كانت إحدى نتائج تطور النقد المغربي الحديث في ثمانينات القرن الماضي أنه حمل إلى الواجهة تجربة جديدة غادرت ممارسة النقد المسمى واقعيا كما تبلور على يد كتاب من جيل السبعينات أمثال إدريس الناقوري ونجيب العوفي وإبراهيم الخطيب وعبد القادر الشاوي.. وتبلورت محاولة تأسيس خطاب نقدي جديد يأخذ بالتصورات البنيوية والسوسيولوجية نشأ كاتجاه في الكتابة على هامش الجامعة وبرعاية دؤوبة من الصحافة الثقافية.
ففي نهاية السبعينات سيستوفي ذلك النقد المنهجي، الواقعي والإديولوجي، مساره وسيغادر أصحابه كلّ إلى منطقة اختارها..وكان لابد من كوكبة أخرى تحمل المشعل وتأخذ على عاتقها طرح أسئلة جديدة تنسجم مع وضع سوسيوثقافي مستجد دون أن تقطع قطعا جذريا مع الأسئلة والإشكالات الكبرى التي استمرت في الحضور، وإن بقدر أقل وأخفت.
ولأمر ما سوف تخرج هذه الكوكبة من أحضان الجامعة المغربية وأساسا ومباشرة من أقسام الدراسات العليا التي كان يشرف عليها أساتذة هم أنفسهم كتاب ونقاد أمثال محمد برادة وأحمد اليبوري وحسن المنيعي ومحمد السرغيني وآخرين يضيق الحيز هنا عن ذكرهم جميعهم..وكان يقطين الشاب قد انتسب أوائل الثمانينات إلى قسم الرواية الذي افتتحه الأستاذان اليبوري وبرادة في كلية الآداب بالرباط حيث دشّنا دروسهما بالانكباب على المناهج الغربية الحديثة كالسرديات البنيوية والبنيوية التكوينية وعلم اجتماع الأدب..وطرحا اهتمامات جديدة لم تكن رائجة في مألوف الثقافة العربية مثل نظرية الأجناس الأدبية والتناص والتعدد الصوتي ونظرية التلقي وهلم جرا من المناولات الفكرية والتحليلية الطارئة على المشهد الأكاديمي العربي.
وطبعا لم يكن هذا القسم من الدراسات العليا، الوازن فكريا وأدبيا، مفروضا عليه أن يصنع نقادا أو كتابا من أي لون بل كان أقصى همّه أن يكوّن باحثين ومدرّسين بالمعنى الأكاديمي للكلمة..ولكن الظروف السعيدة جعلته يفتح الباب أمام ظهور العديد من الكتاب ومشاريع النقاد سوف يملؤون الساحة الثقافية ابتداء أواسط الثمانينات ثم يرسّخون بعد ذلك حضورهم الوطني والعربي بحيث مكّنوا الحركة النقدية من ولوج مرحلة جديدة تميزت بإدارة الظهر لمنطقة اليقينيات الإديولوجية والدوغمات المنهجية والتأسيس لمعرفة متعددة المصادر ومتسعة الآفاق دون أن تتخلى كما قلنا عن طرح الأسئلة الفكرية والسياسية اللصيقة بالنصوص والتي اتخذت عندهم، كما لدى أساتذتهم، إيهابا جديدا ولبوسا أكثر انفتاحا وتحررا.
ودون التوسع في وصف هذه النقلة النوعية التي عاشها النقد المغربي الحديث أو التفصيل في حيثياتها وأسباب نزولها، لأن هذا ليس هو شاغلنا في هذه المقالة تحديدا، سنتّجه رأسا إلى بيان الدور الذي نهض به فيها زميلنا المحتفى به الناقد والأستاذ سعيد يقطين.
