يعد الشاعر العراقي سركون بولص من اهم الأصوات الشعرية، التي سعت إلى التفرد بالصوت الخاص، وإلى التفرغ للشعر تجربة وكتابة، وانفتاحا على التجارب الشعرية العالمية، والبحث عن شجرة أنساب متنوعة الفروع. انه بالفعل صاحب تجربة واشتغال على اللغة وعلى رؤية خاصة مكنته بمعية مجموعة من شعراء كركوك أن يؤسسوا لقصيدة النثر بالعراق في الستينيات من القرن العشرين.
سنقارب تجربته الشعرية عبر المجاميع التي كتبها منذ خروجه من العراق. وهي على التوالي: الوصول إلى مدينة أين (1985) الحياة قرب الأكربول 1988) الأول والتالي (1992)، حامل الفانوس في ليل الذئاب (1996). إذا كنت نائما في مركب نوح 1998)، عظمة أخرى لكلب القبيلة (2008).
ولد الشاعر سركون بولص ذو الأصول الآشورية عام 1944، في الحبانية المعروفة ببحيرتها وبالحياة الزاخرة، عاش فيها ثلاث عشرة سنة، ثم انتقل إلى مدينة كركوك، وفي هذه المدينة بدأ كتابة الشعر، في عام 1961 نشر له يوسف الخال قصيدة في أحد أعداد مجلة شعر. وفي بيروت سيعد ملفا لمجلة شعر حول أعمال كل من الشاعر الأمريكي آلن غيسنبرغ وجاك كيرواك، مترجما أعمالهما الشعرية. وفي عام 1969 سيرحل نحو الولايات المتحدة، وسيلتقي في مدينة سان فرانسيسكو بجماعة «البيتنيكس» ويعقد معهم صداقات.
كي نلج عالمه الشعري، لا بد من التوقف عند بعض المحطات الأساسية في حياته، وأيضا الوقوف على أثر الترجمة في أعماله الشعرية، وانفتاحه على الإرث العراقي القديم والممثل في الأساطير، وفي التراث الشعري العربي القديم، ومن تم انفتاحه على جغرافيات مغايرة خصوصا التجربة الأمريكية.
سركون بولص تفرغ طيلة حياته لكتابة الشعر، إذ قضى أكثر من أربعين سنة في كتابته، وملازمة هذا الهم الجميل. يرى أن الشاعر كائن بدائي لديه معرفة عميقة بالأشياء مثله مثل الحكماء في العهود السالفة.
1- كركوك والتعرف على حركة البتنيكس:
من أهم مميزات جماعة كركوك في الستينيات هو اطلاعها على المنجز الشعري العالمي، وهي تضم كلا من الشعراء: سركون بولص، فاضل العزاوي، مؤيد الراوي، جان دمو، صلاح فائق. ومعظم هؤلاء الشعراء كانت لهم معرفة جيدة باللغة الانجليزية.
تحدث فاضل العزاوي في كتابه «الروح الحية جيل الستينيات في العراق» عن هذه الجماعة، فتحدث عن مرجعيتها الفكرية والشعرية وخصائص كتابتها. ورغم أن سركون بولص يتحفظ على هذا الكتاب قائلا في حقه «مشكلة كتاب فاضل العزاوي أنه يخفي حقائق معينة، ويحاول أن يعطي بديلا لا أجد له أي أساس لتلك الحقائق، ومثله مثل سامي مهدي فهو منحاز منذ البداية إلى طريقة مسبقة لتصوير جيل الستينيات، أو إلى شكل مسبق كان موجودا في ذهنه قبل أن يراجع الحقائق، ويتكلم عن الشخصيات التي كانت فعالة آنذاك بشكل صادق. مشكلة سامي مهدي أنه منحاز كبعثي، وكموظف مسؤول في تصنيع الثقافة العراقية، ولكن مشكلة فاضل أنه أنا متضخمة تريد أن تهيمن على كل شيء، كتابه ينضح بنوع من التزييف الخطير، خصوصا وأنه غمط حق الكثير من الشخصيات، وله طريقة في تتفيه مواقف معينة لشخصيات معروفة آنذاك، وبالمقابل فإنه كان يضخم دوره ودور شعراء غير مهمين على الإطلاق لكي يغطي على الشعراء الآخرين «. لا يمنع هذا النقد العميق والدقيق لكتاب الروح الحية من الاستفادة من بعض ما جاء فيه خصوصا فيما يتعلق بخصائص الكتابة الشعرية لجيل الستينيات في العراق ولتأثره بجيل البتنيكس. يؤكد فاضل العزاوي على القرابة الروحية بين التيار التجديدي اليساري داخل حركة الستينيات العراقية، وحركة البتنيكس (Beatniks) الأمريكية التي مثلها كتاب وشعراء من أمثال جاك كيرواك، وآلن غيسنبراج، وغريغوري كورسو وفيرلنغيتي، وبوب ديلان. «لقد ظهرت حركة البتنيكس لتعبر عن موقف ما أطلق عليه اسم الجيل المهزوم Beat Generation, وهو الجيل الذي شارك في الحرب العالمية الثانية أو تحمل أوزارها التالية. كان مصطلح الجيلقد ظهر أول مرة في عام 1952 في مقالة نشرها الناقد جون كللون هولمز في جريدة «نيوروك تايمز». ومع ذلك فالمصطلح يُعزى إلى جاك كيرواك الذي يفترض أنه ابتكره في عام 1957 عندما قال ذات مرة «أنت تعرف أن هذا الجيل مهزوم حقا». قبل هذا الجيل سيظهر جيل اطلقت عليه جرترود شتاين «الجيل الضائع»، وهم الكتاب الامريكيون الذين نشاوا او كتبوا انطلاقا من تجربة الحرب العالمية الاولى، منهم: سكوت فتزجيرالد،عزرا باوند،ت.س اليوت،ارنست همنغواي.على عكس «جيل البيت»، يذهب هولمز الى ان كلمة beat كانت ملتبسة،كانت تعني في اللغة الشفوية الامريكية الشخص المتعب،او الرث المنبوذ او الهامشي،غير ان الدلالة الفعلية للكلمة لا تتحقق الا باضافة المعنى المضاد للصفات السلبية،وهو»ما انجزه جاك كرواك في روايته «على الطريق»،حين حول شخصية «البيت» خصوصا عبر بطل روايته دين موريارتي،التي يتمحور العمل حولها،الى نوع من الاسطورة الجديدة، الى حامل رسالة مقدسة، والى بطل جديد من الغرب الامريكي، فاتحا الطريق واسعة امام جيل جديد تواق الى التعبير عن نفسه، الباحث عن هوية مغايرة لما تحاول المؤسسة السياسية والاجتماعية والثقافية الرسمية المحافظة، ارساءه في امريكا بعد الحرب العالمية الثانية وبدايات الحرب الباردة … في المجال الادبي تحول المفهوم من الهزيمة الى الانجاز، ومن التعب الى الصحوة، ومن الهامشية الى الحضور والانتشار، وتحول ايضا من الاشارة الى الشخص المنبوذ والمحتقر الى حال يرغب المرء بأن يعيشها» انظر، مقدمة رواية على الطريق، ترجمة سامر ابو هواش، ص 6). لقد أسس هذا الجيل رؤيته الفكرية والشعرية على أساس «الاعتراض والاحتجاج ضد أسطورة «طريقة الحياة الأمريكية» التي واجهوها بأسطورة مضادة « وقد أفضت أفكار هذا الجيل إلى ظهور حركات متمردة من أمثال «ملائكة الجحيم»، وظهور الهيبيين الذين كانوا بمثابة التجسيد الحي للقيم الرأسمالية لمجتمعاتهم ودعوا إلى الوفاء للداخل الإنساني. ويرصد فاضل العزاوي نقاط الالتقاء مع هذه الحركة وحركة جيل الستينيات، مؤكدا على أن العلاقة بينهما ليست علاقة محاكاة وليس علاقة شكلية بل هي علاقة جوهرية فكلاهما جيل مهزوم «فإذا كان البتنيكس قد خرجوا من رماد الحرب، فإن الستينيين في العراق قد خرجوا من رماد الانقلابات والديكتاتوريات العسكرية «،اذا كان البتنيكس قد رفضوا جنة الرأسمالية وسباق فئرانها في الوصول إلى الثروة فإن ستينيي العراق كانوا قد رفضوا جنة الديكتاتورية وسباق جنرالاتها في صنع الهزائم القومية، ومثلهم أيضا فقدوا الأمل بالايديولوجيات العتيقة التي لم تقدم لهم سوى البؤس والشقاء».
