« يأتي المساء بطيئا
ويزحف حتى يهدهد جفنيك :
هل تبصر السعفة المستحيلة ؟
سلام على هضبات العراق…..»
كأنما الوثني يقيم صلاة الغائب في حضرة روح شهيدة لا جثمان لها لأنها روح العراق تلك الروح التي شكلت عبر سلسلة مناخات تاريخية ومواسم سياسية وصلوات عنقودية – فسيفساء شعرية صُقِلتْ على قبة واحدة ، حيث أنك إذ تمر بالوثني تستحضر السياب بارتداد زمني لم يبارح مكانه ، وتتداعى إلى مسامعك أصوات أخرى لمعلم الصايغ حينا ولمظفر حينا آخر وهو يشيد عراقه برزخا نوستالجيا يجسر المسافة بين الانفعالات المتوازية : «العراق ينوح بنا في اللقاء ينوح بنا في الوداع…سلام عليكن أرصفة الليل ، سلام على العربات التي احتملتني أنام بها ساعة في أمان «ولن تبالغ إن استرجعت صوت المتنبي في طريق عودته من مصر : « أين أرض العراق ؟ « ليس من قبيل الوقوف بزمن ضائع ضمن انفصام جغرافي بل قل انشطارات جغرافية إنما من قبيل تلمس الطريق إلى الذاكرة الشعرية التي تتآلف على اختلافها ضمن الفسيفساء ذاتها التي أسلفت.
العراق….. ! وقد يتبادى إليه عبر ضريح الجسد مستلقيا على خنجر وقلبه مشهرٌ في وجه السماء !
العراق….. ! وقد يساوره اليقين بخديعة الدم وهو يرغي فوق أديم الماء كأنه طحلب عشبي يتفسخ بالانزلاق ! العراق….. ! وقد يرتد كصدى نازكي في مغارة الشعر فيوقظ المُقبَرين لأن الموت أنيس الأبدية في عزلة الحياة!
العراق… وهو يتمثل له كشمطاء أقفرتها العاصفة على سرير الخريف !
«ياما كنت آمل أن أرى وجه العراق ضحى لأسأل الأشجار : هل تعرفين يا أشجار أنى كان قبر أبي ؟
خلها… خلّ الخريف يتم دورته فأشجار العراق تظلّ عارية وأشجار العراق تظل عالية وأشجار العراق أنيسها في السر وجه أبي»
– تشتاق العراق ؟
– بسرعة بحزم بقوة بهدوء بعنفوان بحنان تائه وثابت ورائق الغضب : لا ؟
صمت كمن تأخذه سِنَةُ ُ حنينٍ ثمّ عاد : أي عراق ؟ وينه العراق ؟ هذا مو العراق اللي أعرفه !
وصمت ! « ثمة صوت وتوقف صمت وتجلى «
إنه يتنقل بالصمت من ملكوته إلى العالم ومن العالم إلى ملكوته ، لا يكون معك تماما ولا مع ذاته ليس من قبيل الشرود ولا الانسلاخ بقدر ما هو التيقظ الحسي لاقتناص الحضور بأدق خلجاته ما ظهر منها وما بطن وهو في ذات الوقت مراس تلقائي للتأمل أو ربما دربة حياتية على معايشة الشعر تأمليا في منطقة وسطى بين الصوت وضده ، كأنها الأعراف..التي يمشي على سراطها المتعرج بيراعة مستقيمة هي سهم ماض إلى تهلكته بلذة وأناة …أو ربما كأنها ريشة أخطبوطية تصعد سلم الحواس برشاقة البحور الهائجة.
ليس من السهل امتلاك لغة لا حروف لها لغة ليست من كلمات ولا حتى إشارات ولا رموز إنها لغة من «صمت بليغ» كأنه الخشوع.. بل كأنه يوغا الشعر. « ما شأني والعالم ؟ تكفيني اللحظة بيضاء هي اللحظة بيضاء « هذا عن سعدي أمّا عن يوسف فلست تدري أي سيارة يمرون بالصمت فينتشلون جُبّه ؟!
ربما لهذا تجده يقول «دعني أطبق فوهة البئر إذا دعني»
شعره الفاكهة التي يتصبب لها رضاب القطاف.. شعره الطبيعة الطازجة حسب « محمود درويش « التي تنضج وئيدة على مرأى الشبابيك الشتوية وهي تميط أنفاس المطر عن لثام الزجاج ، شعره وشوشات خشوعة لصلاة تسترق الرذاذ من رعشات اللهب كلما همّ به وثنه كأنه يقد محرابه ممن يترادف معه أوراق العشب.
