إبراهيم أزوغ
كاتب وناقد مغربي
«الوطن البديل قد يبقيك حيًا، لكنه لا يمنحك الحياة.»
«الوطن مهما قسا هو جزء منا، مجرد التنكر له يشبه مريضا يريد التخلص من وجع يده بقطعها.»
(الرواية)
تقديم
ساهمت عوامل ثقافية وحضارية وتاريخية عديدة ومختلفة في جعل الأدب الإفريقي المكتوب بالعربية، مُكابرة ومرافعة إبداعية جمالية ولغوية، وتعبيرا عن النبوغ الإفريقي في الإبداع الأدبي بالعربية منذ وقت مبكر؛ حيث كان ولا يزال للارتباط الإفريقي بالثقافة العربية والإسلامية كبير أثر؛ بانخراط الفقهاء والعلماء والمتصوفة في الاهتمام البالغ بالعربية لغة للمعرفة والإبداع، وخاصة الإبداع شعرا، وقد شكلت التجارب الأدبية الحديثة، استئنافا وتطويرا للأدب الإفريقي في أشكاله الشعرية الأولى، بغنى مرجعياتها وتعدد أجناسها وتنوع أشكالها وتقنياتها الفنية، وموضوعاتها وقضاياها.
وإذا كانت إبداعات الروّاد أمثال أحمد بابا التمبكتي، والأديب الكبير أبي إسحاق إبراهيم الكانمي، وعيسى ألبي أبوبكر، ومختار سي، ومحمد أمين الجابي وآخرين ممن استأنفوا الإبداع الشعري في القرون القليلة الماضية والتي عرفت طفرة على المستويين الكمي والنوعي، تؤكد على ذلك الموسوعة التي أصدرها أستاذ الأدب الإفريقي بجامعة سنفونيا كوناكري بغينيا عمران كبا حول «الشعر العربي في الغرب الإفريقي»1، قد شكلت وتشكل دليلا راسخا على الإبداعية الإفريقية ونضج شعرياتها، فإن الإبداع سردا لا يقل مكانة وحضورا وجمالية عن الإبداعات الشعرية؛ فقد استطاعت النصوص السردية الإفريقية عموما والمكتوبة منها بالعربية على وجه التحديد، أن تجد لها موقعا بارزا في السردية الإبداعية الكونية.
إن الرواية الإفريقية المكتوبة بالعربية ليست أقل مكانة وحضورا وتميزا من الرواية الإفريقية المكتوبة بلغة المستعمر، وبلغات غيرها، التي عرفت طريقا إلى العالمية. ونذكر للروائيين الأفارقة الذين كتبوا بالعربية نصوصا روائية تُكابر بلغتها وشعريتها النصوص الروائية العالمية، ومنها: «الرئيس الذي لم يحكم» لجامع أبيولا، ورواية «السيد الرئيس» لحامد محمود إبراهيم الهجري، و«ادفع بالتي هي أحسن» للروائي النيجيري لجميل عبدالله الكنوي، ورواية لماذا يكرهوننا؟ لثالث مي أنغو.
ومثلما طغى الإبداع الشعري في المرحلة الأولى على عموم الإبداع الإفريقي قبل أن تليه الطفرة الإبداعية السردية، وزخم النصوص وانتشارها فقد كان الإبداع السردي الإرتري بالعربية في بداياته محتشما ومتقطعا قبل أن يغدو مثل نهر هادئ عذب يجري ماؤه باستمرار وانتظام بعد حرب التحرير الإرترية، وإدراك الأدباء قدرة النص السردي على التقاط الطارئ وتوثيق المتحول وقول ما عجزت القصيدة عن قوله من بطولات وانكسارات، ومواكبته تحولات المجتمع والإنسان مثلما استطاعت القصيدة في مرحلة الثورة أن تؤدي دورها في التجييش وإذكاء الحماسة.
تنوع إبداع إرتريا بين القصة والرواية فكان للنص القصصي حضوره الواضح في المدونة السردية مع أدباء لمعت أسماؤهم بتوالي إصداراتهم القصصية وانتظامها، ونذكر منهم تمثيلا لا حصرا عبدالرحيم شنقب، وعبدالقادر حكيم، جمال همد، والغالي صالح، والقاص والروائي مصطفى محمد محمود وآخرين.
