في نصه الروائي القصير »يوم عطش الوحش« (نزوى، عدد 40، أكتوبر 2004)، وفي مجموعته القصصية »عشية الصمت« وروايته الجديدة »طريق بنتونفيل« (كلاهما من منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004 و2005 على التوالي) يريد سمير اليوسف تعرية ما تريد الضحية أن تفاخر بما تمتاز به: الإدعاء بالبراءة المطلقة والإستناد إلى مظلوميتها كي تظلم الآخرين. وكذا ما تفترضه بأن على الآخرين معاملتها كقديس مصلوب. مساءلة الضحية ونزع القداسة عنها ورؤية ما فيها من نواقص وعلات ليست »ثيمة« جديدة. بيد أن الجديد الصادم في نصوص اليوسف هذه هو الولوج إليها من مدخل الذات الفلسطينية ونقدها وتقريعها. فإن يكن من السهل التنظير إلى ضرورة نزع القداسة عن الضحية والنظر إليها بواقعية، فإن إنسياب هكذا تنظير إلى واقعية مطبقة ومن خلال نص حاد هو الصعوبة والجرأة بعينها. فهنا ليست الضحية المتحولة أحياناً إلى جلاد هي اليهودي ضحية أوشفيتز الذي صار مجرم حرب ضد الفلسطينين، فهذا أمر سهل التناول وهو مكرور بشدة في الأدبيات العربية سياسيها وثقافيها وأدبيها. كما أنه يناغي الأنا الفلسطينية التي تصدر كتابة اليوسف عنها. الصعوبة تكمن في إجتراح القدرة على إتهام الذات، الفلسطيني ضحية الضحية هنا، بأنها تخرج من إنسانيتها أحياناً وتلبس ثوب الجلادين وتتصرف مثلهم. أو على الأقل تتوقف عن أن تكون ضحية، بل وتمارس من البشاعات ما يمارسه الناس العاديون. إنه تقريع لمفهوم »البطل الأسطوري« بالسرد والتجريد، بالمعايشة والتصوير المرير، وبالغوص العميق في الداخل المعقد الطيات للفرد الفلسطيني: هناك حيث إختزان الهزيمة والعنف والإنكسار وضنك الحياة والنقمة عليها، والتوق لنصر مهما كان تافه الحجم وعلى أي كان. في موضعة »البطل الأسطوري« موضع الإتهام تفكيك للنظرة إلى الفلسطيني بكونه البطل النقي الذي يناضل بطولة، ويتحدث بطولة، وينام بطولة، ويعشق بطولة. هنا نكتشف أن الفلسطيني، إبن المخيم، وحامل الكلاشنكوف، إنسان عادي، يومه المطحون في دوامة بائسة من أربع وعشرين ساعة في مخيمات قذرة معدمة ليس منسوجاً على منوال القديسين. فهو يغضب، ويكذب، ويكره، ويتصرف كالأشقياء، وفي وقت قذارات الحرب (الأهلية في لبنان) يقتل مدنيين وأبرياء ويتلذذ بالإنتقام. عنده أحلام بسيطة وسخيفة كباقي البشر، يريد أن يهرب من المخيم، يسافر، يرشي وكيل سفر كي يساعده على التخلص من العيش في قذارات المخيم. يريد أن يتزوج زواجاً غير مؤكد المستقبل، من إنثى لا يعرف إن كان يحبها أم يمقتها.
»باسم 1«: سقوط براءة النص
الشخوص التي يطورها سمير اليوسف في النصوص الثلاثة يتقاربون في كل شيء، رغم إختلاف المكان خاصة بين النصين الأوليين »يوم عطش الوحش« و»عشية الصمت« والنص الثالث »طريق بنتونفيل«. إنهم أفراد عطلت فظاعات الحروب، أو فظاعات الحياة المرافقة لها، سوياتهم. صاروا مترددين، عنيفين، نزقين، ساخرين، سورياليين، متواطئين مع الصفات التي ورثوها عن تلك الفظاعات. ويرون العالم من نظارة تلك الفظاعات، فيرونه أسوداً لا معنى له.
