لا أعلم بالتحديد السبب الذي دفع مجلة للتواصل معي وتشريفي بأن أكون أحد المشاركين في ملف هذا العدد عن “الأدباء الأطباء”، فأنا – رغم مشاكساتي واختلافي الخجول – لا يمكن بأي حال من الأحوال أن أسمح لنفسي أن تدعي الانتماء إلى المبدعين – سواء كانوا كُتاباً أو شُعراء أو علماء. ولذا فإنني أعتبر وجودي ضمن هذه المجموعة المتميزة إبداعيّاً والمتحققة أدبيّاً تطفّلاً مني. وما مشاركتي هنا إلا من باب أن حياة كل إنسان قصة فيها ما يستحق ان يُروى – إما لمتعة أو لفائدة أو لدهشة أو لفضول.
ولقد احترت في الباب الذي سألجُ منه إلى هذه “الشهادة” التي تَرصُد “الروابط الخفية بين كيمياء الطب وكيمياء الكتابة” – كما جاء في نص الدعوة الكريمة التي وصلتني من مجلة احترت لأنني – بالرغم من احترافي كيمياء الطب لفترة طويلة – لم أمارس – بشكل احترافيّ – كيمياء الكتابة. فأنا لم أنشر كتاباً ولا حتى مقالاً أدبياً واحداً، وكل ما أملكه من شواهد على ممارستي للكتابة هو بحوث رسائلي العلمية الثلاث وعدد محدود من الأوراق العلمية في تخصصي الطبي – الكيمياء الحيوية – الذي هو تماما وحرفيّاً “كيمياء الطب” كما ورد – ببُعده الرمزي – في دعوة مجلة “نزوى”، مما يسد الباب أمام أية محاولة يائسة من جانبي لادّعاء ممارسة “كيمياء الكتابة”. صحيح أنني ترجمت – من الإنجليزية إلى العربية – ونشرت عدداً من المقالات والقصص القصيرة والقصائد، كما ترجمت قبل عدة سنوات كتاباً لم يجد طريقه إلى النشر وأعمل حالياً على ترجمة كتاب آخر، لكنني مازلت أعتقد أن ذلك لا يخرج عن إطار الهواية المحببة التي يمارسها الشخص في أوقات فراغه الذي يطول ويقصر حسب طبيعة حرفته. وأعترف هنا أن الطبّ حرفة لا تُبقي إلا القليل جداً من وقت الفراغ اللازم لممارسة الهوايات.
وقد أفضت بي حيرتي هذه إلى تساؤلات أخرى لطالما شغلت بالي ودخلتُ في نقاشات حولها مع عدد من الأصدقاء، عن المعرفة والفكر والثقافة وعلاقتها جميعاً بالكتابة تحديداً، وعن سطوة الكتابة وبريقها، وعن كون الكتابة – دون غيرها – معرّفاً (بكسر الراء المشددة) أوحَد أو ربما أبرزاً للمثقف. أليست القراءة أيضاً انشغالاً بالفكر والثقافة والمعرفة؟ أليس البحث الدائم لمحاولة فهم الذات والعالم والإجابة على الأسئلة الوجودية والوصول إلى سكينة داخلية أو يقين من نوع ما – من دون إعلان بالكتابة أو النشر – عملاً مضنياً ومرهقاً كالكتابة؟ خاصة إذا كان من يفعل ذلك طبيباً تستهلك مهنته معظم ساعات يومه؟ أقول – ومن تجربة شخصية – أن القراءة والبحث والتقصي الذي تدفعه الأسئلة الحائرة والرغبة المُلحّة في المعرفة والسكينة الداخلية عمل مرهق.. لكنه ممتع. ومثلما هي الكتابة هاجس وفعل لا إرادي أحياناً وحياة أو فعل مقاومة أحيانا أخرى، كذلك هي القراءة وكذلك هو البحث – فعل لا إرادي يصعب مقاومته أحياناً، محاولة متواصلة للإمساك بيقين مخاتل ومتلون. ولذا فإنني أود هنا أن ترصد شهادتي هذه الروابط الخفية – ليس بين كيمياء الطب وكيمياء الكتابة – بل أن ترصد كيمياء القراءة وانعطافاتها في حياة شخص محب للمعرفة، اختار أن يكون طبيباً – حبّاً في المعرفة لا أكثر. والمعرفة هنا غير محددة ولا متخصصة، فهي مزيج من الأدب والعلوم والفكر.