« البحر منكمش لائذ بكثافته من حبال المطر »«الريح البحرية تغرق حتى سيقان العشب» «كان الكون يغسل بالشمس الرطوبة» «الليل يجلس في الركن ملتحفا بالهواء الثخين» «سنلتقي حيث الضبابُ ، الصبح َ ، أزرق»«مضيت عميقا في ممشى الغابة أبحث في الورق المتساقط عن أزهار نادرة وبحيرات وعرائس ماء وأيائل» «الغيوم الصدف والغصون الزمرد..» «البحيرة موسوقة بحقائبها الآن تنتظر الليل «يا صوت البحر الخافت يا وشوشة وهسيسا وحشائش فيروز… يا بوابة بُرديٍّ وحصيرا من سعف ضفرته يدا طفل في الليل.. ويا مبتدأ الرحلة من قرط امرأة…..»
شعره طبق البحر على مائدة المنفى عليها ما لذ وطاب من الموانئ الأولى والذكريات الفتية..
«هذه الأرض لنا نحن برأناها من الماء وأعلينا على مضطرب من طينها سقف السماء والنخل والذاكرة الأولى وكنا أول الأسلاف – والموتى بها والقادمين»
شعره هسهسة الكائنات اللامرئية يلتقطها بسليمان حدسه ، فيُعدّل بوصلة الحبر كي لا يتعثر بدبيب النمل تحت فرائص السطور …لأنه حصيلة الانتباه اليقظ لكل غفلة أو سهوة حتى لوكان مغمض العينين..
«ما أسهل أن تغمض عينيك………. انتبه العصفور والمقتول والحائط لكنك لم تنتبه الساحة بارود من الأعلى دم إهريق في الأسفل طابور من النمل ولم تنتبه..»
شعره محصلة ما تساقط فوق ميدان الفراغ من توابيت بلا مأوى ، إلا أنه مضى به بعيدا عن تلك الحفلة التنكرية الصاخبة بالأباتشي والبارود والخونة ، حتى يظل على تواصل مع ذاكرة التراب الأول وهو يهم ّ بالنهوض لرفع سقف السماء بأعمدة من طين وراحتين من ماءَيْ فُرات..
سعدي يوسف وهو يقف دقيقة صوت على روح الحنين الذي يناصبه العداء بل قل يناصبه العراق يلقاه أينما حلّ أو ارتحل وكأنه رحلة للحاق بالسفر والفرار من الأثر!
«لي ثلاثون عاما معك نلتقي مثل لصين في رحلة لم يُلمّا بكل تفاصيلها لكن مقعدك الخشبي مازال محتفظا بثوابته بحزوز السنين بالوجوه وبالشجر النائم الآن تحت التراب……. فاترك المقعد الآن واهبط ودعني َ أمضي إلى حيث لن يتوقف يوما قطار»
أما وقد أصبح لشيخ العشيرة ربطة عنق معلقة على جيد مشنقة فإنه لا بد « زمان مختلف « فاحزن ما استطعت ببراعة لأن الحزن حاسة بكر لا يتمتع بها إلا الشعراء والأباطرة المغدورون : « أرجوك..أتسمعني
لا تحزن..احزن…فالخيل الآن تخب بعيدا وتخبّ بعيدا..لكن أقرب من نبضك لا تحزن احزن لا تحزن !»
قد يتأمل الشاعر علاقته باللغة لربما كانت علاقة مضنية ومتعبة ، وشائكة أحيانا حينما تضعه أمام السؤال :
« لماذا أكتب الآن ؟ وفي أي مكان أكتب الآن ؟ ألم يتعبك نصف القرن من ألعابك : الصخرة والنبع وهذي اللغة..؟»
إلا أنها لعبته حرفته ، وعند سعدي يوسف بالذات هي فطرته الناضجة، حتى وإن كانت تأتاءة في أغنية الصرار، إلا هذا لا يمنع أن التهجئة في الكتابة لا القراءة تعني تأمل التأمل وقد وقف تأمليا على ما استقرأه واستوحاه ثم انتقل لتمعن ما تأمله… فإذا ما امتلك التأمل كلغة فلابد أنه امتلك اليقظة حتى في ساعات النوم الطويلة ،ربما ينام سعدي يوما إلا أن ما سيتركه بعده انتباها حاسما يبقى على قيد الصحو ما بعد الحياة…
«ما شأنك والدنيا ؟ دع العالم يمضي مثل ما علمنا العالم أن يمضيفما لله ، لله وما كان للقيصر للقيصر.»
يمر كل شاعر في ذات الحالة ، بل إنها ترافقه على الدوام ولا تغدو مرورا آنيا ، حتى ليصبح الوحي منزلا عليه يأمره بالكتابة ولن يصده أو يقاومه بـ«ما أنا بكاتب» وإن فعل ذاك شعريا كما عند تيد هيوز في قصيدة « الإله» إلا أن ما كتبه يبرهن فعليا على أن التمنع عن الكتابة هو لرغبة ملحة بها وحاجة لا غنى عنهاوممارسة مستمرة وحثيثة لا تكاد تلتقط أنفاسها :» كاتب الإله الذي ينادي خارج النوم : اكتبْ ! أكتب ماذا ؟… الأعمال الكاملة تيد هيوز..