وأما الرواية الإرترية فقد أصبحت تشكل صوت إرتريا الحديثة، ومدونة تاريخ نضالها ضد المستعمر، وملحمة ثورتها، ويعود ذلك إلى السبق الذي حققه الزعيم الوطني والسياسي الإريتري البارز والمبدع محمد سعيد ناود في كتابة الرواية.
إن ناود الذي منح للرواية الإرترية بالعربية انطلاقتها هو المناضل نفسه الذي أكد منذ بدايات نضاله في أوائل خمسينيات القرن الماضي على وحدة المشترك الثقافي الإفريقي العربي، ووحدة المجال والهم السياسي بانخراطه في بداية ممارسته للعمل السياسي في الحزب الشيوعي السوداني، ثم في مساهمته في تأسيس حزب «مؤتمر البجا» القومي السوداني الإرتري، كما عبر عن ذلك في مختلف مؤلفاته في الفكر والتاريخ والإبداع.
لقد انعكست السيرة الإبداعية لعراب الرواية الإرترية ومؤسسها «ناود»، وانشغاله الفكري والسياسي بقضايا الوطن والهوية والمشترك الثقافي والتعبير عنها، على الرواية الإرترية منذ نصه المؤسس الصادر سنة 1978، فجاءت النصوص الروائية بعده في تسعينيات القرن الماضي ملاحم للثورة وتخييلا لتاريخ المقاومة الإرترية للمستعمر، وقد اشتهر عدد من الروائيين الإرتريين المبدعين بالعربية لعل أهمهم؛ أحمد عمر شيخ2، أبوبكر كهال3، هاشم محمود4، محمود الشامي5، مصطفى محمد محمود، عبدالقادر مسلم، عبدالوهاب حامد، محمد إسماعيل هنقلا، منصور سعيد، وآخرين.
ويعتبر حجي جابر أحد أبرز هؤلاء الروائيين الذي ساهموا في إحداث الطفرة النوعية الذي عرفته الرواية الإرترية على مستويي الكتابة والتلقي، فقد أصدر جابر أربع روايات أخرى بعد روايته الحائزة على جائزة الشارقة للأدب العربي «سمراويت» (2012). وحازت ثالث رواياته «رغوة سوداء» الصادرة سنة (2018) بعد ثاني رواياته «مرسى فاطمة» على جائزة كتارا للرواية العربية، وقبلهما معا وصلت روايته «لعبة المغزل» إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد، وأصدر بعدها روايته «رامبو الحبشي» سنة 2021.
1 – من الاغتراب إلى التباس الهوية
اعتبر الباحث النفسي والأستاذ بجامعة القاهرة عبد اللطيف محمد خليفة «في كتابه» دراسات في سيكولوجية الاغتراب «أن التحليل النفسي للاغتراب» قد أسهم بشكل واضح في تفسير مفهوم الاغتراب، معتبرا أن الاغتراب أنواع كثيرة منها، الاغتراب السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والديني، وأعمها جميعا وأكثرها شمولا الاغتراب النفسي لأن هذا الأخير يعكس آثار الأولى ويشملها. ويشير الاغتراب النفسي حسب الباحث إلى «الحالات التي تتعرض فيها وحدة الذات الشخصية للانشطار أو للضعف والانهيار، بتأثير من العمليات الثقافية والاجتماعية التي تتم داخل المجتمع. مما يعني أن الاغتراب يشير إلى النمو المشوه للشخصية الإنسانية، حيث تفقد فيه الشخصية مقومات الإحساس المتكامل بالوجود والديمومة.»6
ويتحدد اغتراب الشخصية بسمات منها:
– حالات عدم التكيف التي تعانيها الشخصية، من عدم الالتفات للنفس، والمخاوف المرضية، والقلق والشعور بالإرهاب الاجتماعي والخضوع له.
– شعور الشخصية وإحساسها بعدم التماسك والتكامل الداخلي.
– ضعف أحاسيس الشعور بالهوية والانتماء، والشعور بالقيمة والإحساس بالأمان.7
يؤكد تعريف الاغتراب وتحديد سماته على أنه «شعور بعدم الانتماء وعدم القدرة على التكيف، وانشطار للشخصية»، وهو في المجمل نقص في الشعور بالهوية أو انعدام الشعور بها، وهو ما يعني أن الهُوية كذلك مشكلة نفسية وتجربة شعورية8.