فعلى رأس كوكبة الثمانينات هاته أتيح لسعيد يقطين أن يتصدر مكانا متميزا بفضل مواظبته وجدّيته وانتظام حضوره في المحافل النقدية وطنيا وعربيا..فما الذي ضمن له هذه المكانة وحقق له ذلك التميز يا ترى؟ٍ
1 – إصراره الشخصي على أن يكون هو نفسه لا نسخة مكرورة من أي كان..وميله إلى طرح بعض تلك الأسئلة الجذورية الكبرى التي كنا نشفق عليه من اجتراحها من قبيل: ما الأدب؟ وما ضرورته وفائدته؟ وما حاجتنا إلى السرد؟ وكيف نبرر ابتهاجنا غير المشروط لسماع الحكايات؟ فبينما كنا مجبولين على التعلم المحتشم ونخشى الظهور بمظهر الكائنات المتنطعة.. قاوم هو من تلقاء نفسه الخجل والتردد وراح يرافع من أجل أن يفهم أكثر ليتعلم أكثر..ناقش وقد تجاوز الثلاثين من عمره بالكاد آراء جوليا كريستيفا وجيرار جنيت ومايك بال وآخرين..وهو قد خاض ذلك الحوار مع الآخر المختلف من موقع المتلقي الناضج وكامل المعرفة وراسخ الوعي لا من مكان المتعلم المتهيّب المنبهر…كل ذلك أهّله اليوم وبالأمس القريب أن يصير له إسهام فكري وثقافي يضيف بغير تقاعس ويغامر بالمفهوم والمصطلح والتصور بدون عقدة نقص أو تواضع كاذب..وتلك هي صفة العالم الذي يسهم ليؤسّس ويفكر ليغيّر ويسائل المسلّمات لينقلب عليها بالتعديل والتصويب.
2 – عدم الانزواء في منطقة منهجية معزولة لا يبرحها كما يفعل غيره طلبا للأمان وتجنبا للمغامرة واختيار بدلا من ذلك الانفتاح الواعي وسليم النوايا عبر الانتقال بين أشكال المقاربات وألوان المعالجات التي تستدعيها النصوص والموضوعات وتفرضها الإشكالات التي تعترض مسار البحث وحاجات الاستدلال..ومن هنا وجدنا سعيد يقطين يقلّص من إقامته في المحطات المنهجية لصالح الانتقال والتحول الدؤوبين ليس كتعبير عن اللهاث خلف التقليعات الجديدة ولكن طلبا لإنضاج تجربته على تلك النار العلمية الهادئة التي تقضي بتبنّي النسبية النظرية وتقطع مع النزعة الدوغمائية..أي عمليا ممارسة ضرب من الهجرة الموروثة عن الممارسة العلمية غير المكتفية بذاتها والمحتاجة على الدوام للتغيير واستمداد الهواء الجديد..فليس عيبا أن نغادر البيت الأول والحبيب الأول مع الرشد والنضوج والبحث عن آفاق تحررنا من المألوف والمتكرر والمطروح في طريق المؤسسة الأدبية..
3 – ونحن نستطيع أن نعثر على الخيط الرابط أو المنطق الداخلي الذي يشبه (البرنامج) بالمعنى الرقمي للكلمة الذي ينتظم جميع تلك التحولات التي عاشتها تجربته النقدية..وهو عموما محكوم بنقطتين اثنتين: الارتباط بالجذور والتطلع إلى الآفاق..غير أن نقطة ارتكازه الأولى دون شك هي التفكير في الأدب وبالأدب، أقصد ليس بالحديث (عن الأدب) أو على هامشه أو ما أسمّيه (الثرثرة حول النصوص)..لقد قولبت المراحل التعليمية ذهنيتنا بكثير من المسبقات والدوغمات والتقسيمات المسكوكة التي سنكتشف ونحن نطلّ على النافذة الغربية كم هي متجاوزة وبالية بل وأحيانا مميتة للنصوص التي تقصرها على الخضوع لمقاسات ومعايير مصطنعة أو آتية من مناطق لا تنسجم مع عضوية النص ولا تحترم استقلاليته بل وتقتحم عليه خصوصيته بغير احترام..وهذا ما ظل يقطين يناهضه عندما تبنّى التفكير في الأدب وبالأدب، أي من داخل الأدب وباستعمال أوفاقه ونواميسه الحميمية، وخاصة التساؤل حول مصيره..فالأدب، كما يرى تودوروف، يعيش في خطر دائم وهو لذلك بحاجة إلى رعاية لا توفرها له المؤسسة الأدبية ولا التعليمية الرسمية..وإنما بحاجة متواصلة إلى رعاة ومعالجين يتولّون العناية به والسهر على أن يظل معافى وعلى قدر معقول من الدينامية.