ويرى سركون بولص أن الاتصال بهذه الحركة تم عبر بعض الأخبار في الصحف والمجلات كانت عبارة عن شذرات، وقصائد متفرقة هنا وهناك. وقد قام سركون بولص حين ذهب إلى بيروت بترجمة بعض قصائد هذه الحركة وخصص لها ملفا في أحد أعداد مجلة «شعر». كما سبق الذكر.
ويبقى النص القوي الذي أنتجته الحركة، هو قصيدة «عواء»، للشاعر آلان غيسنبورغ، يصف سركون بولص هذه القصيدة بأنها قصيدة صعبة وعصية على الترجمة، مصرحا أنه: «كان علي أن أنتظر سنوات طوال حتى أسبر أغوارها جيدا. وهكذا ظلت القصيدة معلقة إلى أن وجدت نفسي في اليونان، واشتغلت عليها مدة طويلة، فهي كما تعرف قصيدة مليئة بأسماء الأماكن، ولا يمكن لك أن تفهم هذه الأشياء ما لم تذهب إلى سان فرانسيسكو.. القصيدة محتشدة بأسماء الشوارع، والأحياء، والأشخاص وغيرها… وعندما ذهبت إلى أمريكا وعشت هناك، عرفت كيف أترجم قصيدة عواء. وهي قصيدة مهمة جدا»، ويتساءل سركون بولص حول علاقة العرب بهذه القصيدة والحالة هذه أنها لم تترجم بكاملها، فقط التقى بها الشعراء من خلال شذرات هنا وهناك. إن هذه القصيدة «تركت تأثيرا ذهنيا كبيرا مذهلا على قرائها» . وهي قصيدة اغتنى بها ناشرها فرلنغيتي صاحب مكتبه «أضواء المدينة». فهذه القصيدة التي أحدث نشرها دويا كبيرا في المشهد الثقافي الأمريكي، ولا تزال تصدر في طبعات متواصلة لا تنقطع ذلك أن الجيل الجديد في أمريكا بدأ يقرأ هذه القصيدة ويحاول أن يجد فيها، كما وجد فيها الجيل الستيني رموزا معينة تدفعه إلى الإيمان بشيء ما «.
إن قصيدة عواء سحرت قراءها بمضمونها الجريء وبشكلها الصارم والغريب عن الأوساط الثقافية، وعن المتداول في الكتابة الشعرية، فهي مرثية غنائية على الطريقة الوتيمانية تفضح بلغة عارية وفجة علل وعاهات المجتمع الأمريكي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. «هي صرخة غضب من فئة من الشباب الأمريكي اليائس، الثائر، ضد مجتمع مدمر وانتهازي « وتتكون القصيدة من ثلاثة أجزاء:
1- الجزء الأول: يشير فيه إلى حالة اليأس التي خيمت على نفوس الشبان في أعقاب الحرب.
2- الجزء الثاني: يلفت النظر إلى دوافع السخط الإنساني والإحباط العام لدى الشباب. إذ يشخص مصادر الشر جميعها المتمثلة في إله المال العبراني «مولوخ» باعتباره حاكم البشرية الصارم الذي يدمر المعطيات الأكثر خيرا وأصالة في الطبيعة الإنسانية مالئا الذات بمشاعر الخوف والقلق.
3- الجزء الثالث: يحتفي فيه الشاعر بانتصاره على «مولوخ» وتحرره من سيطرته.
لقد كان كاتب القصيدة غيسنبورغ يتسم بلغة عفوية، وبالصعلكة في الحياة والكتابة، وشعره «مرآة ذاته ومحيطه، مرآة قد لا تعكس الجمال دائما.، إنما الحقيقة الفجة، العارية، بلا خجل أو خزي، جمع غيسنبورغ بين شعرية الذات متأثرا بويتمان، وشعرية الأسطورة متأثرا بباوند، رافدا إياهما بمرجعيات جمالية وروحية أخرى، من كتابات وليام بلايك، ووليام كارلوس، وليامز، والسورياليين الفرنسيين، إضافة إلى تعاليم استقاها من مدارس دينية وفلسفية مثل، الغنوصية والبوذية والهندوسية والصوفية والشامانية وبعض أنبياء اليهود «. وقد سخر شعره من أجل قيم إنسانية كبرى قوامها التسامح والمحبة، وتقبل الآخر، والتحرر من التابوهات الاجتماعية والأدبية.
يظهر أن قصيدة النثر مع سركون بولص ستلج عالم القصيدة المثقفة التي تتكئ على مرجعيات شعرية عالمية، أسهمت في تنويع كتابة هذه القصيدة؛ وفتحها على الاسترفاد من تجارب الشعراء سواء كانوا غربيين أو عربا، وأصبح التفاعل مع النصوص القوية في تاريخ الشعر ضروريا لكتابة قصيدة النثر بغية تنويع أشكالها ورهاناتها.
