تعودنا دائما على فكرة أن تُطرح عُمان خارج السياق السياسي العام، لأنها لا تتدخل في شؤون الآخر ولا تحب أن يتدخل الآخر في شؤونها، ويرى البعض أنّ ذلك يحرمها فرصة أن تُسجل موقفا مما يدور حولها، فيما يرى بعض آخر أنّ صمتها نعمة كبيرة عليها وعلى مواطنيها. لكن القاص والروائي سليمان المعمري فعل العكس تماما، إذ قذف بنفسه وشخصياته إلى قعر المنطقة المتوترة وعالية الحساسية، ليس عبر التنظير المتشنج، وإنما عبر الكتابة الروائية المغامرة والساخرة وهو يُصدر رواية « الذي لا يحب جمال عبدالناصر»، عن مؤسسة الانتشار العربي. وكأن حال الرواية يقول: «المجتمع العماني ليس معزولا عن تحولات الوطن العربي كما يظن البعض، بل متأثرا بالحراك السياسي ومتفاعلا معه، فقد أصبح له صوت مسموع في ساحة الشعب وخرجت القضايا الكبيرة من صمتها، ومن «الطبطبة» عليها ومن تسكينها وتخديرها، لتصبح فجأة مكشوفة، ولدى كل منّا الجرأة لأن يتحدث عنها».
التوقع الأول الذي يمكن أن تُحس به عندما تُفكر بقراءة عمل عربي يتحدث عن الثورات التي اجتاحت العالم العربي، هو أنّك على موعد مع عمل مُعقد، جاف وجاد، ولكنك تتفاجأ بأنّه لا يُمكنك أن تُمسك نفسك عن الضحك منذ بداية الرواية حتى آخرها. يمتلك المعمري قدرة هائلة على تحويل النقاشات التي تدور حول السياسة والحرية والمثقفين إلى مادة صالحة للإضحاك، رغم أنك في عمقك تُدرك مقاصده البعيدة التي قد تحملك على الألم والتوجع. كما قد تفعل الكوميديا السوداء. فالاصطدام مع الضحك يبدأ منذ العنوان «الذي لا يحب جمال عبدالناصر» ، ليس الضحك وحسب وإنما الفضول، فمن ذا الذي لا يحب جمال عبدالناصر، بل لماذا لا يحبه؟
يجد المعمري مسوغه الفني الفانتازي ليجلب جمال عبدالناصر إلى عُمان. وهو ليس بالشخصية العادية والعابرة بل رمزا وطنيا وقوميا كبيرا، وقد لعب دوراً مفصلياً في التاريخ العربي وليس المصري فحسب. فعندما رغب بالخروج من قبره، وجد له حارس البرزخ وسيلة قانونية تسمح له بالعودة إلى الحياة، وذلك بانتزاع جزء من كراهية شخص له لا يزال على قيد الحياة. يطلب حارس البرزخ من الرئيس الراحل أن يُحاول انتزاع ولو 1% من الحقد الذي يحمله في قلبه عليه، حتى يحصل على مكافأة العودة إلى الحياة.
المعمري لا يُفلت سنارة الفضول التي يصطادك بها بمهارة، إذ يُلقي بها في قعر روحك ليشدك إليه بكامل انتباهك. تشعر برغبة الضحك والفضول معا، منذ أن يضع جمال عبدالناصر في مواجهة خصمه المصري بسيوني سلطان الذي يعمل مُصححا في جريدة «المساء» في سلطنة عُمان. يكن بسيوني كراهية هائلة لهذا الرئيس. فينطلق جمال عبدالناصر، في رحلته للوصول إلى الشقة رقم 18 في منطقة الحمرية، ولكن عندما فتح بسيوني سلطان الباب، ورأى جمال عبدالناصر أمامه بشحمه ولحمه، شهق شهقة قوية وسقط مغشيا عليه. لكن أليس مضحكا أن يأخذ جمال عبدالناصر باقة ورد ليقدمها لبسيوني، فيقابل بسيوني الورد بإغماءة طويلة للغاية. بل يترك له بطاقة كتب عليها: «ارفع رأسك يا أخي. مُحبك جمال عبدالناصر».