4 – إن يقطين معالج كبير للأدب، بالمعنى الاستطبابي للكلمة: قضى حياته ينظر في أعراضه ويشخص أدواءه ويحللها..ويبحث بغير كلل عن سبل إشفائه باستعمال كل المضادات والمسكنات..استخدم السرديات والسيميائيات والرقميات..وتوسل بالشعريات وأنماط المقاربات النقدية والثقافية.. ويبدو أن مريضنا قد استحلى وضعية الشخص المريض ولذلك ما تزال هناك حاجة قائمة إلى سعيد يقطين..ذلك المعالج القديم في قبيلة الكلمات.
عند هذا الحد يقف الشق الموضوعي من هذه الشهادة ويبدأ الشق الشخصي الذي يتناول علاقتي بالرجل ويستعرض بعض المحطات التي عبرناها معا أو على انفراد..قبل أن يستقل كل واحد منا بطريقه ومساره كما تقتضي سنة الحياة..وسأكون سعيدا إذا تضمّن ما سأقوله هنا تفصيلا أو إضاءة لجوانب تمت ملامستها في السطور السابقة.
+++++++
التقيت يقطين لأول مرة في مدينة المحمدية خلال نوفمبر من سنة 1978..وكانت المناسبة حزينة هي تأبين صديقنا المشترك الشاعر محمد السبايلي الذي غادرنا فجأة وهو في شرخ الشباب..بعد تقديمي لكلمتي على منصة الخطابة جاء يقطين لتحيتي فتعرفت فيه مباشرة على ذلك الكاتب الشاب الذي كنت أقرأ له وأعجب بمحاولاته..علمت منه أنه يسبقني بسنة في كلية الآداب بفاس وأنه مثلي حديث الانتماء لاتحاد كتاب المغرب (1976)..بعد ذلك تبادلنا قهوة وسيجارة فانطلقت في تلك اللحظة الخريفية التي صارت الآن قطعة من التاريخ رحلةٌ شارف عمرها اليوم على الأربعة عقود..
هكذا كان رحيل صديق عزيز إيذانا بميلاد صداقة جديدة..
اللقاء الثاني سيكون بعد سنة أو يزيد قليلا عندما دعاني يقطين للمساهمة في الصفحات الثقافية لجريدة أنوال التي كان قد أسهم في إطلاقها صحبة رفاقه في منظمة العمل الديموقراطي طيبة الذكر..وكانت المناسبة سانحة لنا لكي نبشّر مع كوكبة من رفاقنا بتيار نقدي جديد نعطي فيه الاعتبار للأصوات الأدبية والإبداعية الصاعدة ونرسخ تقاليد المقاربة النصية المحايدة التي تنأى عن القرابة الإديولوجية وأشكال الإخوانيات..كما سهّل علينا ذلك اللقاء تشكيل تكتل ثقافي من اليسار الجديد داخل نسيج اتحاد الكتاب وفروعه في المغرب..
في تزامن مع ذلك افتتح في كلية الآداب بالرباط قسم للدراسات العليا في الرواية أشرف عليه الأستاذان محمد برادة وأحمد اليبوري فانتسبنا إليه على الفور وتولى هذا المعلّمان الرائدان تكويننا خلال سنتين من العمل البحثي الرصين (1982.1980) وتميزت هذه المرحلة على الخصوص بالانفتاح على المناهج النقدية الجديدة ترجمة وتحليلا واستيعابا وعملنا كلّ بطريقته على تطعيم الصحافة الثقافية بمحاولات متواصلة لتقريب الشقة بين عالَم البحث الأكاديمي الدقيق والممارسة التعريفية ذات النطاق الواسع..
وقد توّجت هذه الرحلة بالدفاع أواخر الثمانينات (1988) عن أطروحتينا لدبلوم الدراسات العليا في موضوعين متقاربين في الأفق والمنهج وإن اختلفتا من جهة المتن حيث اخترتُ التركيز على الرواية المغربية حصرا بينما وسّع يقطين من نطاقه ليشمل الرواية الجديدة في عموم الرقعة العربية..وقد تولّت دار النشر اللامعة (المركز الثقافي العربي) نشر هذين العملين (1990) اللذين جرى الترحيب بهما في الأوساط الثقافية وطنيا وعربيا بشكل لم يتوقّعه أي واحد منا وكان لهما بعض الفضل في تجديد الدرس الروائي وبثّ الروح في المقاربة الموضوعية لهذا اللون الإبداعي أكاديميا وإعلاميا.
