أدخلها ضاحكاً من الفرح. المدينة الزرقاء العجيبة. حبيبة «تيمورلنغ» الذي قضى حياته يتَسَوّل عطفها، ورِضاها، محاولاً أن يكفِّر عن ذنوب صباه دون جدوى. في الساحة العظمى، ساحة «ريجيستان»، أهرب من الحشد. أجلس وحيداً. تحيط بي المآذن الزُرْق والقِباب التوركوازية. عَجَباً أرى!. وأصير أتملمَل في مكاني كالقاعد فوق نمل. أية روعة هي هذه؟ وكيف يفوت الكائن، طيلة هذه الأعوام، رؤية أمكنة مصيرية مثلها؟ ومِنْ أين لها كل هذا الجَمال!.
استعيد «تاج محل » الرائع في الهند. هو الآخر بناه المغول. أولئك الغُزاة، المغامرون، الذين اجتاحوا العالَم القديم، وخلَّفوا في أنحائه أعمالهم المثيرة. وأحسُّ اللَّسْنة تلْجمني: هذا المكان، مثل ذاك، لا يليق به إلاّ الصمت! لكن الصمت بلا تبَصُّر لا جدوى منه. أدير الأوضاع في رأسي، ومعها أدور. روح التاريخ تتملَّكني مثل تميمة سحرية.
قاعداً في الفراغ المنعش، أمرر بصري من أثر إلى آخر، دون أن أرتوي. أتطلَّع. وأعيد التطلُّع. جَمال الأمكنة، مثل جَمال الكائنات، يملأ أنفسنا ببراءة عميقة. براءة الانعطاف الإنساني من التَوَحُْش إلى التمدّن. ولقد أدركَ الفن الإسلامي ذلك. وبرَعَ فيه. وأبدعَ فيما صنعه، وزيَّنه، واصطفاه.
سمرقند! مَنْ كان يحلم قبلي بهذا المكان؟ أبتعد أكثر عن الحشد. أغلق الكتاب. أقرأ بعينيَّ الآيات المدوَّنة على الحيطان. أتساءل: كمْ من بشر مرَّ وراح. وكم من حاكم توَلّى، ووَلّى. ولم يبقَ في الفضاء سوى هذا الصرح الذي بناه «تيمور لِنْغ» الذي كان قاطع طريق متوحش في البدء. بداية الكائن لا تَشي به، إذن، وإنما نهايته. تلك التي يكتبها سراً، وتتراكم في نفسه كالذهب، أو كالرماد. وأكاد أصرخ في الفضاء المليء بالأزرق النوراني: يا رجل!
سمرقند ليست مدينة مبتدئة مثل طاشقند. وهذا يبدو واضحاً منذ أن تراها. المُدُن كالكائنات: مبتدىء ومجَرّب. ولا تكمن التجربة في «العُمْر» ، في الدَهْر، أو«المُدَّة» التي قد تخدع الرائي. إنهامغموسة في جوهر الكائن، في روح المدينة، وفي وجه الشيء. ولكن، ما هو الجوهر، في هذه الحال؟ إنه عبق التاريخ ، أو رائحته، أو مخزونه المرئي، واللامرئي، أيضاً. سذاجة الرائي لا تنفع، في هذه الحالة، شيئاً، حتى ولو كان سيّء النية. إننا إزاء مدينة مترعة بالتاريخ . وهو ليس تاريخاً مزيفاً، ولا مصطنعاً، ولا غفلاً. أُنْظُرْ!
نحيا من أجل التاريخ. من أجل تذكُّرُه، وتقديره. أو نقده، لا فرق. إننا نحيا فيه منذ أن نتذكَّر قبساً منه، ونستحضره. لنا منه، ومعه، مواقف، ومناقب، ومآخذ، ورُضاضات. لا أريد أن أكون حيادياً، ولا عدائياً. أريد أن أحب تاريخي كما هو، حتى ولو كان مريباً. مَنْ أنا لأتجنّب كل هذا العنف الجَماليّ الغارق في أبهة الماضي الآسر؟ إنه تاريخي الشخصيّ الماثل، الآن، أمام عينيّ حتى ولو لمْ أعشْ منه شيئاً.