وفي حالة سركون بولص نجد مكونين اثنين وراء تجربته الشعرية، المكون الأول هو الترحال الدائم والسفر. والمكون الثاني، هو العمق المعرفي المسنود بتأمل كبير في تاريخية الشعر. ناهيك على أن سركون بولص يعتبر ممارسة الشعر تضحية، يقول: «هناك شعراء في هذا العالم ضحوا من أجل الشعر بأشياء كثيرة لا تصدق». من أمثال سيزار فاييخو الذي مات في باريس جوعا. ومن أمثال ناظم حكمت، ونيرودا، فهؤلاء الشعراء «عرفوا منذ البداية حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، لأن اختيار الشعر مسألة غير هينة على الإطلاق»، فالشعر في نظر سركون «عالم له أسرار لا تنتهي، ورهان خطير «؛ والشاعر الحقيقي الذي يؤمن بالشعر، ولم يأت إليه عابثا من أجل كتابة بضع قصائد عابرة، ينبغي أن يكرس نفسه وحياته للشعر، ومعتبرا نفسه ذا مهمة كبيرة في التاريخ».
2- متخيل العبور والتيه عند سركون بولص:
يحمل الديوان الأول لسركون بولص عنوانا دالا يختصر المسافات إلى عالمه الشعري الذي تأسس منذ البداية على موضوعة العبور والسفر والتيه. «الوصول إلى مدينة أين»، هي أول مجموعة شعرية ينشرها سركون بولص في اليونان عام 1985.
تعكس المجموعة الحياة البوهيمية التي عرفها الشاعر في بداية حياته ويؤرخ لمنعرجات التيه في المدن، والأرياف، والصحاري.
يقول في القصيدة الأولى من المجموعة تحت عنوان «هناك رحلات».
«أصل إلى وطني بعد أن عبرت
نهرا يهبط فيه المنجمون بآلات فلكية صدئة
مفتشين عن النجوم.
أَوْ لَاأصل إلى وطني
بعد أن عبرت نهرا لا يهبط فيه أحد.
هناك رحلات
أعود منها ساهما.
نحيلا كظل إبرة».
فالعبور، والنهر، والرحلات كلها مداخل تنير الطريق أمامنا للإيغال في عوالم سركون بولص، الذي يحاول أن يرصد عبر هذا التيه تحولات الكائن، ومصائر البشرية في المدن الكبيرة:
ألتقي بفلاح جن في المجاعات
يشحذ في مساء المدن الكبيرة.
وامرأة تسير على ضياء شعرها الطويل.
بين الخرائب
أطلق سراح عيني وأسافر .
فمصير الشاعر في هذا التيه، وفي هذه الالتقاءات بكائنات منكسرة روضتها المجابهات، وهربتها نحو المدن، أو فعل فيها الزمن فعلته، كأن تستهدي عجوز بشعرها الطويل الذي أبيض من المآسي، هو مصير «من يحمل قطرة ماء وحيدة عبر صحراء»، يتيه في صحراء لا يقوده ولا يهديه سوى اللمس، هذا التائه الأعمى، توقظه كل صيحة تنطلق من نافذة بعيدة فيتبعها.
«كالأعمى الذي يغزو الهواء بيديه
نحو أقطار عدوة
هربت إليها عيناه وطولب بالجزية.
أسمع الريح بأظافري
وأعرف أين تختبئ عروسي
تكاد مجموعة «الوصول إلى مدينة اين» أن تكون معجما للاسفار، وللتسكع في المدن، وعلى هذه الموضوعة ينوع سركون بولص جمله الشعرية التي اعتمدت الحكي بمثابة استراتيجية لبناء القصيدة، وتهجس أغلب القصائد بالوصول المستحيل لمدينة لا يعرفها. معتمدا على تقنية تراسل الحواس في بناء صوره الشعرية.
في قصيدة بعنوان «ألف ليلة وليلة» الذي يفتح فيها ذهن القارئ على استرجاع النص الحكائي الشهير، يتلاعب الشاعر بأفق التوقع، ويوهم القارئ أنه سيحكي على غرار «ألف ليلة وليلة»، لكن الشاعر يتخذ من هذا العنوان ذي الحمولة اللانهائية، والذخيرة السردية، ليفاجئ القارئ في نهاية القصيدة بقوله:
وهكذا التقطت خيط الرحلة من التراب بأسناني
واستغرق وصولي إلى بيتي ألف ليلة
وليلة.
يتأسس متخيل تجربة سركون في هذه المجموعة، على الرغبة في العودة إلى حميمية المنزل، بعد لحظة تيه، ومن ثم فإن حضور الاسطورة يعكس هذه العلاقة، فخيط أَرْيَان، المنقِذُ من ضلال المتاهة، هو الضامن لهذه الرغبة الدفينة في العودة إلى الرحم وإلى مكان ولادة الأولى ولكي نعمق الاستدلال على هذه الرغبة في العودة إلى رحم الولادة يقول سركون في قصيدة «الضيف البعيد» ضيف المسافة.
«طيلة سنوات، تجرني اليقظة من ثيابي
إلى أماكن لم يرها أحد.
إلا نائما أو مخمور
أكتب باليد التي هجرتني
ولكي أرى هذا المصباح الذي وجدته
مليئا بالرمل في إحدى أصعب رحلاتي
يضيء حتى مرة واحدة
علي أن أبني بلدة جديدة
أعرف أن علي أن أموت حيث ولدت
لكن قبل ذلك دعوني أكمل ولادتي.
بالفاس الراحلة خلف ثعبان
بالغراب الذي يجبرني
أن أطرده من الشجرة بالحجارة».
هذا المقطع من القصيدة يشكل انزياحات مجازية من حيث العلاقة بين العلامات اللغوية؛ ويتأسس من خلال شبكة ترميزية عناصرها الصحو، والضوء، والحياة المتجددة، والرغبة في بناء عالم جديد، فالثعبان يشكل مع الغراب ثنائية ضدية، فإن كانت رمزية الثعبان توحي بالحياة المتجددة، فالغراب يهددها.
لأن رمزية الغراب المتعددة تشي في بعض دلالاتها إلى «المبعوث الذي يقود الأرواح في سفرها الأخير»؛ وهذا الحضور لهذا الطائر الأسود اللون يستدعي مباشرة رمزية الطوفان التي يعتمد عليها سركون في أكثر من مرة في شعريته، باعتبارها رمزية للولادة الثانية، ومن ثم فهذه الرمزية الانبعاثية تعتبر خلفية مضمرة في توليد الدلالة الشعرية عند سركون. فالغراب هذا الطائر المبعوث من قبل نوح كي يخبره باليابسة. وبذلك يكتسي رمزية خيرة بدل الرمزية التي ألحقت به مؤخرا أنه رمز الشؤم. وتتواتر رمزية عشبة الخلود في أماكن عديدة من شعر سركون، في إحالة إلى أسطورة بلاد الرافدين، أسطورة جلجامش الذي ضيع نبتة الخلود في طريق العودة، والذي سرقها هو الثعبان الذي بدوره أضحى رمزية للخلود واستمرارية الحياة وتجددها.
في قصيدة «التوطئة» يقول:
«وقيل إنك عشت في الغابات والمدن.
وخالطت البرابرة، أصبحت ضيف المسافة: أضواء تدعوك.