باسم هو الشخصية الرئيسية في »يوم عطش الوحش«، شاب فلسطيني يعيش في مخيم الراشدية في لبنان الحرب الأهلية، ولبنان المقاومة الفلسطينية. يتوق لمغادرة المخيم إلى أي مكان. يحتال عليه »وكيل سفر« ويأخذ منه مبلغاً كبيراً من المال كي يجلب له فيزا سفر إلى ألمانيا. لكن باسم نراه ممتداً في النصوص الثلاثة رغم أن شخوصها الرئيسة تتحرك من دون أن يكون لأي منها أسم محدد. باسم هو الذي يفضحها كلها منذ البداية، أو كأنها كلها باسم في تحولاته ومراحل حياته المختلفة. باسم يحاول أن يخادعنا كي لا نكتشفه في بقية النصوص ونظن أنه توقف عن أن يكون كائناً روائياً لحظة طوينا الصفحة الأخيرة من »يوم عطش الوحش«. لكنه سرعان ما يتعرى أمامنا في النصين الآخرين. يفضحه نزقه وقرفه من الحياة، والعنف الكامن في داخله. عنف يتفجر فجأة إزاء موقف تافه عابر لا يحتمل العنف أصلاً، فيندهش من يراه في تلك الحالة، ويندهش القارىء منه أيضاً. لذلك فسوف نعدل أسم باسم ونطلق عليه إسم »باسم1«، لأننا سنكتشف أن هذا الباسم يرافقنا في نصوص سمير اليوسف المتباعدة: كأن تلك النصوص تخبرنا عن تحولات باسم. وهكذا فنحن أمام صور باسم1، وباسم2، وباسم3، في النصوص الثلاثة. صور لا نقاوم إغراء الظن بأنها ذاتها تنقل لقطات وصور متفرقة من حياة اليوسف نفسه، تتمظهر في النص رغماً عنه مهما حاول الكاتب أن يخفيها أو يشتتها في أمكنة وأزمنة متفارقة. الخيط المشترك في شخصيات البواسم الثلاثة في النصوص المتتالية هو الخيط الفاضح للراوي والمروي عنه.
وهكذا، في النص الأول، نعيش مع باسم1 عدة أسابيع هي فترة إنتظاره لتلك الفيزا الموعودة التي لن ولم تأت أبداً. نراقبه برفقة أصدقائه المقربين إليه: الفتحاوي أحمد، والعراقي سليم الملتحق بالثورة لألف سبب وسبب. أحمد المناضل المخلص المدافع عن »القضية« والذي يعتبر أنها »تمر في أحلك أيامها« يكره ياسر عرفات ويعتقد أنه باع القضية للأمريكان من خلال التنازلات التي لا يتوقف عن التكرم بها عليهم من مقره في تونس. باسم1 يتلذذ بإنتقاد القضية وعرفات وإستثارة أحمد كلما سنحت الفرصة. لكن أحمد، وكأي فتحاوي آخر، لا يحتمل أن يسمع أي إنتقاد لأبو عمار من أي شخص غير فتحاوي، فهنا يتحول عرفات إلى رمز للقضية »التي تمر بأحلك أيامها«. أحمد يحب المسرح أيضا، لكن باسم1 يسخر من إهتمامه بمسرحية »ام سعد« لغسان كنفاني ورغبته في تحويل النص إلى مسرحية حقيقية على مسرح المخيم. باسم1 يعتقد أن تلك المسرحية هي أردأ أعمال غسان كنفاني، لكن أحمد يغضب ويتهم باسم بالسوريالية والعبثية. لا يتحمل أحمد أن يستتفه باسم1 نصاً ثورياً لغسان كنفاني، فيما باسم1 لا يأبه بإسقاط النص الثوري. لوهلة واحدة واجه باسم1 أحمد بكل قوة وأعلن في وجهه سقوط براءة النص.
