من منّا لا يعرف سميح القاسم، الشاعر والأرض والقضية؟ من ممن يظنون أنفسهم يكتبون الشعر أو يكتبهم؟ وممن يقرؤون الشعر أو يقرأهم ؟ الشاعر الذي كان نبضه صرخة في وجه المحتل، ودمه نارا وحماسة، وثورة وتمردا، وأشعارا وقصائد، الشاعر الذي رُبط بينه وبين أرضه وقضيته، حتى أصبح صوته الثوري والحماسي مرادفا لها، وأصبح شعره مقصورا عليها، واسمها منحوتا في ردهات قصيدته الثائرة.
نعم كلنا يعرف «سميح القاسم» الاسم والشهرة والقصيدة والثورة والوطن، وكم منا حلم أن يكون في حظوته وحضرته وحضوره ليعرف سميح القاسم الإنسان؟ عني لم أحلم يوما بذلك، ولكن قداسة الشعر، وجمالية الصدفة أو القدرية تجعل أحيانا كل شيء ممكنا وحقيقيا وحادثا، فقد كان أن عرفت أن سميح القاسم سيكون معنا(2)، وبيننا، ونحن نحتفي بتأسيس ملامح القصيدة العمانية القادمة، والذاهبة نحو التجديد والمغايرة، القصيدة التي لا تروم الشكل والنظم فقط، القصيدة الحقيقية التي تستطيع المضي كخنجر في القلوب والضمائر، التي تستل بعمق وشجن ولا إرادية مطلقة كلمة (الله!) أو (نعم هذا هو الشعر)، القصيدة التي تنبع من روح شاعر حقيقي عظيم وجميل، هش ودافئ، صادق ومتواضع، ومؤمن بأن الكلمة روح والروح عطاء وتجدد، والشعر حالة إنسانية راقية، وليست ضربا من الهراء والتقليد والغرور والنرجسية، كما هي ليس تقليدا، إنها المجازفة بالجديد، والسعي نحوه، إنها الحياكة المتأنية على منوال العشق والألم والأرض والإنسان، وإلا فلتنسحب نحو الصمت، ونحو مساحات أقل، وأكثر تواضعا وخيبة من كلمة شعر.
نعم، كان «سميح القاسم»بيننا ومعنا في مسقط، وتحت أمطار الشعر الدافئة لأربعة أيام متوالية، وبلا مظلات واقية من كل ذلك الفرح والعشق والجنون والجمال، في مكان واحد تجمع الشعراء وعشاق الشعر ومريدوه وأهله وذووه وبنوه والمتطفلون عليه في بعض الأحيان!
كان الشعر سعيدا، كنت ألمح ذلك من قهقهاته الكثيرة التي تنطلق بين الفينة والأخرى، ومن بريق نواجذه غالبا، ومن صدى تصفيقه حين تعجبه قصيدة ما، أو صورة شعرية جميلة وجديدة وباذخة الرؤى.
نعم كنا وكان هو بيننا، وما كنت أصدق أن هذا العملاق سيكون بيننا، حتى فاجأني بمعنى الكبير والشاعر معا، إذ بدأ منذ أول لحظة يقول لنا إن الشعر هو الإنسان، وإن شاعرا بلا قيم ولا إنسانية ولا نبل ولا عظمة روح وجسارة خلق، ورفعة كائن لا يستحق هذا المعنى العظيم، وإن شاعرا بلا مبادئ ولا قضية ولا روح نبيلة تبحث عن الحب والمحبة، والجمال والسلام، ليس جديرا بهذا المعنى، نعم هكذا قدّم لنا هذه الدروس الصغيرة والعظيمة حين تواضع أمام زميله الشاعر الأصغر سنا وتجربة «حسن المطروشي» فقام إليه محييا وخالعا عليه كوفيته الفلسطينية ليجعله شريكا في الشعرية والقضية، ثم توالت شعريته خارج النص، حيث كان يجلس لأصغر شعراء المهرجان عمرا، يحدثهم ويشاركهم تجاربهم وأحلامهم وأفكارهم ودخان سجائرهم، وصحبة قصائدهم، وأحاديثهم الطرية عن كل شيء.
كانت أمسية سميح القاسم في الليلة الأولى للمهرجان، وكانت تعويضية بمعنى أنها لم تكن في وقتها المعلن عنه سابقا، حتى أن الكثير من الشعراء في البعيد من المكان تحسروا على ضياع هذه الفرصة للمثول بين يدي شاعر بقامة القاسم، وليست الصديقة «شميسة النعماني» التي أرسلت لي «مسجا» متألما وقد تهيأت كي تسمعه مباشرة، إلا مثالا للغياب وأمنيات الحضور، ومع هذا التغيير لموعد الأمسية، وعدم الإعلان عنها، فقد كانت القاعة الفندقية الكبيرة تضج بمن فيها، وتزدحم بالعشاق والشعراء والمتذوقة من الجمهور.