في كل زاوية، أجنبية، في مرماك، راغبة، تُنال…هل وجدت نهر
آبائك؟
أينما استدرت.
والتقطت عشبة مجهولة عند ضفافه.
فأكلتها، لا ماء فجأة، ولا بيت، إنما قدمُ تسعى وطريقُها؟
أصبحتُ قدما لا تعرف طريقها».
فهذه العشبة التي توحي إلى عشبة جلجامش، أو عشبة المياه الخالدة يراها سركون بولص بطريقة أخرى، حيث لم تثمر العشبة حياة (ماء) ولا ملاذا (البيت) إنما هي عشبة تعكس بداخله السفر المستمر، والترحال الأبدي، والتيه.
هكذا يتعامل سركون مع رمزية البعث، فهي لم تعد لديه رمزية أسطورية ذات بعد متعال، واستيهامي، وإنما هو بعث أرضي، مرتبط باليومي وبالحياة في تجسيديتها. يقول:
«عندما اكتشفوا عنقاء الشعر بالصدفة
تختبئ في سراديب سرية وتُشْعِل نفسها من حين لحين
بكبريت الوقائع اليومية
باحتقار الدخول إلا اقتحاما
من الأبواب المحصنة».
فالعنقاء الطائر الخرافي رمز الميلاد الجديد، لم تعد في هذا المقطع كما وظفت في شعر التموزيين بل هي عنقاء يجددها اليومي، فالشعر لا يكتب من خلال المتعالي بل هو انغماس واشتباك مع الوقائع اليومية، هو اقتحام للأبواب المحصنة. لا يعرف المهادنة.
حاولنا أن نبين أن تجربة سركون بولص في ديوانه الأول مرتبطة بالعبور والترحال والتيه والوصول إلى اللامكان. تجربة يصل فيها الشاعر ليذهب؛ فإذا تأملنا الجملة الأولى في الديوان نجدها كالتالي: «أصل إلى وطني بعد أن عبرت». والجملة الأخيرة فيه «أريد أن أشكر الغبار الذي أحمله كالإرث أينما ذهبت «، نسجل أن الشاعر لم يقم بذلك اعتباطا، فهذا الأمر ينم على أن الشاعر لا يحشد النصوص في ديوانه كما اتفق، بل يهدف إلى خلق نوع من الوحدة في الجو العام للنصوص، وليعمق دلالة الموضوعة التي انبنى عليها الديوان منذ العنوان الذي يوحي بالوصول إلى اللامكان. فبين الوصول والذهاب –هناك حركة دائمة، ليس هناك توقف، والديوان قد رصد هذه التنقلات.
3- سركون بولص والإنهمام بالشكل:
من خلال تتبعنا للمجاميع الشعرية لسركون بولص نلاحظ، أنه كان منشغلا أساسا بشكل قصيدة النثر، وكان حريصا على تطويره من تجربة إلى أخرى، وكان ينوع، من تجربة لأخرى، في طرائق الكتابة الشعرية، ففي التجربة الأولى «الوصول إلى مدينة أين» مارس نوعا من الكتابة اتسم بالشراسة والعنف التخييلي، واعتمد على الصورة الشعرية أداة في الكتابة. وكتب بنثر يومئ للهدف مباشرة، بعيدا عن التهويمات وعن الترهل فكان بذلك يسعى إلى القطع مع السائد في الشعر المعاصر له والسابق. وقد كان صريحا في موقفه هذا معلنا ذلك في إحدى قصائده.
أقف بجانب نفسي، مشجعا نفسي
على المضي، والليل والنهار
توأمان سياميان
يلعبان الشطرنج على صدري
وحتى يحركا بيدقا واحدا
على النثر ان ينشب مخالبه
في رقبة الشعر الهزيلة.
فخيار قصيدة النثر – رغم تحفظه على المصطلح- مرتبط أساسا لديه بتجاوز الكتابة السابقة؛ خصوصا ما يدعوهم بجيل الرواد في قصيدة التفعيلة. لقد انحاز لهذا الشكل في الكتابة لأنه شكل مطواع بمُكنته أن يلائم طبيعة التجربة الحياتية التي عاشها سركون بولص؛ فالتيه، والتسكع، والتجربة الأمريكية، والترحال؛ يُسْعِفُهُ في اسْتِنْفَاد كل الإمكانيات التخييلية حول هذه الموضوعة التي تعتبر النواة المركزية التي تفرعت عنها قصائده. فهذه الطلاقة في تقليب الموضوعة المركزية وتنويع تناولها برهنت عن تمكن الشاعر من هذا الشكل المعقد، وعلى استيعاب آلياته الدقيقة.
وفي المجموعة الثانية «الحياة قرب الأكربول» الذي كتبه عن تجربته في اليونان استبدل بالصورة الشعرية وبالتشبيهات السردَ. فهذا الإبدال ينم عن وعي حاد بصيرورة التجربة الشعرية لديه، ففي كل مجموعة يحاول أن يضيف جديدا لقصيدة النثر، ويطعمها بتقنية مغايرة؛ فهو إن كان صارما تجاه التجارب السابقة، فإن هذه الصرامة يمارسها على ذاته، وعلى قصيدته.
هيمن السرد في مجموعة «الحياة قرب الأكربول»، وصاحبته الذكرى كموضوعة لكنها ذكرى غير مفرطة في عاطفيتها، فالحنين لدى الشاعر ليس حنينا رومانسيا مغلفا بتهويمات ومبالغات وبتضخيم للحالة النفسية إنه الحنين كما هو؛ كما يحسه الشاعر يعبر عنه.
نُلْفِي في سلسلة من الذكريات ثبتها سركون بولص شعريا، ذكرى المعشوقة:
هناك تذكر سارة. تذكر سارة التيمية وأنفاسها المبهورة هناك
في ذلك الصباح المتألق برمله الذهبية بين فخديها على إحدى ضفاف
الفرات
وديكا أحمر كان يصيح على قبة التنور، عن بشائر اللذة الأولى في
عينيها الكبيرتين .
وفي قصيدة «حدود»، استحضار لقريته، والتحولات التي ألمت بها:
حيث كانت الشمس ترقص على نوافذ قرية، ماء يجري في البساتين
لم يعد سوى نهر من الرمال المتخمة حتى الاختلاج.
سلطان المتاهة، لا ينمو على ضفافه
سوى الزمان، هنا
خلف الحدود .
ثم يستحضر صداقات تعود إلى فترة الستينيات بالعراق، أصدقاء عرفوا تجربة الاعتقال وأصبحت هذه التجربة لديهم رواية مفتوحة يحكونها بلا توقف في المقاهي كتعويض عن إفلاسهم:
رأيته ينزل الدرج المؤدي إلى غرفة «سعاد»
الممرضة التي تعطف على الشعراء المفلسين في مقهاهم المتواضع قريبا
من غرفتها، حيث يجلسون قبالة ساقية
من الوحول تجري وسط الزقاق .