الخطوات الأولى
أتمنى إذاً أن أكون قد وُفقت في تحديد المسافة التي تفصلني شخصيّاً عن الكتابة الأدبية الاحترافية التي لا أدعيها ابداً، لكنني في المقابل لا بد أن أعترف أن قراءة الأدب بأنواعه كانت هي مدخلي إلى عالم المعرفة المدهش الذي أسكنه منذ زمن والذي لم أسمح أبداً لمهنتي الطبية – الأنانية في استحواذها على جُلّ وقتي – أن تسلبني إياه، مع أن الطب ثم تخصص الكيمياء الحيوية فتح لي أبواباً واسعة دخلتُ عبرها إلى عوالم معرفية ما كنت أبداً أحلم بها. ورغم غرابة ما سأقوله إلا أن الطب لم يكن في حد ذاته مطلباً بالنسبة لي – فلا حلمت أثناء سنوات المدرسة بدخول كلية الطب ولا شعرت بانتصار أو نشوة عندما قررتُ – بعد سنة قضيتُها في قسم الأحياء بكلية العلوم – الانتقال إلى كلية الطب. لم أحلم من قبل بأن أكون طبيباً أعالج المرضى. كنت دائماً مُغرماً بالعلوم ومولعاً بالمعرفة. وما انتقالي إلى كلية الطب سوى مغامرة معرفية ضمن مغامرات أخرى كثيرة. في المدرسة كانت علوم الأحياء والكيمياء والفيزياء هي التي تستهويني أكثر من غيرها. كنت دائم الدهشة وكان رأسي يمور بالأسئلة عن ماهية الحياة وعن روعة تجلياتها، وعن تفاصيلها الصغيرة والمتنوعة سواءً في الكائنات الحية من حولي أو في تصورات العقل البشري ومخيلته. وبالرغم من تميزي في مادة اللغة العربية – بنصوصها ونحوها وصرفها – إلا أنني كنت أنفر من الكتابة الأدبية. كانت كتابة النص السردي الأسبوعي (التعبير الحُرّ كما كنا نسميه) الذي يكلفنا بكتابته مدرس اللغة العربية معاناة حقيقية بالنسبة لي، ولم أقتنع يوماً بجزالة نص كتبته بالرغم من السلامة اللغوية وثناء المدرس على الأفكار. كنت أجد متعتي الحقيقية في حصص العلوم – عدا الرياضيات. أحببت الكيمياء والأحياء والفيزياء، وما زلت – ليس في معادلاتها الرياضية، فهذه صعبة الفهم بالنسبة لي – بل في أفكارها المدهشة التي كنت ومازلت أرى أنها تشي بالتصميم الأعظم للكون. هذه الأفكار ما تزال تسحرني: الجاذبية، الطاقة، الضوء، خواص المادة، التفاعلات الكيميائية، ثم الحياة بتجلياتها – العضوية والنفسية – في جميع الكائنات الحية وخاصة في الإنسان. كنت أجد متعة لا حد لها عند مشاهدة أفلام ديفد أتمبرا (David Attenborough) عن الحياة وتفاصيلها الدقيقة على سطح الأرض، والتي كنا نشاهدها في بعض حصص الاحياء – وهو هوس لازمني طوال حياتي. فأفلام ديفد أتمبرا جميعها – قديمها وجديدها – تزين الآن أرفف مكتبتي. كما أحببت الجغرافيا وعلوم الأرض حتى كانت الجيولوجيا من ضمن خياراتي الدراسية في الجامعة بعد الأحياء والهندسة – التي أشكر الله على لطفه أن أنقذني منها.