التوحد مع الطبيعة ، التقاطها بسنارة شعرية رهيفة كهذه يشي بتعلق طفولي بها لأنها الأم الأولى والكونية ، إلا أن العراق هو الطبيعة المساندة لتلك الطبيعة الأم بل قد تفوقها أمومة :
« مطر على النوافذ والأشجار هابطة ،…. كيف لاحت بغتة وبلا معنى مدارج سامراء ؟ أمواه معجلة تتبع سحر البحتري..تقول سامراء سامراء حمحمة وبلوى يا بساطا من مهفات وخضرمة ويا دربا إلى المهدي يا بلدي سلاما «
شعره هايكو عراقي « ولا أذكر إن سبقني أحد إلى هذا « ، على منوال نيازك نورانية في غاية الصفاء لا تشكو بذخا ولا مبالغة فكل نيزك بمقدار : « إن الخوف مثل الحياة أردت : مثل الموت حق … ماكنت وحدي بمرآة المياه أكنت وحدي ؟» و» أي طير أطلقه في مهب الريح أطلقه لأسكن في الفضاء»
هايكو كوجبات كستنائية بمثابة مذكرات سنجابية مكثفة لا تحتمل المطمطة أو تفصيل التفاصيل بل تعتمد إيحاءها.. « السنجاب يمر على السنجاب» و«لكنا أنا والسنجاب نحاول أن نمسك شيئا»
سعدي يوسف شاعر التفاصيل أو شاعر الوصف اليومي هذا الذي تجد له ظلا أصلا في المعلقات الجاهلية حيث التفاصيل اليومية التي يتعاطى معها الشاعر تتجلى في وصف الخيل والناقة والسيوف والصحراء والمعركة والأطلال والخيام وحيوانات البرية ثم طقوس الصيد ، إنه قنص تصويري للبيئة المحيطة يتطلب مهارة تلقائية تعيش الشعر كأنها قدره فإن لم تكن كذلك فهو قدرها.. عُد للمعلقات لترى صورا شعرية حاكتها الطبيعة بفلواتها وأدواتها وحتى نزواتها البرية التي حفزت لدى الشاعر ملكة التأمل المصفى وغدت قوته الشعري : « وليل كموج البحر أرخى سدوله..» و»..شادن مظاهر سمطيْ لؤلؤ وزبرجد « و» ووجه كوجه الشمس أرخت رداءها..»
ثم إنه لهذه الفطرية الوثنية لدى يوسف ما يرادفها في الشعر الغربي والأمريكي ، تحديدا ما تعكسه فطرة والت وايتمان في شعر الطبيعة وهارمونيته معها ، عداك عن معاصرة هذا للحرب الأهلية الأمريكية وهوما يعاصره شاعرنا اليوم من حرب العراق الطائفية..ثم رفقته له في رحلته إلى نيويورك حتى لكأنهما على لقاء عند كل قصيدة..
وقبل ذاك فإن سعدي يوسف أندلسي بطبع شعره لا تطبعه، وإلا كيف يهرمن الطبيعة بالشعر بكل هذا النقاء الحر- خالقا نمطا من الانسجام اللغوي – لو لم تمتد جذور يراعته إلى الروحية الأندلسية في محاكاة الطبيعة والتغني بها لا إلى بنيتها التي تشكلت عبرها طبعا أوإلى طراز معماريتها – إن جاز التعبير !
فمن ابن هانئ الأندلسي « ألؤلؤ دمع هذا الغيث أم نقط « إلى ابن زيدون : « والروض عن مائه الفضي مبتسم « إلى حمدونة بنت زياد : « كأن الصبح مات له شقيق فمن حزن تسربل بالسواد «..
سعدي يوسف الشاعر الذي يقبض على الأجيال كلها كأنه اللحمة الشعرية الأم بينها أوكأنه أبو الشعراء كما كتب مرة عباس بيضون.
هناك لحظة أخيرة دائما وأبدا لا بد أن يدركها الشعر بعد فوات العمر ، لأنها موعد ٌ ميقاتُه الانتظارُ
يتحقق زمنيا ولكن مسبقا بفعل حتميته اللاحقة حتى لو قالوا «الدنيا تتغير» يبقى هذا الموعد ثابتا لأنه انتظار موت.. «أيان ستأتيك ملائكة ، أيان ستهدأ أنفاسك بين ملائكة وشموع ؟»
ولأنه قادم من حياة لم تئن بعد ، حياة مؤرخة لرجل زمني في الألفية الثانية ما قبل الميلاد فإنه الزمن المترقب الذي يهجس بالأوانات كلها ، مادام الشعر متاحا إليه كشرنقة حتى آخر رمق من التأملات ،
تزوده بطاقة تعبيرية عذبة يستحضر بها أصدقاء راحلين هم أصدقاء قلم ، أو أصدقاء شعر من ديوان العرب ، أو شاعر صعلوك على الطراز الأوروبي الحديث يشاركه خصوصية المرارة في قهوة القدح الصباحي… لأن :
« الصبح ليس زمان الهروب
المسدس ليس سلاح الدفاع»
لينا أبو بكر
كاتبة من الأردن تقيم في بريطانيا