اعتلى شاعر العروبة والأصالة والأرض والقضية منصة الشعر فكان العطر والشجن والضوء يسّاقط من بين يديه ومن أمامه، وكان الجمهور متحدا معه اتحادا كليا، جمهور مختلف الجنسيات والأعمار والأرواح، ولكنه استطاع أن يجمعهم في وطن واحد، وجغرافية واحدة وتاريخ واحد، وكانت مشاعر العروبة والأرض والقضية متجسّدة في شخص واحد وقصيدة واحدة لسبعة عقود من الزمن، تاريخ شعري مجيد يسمى «سميح القاسم» .
بدأ يتلو قصائده بصوته المتهدج المتراخية أحباله بفعل الزمن والعذاب في سجون المحتل، وبفعل عناق سيجارته التي لا يخون، بدأ يشدو عن الظلم والقهر والاحتلال، وعن الصمود والتحدي والاعتزاز ، كان يفيض بالشجى والشجن والحنين والحلم، وكانت قصيدته عذبة وصادقة وقريبة كدمعة لا تغادر العين إلا للقلب، وحزينة كزفرة روح تتسلل بدفء للأرواح الأخرى، وعذبة كطفولة لم تغادره وهو على مشارف السبعين، وبين يدي الشعر والجمهور المتحد والمتوحد معه، كان صوته يعلو في نشيد متصل النشيج فتزهر في القلوب أغنيات الشجن، يعلو حتى يتعب، فيتناقص حتى يضيع، وكنا معه نذهب إلى حيث يريد، أو إلى حيث يريد الشعر، وكانت الدموع تقف على مسافة فرح من المحجر، تعانق كل هذا الشجن والجمال والبهاء بعزة وخفر.
وعلى مدى ثلاثة أيام بلياليها كان يغيب فيها من يغيب ويحضر من يحضر، يتغير السمار والجلاس، ويتغير الشعراء والمريدون والمتطفلون أيضا، كان سميح القاسم حاضرا، وشامخا كجبل، وهادئا كطفل، وصامدا كمعجزة، كان يستمع للقصائد – التي ليس عليه أن يستمع لها- بحنان الوالد، وعظمة الشاعر، وقوة القصيدة المتأسسة والمؤسسة لأجيال كثر.
كان أول من يحضر لافتتاح الجلسات، وآخر من يذهب منها، الجلسات الشعرية الفصيحة والشعبية منها، وقد كان يمكننا أن نتلمس له العذر في الثانية لاختلاف اللهجة، وبعدها عن مجال كتاباته الفصيحة والرزينة والرصينة، لكنه أبى إلا أن يحضر ويصفق بحرارة لكل قصيدة يصعد شاعرها للمنصة، ويقرأ نصه أيا كان مستوى ذلك النص وفنياته وجمالياته الشعرية. لقد كان بعظمة الإنسان، وجمالية الشاعر يقدم لنا دروسا في الالتزام والتواضع والنبل، وله الله في ذلك!
وحين قرأت قصيدتي «زنبق الماء إثم اليباس» في رثاء الماغوط، أوقفني ليقول «لقد غرت من الماغوط ميتا» ، فتأثرت حتى خفت أن أبكي أمامه، وأنا أدعو الله أن يحفظه للشعر وللعروبة.
نعم هذا الشاعر الحقيقي، الشاعر الجاد بلا هزل، والعظيم بلا غرور، والواثق بلا نرجسية، إنه القصيدة الإنسان، والإنسان القصيدة.
وطن بأجنحة
وقصيدة بقدمين
تجلس الشمس على كتفه كهدهد ينتظر الرسالة
ويجلس الشعر عند قدميه كنمر مروّض لا يثور إلا إليه
يمشي محفوفا بالقصائد وبهالة من سمو
كملك قديم
ينفر الحب من تحت ثيابه
كارتعاشة عاشق خانته المواعيد
وأسعفته الصدف
ويرتعش صوته إذ تغزله المسافات بالرؤى
وتغازله الأطلال بالحنين لما لا يجيء!
كاتبة وشاعرة من عُمان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تنويعا على محمود درويش «كزهر اللوز أو أبعد»
2 – في مهرجان الشعر العماني السابع (مسقط) 18- 21 / 12/ 2010.