ويتذكر وجوها من الحياة العادية، ففي قصيدة «حياة الميكانيك عبد الهادي من باب الشيخ « رجل من الستينيات يضع له بورتريها يؤثث علاقة حميمية مع البندقية التي لا تفارقه في الأحلام واليقظة في حالة الصحو والسكر، ويصور الفضاء الذي يشتغل فيه، فضاء مقرف تفوح منه رائحة الزيوت الميتة، وبول الخيول العثمانية على آلات التشحيم المكشرة في الأركان بأسنانها البليدة. يرصد سركون في هذه القصيدة حياة البؤس لمكيانيك من الستينيات في العراق.
في قصيدة «بُسْتَان الآشوري المتقاعد» هناك أيضا استحضار للحظة مريرة لقلع ضرس بخيط مثبت بأكرة الباب. ولإيصال وقع هذا الألم الذي واجهه هذا الأشوري المتقاعد، يرسم الشاعر لوحة مفزعة ومقززة موطئا بها لمشهد الألم:
«النجوم تنطفئ فوق سقوف كركوك وتلقي
الأفلاك برماحها العمياء، إلى آبار النفط المشتعلة
في الهواء، إلى كلب ينبح في الليل، مقيدا إلى المزراب، حزنا؟
أو رعبا أو ندما، وضفادع تجثم على أعراشها الآسنة
في بستان مهجور عندما
تشق حجاب الليل صرخة مقهورة. إنه الآشوري المتقاعد يقلع ضرسه».
إن خلق الحالة الشعرية لم يعد مرتبطا مع سركون بولص، ومع شعراء قصيدة النثر، بطبيعة الموضوع، فالحالة الشعرية يمكن إحداثها لدى القارئ من خلال الموضوع المبتذل والعادي. أو حتى من الموضوع المقزز والمؤلم كما هو الحال بالنسبة لهذا الآشوري المتقاعد.
تناول هذا الموضوع، بهذه الطريقة يخلق لدى القارئ نوعا من التعاطف مع هذه الحالة الإنسانية. إذ أمام الألم تصبح كل الإمكانيات واردة.
لم تعد الصورة الشعرية هي التي تحدث الحالة الشعرية في المجموعة الثانية، وإنما السرد هو الذي أصبح مسؤولا على إحداث هذه الحالات الشعرية، ورسم الشخصيات. سرد انسيابي يلتقط لحظات حنين أو لحظات ألم أو حيرة. وقد تتخذ الذكرى في هذه المجموعة طرقا اخرى مقنعة تفسح المجال لاستحضار حضارة بأكملها من خلال تحفة فنية هربت أو سرقت من بلاد الرافدين.
هذه اللوعة والحسرة والإدانة للعبث بذاكرة حضارة قديمة جسدتها قصيدة بعنوان «أمام منحوتة في قسم الآشوريات بالمتحف البريطاني».
فالصوغ الشعري في هذه القصيدة التي انبنت على خلفية فن النحت، تشكل من خلال لحظتين: الأولى تمت عبر تفريغ محتوى المنحوتة شعريا، ووصف مكوناتها وموضوعاتها، منحوتة تعكس خدعة حربية:
جندي يدحرج برمحه الطويل سلما يَنْغُل بالأعداء
عن جدار القلعة البابلية، إلى النهر الهادئ في الأسفل حيث تنتظر
الأسماك
بأفواه جذلى وصولهم .
وتستحضر شخصيات آشورية، مردوخ، عشتار، سموقان، أنوناكي. المحارب إيرَا وأشياء أثرية، بقايا من بوابة نركال، والحجارة القديمة.
واللحظة الثانية تشكلت عبْرَ إدانة صارخة، وحسرة لتغريب هذه المنحوتة عن سياقها الحقيقي، فهذه المنحوتة منزعجة بسبب الضوضاء، لم تعد لها قيمتها الحقيقية في بلدها الأصلي. فهي قد سلبت دورها القدسي، ولطخت بدنس «هذه البشرية الغريبة وآلاتها». وانعكست هذه الحسرة في نهاية القصيدة:
ماذا رأيت يا عيون السومريين الكبيرة، أي لص تبتْ يداه
أتى بك إلى هذه الجزيرة. من سيخشع لك في هذا السرداب؟
أي لص في أي ليل بهيم، أتى بك إلى هذا المكان؟
تعكس هذه القصيدة بعضا من صنعة سركون الشعرية، وتبرز قدرته على النجوى والإحساس بأشياء العالم، والغوص في روح المادة، وجعل الموضوع يتحدث إليه بدل أن نتحدث عنه.
لقد كانت معظم كتابات سركون بولص منذ أن غادر العراق محاولة بالغة الجهد عبر مئات القصائد للتعامل فنيا مع موضوعة الحنين، وما كان يخشاه باعتباره شاعرا هو السقوط في فخ الإسراف العاطفي، وقد كان يحترس من الوقوع في هذا البعد العاطفي المبالغ فيه، عبر الاشتغال على الكون الشعري لديه، وقد وجد في اللغة العربية بغيته وحبل السر الذي يربطه بشعبه وتاريخه، وقد صرح في أحد حواراته بأن اللغة العربية: «هي الوطن الحقيقي الوحيد الذي أمْلِك»؛ ولكي يعالج هذا الموضوع المركزي –المنفى- طور في التقنية الشعرية عبر سنوات طوال. فقصائده الأولى كانت قصائد متفجرة، وقصائد حيرة، إذ كانت لديه فكرة «الوصول إلى مدينة أين»، محتجزة بين كلمتي الوصول والذهاب، فالقارئ ما إن يصل في بداية المجموعة حتى يفاجأ بالذهاب في نهايتها؛ وكأن الشاعر اشتغل في مجموعته على مقولة القديس أوغسطين «إنه ليس هناك مكان نحاول أن نذهب ونجيء إليه، ولكن ليس ثمة مكان».
لقد حاول الشاعر أن يضم في هذه المجموعة جوهر الأصوات المتعددة، كتب القصائد المتفجرة، مركزا على النثر بصورة تامة، وعلى القصيدة الشرسة، والصوت الذي يواجه الموضوع مباشرة، واعتمد التقطيع، والجمل الطويلة، واشتغل على القصيدة التوقيع مثل قصيدة الجلاد:
أيها الجلاد
عُدْ إلى قريتك الصغيرة
لقد طردناك اليوم، وألغينا هذه الوظيفة .
بهذا التكثيف والتركيز يدين القمع، ويتخلص من الطاغية الذي مازال شبحه يلاحق الضحايا إلى الآن. فالقرية الصغيرة هي بؤرة المفارقة في النص، قرية تنبت طاغية !
