طُلب مني كتابة شهادة شخصية بمناسبة مرور عشرين عاما على صدور مجلة نزوى، واقُترح أن تكون حول تجربة الصحافة الثقافية في عُمان بصورة عامة وليس بالضرورة عن المجلة وما راكمته من تجارب وعلاقات على مدى السنوات العشرين الماضية.
لو لم يُقترح عليّ الكتابة عن تجربة الصحافة الثقافية في البلاد لكنت اقترحت مقاربة هذا الموضوع لسببين، شخصي وموضوعي. فعلى الصعيد الشخصي، تربيتُ، كاتبا وصحافيا، في «مدرسة الصحافة الثقافية»، وعلى مسار مواز مع المدرسة الأم «الصحافة». كنت محظوظا أن التحقت بالعمل في مجلة النهضة في سنوات مبكرة من العمر، سنوات التأسيس المعرفي الأولى، ثم كنت محظوظا أن التحقت بالعمل في الصحيفة الأولى في البلاد، صحيفة عُمان في سنوات الشغف والانفتاح على القراءة والمعرفة والسفر والنقاشات وإثارة الأسئلة، سنوات «التطور». ثم كنت محظوظا أن أسهمت في التحضير للعدد الأول لأول فصلية ثقافية في البلاد « نزوى» في مرحلة «النضج والتحقق». وفوق كل هذه الحظوظ، كان الأهم والأكبر أني كنت ضمن جيل من كتاب وصحفيين شباب عايش وعاش، على صُعد ومستويات مختلفة، مرحلة خروج البلاد من زمن ودخولها زمنا جديدا، جيل رأى الجسر ورأى العبور ورأى ما شاب العبور وصاحبه من تدافع وتعثر ونهوض، جيل تفاعل مع تلك المرحلة وكتب عنها.
أما على الصعيد العام، فأنا ممن يزعمون أن الصحافة الثقافية كانت الحاضن لتشكل الحركة الثقافية الجديدة وحركة الكتابة «الحديثة» أو «الجديدة» في عُمان، وبروز معظم أسماء هذه الحركة. أتحدث عن الأسماء التي لم تغادر عُمان ولم تعش خارجها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
كانت مجلة الغدير التي أدارها الأستاذ أحمد الفلاحي مطلع ثمانينيات القرن الماضي إحدى المبادرات المبكرة في مسار صحافة ثقافية متخصصة في البلاد. أسهمت الغدير في ولادة أسماء، لا سيما في الشعر، سيكون لها حضورها البارز على الساحتين العمانية والعربية في وقت لاحق، أبرزها « محمد الحارثي وعبدالله الريامي ومبارك العامري». الغدير لم تستمر طويلا لشديد الأسف.
في تلك الفترة، عقد الثمانينات، كانت الصفحات الثقافية في ثلاث مجلات أسبوعية، تحاول بدورها، التأسيس لتجربة صحافة ثقافية وحركة أدبية جديدة في البلاد. كان الصديق مبارك العامري في « العقيدة» وكان الزميل محمد القصبي في «الأسرة» وكان كاتب هذه السطور في «النهضة». هذه المجلات، ورغم محدودية انتشارها، إلا أنها أسهمت، بدرجات متفاوتة، في إثارة العديد من الأسئلة والقضايا ذات الطبيعة الإشكالية والمؤسِسة لمغامرة ثقافية- أدبية لم تكن الساحة المحلية على خبرة بها. في مجلة النهضة، فتحنا وعلى مدى أشهر، ملفا حول ما اسميناه «الركود الثقافي في عُمان»، حاورنا فيه العديد من الأسماء المعنية والمشتغلة بالشأن الثقافي والأدبي، وأثرنا أسئلة عديدة حول قصور المؤسسات الراعية للثقافة وضعف بناها وأدوارها المفترضة. مجلة العقيدة، بدورها تبنت العديد من الملفات والأفكار حول «الحداثة الأدبية» في البلاد. أذكر، وهذه شهادة للتاريخ، كان مكتب مبارك العامري في مجلة العقيدة بالوادي الكبير في منتصف الثمانينيات ملتقى أدبيا وثقافيا يلتقي فيه العديد من الكتاب. فيما بعد وّسع الملحق الثقافي في جريدة عمان هذا الدور وذهب به إلى مدى أكبر.
توقفت مجلة العقيدة عن الصدور ولعلها ذهبت إلى النسيان بكل ارشيفها وذاكرتها، وكانت هناك مجلة أخرى توقفت هي « الأضواء» فيما لا تزال النهضة تصدر ولكن، لا يبدو أن الشأن الثقافي يحتل، الآن، حيزا كبيرا فيها.