يشير حسن حنفي أيضا إلى أن فقدان الهوية أو نقص الشعور بالانتماء قد يقود كذلك إلى الاغتراب مما يعني أن بين المفهومين جدلية، فأحدهما يقود إلى الآخر، والاتجاهان معا لا يعكسان إلا سؤال الانتماء وعدمه إلى الوطن، بما يعنيه من اجتماع بشري وثقافة، غير أن الهوية مثلما تقدمت الإشارة تعني كذلك مدى شعور الإنسان بأنه هو نفسه وليس غيره، فالهوية بهذا المعنى تتحدد «بمجموعة من التصنيفات الانتمائية التي يرى بواسطتها الإنسان نفسه ومحيطه»9. إنها بصيغة أخرى طرح لسؤال من أنا؟ وهو السؤال الذي يجعل حجي جابر حكاية رواية «سمراويت» جوابا له.
2 – الاغتراب والهوية المزدوجة
تأتي كل فصول الحكاية في رواية «سمراويت» لحجي جابر بضمير المتكلم، «أنا الساردة»؛ وهي علامة أولى تصادفنا وتدفعنا إلى الافتراض بأننا أمام محكي أوتوبيوغرافي موجه إلى القارئ يكشف بتوالي الفصول وتطور السرد بمكوناته وعناصره عن تصدع داخلي لشخصية السارد «عمر» بين مكانين؛ مكان شب فيه وحفظ دروبه وثقافته ووعى لغته، ومكان ينتمي إليه؛ نشأة وأصولا ولا يعرف عنه شيئا إلا من خلال حكايات الجدة.
يبدأ عمر سارد رواية «سمراويت» سرد حكايته بضمير المتكلم بحدث العودة إلى وطنه «إرتريا» الذي لا يعرفه إلا ما من خلال حكايات الجدة وما قرأ عنه من كتب أو سمعه وشاهده في قناة «ايري تي في». ويتناوب السرد بعدها في الفصول ليستعيد حكاية حياة عمر وهو في السعودية، وعلاقته النفسية الشعورية بإرتريا وهو بعيد عنها، وانطباعاته وأحاسيسه وهو فيها ووصفه لها.
يسائل عمر سارد الرواية عبر نمو السرد انْتِمَائَيْهِ؛ انتمائه إلى السعودية وانتمائه إلى إرتريا، يُسائل أناه بما تعنيه من هوية الانتماء إلى الأصول والجذور والأرض من جهة أولى، ومن جهة ثانية بما تعنيه من انتماء إلى المكان الذي شبت فيه الأنا وتشبعت بثقافته وعاداته وتقاليده وتحمل الأوراق القانونية للإقامة فيه والانتماء إليه.
يعمد السارد في بناء النص على عكس المحكيات البيوغرافية التقليدية التي تبدأ سرد حكاية الذات من الماضي في اتجاه الحاضر إلى قلب الاتجاه منطلقا من سرد حاضر الذات، وما هي عليه، في اتجاه ماضيها والعكس، مثلما يجعل من السرد بوصلة التحول والانتقال من مكان الإقامة والتواجد إلى المكان الأصل، مما يجعلنا نقول عنه، إنه سرد العودة إلى الأصول؛ عودة تَعَرُفٍ ومساءلة وإثبات الانتماء، «وعيا منه (السارد) بأن الذات ليست كائنا مستقلا، وليست كائنا من دون محددات»10.
يُؤكد سارد الحكاية في رواية «سمراويت» وهو يعود إلى وطنه، على أنه لا يسعى من خلال العودة، ولا هدف له إلا «تأسيس ذاكرة جديدة» (ص8)، بعدما اكتشف بغتة وهو في السعودية، منذ ثلاثين عاما (حيث عبر إليها وهو في بطن أمه، بعدما اضطُر الإرتريون إلى العبور بعيدا عن الحرب في اتجاه السودان والسعودية) أنه ليس سعوديا، لكنه في الوقت ذاته ليس إرتريا، يقول السارد: «في السعودية لم أعش سعوديا خالصا، ولا إرتريا خالصا. كنت شيئا بينهما، شيء يملك نصف انتماء، ونصف حنين، ونصف وطنية» (ص11).