كانت مكتبة المدرسة بالنسبة لي مكاناً شبه مقدس. فيها بدأت حكايتي مع الكتب منذ كنت في الصف السادس الابتدائي – كما كان يسمى حينها. كنت في أوقات الفُسح أمر على الأرفف أتفحص الكتب.. أقرأ عناوينها.. أقلب صفحاتها، ومتوارياً عن أعين من حولي، كنت أشم رائحة الأوراق – لأوراق الكتب عبق مميز لم أُشفَ من الإدمان عليه حتى الآن. قرأتُ في تلك المكتبة – واستعرت لأقرأ في غرفتي – معظم قصص الناشئة وكلاسيكيات الأدب العالمي ودواوين كثير من الشعراء القدامى وبعض المحدثين، وكثيراً من عبقريات العقاد، كما قرأت أيام طه حسين ودعاء كروانه ونثاراً من أحاديث أربعائه. وقرأت بشغف كتب مصطفى محمود وإسلاميات خالد محمد خالد – الذي مازلت أعتبر أسلوبه من أجمل وأرق الأساليب السردية. وقرأت كذلك شذرات من العقد الفريد والأغاني وغيرها من كتب التراث. وكنت أثناء رحلتنا الأسبوعية إلى سوق السيب أشتري – بالإضافة إلى أشرطة عبدالكريم عبدالقادر وعبدالحليم حافظ – روايات نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس ويوسف السباعي ومحمد عبدالحليم عبدالله. وفي الصف الحادي عشر كانت جائزة تفوقي في اللغة العربية رسالة الغفران للمعرّي – التي أذكر أنني قرأت نصفها تقريباً في جلسة واحدة على السرير في غرفتي بسكن المدرسة. وبعدما أتقنت اللغة الإنجليزية قرأت لجون شتاينبك وويليم فوكنر وويلا كاذر وجاك لندن وري برادبري وإرنست همنجوي وغيرهم من الروائيين الأمريكيين الذين كان تحيز الإدارة الامريكية في مدرستي لهم واضحاً. كما قرأت كذلك روايات الأختين برونتي وجين أوستن وديكنز وهيوجو وموباسان وتولستوي ودستويفسكي وغيرهم. كانت سنوات المدرسة حافلة بل مكتنزة بالروايات، وأذكر أنني – وأنا في إحدى لحظات نشوتي القرائية تلك – أسررتُ لأحد أصدقائي بأن إكمال الدراسة عندي ليس مهماً، المهم ان أجد وقتاً كافياً لأقرأ جميع الروايات.
كان لا بد لهذا الكم الهائل من الأفكار التي تسربت عبر تلك الروايات أن تحدث أثراً في ذلك الطفل القادم إلى مسقط من قريته الصغيرة في صحار. أن تزعزع كثيراً من الثوابت الاجتماعية والدينية التي كانت قد كرستها التربية القروية الدينية المحافظة. ثوابت عن الحياة وغاياتها، وعن الجمال وتجلياته، وعن الخير والشر، والصواب والخطأ – وعما يصاحب الالتزام بهذه الثوابت أو الخروج عليها من شعور بالرضى أو الذنب. عملية لا واعية لإعادة تشكيل الوعي جلبت معها الكثير والكثير من الأسئلة. ولم يكن مجتمع بدايات الثمانينيات ليتقبل بسهولة أي صدام مع ثوابته كما يفعل الآن – مرغما أحيانا وعلى استحياء – مجتمع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. ولذا فعندما فاضت حيرتي يوماً وسجلت شكوكي في دفتر التعبير الأسبوعي “الحُر” استدعاني مدرس اللغة العربية بعد انتهاء الدوام ليسألني عما كتبت ويذكرني بالثوابت الدينية والاجتماعية التي لا بد أن أحرص عليها، ثم أوصاني بقراءة “حوار مع صديقي الملحد” لمصطفى محمود، فقرأته وجميعَ كتب مصطفى محمود المتوفرة في مكتبة المدرسة، لأخرج بعد قراءتي لكل كتاب بعدد أكبر من الأسئلة الأكثر تعقيداً. بدا العالم لي وقتها مدهشاً وعجيباً.. ومرعباً في ذات الوقت. لحظتها تشكل لديّ تصوّر عن الحياة مازلت أسيرَهُ حتى اليوم، أن وجودي – أنا الكائن الطارئ المؤقّت – ليس سوى كوّةً فُتحت لي لأطل منها على هذا الكون السرمدي الوجود، وأن فرصتي لأزداد معرفة به وفهماً له تتضاءل كل يوم.