حول أحمد تدور قصص الحياة السفلية للنضال، ويرصدها باسم1 بعينه السوداوية العبثية واللامبالية. فأحمد يتسلم مرتبين واحد من التنظيم وآخر من »جهاز الأمن المركزي«. وهو في الوقت نفسه يتسلم أموالاً من أشقائه الذي هاجروا لأمريكا ويشعرون بالإمتنان لأحمد لأنه »صمد« في المخيم برفقة أمهم. وفوق كل ذلك يتسلم أحمد مبلغاً ضخماً من المال من أبو شيفان قائد حركة تحرير كردستان المقيم في لبنان كي يصدر نشرة ثورية باللغة الكردية.
أحمد الذي يتعرض لسيل من التعليقات الساخرة على نضالاته من قبل صديقه باسم1 يتحول هو إلى ساخر ناقد إزاء نضالات أبو شيفان والأكراد. تصدمنا سلسلة السخرية من مناضل لآخر: تتبدل المواقع بسرعة هائلة، مناضل هنا، ساخر هناك، ساخر هناك، مناضل هنا. أبو شيفان قائد لتنظيم لا يزيد عدد أفراده في لبنان عن ثمانية ويريد أن يطبع لهم نشرة ثورية باللغة الكردية، ثم يوزع تلك النشرة »هناك« في كردستان، حيث لا يزيد عدد أفراد التنظيم، كما يسخر أحمد، عن ثمانية آخرين. أحمد يستولي على المال ولا يصدر النشرة.
باسم1 يسخر فوق سخرية الساخرين، لكن همه هو الحصول على حبوب راهيبينول المخدرة من سليم، »المناضل العراقي«. سليم يسرق بيوت قادة الثورة لأنهم ينعمون بحياة لا ينعم بها بقية الأفراد. باسم1 يحب سليم ويتحدث معه في الأدب والثقافة والحبوب المخدرة. لكن سليم يصبح مطلوباً بتهمة السرقة ويتم إلقاء القبض عليه. باسم1 يغضب لذلك ويقرر مساعدته لأنه يحبه، لكنه في »مسيرة« إنقاذه لسليم ينساه ولا يكترث به. يفضل أن يقضى ليله مع دلال البشعة التي وجهها مثل القرد والتي يرى فيها مستقبله النهائي كزوج لها وله منها عشرة أولاد. باسم1 لا يهتم حتى بأقرب المقربين له. عملياً لا يطيقهم جميعاً: أحمد، سليم، دلال، أبو شيفان، يكرههم ويكره نفسه معهم.
العنف المختزن لدى باسم1 يفيض على كل من حوله. على دلال، فيكرهها ولا يراها إلا مؤئلاً لنزواته التي نشتم فيها سادية ما. على أحمد فيبغضه ويحبه في آن معاً. على سليم فلا يكترث بمقتله على يد المحكمة الثورية، بما يُدهش أحمد من لامبالاته. وقبل ذلك في شتمه لسليم نفسه خلال حديث عابر عن الأدب والكتب. إذ يقول له غاضباً: »خره عليك وعلى أوسكار وايلد، وعلى الواقعية السحرية، وعلى اللي علمك تقرأ روايات« … يخسر صديقه الوحيد بسبب غروره وفجاجته.