بعد ذلك وانطلاقا من حقبة التسعينات سوف تتفرق بنا السبل القطاعية والمنهجية ويسير يقطين على طريق بحث الحضور التراثي في الرواية العربية الحديثة وينتج في ذلك عددا من المؤلفات التي تشهد له بطول الباع في تحقيق شعار كان له وزنه ونتائجه هو: من أجل وعي جديد بالتراث..ثم يقوده هذا الاهتمام إلى العودة إلى ذلك التراث السردي نفسه في محاولة لسبر تفاصيله وسياقاته والكشف عن مكوناته البنيوية والحكائية مستفيدا من انكبابه المتواصل على متون السير الشعبية العربية تحليلا وبحثا وتحقيقا مما سينجم عنه أطروحة ذات قيمة علمية وثقافية أساسية ستصدر في مجلدين هما (الكلام والخبر) و(قال الراوي) (1997) سيكون من شأنهما أن يجسّرا تلك الثغرة الكبيرة التي ظل يعاني منها مجال البحث في هذا القطاع الحيوي من ذاكرتنا الجماعية.
أما خلال الألفية الجديدة فسينبثق عند يقطين هاجس علمي جديد يغادر معه الانشغال بالجذور (التراث) ليعانق آفاقا طارئة جاءت محمولة على أكتاف العصر الرقمي حيث سيوجّه جماع اهتمامه إلى قادم جديد يمثله (النص المترابط) (2005) في تفاعله الخصب مع متلقين من طينة خاصة هي طينة الحاسوب ولغاته ورموزه البديلة..وهنا كذلك سيراكم يقطين تأملات وينشر مؤلفات تحيط بهذا العالم الجديد أو الذي كان ما يزال جديدا على الذهنية العربية في بحر العقد الأول من القرن الواحد والعشرين..
بقيت كلمة أخيرة أحب أن أسوقها عن صورة سعيد يقطين المبدع التي لا يعرفها إلا قليل من المقربين..فقد تولع وهو يافع بالكتابة الشعرية والقصصية والمسرحية ونشر ما تيسّر من محاولاته فيها في الصحافة الثقافية للسبعينات والثمانينات..غير أنه بعد ذلك زهد في إعلانها وصار يحتفظ بها لنفسه ولبعض خاصته..ولعل قراء جريدة أنوال المأسوف على تغييبها يذكرون سلسلة شبه أطوبيوغرافية دأب يقطين على نشرها منجّمة بعنوان (القرميدة الخضراء) يستعيد فيها أمشاجا من طفولة بعيدة صرف نهاراتها الحارة في منطقة شطيبة متحلقا مع الأتراب حول حلقة الفنان الشعبي (خُليفة) أو متسكعا في بقاع بنمسيك والقريعة وساهرا لياليها الدافئة داخل أسوار مقبرة الشهداء..وما زلت ألحّ عليه في كل مرة ألتقيه لكي يستجمع صفحاتها ويعدها للنشر تكريما لماض جميل ذهب إلى غير رجعة ووفاء لمسقط الرأس الذي اخترقته الأوتوروت ونبتت فيه الكائنات الإسمنتية بغير حساب..وما دام الشيء بالشيء يذكر فأقل من القليل من خاصته يعرفون ولعَه بالغناء الشعبي العتيق من براويل وعيوط موروثة عن المجتمعات الزراعية في أولاد سعيد والشبانات وأحواز الدار البيضاء..أو سبق لهم أن سمعوه عندما يكون على سجيّته وهو يعزف على الوتار ويترنّم برائعة (العلوة) التي تتغنى بأمجاد سيدى امحمد البهلول..صاحب السيف المسلول.
أطال الله في عمرك صديقي سعيد..ومتّعك بالصحة والسلامة.
(+) حرر هذا النص بمناسبة تكريم الناقد سعيد يقطين في الآونة الأخيرة بالمغرب.
حسن بحراوي*