في كلية الطب
لم تكن دراسة الطب لتسمح لي إلاّ بقراءة القليل جداً من الكتب غير الطبية، وأذكر أنني تعرفت خلال هذه الفترة على كتب عالم الفيزياء ستيفن هوكنج وعالم الأحياء التطورية ريتشارد دوكنز وقرأتها بحب كبير. إلى ذلك فإن ما تقدمه دراسة الطب من الإدهاش – رغم تخصصها في الجسم البشري – كافياً جداً لطالب المعرفة بجميع تجلياتها – البشرية تحديداً – العلمية والأدبية والفلسفية والفكرية. ولعل أهم درس – علمي – تعلمته في الطب بشكل عام واخترت تخصصي الطبي على أساسه هو أن الحياة الحقيقية – في تجليها البيولوجي المُعجز– ليست التي نراها بأعيننا المجردة، بل هي ما يحدث في داخل الخلية الحية. فالصحة والمرض هما في الحقيقة انعكاس لأنشطة الخلية الحيوانية التي تتشكل منها أجسادنا. ومثلما ينتشر الجمال حولنا في الأزهار والطيور والأطفال يسكن كذلك الإعجازُ والإدهاشُ والدقةُ والفنُ والجمالُ في داخل الخلية الحية، وتتجلى جميعُها عبر تنوع المكونات العضوية للخلية وعبقرية التفاعلات الكيميائية لهذه المكونات وما ينتج عن هذه التفاعلات من وظائف طبيعية في الأنسجة والأجهزة كي تتجلى في النهاية جسداً يمارس أنشطتة المادية والنفسية والفكرية، ثم ما يعتري هذا الجسد من اعتلال نسميه مرضاً. يخضع الجسم البشري خلال فترة وجوده الحيّ لقانون بيولوجي مُلزم يتساوى فيه الجميع، حتى يأتي الفناء – الموت الذي يسكن زوايا العنابر والممرات والغرف في المستشفيات، الغريم الذي يُفني الطبيبُ حياته في كشف حِيَله والتصدي لمحاولاته سلب الحياة أو تعطيلَها. يرصدُ الموتُ وهنَ الجسد الذي يسببه اعتلال ذلك القانون البيولوجي الصارم واختلال دقته وذبول ذلك الجمال وأفول بريقه في الخلايا قبل العيون والشفاه – حتى يقرر أخيراً إغلاق تلك الكوّة التي فُتحت يوماً على العالم. هذه الزاوية التي ترصد الحياة وتجلياتها رصداً مجهرياً نجدها تتكرر ليس فقط في العلوم الحيوية بل في كثير من العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء، فهي تعادل مثلاً في علوم الطبيعة منطقة فيزياء الكم التي تفسر العالم وحركات أَجرامه تفسيراً مجهرياً يختلف لكنه يتقاطع مع علوم الطبيعة الأخرى. مدهش جداً أن تتمكن عبر المعرفة العلمية المتنوعة – المتخصصة وغير المتخصصة – من التعرف على بعض القطع المتناثرة للصورة الكلية للكون.
وفي كلية الطب أيضاً، ومن خلال مساق علم النفس السلوكي تعرفت على يونج – كارل جوستاف يونج – عالم النفس السويسري الذي قرأت – خلال سنوات دراستي الطبية ومازلت أقرأ حتى الآن – كتبه وكثيراً مما كتب عنه، حيث شكل – وما يزال يشكل – بالنسبة لي الشق النفسي – وربما الروحي – من معرفتي. جاء يونج ليعيد التوازن لمعرفة كادت أن تكون مادية بحته لا روح فيها. جاء وجلب معه شغفاً جديداً بعلم النفس والفلسفة، وجدد شغفاً قديماً بالأدب، فأضفت إلى مكتبتي بعض مؤلفات نيتشه وهايدجر وروسو وسارتر وهبرماس وجميع روايات هرمان هسه. ثم تولد لدي من خلال هذا كله شغف بحكاية الإنسان وتاريخ الحضارات فكان أن درستُ التاريخ لمدة سنة خلال سنوات العمل والتخصص الطبي. ولا أبالغ إن قلت إنّ تأثير يونج النفسي كان سبباً في اهتمامي الجدّي – الذي يتعدى الاستماع – بالموسيقى وتعلمي لمبادئها عبر آلة العود التي كانت دائماً محببة بالنسبة لي.