بالمقابل يُصور المعمري محبة العمانيين لجمال عبدالناصر. قالت إحدى الشخصيات: «احنا في عمان نعتبر جمال عبدالناصر عُمانيا. أنا عندي صديق اسمه جمال عبدالناصر الفلاحي أبوه سماه جمال تيمنا بالزعيم الكبير». المفارقة الذكية، وصول عبدالناصر إلى عُمان في اليوم الذي كانت تحتفل فيه بذكرى الثالث والعشرين من يوليو يوم انطلاقة النهضة المباركة. ابتسم عبدالناصر بحبور وقال في نفسه: «والله فيكم الخير يا عمانيين».
العجيب أنّ هذا المدخل الروائي يُشعرنا بأننا على موعد مع مواجهة فتنازية لا معقولة بين رجل أسطوري خرج من قبره ليستل حقد رجل كاره له كرهاً شديداً لأن اجراءات الاصلاح الزراعي وتحديد الملكية التي قررها أدت إلى مُصادرة جزء من الأراضي التي كانت عائلته تملكها. لكن الرواية تذهب بعيدا عن هذا التوقع، إذ أنها تجذبنا من تحليقها اللاواقعي إلى أرض الواقع كما هي، كما تعايشنا معها، فلا نعود نعرف شيئا عن جمال عبدالناصر، ولا يفيق بسيوني ليخبرنا شيئا، ولكننا نعرف الكثير عن بسيوني من خلال رفقته ومن خلال الفصل الكامل الذي يفرده عنه.
تبدأ الرواية بالراوي العليم وتنتهي إلى الراوي العليم الذي يُخبرنا عن محاولات جمال عبدالناصر للصحو مجددا، وكأنها محاولة لصحوة القومية العربية «أعرفك جيدا، عندما تبدأ كلامك بـ «ياااه»، فأنت تريد أن تطلب شيئا». وبين الفصلين الأول والأخير عدّة فصول تنهض على فكرة تعدد الأصوات، إذ يتيح المعمري لشخصياته فرصة التحرر والتحدث. قصص شخصياته تتقاطع فيما بينها وتتداخل، عمودها الفقري هو جريدة المساء التي تجمع كل الشخصيات، بالإضافة إلى علاقة الجميع بـ بسيوني.
أحسن سليمان المعمري اختيار البيئة التي تدور فيها معمعة الأحداث. جريدة «المساء» توفر فئات متنورة ولديها مواقف مما يحدث في الشارع العربي والعُماني، كما توفر تنوعا في الجنسيات. وهي بيئة تُواكب الحدث فعندما يتوتر الشارع تتوتر الجهات الإعلامية بالضرورة، وعندما يهدأ تهدأ. كما أنها بيئة تُعطي مؤشرات حول مساحة الحرية اتسعت أم ضاقت.
تكاد تعرف أبطال سليمان المعمري واحدا واحدا، تكاد تشعر أنك جلست معهم واحتسيت القهوة أو شربت الشاي، تكاد تصدق أنك اعتصمت معهم في ساحة الشعب. فهم من لحم ودم ، هم جزء من حكاية رجل الشارع العادي والصحفي والإعلامي والكاتب في عُمان، وبدرجة أقل من ذلك نجد حكايات عن مصر وعن تونس في حقبة عربية مُهمة شهدت تغيرات سياسية واجتماعية.