إن هذا الاغتراب الذي يجعل عمر سارد الرواية الذي كان في حاجة إلى ثلاثين عاما كي ينتبه إلى أن اللاجئ والوافد يظل لاجئا أو وافدا هو تعبير واضح وصريح عن ازدواجية الهوية، التي تعيشها الذات بين الانتماء إلى وطن بديل تعرف عنه كل شيء؛ التاريخ والثقافة واللغة، وتعرف حجَره وبشره، أزقته ودروبه، تعايش ليله ونهاره، وتشجع فرق كرته وتخوض في شؤون اقتصاده وسياسته وآراء رجال دينه، تكتب عنه كل يوم، والانتماء إلى وطن أصل تجهل عنه كل شيء.
إن رواية «سمراويت» تسعى من خلال سرد حكاية حياة عمر إلى طرح سؤالين مهمّين؛ يتحدد الأول في مساءلة عمر ذاته: من هي بالنسبة لنفسها؟ هل هي سعودية جدّاوية (نسبة إلى جدة) أم هي إرترية؟ ومن هي بالنسبة إلى غيرها من السعوديين أو الإرتريين؟
هي بدون شك ليست سعودية بالنسبة إلى نفسها، لأنها بذلك تجعل نفسها بدون جذور أو أصول وبدون ذاكرة وتاريخ، ولا يمكن للإنسان أن يعيش بدونها، وهي كذلك ليست سعودية بالنسبة للسعوديين، رغم ما كانت تسمعه من الجميع «شكلك جدّاوي»، ورغم محاولتها نفسها الاقتناع بأنها سعودية في إجاباتها عن سؤال الآخرين لها عن الانتماء «منين الأخ؟ من النزلة» (85) ورغم كون الإرتريين «لا يعرفون لهم وطنا آخر غير النزلة» (86) إلا أن بعضهم لا يعتبرون الإرتريين بمجرد معرفتهم كذلك، إلا «مجرد أجانب ليس أكثر» (ص52). «كرابيع/ جرابيع» ومواطنين من الدرجة الثالثة أو الرابعة.
وعمر ليس إرتريا، ذلك لأنه يفتقد لأدنى شروط الانتماء، فهو لا يعرف عن إرتريا شيئا، ولا يحفظ نشيدها الوطني11، وإن كان كذلك تجاوزا، فهو مثلما قالت عنه سمراويت وهي تخاطبه في أول لقاء لهما «يبدو أنك إريتري مستجد» (ص62) ولم يذهب إلى إرتريا إلا مثلما يقول: «جئت بنفسي إلى هنا، كي أتعرف إلى وطني أولا، ولأصل لقناعتي الخاصة حوله» (ص62).
إن انشطار الهوية سيتطور بموازاة اكتشاف الذات الساردة أنها ليست سعودية كما تعتقد بالنسبة إلى الآخرين، وليست كذلك بما تكتشفه وتفكر فيه أو تبوح به مع تطور السرد، من كونها تزداد اغترابا كلما وعت اختلافها عن السعوديين بمعاملتهم لها بكونها ذات أجنبية، يقول السارد ساردا أحد مونولوجاته: «أمعنت جدة في القسوة على أبنائها، حولتهم إلى مجرد أجانب، هذه الكلمة التي أعادت رسم خطوط الطول والعرض حول كل مقيم، بحيث أدرك بعد كل هذا العمر أنه لم يكن سوى أجنبي طارئ. أجنبي تتقزم آماله وتنحصر بحياة عادية (…) لم يخرجني من استغراقي إلا صوت والدة سمراويت» (87-88).
