من أعمال آمال العوفية – عُمان
قصّـــة: جي دي موباسان(1)
ترجمة: حسام حسني بدار*
ذات خريف، يممتُ وجهي شطر إقليم «بيكاردي» لقضاء موسم الصيد في قصر ريفي قديم بصحبة بعض الأصدقاء المولعين بالمزاح وتدبير المقالب، كجميع أصدقائي الآخرين. انا، من جهتي، لم أكنْ ميالاً إلى إقامة صداقات مع أشخاصٍ يتسمون بالعبوس والتجهم.
عند وصولي، استقبلني أصدقائي بحرارة تتّسم بالمغالاة. ومما أثار ريبتي أنهم عانقوني وكالوا لي كلمات المداهنة والتملق، كأنهم يتوقعون أنْ يحظون بتسلية كبيرة على حسابي.
وهنا قلتُ لنفسي: «احذر أيها الثعلب العجوز. إنهم يعدّون لك شيئا ما.»
أثناء العشاء كان الابتهاج في ذروته.. أكثر بكثير مما ينبغي، ففكرت: «هنا أشخاص يفرطون بالمرح، دونما سبب واضح. فلعلهم إذن يدبّرون مقلباً. وبالتأكيد سأكون أنا ضحية هذا المقلب، فلا بدّ لي من اليقظة التامة.»
طيلة السهرة، كان الجميع يضحكون بطريقة مبالغ بها. وصحيح أنني شممتُ رائحة دعابة ثقيلة في الجوّ، لكنني لم أعرف كنهها.
أخذتُ جانب الحيطة والحذر، ولم أدع شاردة أو واردة تفوتني. وأصبح كلّ شخص أمامي مثار ريبتي، بما في ذلك خدم المنزل.
حانت ساعة النوم، وجاء جميع من في البيت لمرافقتي إلى غرفتي.. ’تُرى لمَ فعلوا ذلك؟!‘ ثم تمنّوا لي ليلة هانئة. دخلتُ بعد ذلك إلى مهجعي، وأغلقت الباب دون أنْ أتحرك خطوة واحدة، وأنا ممسك بشمعة بيدي.
سمعتُ ضحكات وهمسات في الردهة. إنهم بلا شكّ كانوا يرقبون حركاتي. ألقيت نظرة على كلّ ما حولي: الجدران والزخارف واللوحات المعلقة عليها، الأثاث، السقف، الأرضية.. لكن ما من شيء كان مدعاة لإثارة هواجسي. وسمعتُ أناسا يتحركون قرب غرفتي. إنهم بلا أدنى شك كانوا ينظرون من ثقب الباب. حينئذ خطر ببالي أنّ شمعتي قد تنطفئ على حين غرّة، وتتركني في ظلام دامس.
ذهبتُ إلى رفّ المدفأة، وأضأتُ جميع الشموع التي عليه. وبعدها ألقيتُ نظرة أخرى من حولي دون أنْ ألحظ أي شيء. ثم سرتُ بخطوات قصيرة وحذرة، وأنا أتفحص الغرفة وأفتّش كلّ غرض على حدة. مع ذلك.. ما من شيء غير عاديّ. ذهبتُ الى النافذة وكانت مشرعة على مصراعيها، فأقفلتها بعناية فائقة. وأسدلتُ الستائر المخملية الضخمة، ووضعتُ كرسيّا أمامها حتى لا أفاجأ بما أخشاه.
وأجلستُ نفسي بحذر على المقعد ذي الذراعين، إذْ لم أكن لأجرؤ على الوصول الى السرير. كان الوقت يمرّ بسرعة، وخلصتُ في النهاية إلى أنّ ظنوني لم تكن في محلها. لذا فقد قررتُ أنْ أذهب إلى السرير، لكنه كان يبدو مثيراً للشك بشكل خاص. لعلي أثناء نومي سأفاجأ بدلو ماء يُدلق عليّ من فوق، أو لعلي سأغوص داخل الأرض في اللحظة التي أتمددُ فيها على الفراش، أو لعلي..
واستعرضتُ في مخيلتي جميع الدعابات الثقيلة التي تعرضتُ لها في حياتي، وأنا الآن لا أريدُ أن أقع في الشرك ثانية أبدا.. أبدا. ثم فكرتُ – كنوع من الحذر – أنْ أسحب المرتبة بما عليها من أغطية ووسائد بهدوء وتؤدة إلى منتصف الغرفة، وفي مواجهة الباب بالذات.. بعيدا بما فيه الكفاية عن مكان السرير الذي أثار قلقي.
ثم أطفأتُ جميع الشموع، وتلمستُ طريقي إلى داخل الفراش. وبقيتُ مستيقظا لساعة أخرى على الأقل، متأهبا لأخفّ صوت. لكن كلّ شيء كان هادئا في المنزل، فتسلل النوم إلى جفوني، واستغرقتُ في نوم عميق لساعات طويلة.
لكنني أفقتُ فزعاً جرّاء سقوط جسم ثقيل فوقي، في نفس اللحظة التي انهمر فيها على وجهي ورقبتي وصدري سائل شديد السخونة سبّب لي آلاماً لا توصف. وأعقب ذلك ضجيج هائل إثر سقوط صحون وأطباق على الأرض.
كدتُ أنْ أختنق تحت ثقل الجسم الذي جثم فوقي ومنعني من الحركة. ومددتُ يدي لأتبين ماهيّة هذا الشيء، فلمستُ وجها وأنفاً وشارباً كبيراً. في تلك اللحظة، وبكلّ ما أوتيتُ من قوة، وجّهتُ ضربة إلى ذلك الوجه. لكنني على الفور تلقيتُ وابلاً من الصفعات، مما جعلني أقفز من الفراش المبلل وأهرول إلى الردهة عبر الباب المفتوح.
يا للهول! لقد كنا في وضح النهار والجلبة الشديدة التي صدرت عن غرفتي أتت بجميع من كان في المنزل – قاصيهم ودانيهم – على عجل ليستطلعوا الأمر. وتبين أنّ سبب كلّ ما حدث هو المرتبة التي فرَشْتها وسط الغرفة دون تبصّر، والتي تعثر بها الخادم الفزِع على غير توقع، وسكب – من غير قصد – فطوري على وجهي. وأنّ الاحتياطات العديدة التي اتخذتها من إغلاق النافذة إلى إسدال الستائر إلى النوم في منتصف الغرفة هي التي أوقعتني في هذا الموقف المحرج، الذي عملت جاهداً لتفاديه.
واخجلتاه! كم ضحك الجميع مني في ذلك اليوم!
الهامش
1 – أديب فرنسي شهير، توفي عام 1893