يسحب سليمان المعمري حدثا لا معقولا كخروج جمال عبدالناصر من قبره إلى واقع حقيقي ومعاش، وكأنه يقول لنا، ما يحدث منذ 2011 لا يزال خارج منطقة التصديق بعد سنوات طويلة من التكلس وبقاء حياتنا العربية على وتيرة واحدة، فإن كنا لا نُصدق خروج جمال عبدالناصر من قبره ونظن ذلك ضربا من الخيال، فإننا بالضرورة لم نكن لنُصدق أيضا قبل 2011 بخروج الشعوب العربية من صمتها.
بل يحملك المعمري إلى مفارقات أكثر طرافة فثمة احتمال وارد أن لا يكون جمال عبدالناصر قد مات 1970 وإنما خطفه أحد السحرة فصار من «المغايبة»، كما يتوارد في المخيلة الشعبية العمانية. و«المغيب» يظهر بعد موت الساحر الذي سحره. ربما يكون الساحر عُمانيا أو مصريا وافاه الاجل خلال مؤتمر للسحرة في عُمان. ورغم طرافة ما ذهب إليه المعمري إلا أنّه يُحيل أيضا إلى موت الساحر الآخر الذي ظل مستحوذا وبقوة على كراسي السلطة. يُحيل باقتدار إلى أنّ الشعوب وإن كان مصيرها متخبطا الآن إلا أنها استفاقت من سحر الساحر الذي كبّلها طويلا، وغيّب عقلها وخياراتها.
وإلى جوار السخرية واستثارة الفضول يشتغل المعمري بذكاء على المتناقضات. فيصحو جمال عبدالناصر في زمن انتعاش خصومه، زمن استيقظت فيه الحكومات الإسلامية. ويكون شرط استعادة عبد الناصر لدوره في الزمن الراهن بجعل من يكرهه يتخلى عن الكراهية. بالمقابل يُضيء لنا المعمري توجهات بسيوني الإخوانية التي تُخالف سياسة جمال عبدالناصر لدرجة أنه لا يكتفي بالتصحيح اللغوي، بل يذهب إلى مراقبة النصوص من وجهة نظر «الإخواني».
يتخذ المعمري من التاريخ مادة له، ولكنه يُطعمه ويُنكهه برائحة الفرد. من منطلق أنّ الأفراد هم مرآة تغير المجتمعات. ويستعين المعمري في أحد الحوارات بما قاله كونديرا: «إن المؤرخ يروي تاريخ الجماعات بينما يروي الروائي تاريخ الفرد».
وبالرغم من أنّ المعمري يُفسح لشخصياته مجالا لأن تحكي بصوتها الخاص، إلا أنها تراوده لتضيء حكايتها من خلال حكاية بسيوني. نرى مثلا رئيس القسم الديني المتدين، الذي يُؤمن أنّ المواضيع الخلافية بين المذاهب لا يمكن أن تُخرجنا من الملة، يصطاد بسيوني يأكل تفاحة في نهار الثلاثين من رمضان وعندما يسأله عن ذلك يقول: «الناس كلها شافت الهلال إلا إنتوا يا العمانيين هلالكم ما هلش»، وخلاف آخر حول مسألة الخلود في النار. كما نتعرف على المصحح السوداني الذي كان يُشعره بسيوني دائما أنه أقل منزلة منه، فهو يسخر من تأخر ثورة السودان ومن تقسيم السودان وتسمية جمعتهم جمعة «لحس الكوع»، ثم يكبر الخلاف ويتصاعد على مسائل التصحيح اللغوي. رئيس القسم الثقافي الذي اذا ما وضع في محك الاختيار بين أمرين فهو يختار الاثنين معا قال له بسيوني: «الحداثيون أعداء الله»، فاكتشف أن الاحتجاج على بسيوني ضرب من العبث. رئيس التحرير يغتاظ من بسيوني ولكن عندما يُقارن بين حسناته وسيئاته ترجح كفة الحسنات، لذا فكر أن يُجدد له العقد ما أن يصحو من غيبوبته. قال سالم الخنصوري: «عندما تذكر اسم جمال عبدالناصر أمام بسيوني، فكأنك تسحب السيفون».
