى لا يفهم من حوله ما يدور في داخله، كان المتحدث واثقا لدرجة جعلت عقل «بن هلال» يشاهد الأرزاق تأتيهم واسعة من كل جهة ينظرون إليها، بينما البحر طوع يمينهم والنخل طوع يسارهم، وهم يغازلون الشمس، ويحتمون من الفقر والعوز.
وعندما أنهى كلامه كان هناك لهاث خفيف يصدر منه وكأنه يخاف أن تفوته الكلمات فتكون إحداها في غير مكانها أو تسبق الدقائق حديثه في غير موعده، عندها كان يغض الطرف كالموج المحاذي له، كان يشعر أنه يغط في عمقها ثم يعود فيتنفس بهدوء الناجي من الغرق. لكن «سعيد بن هلال» رد عليه بكلمة واحدة لا غير:
– يصير خير.
وبعد شهر قال من حضر المجلس بأنهم شاهدوا انكسارا طفيفا في حدة النظرات التي كان سلمان يوجهها إلى الحضور، وأن العود في يده قد سقط دون أن يشعر، ولكنه نهض بكامل جسده دفعة واحدة، وقال موجها الكلام إلى «سعيد بن هلال»:
– الخير في وجهك وبين يديك.
وخرج من تحت «السبلة»
وقبل ذلك الشهر كان «سعيد بن هلال» قد سمع بعد مغادرة «الغريب» سبلته أكثر من صوت فأغلق فمه وتبع انصراف الخطوات الشابة، فابتسم في هدوء وهو ينصت للحاضرين معه
– نعامله معاملة أجير…. لا يشاركنا في شيء.
– يكون علينا رأس المال وعليه العمل.
ثم ضحك ضحكة صغيرة،
– وله الصيت والسمعة تسير في ركب الزمان ولنا النسيان .
امرأة اسمها الريح
(1)
كان اليوم الأربعاء من الأسبوع الأخير من شهر صفر من سنة كانت حرارتها قد أعلنت على قمم النخيل، طرفت عينه اليمنى قليلا، وبهدوء قرب الكأس الموضوعة أمامه من أنفه قليلا، شم الرائحة النفاذة المنبعثة من الكأس، شرب أول جرعة منها، شعر بالمرارة تسري من فمه إلى بقية جسده، رفع صوته لتسمع زوجته التي انشغلت بأمور البيت
– زدت الماء قليلا؟
انتظر أن يسمع منها ردا أو حركة تدل علي أنها سمعته، مرت برهة من الزمن، عاد إلى كأسه وأكمل شرب ما فيه، شاهد أشجار النخيل تتباهي بشموخها وأحد أطرافها يحلق بعيدا جدا عنه. حوقل بصوت مرتفع ولكن أحدا لم يرد عليه، كانت المرارة قد سرت في جميع أعضاء جسده، ولكنه كان يكتشف في كل يوم أربعاء من نهاية كل شهر قمري بأنها مرارة أقل بكثير من تلك التي شعر بها عند رحيل «هلال» وأقل بعشرات المرات من المرارة التي بقيت عالقة في روحه بعد موت «أم هلال». سمع صفير الريح بين رؤوس النخيل، كان يعرف أن الريح لن تكون حليفته في وقت من الأوقات ولكنها كانت شريكة لـ«هلال» في كل خطواته
-عندما تتبع آثار البدو يصنعون لك صحراء خاصة بك وتبقى في التيه أعواما ليس لها عدد.
كان يتمنى أن يمسك بكتفي «هلال» ويخبره بتلك العبارة التي غير وحور فيها كثيرا علي امتداد تلك السنوات المتطاولة. ولكنه لم يحضر ولم يرسل إليه وجها يحمل شبها منه. وبقيت العبارة تخنقه طوال تلك السنوات.
الرجل الذي وصف له الشراب قال إنه في طعامنا تختفي المرارة، فنحن نأكل الأطعمة المالحة والحلوة والحامضة وتبقي الأطعمة المرة في قائمة النسيان، وهذا المشروب يعوض أجسادنا منها، ورغم أنه عرف من هيئة الرجل تمرس بائع جوال إلا أنه اشترى منه الشراب، بل وعرف كيف تم إعداده وعندما عرض المشروب على «أمي الهاني» تفرست في الزجاجة أكثر وشربت منها جرعتين واستمعت إلى شرح إعداد المشروب، من بعدها أصبحت تعده لكل امرأة نفساء في القرية.
هل كان يحتاج إلى مرارة أكثر في حياته ؟ «أبو سالم» قال له عندما علم بالموضوع:
– نحن نتنفس المرارة من الهواء فهل تريدنا أن نشربها أيضا؟
منذ رحل «هلال» كان يعرف أنه يأكل ويشرب ويتغذى مرارة غريبة بقيت عالقة في روحه منذ ما يقارب العشرين عاما.