يفيض عنفه الداخلي ويتجسد في رغبته بالإنتقام من كل الناس بسبب عملية النصب التي تعرض إليها من قبل وكيل السفر المزعوم. في تلك الأجواء يعود إلى البيت … ونمشي معه وهو يقول »…وجعلت أمشي في الشوارع على غير هدى. ولقد أستولى علي دوار مفاجىء وكان ثمة شيء ما يدق في رأسي. كان ضجيجاً، أستولى علي، وشغلني عن كل ما حول. وفكرت بأن أذهب إلى البيت آوي إلى الفراش. غير أن هذه الفكرة لاحت بالنسبة لي أشبه بكابوس لا يُطاق. وحسبت بأنني إذا عدت إلى البيت وأنا على تلك الحالة فإنه لمن المحتمل أن أجهز عليهم جميعاً. ومن دون أدنى احساس بالخجل أو التردد تخيلت نفسي داخلاً البيت. فأسمعهم يتشاجرون ثانية. عندها أدخل إلى غرفة النوم من دون أن أعير أحداً إلتفاتة، أجلب الكلاشنكوف وأطلق النار عليهم جميعاً. وراقت لي هذه الفكرة كثيراً، أن أجهز عليهم وأذهب إلى المطبخ وأصنع لنفسي فنجان قهوة. أو لربما من الأفضل أن أطلق النار على نفسي، أو ربما أذهب إلى الشقة المجاورة وأطلق النار على أصحابها. فهم كانوا أيضا أخوات … كنت أريد أن أطق النار على أحد ما«.
نعرف من نهاية النص أن باسم1 لم ينخرط مع الفدائيين منذ الصغر. لم يلتحق بمعسكر الأشبال المجاور الذي يتدرب فيه الصغار رغم رغبته العارمة بالإنضمام إليه. كان يستمع من خلف السياج إلى صيحات المدرب وصيحات الأولاد الطفولية، يصيح فيهم المدرب: »جوعانين«، فيردون عليه »وحوش«، يصيح فيهم »عطشانين« فيردون »وحوش«. أبوه لم يرد ان يلتحق بهم. ناداه يوم أن تسلل لمراقبتهم والألتحاق بهم. لم يعنفه كما توقع. أشترى له بوظه وتركه يلعقها بهدوء وتوتر. سأله بعدها إن كان يريد العودة إلى المعسكر. لكنه أحس بالعطش، وقال إنه يريد العودة إلى البيت مع أبيه. من يومها، »من يوم أن عطش الوحش« صار باسم1 وحشاً معطوباً. وحشاً كان برسم التوحش لكنه لم ينخرط في المعسكر، يريد التوحش ولا يستطيع بسبب خليط التردد والجبن والنزق وعدم اللامبالاة. عاش على أطراف المعسكر وبين الوحوش. منقوصة وحشيته. صار كل ما يتمناه هو أن يرحل عن البلد.
»باسم 2«: سقوط براءة الكلاشنكوف
في النص الثاني، »عشية الصمت«، وهي مجموعة قصص قصيرة، الشخوص، فلسطينيون عاديون، فدائيون عصفت بهم الأقدار إلى لبنان فوجدوا أنفسهم في حرب ليست حرب فلسطين، فتلوثت أيديهم، يتماهون في شخوص »يوم عطش الوحش«. كأنما هم أمتداد لهم، أو مجموعة أخرى تنتمي لنفس الفصيل أو المنظمة. لكن هنا يحدث ما هو أكثر. هنا وساخة الحرب الأهلية، حيث لا تسقط براءة النص وحسب، بل براءات أهم بكثير. إذ في المسافة الحيرى الفاصلة بين المخيلة المتعاطفة مع اولئك الفدائيين بكونهم قصفوا زهرة شبابهم جرياً وراء »التحرير«، والممارسات اليومية لهم، تسقط براءة الكلاشنكوف.