نبدأ اليوم ( 27/ نيسان/2009) الرحلة الداخلية في سمرقند. هي مثل «دمشق» جميلة وقريبة من القلب. أنهارها صغيرة وعديدة، مثل «بَرَدى» وفروعه. نساؤها، أيضاً، بيض ومُسَوَّرات. ضحكاتهن حاضرة فوق شفاههن. وعيونهن تسائل الزائر، بدلال: من أين أنت؟ وسيكون ذلك بالفعل أول الكلام، منذ أن تلتقيهن. الخشية الممزوجة بالرغبة ترتسم بغنج على وجوههن. لكأن هذه المدينة لا تنتج إلا هذا الكمال البشري المحصَّن بالشوق والظمأ. مدينة أخّاذة هي «سمرقند». كانت محطة أساسية على «طريق الحرير». منها تصعد القوافل، أو تهبط، إلى الجنوب. في العصور الوسطى، كانت تعتبر «مركز العالم»(مثل مُدُن أخرى غيرها في أمكنة أخرى بعيدة! فالعالَم ليس وحيد المركز، كما سنعرف فيما بعد).
«سمرقند» مليئة بالمفاجآت. وسأرى الكثير منها خلال إقامتي فيها. «قرية القرميد الأحمر»على أطراف المدينة مذهلة. أشجار «الحور» الطويلة التي تحيط بها لا مثيل لها( ذكَّرتْني بالحور الباسق على «الخابور»). سواقيها الصغيرة ذات الفروع العديدة، هي نفسها سواقي «الجزيرة» المترعة بالماء. وكذلك، أعشابها الغريبة، والوُحول الملساء مثل التِبْر المبلول التي تفرش تربتها. إنها جنة «بدائية»، ما زالت تقاوم الفناء فوق هذا الكوكب الذي ستدمره حضارة الغرب، إلاّ إذا… هذه القرية المزتوتة على أطراف سمرقند، تختص بصناعة الورق من الحرير. وما زالت «المدَقّات المائية» فيها تستعمل لهَرْس الأشجار والأعشاب، قبل أن تمر إلى التصنيع. قبل أن تغدو حريراً جاهزاً ليتَوَرَّق. ورق الحرير المصنوع، هنا، والذي كان مستخدماً كثيراً في العصور الوسطى مقاوم للزمن. يمكن أن يدوم أكثر من ألف سنة (الورق الذي نستعمله اليوم، لا يدوم إلا قرناً أو بعض قرن، على سبيل المثال).
طاقة الإسلام لا تكمن في انتشاره الكوني، فحسب، وإنما في «انتشاره المختلف»، أساساً. هنا، نجد «إسلاماً آخر». عادات مختلفة، وتقاليد مغايرة تماماً لما نعرفه في الشرق العربي، دون أن يقلل ذلك من عمق المشاعر الدينية عندهم. لا بد أن تسامح الاسلام، وقبوله لما هو مختلف، واستيعابه لحضارات جديدة، ومفاهيم إنسانية أخرى عن الحياة والسلوك، كان عاملاً أساسياً في توسيع ساحات نفوذه، وفضاءات انتشاره. هنا، ندرك بسهولة كيف تكَيَّف الإسلام مع الواقع الجديد، ومع الوقائع المختلفة. كيف انتصر على الجمود الذي كان سيحُدُّ كثيراً من انتشاره لو تمّ التمسَّك به. أنْ تجمع اليوم بين القاهرة، ودمشق، وسمرقند، وأغْرا (حيث «تاج محل » الرائع، في الهند)، وحيدر آباد، وبانكوك، ونواكشوط، واستانبول، و داكار، و… مثلاً، ستفهم أن الإسلام لم يكن جُموداً(على العكس مما يُراد له اليوم)، وإنما كان تكيُّفاً واختلافاً.