المصحح التونسي بائع المقويات الجنسية لم يحب بسيوني قط ، لكنه تعاطف معه في غيبوبته. زوجة رئيس الجريدة عضوة في اللجنة الوطنية لحقوق الانسان، سعت لأن يحصل بسيوني على الجنسية العُمانية ولكن غيرت رأيها عندما اعتدى بالضرب على ابنها سليمان وهو يُعطيه دروسا خصوصية. هي مثال المرأة الناجحة التي تنهال عليها طلبات لتقديم محاضرات عن حقوق الانسان، ولكن رغم كل القوة الخارجية التي تحيط نفسها بها الا أنها امرأة هشة ومكسورة فهي تعلم أن زوجها يخونها وتصمت.
المترجم المصري، نصحه بسيوني قائلا: «سيبك من لغة الكفرة دول»، ودار جدل كثير حول اللغة العربية كونها لغة أهل الجنة. رئيس قسم المحليات يتحدث عن بسيوني قائلا: «لماذا اتلذذ بمضايقة بسيوني، رغم أنني في داخلي لا أكرهه. لاحظوا أنني لم أقل إنني أحبه أيضا، بل إنني سأستغرب إن وجدتُ شخصا يقول لي إنه يحبه. إنه من ذلك النوع من البشر الذي يُنفرك منه بمجرد رؤية وجهه المتجهم فكيف إذا سمع المرء شتائمه البذيئة أو جدالاته العقيمة». ويفرد المعمري فصلا كاملا لبسيوني ليتنفس عبره، ويحكي عن سر كراهيته لجمال عبدالناصر.
وبالرغم من روعة النص الذي كتبه عبدالله حبيب، «المشي في جنازة رجل عظيم»، وعلى الرغم من أنه يتحدث عن ذكريات تشييع جنازة جمال عبدالناصر، إلا أني شعرتُ بأنّه مقطع مقحم وخارج سياق الرواية ووجوده وعدمه واحد، ولم يحقق أي إضافة. ربما تكون محاولة لتصعيد لعبة دمج الواقع بالمتخيل، ولكنها تبقى خارج التوليفة الروائية الذكية والمحبكة لأروقة وأقسام جريدة المساء. تبدو طارئة على الرواية، وليتها جاءت في سياق ما بدلا من أن تأتي مبتورة هكذا.
زينب العجمي تحكي عن رغبة بسيوني في الزواج منها زواج متعة. وبالرغم من أنّ زينب شيعية إلا أنها تعتبر هذا النوع من الزواج امتهانا للمرأة. نستطيع أن نقول بأنّ زينب العجمي هي الشخصية التي صنعت توازنات الرواية ودللت على التنوع المذهبي المتعايش في عمان، فقد تزوجت من خالد الخروصي «الأباضي»، وأنجبت منه «علي» الابن الذي حمل شراكة مذهبين. نكتشف أيضا أنّ والد زينب هو أحد أفراد المجموعة السياسية التي ألقي القبض عليها في الثمانينات بتهمة الانتماء إلى تنظيم محظور، وزوجها خالد الخروصي كان عضوا في تنظيم الإمامة الذي تمّ توقيفه 2005، ابنهما «علي» شارك في اعتصامات 2011 في ساحة الشعب في عُمان. وأكثر من ذلك.. تُدخل زينب العجمي السعادة الى قلب بسيوني عندما تأخذه ليُشارك في ساحة الشعب، فيقول فرحا «حاسس دلوقت إني خارج من ميدان التحرير.. اقدر اقول اني شاركت في ثورة 25 يناير».
أظن أنه عندما يشعر بسيوني سلطان المصري بهذا الشعور في بلد مثل عُمان، فذلك يُعطي دلالات على انبساط الأرضية المشتركة وأننا كلنا نتداخل ونتعاطى ونتأثر بما يحدث في بلداننا وإن اختلفت درجات ذلك.