مثلاً: »كان إبراهيم على قناعة تامة بأن إطلاق النار عند الإنسان المسلح لهو بسيط بساطة الضغط على الزناد. وقد يكون المرء ماضيا في طريقه بسلام حينما يبرز له رجل مسلح، يأمره بالركوع ويوجه فوهة بندقيته إلى صدغه ويضغط على الزناد. طاخ! وينتهي الأمر« »(عشية الصمت«، ص 36). الكلاشنكوف ذو الإسم الرومانسي الذي دوخ أجيالاً شابة برمتها يوم كان مجرد التلفظ به قميناً بإستدعاء رموز الطهورية والفداء، يُستخدم هنا لإرهاب عابر طريق على سبيل التسلي، أو لتخويف صاحب بستان. في قصة »رجل يلعق الأسمنت« يفتعل الكلاشنكوف تحرشات ومعارك تافهة مع المارين في طريق ما. »أمرنا الركاب بالنزول وطلبنا بطاقات هوياتهم ورحنا نستجوبهم إلى أن داخلنا الملل، فسمحنا لهم بالذهاب. الآن سيبدأون بشتم الفلسطينين، قال موعد بعدما إنطلقت السيارة، فهززت رأسي موافقا«. في تحرش آخر ينتهي الموقف برأس تسيل منها الدماء بعد أن ركل صاحبها وأطيح به أرضا وأرتطمت رأسه بالشارع: صوب الفدائي الكلاشنكوف إلى رأس المصاب وأمره بلعق الأسفلت!
لكن أين باسم 2 في كل هذا؟ باسم2 نكتشفه مختفياً في القصة الأطول من المجموعة، والتي تحمل عنوان »عشية الصمت«، وهذه المرة نراقبه من دون أسم، زيادة في محاولة التحايل علينا والتخفي عنا. هنا ندخل مع باسم2، الذي هو واحد من ثلاثة فدائيين، بلدة »سقطت« بأيدي الرفاق. نرافقهم في أزقة القرية المدمرة، بين البيوت المهدمة، ونرى جثثاً لنساء ورجال مقتولين من دون سلاح، ونستمع لحوارات مأزومة باللامعنى. يفقد راوي القصة الذي هو ليس أي شخص آخر سوى باسم2 (متخفياً من دون إسم) بوصلة الأشياء. يتخلف عن صاحبيه إذ يجوبون القرية التي سقطت. يتأمل الدمار المحيط، يروعه كل شيء، يتمنى لو لم يكن. يختلط عليه الواقع بالتخيل، وتدهمه الكوابيس التي تلاحقه فيها طوابير الجثث عندما ينام مرهقاً لساعتين وسط الدمار، في بيت مهجور إلا من الجثث. يرى في الكابوس رجلاً ما قام فيه خطيباً يتوجه إليه بالزمجرة والوعيد والتهديد، ثم يدنو إليه ويختم زمجرته قائلاً: »إنها مجرد رحلة، هذا كل ما في الأمر«.
يفيق صاحبنا تدق على عقله كلمتان »إنها رحلة«. يلتفت إلى الجثث التي تحيط به من كل جانب فيراها من دون أفواه. الكل من دون أفواه حتى باسم2 نفسه تلفت إلى ذاته فوجد فمه وقد أختفى. النص يعلن عداوة ضارية ضد الشعار وضد الخطابات: لو فقد الجميع أفواههم، ومن ثم زمجرتهم، لكان أفضل. عندما يصحو باسم2 المتشظي باللامعنى على صوت رصاص بعيد يتمنى لو أن يكون الرصاص رصاص شجار بين صاحبيه ليجهز كل منهما على الآخر، كما كان باسم1 قد تمنى أن يجهز على من في البيت والجيران كلهم. يحتقر نفسه لتلك الرغبة، ثم يعاود تمنيها، حاثاً الخطى كي يجهز على من تبقى منهما، فيعاود من جديد إحتقاره لنفسه. يعثر عليهما يضحكان ويتمازحان على عجوز هي كل ما تبقى من بيت وعائلة. يستفزانها بعرضها على صاحبنا المحطم بعد أن يشتمه أحدهما ببذاءه وحركات متسفلة باليد. يقول له أكثرهما سفالة: »قد تكون مسنة من أعلى لكنها ليست كذلك من الأسفل«. تنتحب المرأة أكثر وتصرخ مستنجدة بأناس لم يعودوا موجودين. لم يحدث شيء، لكن كان ما لم يحدث جديراً بإثارة كل الغضب والتفاهة وتسعير النقمة داخل باسم2. كم كان أليما »تحرير« تلك القرية إذن، وكم طمرت بالشعارات الفاتحة.