«شاه زِنْدَهْ» ( الملك الحي)، آية أخرى من آيات الروعة في «سمرقند». هو مثوى «حسان بن عباس» الذي قطع «الزرادشتيون» رأسه، وألقوه في الجُبّ. لكنه «قام، واختفى، وسيعود»، كما تقول الأسطورة. إنه «مهدي منتظر»، آخر. ألوان، وآيات قرآنية، تزيّن جُدُر الـ«شاهي زِنْدَه»، كما يلفظ هنا. مساحات مقدسة ملمومة حول «المركز»، مثل رُفات كائن قام من الموت. مثل«بن عباس» الذي مشي بعد أن قطعوا رأسه. صَرْح مخيف من شدة الجَمال هو هذا الـ«شاه زنده».
أوه! ماذا يخبِّىء هذا الصرح من أفانين؟ وكيف لنا أن نستقرَّ في معرفتنا القديمة ( أكاد أقول جهلنا القديم) ونحن نرى ما نرى، الآن؟ قُبب وأساطيح. ألوان زُرْق توركوازية. فُسيفساء خالدة تزيِّن الجدران. المداخل هائلة الحُجوم. والأبواب سافرة ومنيعة. لا تعرف مَنْ أنتَ، هنا. لكنك تدرك جيداً أنك في فضائك الأصيل. فضاء الثقافة العربية الإسلامية التي أبدعَتْ مثل هذه الصروح الآسرة. لا شيء يمكن أن يحقننا بالمتعة والمعرفة مثل الرحيل. مثل مشاهدة أماكن لم نشاهد مثلها من قبل. ذلك، وحده، يجعلنا ننسى بلادتنا وخمولنا الذهني، ولو لفترة قصيرة. ليَتغَمَّد الله بالرحمة روح «بن عباس»، ومَنْ أقام له هذه العُمُد في «سمرقند».
رأيت «مراكش» الحمراء، و«عدن» الكَحْلاء، و«جيْبور» الخمرية في شمال الهند، واليوم، أرى «سمرقند» الزرقاء. لون التوركواز الأزرق الجميل هو الذي يسود في فضاء هذه المدينة الساحرة. وهو الذي يزيِّن الأضرحة والصروح فيها. الآن، أنا في حرمة ضريح الوليّ «خوجا أحمد» السمرقندي. إلى ضريحه، هذا، يحج الأوزبيك. ويكبّون النقود فيه، كما نفعل نحن في «قبر الست زينب» في دمشق، أو «الحسين» في القاهرة. وقد دُفِن هنا في القرن الرابع عشر الميلادي. وكان الولي« قاسم بن عباس» الذي أصِلُ ضريحه، للتو، هو أصْل ظاهرة الأولياء الصالحين التي انتشرت في آسيا الوسطى.
يبرد الجو، فجأة، في «سمرقند»، ويهطل المطر. ومع ذلك، لا شيء يحول دون التمتُّع بروعة هذه المدينة الساحرة : «جوهرة الشرق»، «مركز الدنيا»، «تحفة العالم الإسلامي»، كما تُسَمّى. الآن، نبدأ زيارة «قبر الأمير». وهو حفيد «تيمورلنغ». وكان يُهيِّؤه لخلافته. وقد مات في الحرب. فبنى له هذا القبر العجيب تخليداً لذكراه. من هنا، نعود إلى جامع «بيبي خانم» في قلب «سمرقند». وهي زوجة «تيمور لنغ». وقد بنى لها هذا الجامع تخليداً لحبه لها، كما فعل «شاه جاهان» في الهند، عندما بنى لحبيبته «ممتاز محل» في مدينة «أغْرا»: صرْح «تاج محل» الخالد.