الترجمة.. المغامرة القادمة
لا أعتقد أن هناك باباً أوسع من اللغة يمكن الولوج عبره إلى أية ثقافة. اللغة هي الوعاء الذي يحتضن الثقافة، الذاكرة التي تحتفظ بالكلمات وظلالها ومدلولاتها. تعكس اللغة خصوصية الثقافة ليس عبر الكلمات المجردة بل عبر استعمالاتها وطريقة نطقها ومدلولاتها السياقية. ولذا فإن دراسة أية ثقافة لا تكتمل – في نظري – إلا بعد إتقان اللغة التي تحتضنها، كما أن إتقان أية لغة يستوجب التعرف عن قرب على جميع مفردات الثقافة التي تعكسها تلك اللغة. ما زلت أذكر الأيام الأولى لي في بريطانيا في عام 1993. كنت مزهوّاً بلغتي الإنجليزية ولم أتصور أبداً الصعوبة التي واجهتُها خلال أيامي الأولى هناك عند محاولتي المشاركة في حوار يتعدى بضع كلمات.
والآن – وأنا أسترجع هذه الرحلة – أجدني مديناً بكثير مما تعلمته – في المدرسة وكلية الطب وما تعلمته عبر قراءاتي الأدبية والعلمية – للغة الإنجليزية التي أتقنتها في المدرسة ثم درست ومارست بها الطب عامّاً ومتخصصاً. فتحت لي اللغة الإنجليزية باباً واسعا على الآداب والعلوم وكثير من المعارف الفكرية، وكانت نافذة تمكنت من خلالها أن أطل على ثقافات متعددة، حيث توسعت هذه المعرفة اللغوية – بعد أن قضيت بضع سنوات في بريطانيا – لتشمل الكثير من تفاصيل الثقافة التي تحتضنها. ولذا كان من البديهي – وأنا الشغوف بالقصص والروايات – أن أجدني منقاداً إلى الترجمة. لكن بدايتي مع الترجمة لم تكن عبر الروايات والقصص كما تخيلت. فقد طُلب مني في عام 2007 ترجمة كتاب لباحث بريطاني عن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. كان الأمر بالنسبة لي تحدّيا كبيرا، حيث اكتشفت أن الترجمة الذهنية التلقائية التي كنت أمارسها كل لحظة والتي تتشكل خلالها الكلمات المترجمة بظلالها ومدلولاتها في ذهني بشكل تلقائي وسريع تختلف كثيراً عن نقل نص مكتوب وإعادة صياغته كتابيّاً بلغة أخرى مع المحافظة على فكرة النص وروحه وظلال الكلمات ومدلولاتها. وبعد أن أنهيت ترجمة الكتاب كاملاً وأعدت قراءته أيقنت أن الترجمة في الحقيقة لا تختلف كثيراً عن إبداع نص جديد من لاشيء. كانت فرحتي بهذا الاكتشاف كبيرة حتى أنني لم أنزعج كثيراً عندما قرر مَن كلفني بترجمة الكتاب أن يكتفي بترجمته من دون طبعه أو نشره. انشغلت بعد ذلك بالعمل المختبري والإداري في المستشفى حتى عام 2010 عندما رافقت والدي في رحلة علاج إلى الهند استغرقت أسبوعين. تخللت تلك الرحلة ساعاتٌ طويلة من الانتظار في الفندق وفي المستشفى كنت أخرج خلالها إلى السوق لأعود إلى الفندق محملاً بالكتب – رواياتٌ هندية الروح إنجليزية اللغة. في تلك الرحلة – وعبر القصص والروايات والجولات اليومية في الأسواق والأزقة – اكتشفت جمال الهند وروعة ثقافتها، وتحولت دهشتي – تلك التي كانت رفيقة جولاتي – إلى عشق للمكان والإنسان في الهند.. إعجابٌ تجاوز كثيراً الكليشيهات الشعبية السطحية التي تولدت لدينا من التعامل اليومي مع العمالة الهندية في عُمان. وبعد عودتي بدأت بترجمة ونشر بعض القصائد والقصص القصيرة التي انتقيتها من مجموعة الكتب التي عدت بها. ما زلتُ أقرأ ما تبقى من تلك القصص والروايات التي لم تتوقف أبداً عن إدهاشي، وما زلتُ أترجم بعضها. إلا أن الترجمة – كما ذكرتُ سابقاً – تتطلب معرفة بمفردات الثقافة إلى جانب مفردات اللغة، وهذا ما أحاول أن أفعله هذه الأيام. فالانشغال بترجمة مختارات من الأدب الهندي المكتوب بالإنجليزية هو مشروعي القادم.. مغامرة أخرى! وهل الحياة إلا مغامرة كبرى؟