في قصة »طاولة بيضاء مستطيلة« نرى كيف صارت ثقافة الحرب هي ما يشكل وعي ولاوعي الناس. يأتي الشاب الفلسطيني الذي تغرب إلى الخليج لفترة سنتين إلى والد من يريد خطبتها من بنات المخيم. الشاب المرتبك يتحدث لغة بسيطة، فيها أحلام بسيطة تليق بعروسين يبدءان حياتهما معاً. يحدث أباها كيف أنه جمع فلوساً لشراء غرفة النوم، وغرفة الضيوف، ويحلم بطاولة مستديرة يجلس هو وهي حولها وأي صديق أو قريب زائر، ليتحدثون. ليس هناك ثنايا بطولة أو »خطاب« فداء في لغة الشاب، أحلام عادية بسيطة وربما ساذجة. لكن والد العروس يباغته بالسؤال الإستنكاري: »أنت فلسطيني؟«، كأنما ينكر عليه أن يفكر كعاديي الناس. يصده: »ليس لدينا بنات للزواج«.
»باسم3«: سقوط براءة الإغتراب
»طريق بنتونفيل« مختلفة، نص روائي موسع بتكثيف للقطة يمكن أن نتخيلها واحدة من قصص »عشية الصمت« فيما لو كانت في نفس البيئة، لكن هي في مكان آخر. فهنا تدور الأحداث في نُزل تابع للبلدية تقطنه مجموعة بائسة من العاطلين عن العمل في شارع فرعي في منطقة »كنغز كروس« في لندن، أو »وسط البلد«. هنا واحد من أقدم أحياء لندن، يختلط فيه الغنى بالفقر، العابرون بالمقيمين، التأنق بالتسكع، النساء الجادات صاحبات الأعمال بالعاهرات اللواتي يتلطين في الشوارع الخلفية.
البطل الرئيسي في طريق بنتونفيل هو إلى حد ما حاصل جمع باسم1 وباسم2 مع إضافات من شخوص »عشية صمت« بترددهم، بحيرتهم، بالسأم الذي يفيض في حيواتهم، مضافاً إليه كآبة الفقر والبطالة عن العمل في مدينة لا ترحم مثل لندن: إنه باسم3. شخوص باسم3 (الذين يتصارعون في داخله، وقد ورثهم عن الكائنات الروائية التي سبقته) كثيرون ومتناقضون. إنهم لا يتسمون بالشجاعة، وهم يغيرون آراءهم سريعاً، يترددون إزاء أي موقف، يركضون، ثم يقفون، يعاودون الركض، ثم ما يلبثون أن يعكسوا أتجاههم كله. يحدثون أنفسهم كثيراً عما يتوجب عمله إزاء موقف ما، يعوضون بالبوح الداخلي للنفس عن الفعل في الواقع. يكررون لفظياً ما يريدون فعله أكثر من مرة، وكأن في التكرار اللفظي وهم تخليق الإصرار المفقود أصلاً.
عندما نبدأ جولة الحياة مع باسم3 الشخصية الرئيسة في »بنتونفيل«، نبدأ زمنياً من حيث لا ندري، تماماً كما مع شخوص »عشية الصمت«. كأنما نحن في فيلم سينمائي تبدأ اللقطة الأولى فيه وهي تصور أبطال الفلم من منتصف حياة كل منهم، فلا نعلم ما حدث لهم سابقاً، كيف جاءوا، ومن أين. نعرف لحظتهم الراهنة التي يرصدها النص، وهي لحظة يحشر فيها الزمن مقادير هائلة من الخوف، والقسوة، والهرب، والقرف، واللامعنى، فتصبح كفقاعة تكبر مع مرور الوقت تضغط على جدرانها الداخلية كل تلك المقادير فتجعلنا لا نترقب إلا إنفجارها المحتم. صفحة صفحة نبدأ بالتعرف على الحيوات الماضية للجميع في النص، ما عدا باسم3 نفسه. تبقى نقطة البداية سراً غامضاً يحاول إخفاءه عنا.