تتعدد صور اغتراب السارد، وتتناسل في الرواية لتفرز أنواعا من الاغتراب عن وطن الإقامة والوطن الأصل؛ تتوزع بين الاغتراب النفسي والاغتراب السياسي والثقافي والديني واغتراب عن المكان، واغتراب في الزمن، واغتراب عن الأهل وبينهم، وعن الأصدقاء، واغتراب في العمل، لتعود به الذاكرة إلى معاناة البداية، حيث رفضت المدارس تسجيله بدعوى أن نسبة الأجانب اكتملت في المدرسة فظل محروما من التعلم، باعتباره أول الحقوق وأدناها، فكيف يكون مواطنا في وطن يحرمه من التعليم، ويجعله يعيش انشطارا في طفولته، بين هوية حقيقية كطفل لا يتعلم وهوية كاذبة؛ طفل يرافق الأطفال في الصباح حاملا محفظته فوق ظهره ويعود معهم دون أن يدخل باب المدرسة، رغم استجداء الأم للمسؤولين وإلحاحها في الطلب؛ إنه الاغتراب الأول اغتراب الطفولة الذي لن ينمحي.
وإذا كان السارد بعودته إلى إرتريا وطنه الأصل عودة «تدريجية –مثلما يقول- كي أصبح إرتريا» (ص 147) ليتحول فيصبح مثل رحالة زائر يصف كل شيء محاولا القبض عليه مخافة أن ينفلت منه، وأن ينصرم كما انصرمت منه أعوام جعلته غريب الوطنين، معبرا عن دهشته وارتباطه وتأثره، ومعبرا كما يقول: «عن جوعه» الشديد للمعرفة بالوطن، فإنه وبجرأة واضحة يكشف تناقضات المجتمع بما تعرفه الشاليهات الليلية من موسيقى صاخبة وسكر وحشيش ورقص وأجساد عارية ونصف عارية ومفارقات ساخرة، يقول السارد:«يؤذن الفجر، فيتنادى السكارى والمرفوعون بالتوقف عن الرقص إجلالا للأذان دقائق ويعود الصخب من جديد لاستغلال آخر لحظات الفلة قبل أن ينفض البارتي… تطلع الشمس فتكتب نهاية ليلة عامرة بالتفاصيل، يبدأ الناس في المغادرة باستثناء مجموعة صغيرة استطاعت تشبيك فتيات جدد، هؤلاء فقط كان مسموحا لهم البقاء، واستخدام غرف الشاليه» (ص124)، كما يكشف نفاق رجل الدين وكيله بمكيالين كلما تعلق الأمر بالنظر إلى ابن جنسيته ومقارنته بغيره متجاهلا شعار «الأخوة الإسلامية» والمشترك الإنساني.
إن اكتشاف ذات السارد خطأ معرفتها وشعورها بحقيقة انتمائها، وخطأها في نظرة الآخرين وتصورهم لها، جعلها تعيش الاغتراب بمختلف أنواعه، وخاصة الاغتراب الاجتماعي والثقافي الذي سيقودها بدل الاستكانة إلى العزلة والانطواء وفقدان الشعور بالانتماء والانهزام النفسي ورفض كل شيء، إلى التحدي وخوض رحلة البحث عن الذات وصيغ أخرى للاندماج؛ اندماج جديد ومغاير، اندماج يرفض الازدواجية في الانتماء أو انتماء إلى وطن لا يمنحك حتى حق الصراخ كما تشاء رغم أنه «ليس سهلا أن تبدأ متأخرا جدا في اكتشاف لغتك الأم وفي المرور على مفرداتها دون التعثر بالتأتأة» (ص183) فهل يستطيع من يبدأ متأخرا في تحديد هويته وتشييد ذاكرته وبناء أصوله أن ينجح، بصيغة أخرى هل يمكن لهوية تشكلت أن تتحول وتتغير إلى أخرى؟.