بعد توقف «الغدير» منتصف الثمانينيات لم تظهر مجلة ثقافية عُمانية متخصصة حتى السنوات الأولى لعقد التسعينيات حينما قرر الأستاذ سالم الغيلاني خوض المغامرة بإصدار مجلة «السراج» الشهرية الثقافية، لكنها لم تعمر طويلا والتحقت بسابقاتها إلى «مقبرة المجلات». وفي 1994 جاءت مجلة «نزوى» بصيغة وإمكانيات ضمنت لها الحياة والاستمرار وبلوغ عامها العشرين، واقفة على قدمين راسختين ودون عثرات.
يُمكن وصف السنوات العشر (1985-1995) بالعقد الذهبي، سنوات النضج. نضج الصحافة الثقافية ونضج الحركة الأدبية الحديثة، لا سيما ما صار يُعرف بـ«تيار الحداثة» في عُمان. المغامرات «الثقافية» الرائدة والمهمة لمجلات الغدير والعقيدة والنهضة والأسرة مهدت لبروز ظاهرة جديدة غير مسبوقة في الصحافة اليومية في البلاد، ظاهرة التنافس على إصدار ملاحق ثقافية والتنافس على استقطاب الكتاب من الداخل والخارج والحرص على تطوير واستمرار هذه الملاحق. في صحيفتي عُمان والوطن على وجه التحديد – بعدها جاءت الشبيبة- كان التنافس على أشده، بل ووصل، في بعض الحالات، إلى التراشق بين ملحقي عُمان والوطن.
كنت قد التحقت بالعمل في صحيفة عُمان عام 1988 – بعد رحلة سنوات في «النهضة»، لأتسلم رئاسة القسم الثقافي والإشراف على ملحق عمان الثقافي. كانت أول جامعة في البلاد «جامعة السلطان قابوس» بالكاد تعبر إلى عامها الثاني وكان الحراك « الثقافي – الأدبي الطلابي» مندفعا وحيويا، وكانت «جماعة الخليل بن أحمد للأدب العربي» الرصيف الذي دوّت من خلاله صفارات كتاب شباب قادمون، بينهم من سيصبح فيما بعد بين الوجوه البارزة في الحياة الأدبية والأكاديمية والإعلامية أمثال هلال الحجري وطيبة الكندي وعبدالله الحراصي ويونس الأخزمي ورفيعة الطالعي ومحمد البلوشي وهاشمية الموسوي ويحيى سلام المنذري وآخرين.
دخل ملحق عُمان الثقافي، وفي سياق التنافس مع ملحق الوطن الثقافي، على خط الجامعة مستقطبا معظم كتابها الشباب، ومثيرا معهم ومع عدد من الأكاديميين العرب العاملين في الجامعة، الكثير من القضايا والأسئلة، لاسيما، «جدلية الأصالة والمعاصرة» «التقليد والتجديد» «القصيدة الحديثة والقصيدة التقليدية». في هذا السياق، أسست العلاقة بين الصحافة الثقافية والمجتمع الآكاديمي للجامعة، لثقافة وتجارب نقدية أدبية حديثة لم يكن المشهد الأدبي العماني على خبرة عميقة بها.
كان ملحق عُمان الثقافي يتقدم ليحتل حيزا أكبر بكثير من حجمه كملحق أسبوعي تابع لصحيفة يومية. بدا يومها، في تلك الفترة «الذهبية»، مؤسسة قائمة بذاتها. كان نشاط الملحق يمتد من مبنى الصحيفة في روي إلى مقاهي مسقط وبيوت ومكاتب كُتّابها ومثقفيها.
كان يوم الخميس هو يوم صدور الملحق، وكان اليوم الذي ينتظره كثير من الكتاب ليروا نصوصهم منشورة وبعضهم ليرى أول نص له يُنشر في ملحق بحجم وسمعة ملحق عُمان الثقافي. كان النشر في ملحق عُمان الثقافي للكتاب الشباب، في تلك الفترة، شهادة عبور وتحقق.