ندخل مع باسم3 لعبة معرفته أو عدم معرفته، يدور حولنا وندور حوله. في »طريق بنتونفيل« لا نعرف له ماضيا، ويربكنا. لكنا نكاد نرى ملامحه نفسها في »عشية الصمت« وفي »عندما عطش الوحش«. باسم3 في مرحلته الثالثة، نربط بينه هنا في النزل القذر في لندن وبين باسم1 الباحث عن فيزا للفرار إلى ألمانيا. كأنه نجح بالفرار من المخيم بعد جهود كبيرة، لكن جاء إلى لندن عوض أن يذهب إلى ألمانيا كما كان وكيل السفر المحتال يقول له. على كل، باسم1 لم يكن يهمه ألمانيا أم لندن، كان يريد أن يغادر وحسب.
كما وقفنا أمام باسم1 وباسم2 محتارين في مشاعرنا، فلا نعرف إن كنا نتعاطف معه أو نزدريه، نجد أنفسنا في ذات الموقف إزاء باسم3، وقد أصبح أكثر مرارة وسخرية وعبوراً للتجارب المريرة. هو الآن في لندن. سخريته البالغة تطال كل شيء حوله: الآخرين القاطنين معه في نُزل بائس للعاطلين عن العمل، الحياة وتفاهتها وقضاياها، وكل شيء آخر. نشاطه الأبرز والأثير إليه هو النوم. ينام حتى منتصف النهار، يبعثر ما تبقى من ساعات هنا وهناك، في الحانة القريبة، أو متجولاً في شوارع »كنغز كروس«، يرقب العاهرات ولا يُستثار بهن، يتأمل وجوه الناس، ثم يدلف إلى حانوت »ثيو« اليوناني القبرصي الذي يسكن في نفس النُزل القذر ليسأله إن جلب له الأقراص المهدئة. يتهاذران، ينمان حول قصص بقية النزلاء ثم يغادر شاتماً في ذاته ثيو متمنياً له كل سوء. يعود إلى النزل ونظرائه هناك: برندن، إيرلندي هرم حارب في الحرب العالمية الثانية ويشعر بالغبن وقلة الإمتنان من الدولة والبشر. غارث: شاب محطم طردته والدته من البيت بتهمة السرقة يعيش الآن على بيع الحشيش وأحياناً يرافقه صاحبنا إلى عالمه السفلي، بل وينتهز فرصة تركه لحقيبته الصغيرة معه ليسرق منها عشر جنيهات أكثر من مرة. ثيو ويون يونانيان قبرصيان أولهما يملك حانوت في الحي يتنافسان على كيت الإنجليزية صديقة ثيو لكن يغريها يون بالزواج مقابل مبلغ صغير حتى يتمكن من الحصول على إقامة قانونية. هناك أيضاً جيم الهامشي والهش مخمور معظم الأحيان مع كلبه الذي يثير صاحب النزل جورج ومساعده غاري الشاب المفتول العضلات الذي حارب في الفوكلاند والكل يناديه بـ»بطل الفوكلاند«.
خارج النُزل هناك راشد الفلسطيني شبه المخبول الذي يتكئ على حائط بنك باركليز قبالة محطة »كنغز كروس« طيلة الأيام شارداً فيما فعل على شاطىء غزة حين قتل ثلاثة جنود مراهقين وهم يسبحون عراة بعد طول تردد. كاثي هي صديقة باسم3 ناشطة سياسية زارت غزة وتأثرت بما رأت وصارت نصيرة للفلسطينين، كما هي ضد الحرب في العراق. تحثه دوماً على مرافقتها للمظاهرات الغاضبة سواء ضد إسرائيل أو أمريكا لكنه لا يلقي لها بالاً، يستلطفها ويستتفهها في آن معاً. نكاد نجزم أن وراءه قصة طويلة ومعقدة وغالباً مريرة. قريباً من النُزل هناك قاتل طليق يخطف العاهرات أو العاطلين عن العمل ويقتلهم في المنتزه القريب حتى »ينظف« الحي منهم.