عمَّ المكان هدوء كبير، أرخى جسده علي الوسادة، أغمض عينيه وكاد يغفو. ردد بين اليقظة والنوم:
-(يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين).
(2)
قيل إن الحكاية بدأت بعد الريح الشديدة التي ضربت المكان، كانت ريحا قوية اقتلعت أشجار النخيل وهدمت البيوت ورفعت موج البحر حتى غمر البيوت ووصل إلى حدود المزارع البعيدة عنه، بعض العارفين أطلق على تلك الريح رياح التطهير، قالوا إنها تطهر الأرض من كل ما علق فيها من الشرور وتزيل السحر ولا تبقي على الأرض أي نفس شريرة، وإن تلك الريح تهب كل عشرين عاما ولا تذر علي الأرض إلا كل نفس طيبة، إلا أن البعض عارض ذلك الرأي وذكر أمام الحضور أن مثل هذه الريح هبت سابقا وأنها أخرجت من جوف البحر هيكلا لكائن لم يعرفوه، إلا أنهم وجدوا سكينا مغروسة في صدره. ورغم أنهم صلوا عليه ودفنوه في مقبرتهم، إلا أن شكوكا كبيرة كانت تزاحم قلوبهم لسنوات عديدة كلما مروا علي القبر أو هاجت الريح، كما أن جذع النخيل لم يسقط إلا على بيدار «صالح بن سعيد»، وأن هذا الرجل على وجه الخصوص كان معروفا بطيبته وحسن خلقه، حتى أنهم كانوا يقدمونه في صلاة الاستسقاء وأن السماء كانت تنهمر عليهم بالغيث في كل مرة يرفع فيها يديه بالدعاء.
الريح في ذلك العام كانت الأشد كما اتفق شيوخ القرية، توجسوا منها خيفة، وفي الأيام الثلاثة التي عصفت فيها الريح، صام أكثر البالغين، وتم إخفاء الصغار تحت الأغطية الثقيلة، وعمدت النسوة إلى الأواني في بيوتهن ووضعنها في زاوية بعيدة حتى لا تكون ملجأ للجن التي كانت تطير في ذلك الوقت، ورفع «جدي جمعة» صوته بكلمات أبكت القريبين منه، ونذرت بعض النسوة نذورا كثيرة، وكاد أحدهم يخرج بسلاحه ويعتلي أعلى قمة في القرية ليقتل الشياطين التي كانت تحرك الريح، هدأت الريح، في الصباح كانوا موقنين أن الصفير الحاد ما يزال يسكنهم، كانت الأرض ممسوحة المعالم إلا من خطوات ارتعبوا منها، خاف أغلبهم الخروج من بيته إلا بعد انقضاء وقت ليس بالقصير، بحثوا عن أصل الخطوات التي أبقتها الريح، وعندما وجدوا خيمة صغيرة منصوبة في الفضاء الواسع شرق القرية، عادوا أدراجهم وقد أيقنوا أن الريح حملت إليهم خبرا عظيما وصورة كائن جديد، طوال أسبوع لم يخرج أحد من الخيمة ولم يجرؤ أحد على الدخول إليها أو الاقتراب منها، وظلت العيون معلقة على أي حركة تصدر منها أو صوت يبوح بمن يسكنها، بعد انقضاء الأسبوع، شاهد من حضر صلاة الفجر جسدا يخرج من البحر ويجفف قطرات الماء على شعر طويل، فيما كانت بقية الأعضاء مستترة بالظلام لا غير. وعندما أظهرت الشمس معالم الكون كانت المرأة التي كانوا من سموها «الريح» واقفة أمام الخيمة، تنظر إلى القرية بسكون غريب. وبقيت تراقبهم دون أن تتقدم منهم خطوة أو يتقدموا منها بحركة، عندما وصفوها لم يستطيعوا أن يقولوا إلا أنها جميلة، ولم يشهدوا امرأة مثلها من قبل، بقيت محافظة على ذلك الاستحمام الصباحي دون انقطاع، وبعد انقضاء الشهر لم يجدوا لها أثرا، قيل إنها طارت مع الريح الخفيفة التي جاست في القرية في تلك الليلة، «أمي الهاني» انبرت لتقول إنها من بنات الجن وإن عليها ذنبا لا يطهره إلا البحر، بينما لم تصدق نساء القرية ذلك وقمن بتحويط المكان الذي كانت فيه بجريد النخيل اليابس، وزرعن أعواد الريحان في المكان، وأقمن لها قبرا، ونذرن النذور ثم قمن بالتبرك به.
«درويش» كان الوحيد الذي وقف عند البحر عند كل فجر ليتكلم مع أمواجه وينتظر عودتها.
الهوامش
* النص جزء من رواية
1 – مقطع أغنية شعبية في وداع شهر صفر.
2 – مَثل يُضرب لفوات الأوان.
3 – ثوب خفيف وقصير يلبسه الرجال.