في تلك الفترة أيضا تحول ما كان يُعرف بالنادي الجامعي إلى (ما صار يُعرف) النادي الثقافي، وخرج من كونه ناديا ترفيهيا اجتماعيا للطبقة الوسطى من موظفي الدولة العائدين من جامعات الخارج، ليصبح مؤسسة تُسهم في الحراك الثقافي المتنامي في البلاد ولتنفتح على كتاب ومثقفي البلاد جميعهم. ظهور النادي الثقافي فتح للصحافة الثقافية أفقا آخر جديدا للتنافس والتطور ولإثارة المزيد من القضايا والأسئلة، خصوصا عبر من كان النادي يستضيفهم من أسماء بارزة في الساحة الثقافية العربية. لعلنا نتذكر الأمسيات المثيرة لأدونيس والطيب صالح ومحمد عابد الجابري ومحمد الماغوط وموجات الأسئلة، الرفض والقبول، التي امتدت إلى الصحافة الثقافية وعمّقت من حضور ودور الصحافة الثقافية في الحياتين، الاجتماعية والثقافية، ذينك الحضور والدور اللذين أسهما في التمهيد لظهور فاعلين ثقافيين جدد كالمنتدى الأدبي والجمعية العمانية للفنون التشكيلية – التي تصدر مجلتها الخاصة» البرواز» ومجلة «نزوى» والجمعية العمانية للكتاب والأدباء، ثم تُوجت بمركز السلطان قابوس العالي للثقافة والفنون وجائزته السنوية.
لعلنا أيضا نتذكر الإسهامات التي قامت بها الصحافة الثقافية في اقتراح أفكار لندوات نقدية تأسيسية في تلك المرحلة، مثل ندوتي «أسئلة النص القصصي العماني الأولى والثانية» اللتين شارك ملحق عُمان الثقافي في تنظيمهما بالاشتراك مع المنتدى الأدبي في الندوة الأولى والنادي الثقافي في الثانية عبر اقتراح اسماء النقاد المشاركين والنصوص التي ستعرض عليهم. شارك في الندوتين نقاد معروفون يزورون البلاد لأول مرة أمثال اللبنانية يمنى العيد والسعودي سعيد السريحي والمصرية اعتدال عثمان والمغربي سعيد يقطين. كانت تينك الندوتين أول «ارتطام» مباشرة بين كتاب القصة والنقد والنقاد، وكانتا أيضا بين أبرز الاسهامات غير التقليدية للصحافة الثقافية في الحياة الثقافية.
هل كان هؤلاء الفاعلون الثقافيون سيظهرون لولا الحملات، الأسئلة والنقاشات التي أثارتها الصحافة الثقافية منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، لا سيما ملحق عُمان الثقافي؟ ربما. لكن المؤكد أن تلك «الحملات» التي خاضتها تلك الملاحق للمطالبة بمجلة ثقافية متخصصة ومظلة مدنية للكتاب والأدباء وقيام الدولة بدور أكبر في دعم وتشجيع النشاط الثقافي والفني في البلاد، ساهمت في ظهور تلك المشاريع التي تحولت إلى مؤسسات.
جاءت مجلة نزوى – وكاتب السطور – عايش وصاحب الجدل الذي سبق إصدارها والذي استمر حتى بعد صدور أعدادها الأولى، جاءت لتحقق هدفين، الأول أن تكون حاضنة لوجوه المشهد الثقافي المحلي من الكتاب والأكاديميين والباحثين والفنانين، حاضنة أكبر حجما وأكثر رصانة وقدرة على الاحتواء من الملاحق الثقافية في الصحف اليومية، والثاني أن تكون واجهة للكتابة العمانية، بكل وجوهها وألوان طيفها، في الخارج،.
بعد عشرين عاما على صدور عددها الأولى، هل حققت «نزوى» هدفيها، ما درجات النجاح، ودرجات عدم النجاح، في البعدين المحلي والخارجي؟
لمن يراجع أعداد المجلة خلال الأعوام العشرين الماضية – ولحسن الحظ جميعها متوفرة على موقع المجلة الالكتروني وهذا نجاح مهم يُحسب لإدارة المجلة– لمن يراجع تلك الأعداد سيلاحظ أن نزوى حققت أكثر من هدفيها المؤسسِين، لا سيما الهدف الثاني. نزوى ذهبت، دون ضجيج كثير ولا ادعاءات، إلى أن تكون العنوان الأبرز، إن لم يكن الوحيد، للفصلية الثقافية العربية القادرة على الاستمرار وعلى الحفاظ على المستوى الذي بلغته. لكن نزوى، اليوم وبعد عشرين عاما، تحتاج إلى أن تذهب أبعد قليلا، أن تصبح أكثر من فصلية ثقافية. لعلها تحتاج إلى تطويرعلاقتها بالمجتمع الثقافي العماني وأن تكون فاعلا ثقافيا يتجاوز تقليدية الفصلية الثقافية، كأن يكون لها ندوتها الشهرية أو مؤتمرها السنوي، بحيث تتجذر أكثر في الذاكرة الثقافية العمانية، لاسيما الجيل الجديد من الكتاب والمثقفين.
—————————-
محمد اليحيائي