جنود إسرائيليون أبرياء؟
باسم3 يحيره راشد الفلسطيني المذهول. أول ما تعرف عليه قص عليه قصته مع الجنود الإسرائيليين، دهش باسم3 لكنه سرعان ما صار يشعر بالضجر كلما رأى راشد وسمع قصته. راشد الذي تردد كثيراً في قتل جنود عزل من السلاح كان يقول له إنه لم يقتلهم إلا لسبب واحد وهو أنه لا يريد أن يأتي واحد متفاخر فيراهم ويقتلهم ليظفر ببطولة رخيصة ويصير بطلاً مناضلاً في غزة. بطولة رخيصة لأنها ستكون »مستمدة من مصادفة عبوره المحظوط في المنطقة في وقت أختار ثلاثة جنود أن ينسوا حقيقة أنهم جنود ويقبلوا على اللعب على شاطىء البحر كالأطفال … يفكر راشد ويقرر أن يطلق النار عليهم، لا لكي يظفر بصفة البطولة وإنما فقط لكي يفوت على شخص آخر فرصة الفوز بها. سيقتلهم ولن يخبر أحداً بالامر … ويتوارى عن الأنظار« (ص 123-125). اليوسف يجعل راشد يرى في الجنود »براءة« ما، صادماً قارئه صدمة عنيفة: براءة وجنود إسرائيليون؟ في ذلك المشهد المعقد يكمن أوج الرواية وخلافيتها. فيه تنقيب عن إنسانية الفلسطيني التي طمرتها المحن والحروب والقتل والإضطهاد. راشد يرى براءة في وجوه الجنود القتلة عندما يتراشقون بماء الشاطىء ويتضاحكون، يراهم بشراً، ويصطرع في داخله الإنسان والمناضل، يتعاركان شديداً قبل أن يصلا إلى المساومة الأخيرة: قتلهم من دون بطولة، قتلهم بنوع من الخجل الذي سيحطم راشد ويطرده إلى خارج أرض النضال دفعة واحدة. هنا صورة مفارقة لرفاق باسم2 في »عشية الصمت«: الفلسطيني الذي يخجل من القتل ولا يتلذذ به.
باسم3 يتفاقم كرهه ل »راشد« الذي لا يعمل شيئاً، وهو نفسه لا يعرف سبباً وجيهاً لتراكم الكراهية والإشمئزاز تجاه راشد. وباسم3 يزداد غموضاً بالنسبة لنا عندما يتعرف إلى القاتل الطليق الذي يفاتحه برغبته بالتخلص من راشد لأنه يتلطى كل يوم على حائط البنك لا يفعل شيئاً. باسم3 المتردد في كل شيء، الذي يريد أن يفعل الشيء وضده، والذي يكرر رغبته في عمل الشيء أكثر من مرة محاولاً بث التصميم في قراراته يمتلك الشجاعة ليتآمر على راشد، ويفعل. يوهم راشد أن شقيقاً له ينتظره في المتنزه القريب، حيث سيأتيه القاتل هناك ويجهز عليه بضربات خلفية على رأسه ثم بسكين يخترق قلبه. لحظتها كان باسم3 يراقب المشهد كله بلا مبالاة مفزعة، بل وأكثر فزعاً من ذلك، يغرقنا سمير اليوسف في موقف إنفجاري لفقاعة السأم واللامعنى عندما تجتاح باسم3 رغبة هائلة في مشاركة القاتل بركل راشد وضربه وهو يتضرج بدمائه. لكنه في النهاية يقع في يد الشرطة بكونه المتهم الأول، بمظنة أنه قاتل راشد. باسم3 »طريق بنتونفيل« كما هو باسم2 »عشية الصمت«، وكما هو باسم1 »يوم عطش الوحش« هو القاتل والقتيل.
خالد الحروب (كاتب من فلسطين يقيم في انجلترا)