ليست قصة الغرام والعشق التي تجمع بين عمر سارد الحكاية السعودي الإرتري الذي عشق بمجرد وصوله «أسمرا» عاصمة إرتريا؛ فتاة بهية الطلعة مشرقة الوجه ساحرة العينين باسمة الثغر اسمها «سمراويت»؛ سوى ترميز لعلاقة السارد التي نشأت بينه وبين أسمرا عاصمة إرتريا التي ترمز لها سمراويت، يقول عمر: «إن الحب هو أجمل سوء تقدير بين الرجل والمرأة… سمرا.. أحبك» (ص64)، لكن هل ستظل العلاقة دون أن تعوقها عوائق أو تنتزعها؟
أن تعود الذات إلى أصولها وإلى انتمائها الحقيقي وإلى البحث عن ذاتها سعيا إلى أن تعيد تشييد ذاكرتها واسترداد حقها في الشعور بالانتماء جغرافيا وتاريخ وثقافة وغيرها، لكن هل يمكن ذلك؟ وإذا كان ممكنا فهل الذات وحدها المسؤولة عن استرداد حقها متى شاءت وكيف شاءت؟ وهل يسمح لها بذلك؟ أي هل للآخرين دخل كفعل مساعد أو معاكس في عملية التحول هذه؟
تقدم الرواية بعد سيرة العشق والارتباط والانسجام التي عرفها عمر سارد الرواية بمجرد وصوله إلى أسمرا ولقاء سمراويت جوابا آخر ملغزا برفض أم «سمراويت» (وهي عنصر خارجي لا ينتمي إلى الهوية نفسها التي تنتمي إليها سمراويت وعمر) ارتباطهما، يقول السارد عمر: «وتمر سمراويت وطن نجاة ينهي وحشة اغترابي لبعض الوقت.. يا للأسى، حتى الوطن بات مثلنا تماما.. شيئا طارئا» (ص189).
فهل معنى ذلك أن هناك موانع تحول دون بقاء الإرتريين/ اللاجئين/ الوافدين في أوطانهم بعد عودتهم، أم نبني تأويلا وقراءة أخرى تفترض معنى بناء على أسئلة جديدة؟ أم نرسم للحكاية مسارات أخرى وتلك من مهام الكاتب.
إن مقاربة الرواية تكشف عن اغتراب السارد والتباس هويته، لكن هل يمكننا القول إن الرواية الإفريقية عموما، والإرترية على وجه الخصوص، تجعل الاغتراب والتباس هوية الإنسان الإفريقي من موضوعاتها المهيمنة، وتشكل الرواية بالتالي تعبيرا عن اغترابه وهويته الملتبسة.
إذا كنا نؤكد على ذلك في رواية حجي جابر، فإن الوصول إلى نتائج نقدية موضوعية تؤكد أو تنفي هذا الافتراض،لا يحتاج إلى بحث موسع يوسع متن اشتغاله وينوِّعه.
الهوامش
1 – عمران كبا «الشعر العربي في الغرب الإفريقي في القرن العشرين، منشورات المنظمة للتربية والعلوم والثقافة. إسيسكو. 2021.
2 – لأحمد عمر شيخ روايات منها «الأشرعة» ،»أحزان المطر»، «ريح حمراء»،»الهش».
3 – أبو بكر كهال، كتب الشعر والقصة القصيرة والرواية والسيرة ومن رواياته . رائحة السلاح، بركنتيا، لؤلؤة البخت، رجال بعد الإعدام، قرصان خليج عدن، سفر النحس.
4 – هاشم محمود من رواياته «الطريق إلى أدال» و»تقوربا» و»شتاء أسمرا» و»عطر البارود» كولونيا الجديدة» و»الكتيبة 17».
5 – محمود الشامي «9 مارس» و»وثالثهما الفنجان» و»روزلين يقظة الحلم»،
6 – خليفة عبد اللطيف محمد: دراسات في سيكولوجية الاغتراب، القاهرة، دار غريب للطباعة والنشر، 2003، ص80-81.
7 – خليفة عبد اللطيف محمد: دراسات في سيكولوجية الاغتراب، ص81.
8 – حسن حنفي:الهوية، المجلس الأعلى للثقافة، الطبعة الأولى 2012.
9 – محمد الكوني: سؤال الهوية في شمال إفريقيا تعدد والانصهار في واقع الإنسان والتاريخ والثقافة، المغرب د-ط، 2014، ص13
10 – حسن المودن: الكتابة النسائية العربية، ص 106
11 – تناهت إلى مسامعي أنغام متقطعة تعزفها فرقة فيما يشبه الإحماء …فرحت لأن ذلك منحني إحساسا بأني لست غريبا على هذه الأجواء. أنا أعرف هذه الأغنية ..بس ناسي اسم الفنان كنت فرحا بهذا الاكتشاف لدرجة أني رفعت صوتي وكأن حديثي لم يكن موجها إلى أحمد فقط لم أنه جملتي تلك، حتى انفجر من حولي ضاحكين بطريقة هستيرية…سحبني أحمد من يدي بطريقة متوترة إلى جهة من القاعة: فضحتنا الله يفضحك…هذا النشيد الوطني» 25