كانت الصورة المكثفة لديه هي جواز المرور إلى عالم اللاوعي؛ والتي تخدم الحالة أو المشهد الشعري الداخلي، فكانت أحيانا تتسربل بلمسة سريالية. وفي التجربة الثانية، بدأ يتخلص من الصورة ويعوضها بالسرد، الذي أسعفه في الحديث عن مدينة كركوك تلك المدينة الغريبة التركيب من حيث الأجواء الاجتماعية، ومن حيث الأقوام التي تسكنها، هي خليط عجيب من عرب وآشوريين وأكراد وأرمن وصابئة. فكانت بذلك كركوك هي بداية الكتاب والمنبع والمكان. لتستمر في الحضور في جل كتبه، ففي تجربته الثالثة «الأول والتالي» سيتحدث عنها في قصيدة «نهار في كركوك». يستمر سركون في هذه المجموعة في تتبع بوصلة التيه والاكتشاف على طريقة يوليس. مكتنزا بالمعرفة والتجارب الحياتية الهامة:
تسبح نحو شاطئ
كلما اقتربت منه، صار ينأى
نحو شيء رأيته
يتقلب في الظلمة كفانوس مَرْكَب.
عابر ومثير.
أو يشتعل مثل ثقاب
يقاوم الانطفاء في مسرب الريح .
يستأنف الشاعر حديثه عن السفر، والتيه، والمكان، مدشنا مجموعته باستشهاد دال من ملحمة جلجامش: «إلى أرض الأحياء، تاق السيد إلى السفر»؛ لتتناسل المدن، والأمكنة، والشوارع، والحانات، والمواقع التاريخية، والشخصيات الرمزية ذات الحمولة الفكرية والأدبية والصوفية. واللقاءات، والذكريات وأحلام الطفولة. فمن فندق بالحي اللاتيني إلى بار النورس في سان فرانسيسكو، من ساحة في أثينا إلى ألمرية في الأندلس، من فاس ذات الأسوار إلى مكناس، من باريس إلى ليل في نيويورك.
لا بد والحالة هاته أن تتداعى لدى قارئ هذه المجموعة صورة السندباد، هذا التوقع لم يخيبه الشاعر، حيث عنون إحدى قصائد المجموعة «عقدة السندباد»؛
كان السندباد يصل دائما
إلى تلك الدورة الموسمية التي تأتي
بتوقيت أكيد
لتَجْرَشَ دمه الخامل من جديد
كأن ساحرا متحمسا يدير عجلة المصائر في الخفاء !.
صورة السندباد تظهر في تجربة سركون في أكثر من موضع من قصائده. ففي مجموعته الرابعة في قصيدة بعنوان «ملاحظات إلى السندباد من شيخ البحر». يستوحي قصة السندباد كما وردت في «ألف ليلة وليلة»؛ وإذا كان السندباد قد تخلص من شيخ البحر بالحيلة في الحكاية؛ فإن سندباد القصيدة سقط في مصيدة الشيخ لتتداخل هويتهما حتى يمكن لأحدهما أن يقول للآخر «يا أنا»؛ كما جرت العادة في المخاطبات الصوفية؛
لا تحاول أن تهرب مني
وانس البحر، قل وداعا للتجارة
لقد قطعت اليوم حبل انتظاري
ومنذ الآن ياسندباد
سوف تحملني على ظهرك القوي كَأَنَنَا واحد
أنا وأنت، أَنْتَنَا، أنَنْتَ
لنستكشف هذه الجزيرة .
في هذه التجربة، اعتمد سركون، من الناحية الشكلية على تنويع كتابة قصيدة النثر بأشكال متعددة، فمرة يعتمد قصيدة الكتلة (أخطاء الملاك)؛ ومرة يكتب القصيدة على هيئة فقرات (الحافة وأسرارها)، ومرة يكتب القصيدة في هيئة القصيدة الحرة (مغامرة الفتى الهارب من القرية)، ومرة يكتب الأسطر مثنى مثنى (طرق مختلفة إلى روما).
ومرة يكتب القصيدة ذات المقاطع (البادئ)، وقد زاوج في مجموعته بين القصائد الطويلة، والقصيدة الومضة. القريبة من قصائد الهايكو ومن النماذج للقصيدة المركزة والمكثفة نورد قصيدته «تحولات الرجل العادي»:
أنا في النهار رجل عادي
يؤدي واجباته العادية دون أن يشتكي
كأي خروف في القطيع، لكنني في الليل
نسر يعتلي الهضبة
وفريستي ترتاح تحت مخالبي .
فهذا النموذج، هو إمكانية من إمكانيات كتابة قصيدة النثر؛ المؤسسة على تكثيف العالم، بلغة عارية، وباقتصاد لغوي متوهج؛ فقد بنى الشاعر عالم القصيدة على تقابلات النهار /الليل، الخروف/ النسر. فزمن النهار زمن التعب وأداء الواجب بنوع من الاستسلام. زمن تهيمن فيه عقلية القطيع، والحشدي. وغياب الذات؛ ورمزية الخروف ذات دلالة بالغة من حيث إحالته إلى التبعية والانصياع للراعي، والانضباط وسط الحشد والقطيع. أما زمن الليل، فهو زمن التحرر، والعيش في الأعالي، وتحقيق رغبة الذات والجسد؛ ولذلك حققت رمزية النسر، هذا التحول الذي يحصل للرجل العادي بين زمنين الأول نهاري والثاني ليلي؛ فالنسر باعتباره طائرا يتميز بالشموخ وارتياد الأعالي، والعزلة والتوحد، ودقة النظر؛ والقوة الرهيبة على الافتراس، شكل في القصيدة نقطة مفصلية للدلالة على التحولات. إذ تحولات الرجل العادي تبدأ من نقطة الالتزام بالواجبات العادية اليومية التي ينتج عنها نوع من الانضباط والخوف، لتصل إلى نقطة التحرر، والتوحد، وإثبات الذات. فالإنسان العادي المسحوق باليومي يحتاج إلى جرعة من الحرية الليلية، ليتقمص دور النسر الشامخ، ويعيش لحظات من الاستعلاء والارتفاع عن أرضية الواقع.
تأسيسا على ما سبقت الإشارة إليه، نلمح كيف أن فضاء القصيدة المكثفة يستضمر عالما بأكمله، ويرصد بلغة مكثفة تفاصيل الحياة اليومية للرجل العادي.
4- سركون بولص وأسلافه:
في مقالة كتبها بورخيس حول «كافكا وأسلافه»؛ يؤكد بأن كل كاتب يخلق أسلافه؛ بمعنى أن الكاتب المعاصر حينما يسلط الضوء على كتاب سابقين، فإنه يعيد خلقهم من جديد، ويثير الانتباه لبعض من خصائصهم التي لم تكن مدركة من قبل.
