بصوته الهامس يقرأ شعره الصاخب، وديعا، يحتضن الجميع بقلبه الذي أنهكه المرض، عرفه الجميع وأحبه القارئ الأجنبي قبل العربي، يجد في الشعر موطنا لا يغرب أبناءه، وفي الأصدقاء سلوى تنسيه الغربة، عاش وحيدا إلا من جماعة من الأصدقاء يلتقيهم في مهرجانات متعددة قرر أن يشارك فيها من أجل التكفير عن زمن العزلة الاختياري، غيبه الموت قبل أن يحقق أحلامه التي كادت تتبلور واقعا لولا قسوة المرض وغدره، التقيته شاعرا رمزا في مهرجان لوديف بفرنسا، وكان غالبا ما يبدأ حديثه معي بقوله: تعلمي الفرنسية كما تعلمت الانجليزية لتفتح لك الأبواب، ولتكوني مترجمة في مهرجان لوديف القادم..
بتخوف لاحظه سألته حوارا صحفيا وبابتسامة لم تخفي دلالاتها أجابني بالإيجاب مشيرا إلى المقهى القريب الذي اعتاد على الجلوس فيه لنبدأه فكان سؤالي الأول:
٭ شاعر، هذه هي التسمية التي سعت إليك، كيف كانت ومتى؟ وما هي أولى القصائد؟
أصبت، بقولك سعت إليك، أنا لم أسع للشعر إنما هو من استعمرني وخلق من قلبي وقلمي مستوطنة لم تجاهد من أجل التحرير، هو من نال مني فنلت به أحلى الأحلام، وسعيت من أجل تحقيق وطن لا يغرب أبناءه أو يخذلهم، كانت قصيدتي الأولى هي قصيدة الصياد، ما زلت أحفظها والآن فقط عرفت لماذا سميتها كذلك، الآن عرفت أن كل شاعر هو صياد والأبرع هو من يصطاد الأجمل والأبهى والأندر.
٭ وطن لا يغرب أبناءه، كأني أشم في ذلك رائحة العراق!
بتنهيدة طويلة وصوت مفعم بالعزة: نعم، حاسة الشم لديك قوية، ربما لأنك ماهرة، أو ربما لأنني مفضوح، ففي نهاية ستينيات القرن الماضي خرجت من العراق تهريبا كما يخرج المجرم من سجن – إن جاز لي أن أسمي العراق كذلك- دون كتبي وقصائدي الأثيرة وكل ما كتبت إلا قليلا، عبرت الصحراء العراقية والسورية متألما غير ناقم على أحد، لا أحمل إلا ذكرياتي وبعض دفاتر كتاباتي الأخيرة، وكنت أتحسر أشد الحسرة على ترك تاريخي ولو بدا للقارئ قصيرا، فقد كنت غزير الإنتاج، أكتب في اليوم ثلاثة نصوص مذ كان عمري ستة عشر عاما، لا أتوانى عن قراءة كل ما تجده عيناي، حتى تركت خلفي صندوقا مليئا بدفاتر احتضنت في سطورها كتاباتي وأحرفي الحبيبة عابرا صحراء العراق وسوريا قبل أن تغريني لبنان وتراودني عن أراضيها التي احتضنت ثلة من الأصدقاء الذين ساعدوني في الهجرة بعد ذلك إلى سان فرانسيسكو التي كنت اعرف شعراءها عن ظهر حب، وأترجم لهم.
٭ الترجمة، كانت تلازمك منذ بداياتك فترجمت لكبار الشعراء، هل كانت هذه العملية سهلة ؟ وهل أثرت على تجربتك الشعرية؟
نعم بالطبع أثرت الترجمة تأثيرا ملحوظا وكبيرا على تجربتي إذ إنها كانت السبيل إلى معرفة لغات العديد من الشعراء ومعاجمهم فآثرت أن أجد لنفسي معجما خاصا لا يكرر اسما من هؤلاء الذين يكتبون بلغة تختلف عن لغتي، فكيف بأبناء العربية؟
إن الترجمة فعل لذيذ يكاد يكون أكثر لذة من ممارسة الحب، فيه اكتشاف للآخر يجعلك تكتشف نفسك أكثر، لذا أنصح جميع الشعراء بخوض هذه التجربة.
٭ لنعد إلى العراق، موطنك الأول، لو تسنت لك الفرصة في العودة إلى أرضه، هل تعود؟
لا، ولا ، ولا، أنا لم أعد أؤمن بمسمى الوطن الذي يعود على أرض بذاتها، فلا وجود للأوطان في خارطتي، الوطن هو الروح التي بداخلك، هم من يسعون لرفعتك، الوطن هم الأصدقاء الذين يشكلون عائلتك، وأرضك، وأرض العراق لم تكن كذلك يوما، رغم من بها من أهل وأصدقاء، أعود لمن؟ لأرض لم تتوان في تغريبي عن ذاتي؟ لأرض لم تحتضن أحلامي عدا تلك الأحلام التي كانت تحمل بين جنابتها الرغبة في الرحيل عنها؟
كل بلاد تحتضن شعري هي وطني.
العراق ليس موطني إن وطني هو هؤلاء ( مشيرا إلى مجموعة الشعراء المشاركين في المهرجان).