صباح «سمرقند» الـمُمْطِر رائع هذا اليوم. بِمَ يذكُّرني؟ يتذكَّر المرء كل ما مرَّ به عندما يغرق في الروعة. العالَم مليء بالأفانين البهية، ولا يحتاج الكائن إلى طاقة عظمى لاكتشافها. يكفي أن يتأمَّلها بشغف. الحمقى، وحدهم، يعتقدون أن الروعة التي لا يعرفونها، أو لم يروا منها شيئاً، غير موجودة، أو هي تحتاج إلى جهْد كبير لكشفها! لكننا منذ أن نرى الأمم والبلدان، ونُلْسَع بالسطوع والسحر الذي خلَّفوه، ندرك كم نحن بُلَداء، وبلا معرفة. وأن ذاكرتنا البصرية، والفكرية أيضاً، محدودة بحدود بلداننا وخُمولنا. وفي هذه النقطة بالذات، نقطة الافتراق الحاسم عن البلادة والإكتفاء، تكمن أهمية السفر، وضرورة الرحيل.
اليوم، نزور المرصد الفلكيّ الشهير الذي بناه في أعالي سمرقند « أولوغْ بيكْ» حفيد «تيمور لنغ». كان فلكياً شهيراً. جمع حوله مشاهير علماء الفلك والنجوم، في ذلك الزمان. من أعالى هضبة المرصد، تبدو « سمرقند» نائمة في الضوء. منتشرة فوق القاع بهدوء. تمتد عماراتها حتى الأفق الغارق في الفراغ. في قلبها، قصور«تيمور لنغ»، والصروح التي شيدها لأحبابه، تعلو متشامخة نحو السماء. لآسيا الوسطى أسراها الكبيرة. و«سمرقند» واحدة منها. مدينة مضمَّخة بالنور، «سمرقند». حتى أنك صرت تحب أن تموت فيها. وأسمع صرير رئتيك تعبُّ الريح الآتي من الشرق. من شرق بعيد، نسيته، أو كدتَ. واقفاً عند أقدام المرصد المهجور، تتَلاشى في عَدَم لا يُقاوَم.
عندما يكون الكائن حيادياً تبدو الأشياء بلا معنى. ويفقد التاريخ مزية إغوائه. يغدو أحداثاً متراكمة لا تعني أحداً. ومَنْ، وما، لا جوهر له، يَتَلاشَى، سريعاً، ولا يبقىَ له أثر. لكن الحياة التي لا تستقيم بالوحدة والتجانس، ولا تتخلّى عن كونها متعددة المآرب والأشكال، هي التي تمنحنا طاقة الاهتمام العميق بما يجري حولنا. وتنقذنا من الانغماس المجحف في مثل هذه الإضطرابات.
كنتُ أريد أن أودعها. أن أودِّع «أماكني» التي ألِفْتها، سريعاً في «سمرقند». لكن المطر الغزير أوقفني في ساحة «راغيستان» العظمى، حيث «مِدْراسَهْ شيرْ دورْ»، أو مدرسة «الأسد الذهبي». ومن جديد، صرتُ أتطلَّع حولي مذهولاً. الرغبة في اكتشاف الأمكنة تُحَرِّضني مثل طفل يريد أن يكبر. وأبدأ المسير.
مصحوباً بالمطر والريح، مشيت شوارع «سمرقند»، إلى أن وقفتُ أمام تمثال الغازي «تيمور لنغ»، جالساً بأبهة في قلب الساحة. سيفه العظيم مسلول. يحدِّق في الأفق بحدة مثل صقر يريد أن ينقض على الفراغ. في عينيه رعشة من عظمة الكون. هو الذي قال :«العالَم لا يتَّسع لملكَيْن»! وكانت «سمرقند» أوسع من ذلك. مات ولم يحُزْ على لقب الـ«خان» الذي كان يحلم به. سلالة «جنكيز خان» الأعظم، لا تسمح بأن يلوّثها دم ليس من سلالة «الخانات»، حقاً. وكان، هو، مجرد «قاطع طريق» طموح، ترك أثره العميق على تاريخ القرون الوسطى. ولم ينفعه إعلان نفسه «ملك الكون». يا لخيبته التي لا عزاء لها.