ونلمس لدى سركون بولص هذا الاهتمام البالغ بأسلافه المتنوعين، قدامى ومعاصرين؛ مما يدل على أن الشاعر يعتبر أن مملكة الشعراء واحدة، وأن لديهم دائرة تجمعهم. فحيوات الشعراء متداخلة، ومسترسلة، ومصائرهم متشابهة، وتضحياتهم من أجل الشعر قاسية. إضافة لهذا الملمح، نستشف أيضا مسألة هامة لدى سركون بولص، وهي ارتباط الشعر لديه بالمعرفة؛ فاكتساب التجارب الهامة في الحياة لوحدها لا يكفي ما لم تسنده معرفة حقيقية بالشعر وتعقداته. وأعتقد أن تميز الشاعر سركون بولص يكمن في هذا التزاوج بين التجربة والمعرفة. ولذلك فالقصيدة لديه استضافة، يكتبها باليد التي هجرته؛ يكتب نصه الشعري على خلفية طرس شفاف. يعيد من خلاله إعادة تشييد عوالم الشعر. هي قصيدة تؤسس للحوارية وتكتب بطريقة اصطفائية؛ تنم عن وعي عميق بميراث الشعر؛ وذلك من خلال اقتناص لحظات مشرقة فيه؛ فالشعراء لديه مسكونون بالاجداد والأشباح والأطياف الشعرية والتاريخية. والشعر نوع من السحر، من الممكن أن يغير حياة الفرد كاملة. وأن الشاعر الحقيقي هو الذي يمارس هواية الصيد في الأعالي وفي المياه العميقة. فالشعر بحر، والشاعر صياد. والشاعر هو الذي يعيش ديمومة البداية؛ ويستعير سركون بولص مقولة ذات دلالة فلسفية عميقة للشاعر الإيطالي سيزار بافيس من ديوانه «سيأتي الموت ويكون له عيناك»، «أن نبدأ هذا كل ما هناك». وقد جعلها استهلالا لقصيدته «البادئ « فالشاعر بحسب منظور سركون، هو الذي ما يفتأ يبدأ في كل تجربة من البداية، وهكذا يضمن لشعره نوعا من الحيوية والديمومة، والاكتشاف المستمر، فكل تجربة يكون فيها الشاعر طفلا يندهش أمام العالم. فمصدر قوة التجربة الشعرية لدى سركون تكمن في أنه دائم البحث والتنقيب يقول: «أنا مازلت أعثر على أشياء كل يوم. الاختبارية هي كلمة السر، أي أن الحقائق اللانهائية موجودة مبطنة في اللغة نفسها «. فهو يجد أن اللغة العربية عجيبة تجعله يمضي إلى أماكن مجهولة ليستكشفها «نحن في النهاية مجرد مستكشفين. ليس هناك شيء نهائي، ربما كتبت قصيدة مختلفة غدا. أنا لا أؤمن بقوانين معينة. أؤمن بالصنعة كثيرا، ولكنني أؤمن أيضا بأن شعر اللغة العربية له أصول عتيقة جدا «. والقصيدة لديه هي خريطة من العلائق بين الكلمات الموجودة على الصفحة، هذه العلائق تكون في النهاية عالما يكاد يكون كاملا «. وكما سلف ونبهنا إلى أن سركون بولص في قصيدته «تحولات الرجل العادي» يؤمن بقيمة الليل كمجال للحرية، وإثبات الذات، وإمكانية التأمل الهادئ في ليل المعنى وليل الداخل، فهو يصرح في حواره إلى هذا الملمح الذي استنتجناه من قصيدته الومضة يقول: «أنا شخص ليلي، ليلي بالمعنى الذي يكف فيه الليل عن أن يكون وقتا فقط. إذ ثمة أيضا الليل الباطني الذي أصطاد فيه. وكأي صياد في قارب أتيه إلى أن أجد. السمكة دوما توجد في الأعماق، لكن مثل سنتياغو «الشيخ والبحر» لهمنغواي، عليك أن تصطاد السمكة الحقيقية. وليس أي سمكة في البحر، السمكة التي هي جديرة بالمجازفة وبالموت أيضا «.
إضافة لهذا الميسم الاستكشافي عند سركون بولص، نجد أنه أيضا دائم التوغل في قراءة الشعر العالمي، الشعر العربي القديم والشعر الصيني والياباني والسنسكريتي، وقد عكس هذه الروح الاستجماعية لإنتاج البشرية للشعر في كتابه «رقائم لروح الكون»: «يبدأ الكتاب من مرثية بقلم شاعر مشهور من جيكور في العراق. وهي عن خراب جيكور، مرثية اعتبرها مازالت سارية على وضعنا الآن بكل إنسانية. بادئا من هناك، يمضي الكتاب شعريا إلى الآن. من هناك إلى سافو إلى اليونان، إلى الصين، إلى شعراء الهايكو خصوصا باشو، إلى شكسبير إلى شيلي وشعراء الحركة الرومانسية. وكلها نماذج مختارة بدقة، بحيث يؤلف هذا الكتاب حدثا شعريا واحدا، وكأنما هؤلاء الشعراء كانوا على اتفاق فيما بينهم على أن يقولوا شيئا كبيرا جدا. لذلك فالكتاب -في النهاية- هو نوع من القصيدة الواحدة بأصوات مئات الشعراء»، فسركون مهتم بشعر العالم لأنه يعرف أننا جميعا في القارب نفسه. وهذه الفكرة هي صدى لفكرة ملارمي حول سعي العالم لكتابة كتاب واحد، وقد عمق هذه الفكرة بورخيس في جل أعماله حول كونية الأدب. الذي يكتب في حوارية مستمرة بين النصوص.
من الشعراء القلائل في قصيدة النثر الذين قاموا بحوار مفتوح مع تجارب الشعراء السابقين يعد سركون بولص أبرزهم؛ فلا تخلو مجموعة من مجاميعه من الإشارة إلى شاعر عربي قديم أو حديث أو نص سومري «جلجامش»، أو شاعر أوربي أو أمريكي «بودلير»، «بافيس»، فاييغو… هذا الملمح يؤكد أن قصيدة النثر العربية لم يكن لديها هاجس الانقطاع عن الموروث الشعري الحقيقي؛ فهي في حالة سركون، تقطع مع الشعر الذي لم يكن يحمل بداخله شروط بقائه. فهو يقطع مع الشعر الذي انقضت صلاحيته، ويحتفي بالشعراء الحقيقيين الذين أخلصوا للشعر وضحوا من أجله واكتووا بناره.
هناك العديد من القصائد لدى سركون انبنت بالأساس على محاورة مع شاعر عربي قديم. وقد كان هذا الاستحضار ينم عن علاقة سرية مع هؤلاء الشعراء؛ ويعكس من ثمة تلك الأواصر التي يعتقدها سركون في أن مصائر الشعراء مشابهة وأن حيواتهم متداخلة. وسنبين طبيعة هذا الحوار المفتوح مع هؤلاء الشعراء انطلاقا من مجموعة من القصائد وردت موزعة في مجاميعه. يمكن تسجيل أن ظهور هذه الأوجه الشعرية بدأ منذ مجموعته الأولى «الوصول إلى مدينة أين»، حيث عنون إحدى قصائده «آلام بودلير وصلت».