٭ يتهمك العديد من أصدقائك بالكسل وأنا أتهمك بالإهمال – وبالطبع لست الوحيدة – الإهمال بصيغته العامة، إهمال صحتك، إهمال إيصال رأيك من خلال الصحافة، إهمال نشر نتاجك وترجمته، ماذا تقول في هذه الاتهامات؟
أسند ظهره على الكرسي وعلت وجهه ابتسامة كأنها ابتسامة نصر، وقال ضاحكا بصوته الهامس: كل ما ذكر صحيح، فأنا مهمل جدا لا لحبي للإهمال وإنما بسبب حبي للشعر وبسبب انتكاسة صحتي فلم يمر سوى شهرين أو ثلاثة على آخر عملية جراحية لي وبسبب هذه الصحة فرضت علي العديد من التابوهات التي أتلذذ بكسرها!
قد تجدينني مهملا لأنني رفضت الكتابة في الصحافة بشكل يومي، ولكن ألا تجدين أن من يكتبون العمود اليومي، لا يجدون الوقت الذي أمتلكه في كتابة الشعر اليومي؟
أنا مهمل لأنني لم أنشر كل كتاباتي الشعرية، لا املك تبريرا لهذه التهمة فهي ثابتة ولا أسباب لدي لإصراري عليها، ولكن أعرف أن ما أملكه من نصوص لو جمعت في كتب لزادت على العديد مما يملكه أكثر الشعراء طباعة للكتب، كل ما أعرفه أنني أحب الشعر فصار حياتي وامرأتي وموطني.
٭ لكن إهمالك هذا كان سببا في تأخر مشاركاتك في المهرجانات العالمية.
نعم هذا صحيح فأنا لم أنتبه إلى هذه النقطة إلا مؤخرا وهذا ما جعلني أحرص على حضور المهرجانات التي أدعى لها حتى ولو كانت في الصين، فالعمر ما عاد طويلا، والمرض لا يرحم، وفي هذه المهرجانات تعرف العديد من الأصدقاء الذين تشعر معهم بالأمان.
٭ سمعتك تتحدث مع مترجم المهرجان حول إصدار انطولوجيا لشعر سركون الأول بالعربية والفرنسية، كيف حصلت على هذه المجموعة الأولى وأنت تقول أنك تركتها في بغداد؟
هذه من أطرف وأجمل الحكايات التي لشدة طرافتها وجمالها تجعلني أبكي عندما أتذكر فرحتي وقتها، فقبل أربع سنوات تقريبا، التقيت إحدى قريباتي التي جاءت لزيارتي بعد أن سمعت بوجودي في الأردن، وكان معها صندوق قديم جدا يحوي دفاتري الأولى التي كنت أكتبها بغزارة وقتئذ، أعطتني إياه وهي لا تدري أنها أسدت إلى خدمة العمر فقرأتها بعناية ووجدت فيها تجربة جميلة لبدايات شاعر بعضها يعود لبدايات الستينات ونهايات الخمسينات، حتى أنني لن أتوانى في نشرها إن نساني الموت قليلا، فهي تجربة جميلة ويجب أن يقرأها الأصدقاء والقراء جميعا ليتعرفوا على سركون أكثر وأكثر.
٭ لك نظرة خاصة في شعر المرأة، لاحظتها منذ اليوم الأول لنا في المهرجان، من أين جاءت هذه العدوانية لشعر المرأة إن جاز لي التعبير؟
أنا لا أحمل عداوة لأية شاعرة، فالشاعرة المتمرسة لا يمكن لأحد أن ينتهك شاعريتها، لكن المشكلة أن العديد من النساء لا يتوانين عن ذكر أجسادهن والترويج لها في شعرهن وهذا ما أرفضه في شعر المرأة ، يجب أن تحترم النساء أجسادهن أكثر، وألا يجعلن أجسادهن وسيلة للوصول إلى النقاد والحصول على الشرعية الشعرية، سمعتِ شعر إحدى المشاركات العربيات في هذه المهرجان وهذا هو أكبر دليل على رأيي، لذا أنا أدعو المرأة أن تنسى جسدها وأنوثتها أثناء كتابة النص الشعري حتى تحق لها المنافسة!
٭ لكن الرجل أيضا يذكر جسده عندما يتحدث عن الحب، لم تلصق هذه التهمة بالمرأة فقط؟
أنا لم أقل أن الرجل أيضا لا يكتب جسده، لكن النساء هن الأكثر تجاربا في هذه المجال وهن الأجرأ في وصف أجسادهن، فلا تجدين إلا نصوصا ذكورية قليلة جدا تتحدث عن الجسد الذكري بينما تجدين أغلب النصوص النسوية تتحدث عن هذا الموضوع، لنأخذ نص الغزالة الذي قرأته «الشاعرة العربية» قبل قليل، إن هذه النص لا يتحدث عن جسد أنثى فقط بل تعدى ذلك إلى التحدث عن ممارسة العادة السرية، وجاء ذلك من خلال العديد من المفردات الصريحة أو المجازية، وهذه هي المنطقة المحظورة التي يجب ألا تنجرف إليها المرأة !
٭ وما هي مشاريع سركون الجديدة؟
المشروع الأول هو الانطولوجيا التي تحدثنا عنها قبل قليل، والمشروع الثاني هو أن أزور البحرين التي لم تتسن لي رؤيتها وأن أقيم فيها أمسية شعرية، فهل تساعدني البحرين على هذا؟
لكنه رحل قبل أن تحتضنه البحرين، وقبل أن يسمع نخيلها شعره عله يشم فيها رائحة بغداد.