هذه القصيدة تعتبر انعطافة حقيقية في مساره الشعري؛ إذ صرح في أحد حواراته، أن هذه القصيدة هبطت عليه جملة، ولم يتدخل بعد في تنقيحها وتنقيتها من الشوائب، على غير عادته، فسركون يمكن اعتباره شاعرا يحكك قصيدته ويتدخل فيها قبل أن يصدرها؛ لكن مع هذه القصيدة الأمر مختلف؛ وهي قد كتبت في قرية جبلية لبنانية، قرية الشاعر اللبناني وديع سعادة، قرية شبيهة بعُشِ نسر فوق الجبل. كتبها ليعكس من خلالها لحظة حب حقيقي لفتاة درزية؛ وهو في سنة الثامنة والعشرين. كتبها ليتحدث عن الألم من وسط الأحشاء. ولذلك إذا تأملنا القصيدة منذ عنوانها الذي يعقد صلة مع بودلير، صاحب «أزهار الألم» سندرك أن حضور هذا الشاعر حضور مزدوج، فهو الشاعر الذي تعمق في موضوعة الألم الداخلي؛ وأيضا هو المؤسس الفعلي لجنس قصيدة النثر الفرنسية، وهو المترجم الناجح لأعمال أدغار آلان بو، وقد كان تأثير هذه المرجعية الانكلوسكسونية في عوالم بودلير واضحا. يقول سركون في قصيدته مبرزا الحدود القصوى لآلامه وتمزقات روحه.
جننت من الإفلاس والمحبة.
وذات ليلة تحول إفلاسي إلى طير
ومحبتي إلى جمرة.
هرب الطير، بقيت الجمرة.
في الجمرة دخلت أخيرا.
نزلت إلى أحشائها وحفرت جمالها.
أيقنت من عزلتها وأنا أدخل وأتعثر بغيمة غضبي.
لأن عزلتي كانت قوية جدا.
ودخلت .
هي بالفعل لحظة استبطانية لآلام الداخل، مؤثتة بمعجم ينهل من اللوعة والضياع، والانفلات، والاكتواء بجمرة الفقدان. حيث الماضي لا يمكن صيده، ينفلت باستمرار، والهبوط إلى الجحيم اللانهائي، (رجل يحمل جمرة في يده تحتوي رجلا يحمل جمرة في يده)، وحيث ترعى في أحشائه باخرة ضائعة؛ ليصادف في بيروت (ملابس بودلير الداخلية في طريقه)، كل هذا الألم والضياع كان في (رحلة طويلة لا يعرف فيها أحد أحدا). (لا يشرب أحد غير أحشاء صديقه المخلص).
أما في مجموعته الثانية، فإنه يخصص قصيدة يستحضر فيها صورة الشاعر أبي تمام؛ ويعقد مع قصيدته المشهورة في مدح المعتصم:
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب.
حوارا خفيا، ويكون مدار القصيدة على موضوعة احتباس وإبطاء مجيء الشعر. وحول هذه الموضوعة تنتسج قصيدة سركون، من خلال تشابكات وتلميحات يكون فيها نص أبي تمام بذرة انطلاق لتتخذ القصيدة عند سركون مسارات أخرى تبتعد عن الحوار المباشر مع النص الغائب. بل تذهب إلى ممارسة نوع من النقد المبطن لطبيعة العلاقة بين الشعر والسلطة.
فالشاعر كما صورته القصيدة (بعد لأي. أمثولة أبي تمام) هو ذلك الذي يبحث عن الخاتم في بطن سمكة، وفي هذا إحالة إلى موضوعة الشاعر الصياد المشار إليها آنفا؛ تأتيه الأبيات الشعرية بعد لأي (مشدودة الأعناق إلى غيابها)، وحربه لا تشبه حرب السلطان.
إنها الحرب وهو الذاهب إليها.
ليس أقل في شجاعته من بطل، شديد الحمق انتهى.
لتوه من سبك سلاحه، لكن بلا ترس لوقايته فهذه حرب
خفية على العين، وجراحها لا يمكن أن تتقى .
الكلمات لديه لا تستسيغ طعم ذلها؛ ما دام العرش الخشبي إذ يغرق لا يخلق إلا دوامة ضئيلة ؛ وما دام (التراب لا يذكر ألقاب الجمجمة) .
إنه سلطان الشعر الذي يهزم كل سلطة. بعيدا عن اللصوصية والاستجداء «كل بنك محصن يخلق جيلا جديدا من اللصوص «.
فالشاعر في القصيدة، بلا طبول، ولا بيارق، ولا مجد طاووسي. إنه صياد، وداهية
هذا الصياد الذي يريد شراكا
وتعرفه داهية في نصب شراكه، لا بيرق له
ولا شيء يعلن عنه، لكن علاماته في كل مكان
تستدر البريق حتى من الحجر، حتى من الازرار القليلة.
في سترة جارك النحيل عندما يكنس أمام تنوره الخاوي، بقية
من الحطب.
مجيئه حدث لا يبارى
آياته سريعة كالبرق ومن صفاته
أنه أعمى لا يفرق بين العدو والصديق.
يمكن التخلي عنه بيسر، لكن أرني من يتخلى
ها هي أبياته تتحسب عطاءها. وكل بيت رسول آت
من بعيد، يعرف الطريق إلينا
ولا نجهل الطريق إليه .
فالشاعر الصياد، يصطاد الشعر، من الجمادات، ويستخرج بريقها، يعمد إلى الموضوعات المبتذلة، ويضفي عليها لمسات سحره يمر عليها كالبرق. بين الشاعر وقصيدته علاقة حرب وربح. لا تأتي القصيدة أو البيت إلا عبر معاناة واستراتيجية حربية، وصبر صياد.
أحد الأبيات يعدني بالمجيء إذا قمت من أجله بخدمة.
قلت ما هي: قال أن تخرج فتمشي .
ويستحضر سركون في مجموعته الثالثة صورة الذبياني وهو يقاسي ليلا بطيء الكواكب في قصيدتين الأولى بعنوان «كواكب الذبياني» والثانية بعنوان «كيف يأتي الفجر. «كواكب الذبياني: نص ثان».
فإذا كان الذبياني في معلقته الشهيرة:
ساوم الملوك في الظلام على حفنة.
من الخلود وشكا
من بطء الكواكب في قصيدة .
فإن سركون يقاسي بطء الكواكب في ليل مدينة نائمة بوقاحة على كتف المحيط. مدينة رقص فيها على كل حبل، وتطلع فيها مطولا في كل هاوية. وعصر آخر قطرة من آخر حبة في العنقود الباقي في الدالية.
رهبة الليل الموجع، ليل الأرق الطويل الذي أفزع الشاعر، ليستحضر صورة الذبياني الفزع من مطاردة السلطة له. إن الصباح لم يأت إلا بعد يأس وتعب.
خلت هذه الليلة لن تنقضي
خلتها نسيت كيف تنقضي الليالي
خلتها لن تنقضي أيها الصباح المتأخر يا ابن الزنيمة
وكدت انفض منك يدي، وكدت أسلم أمري…
أقول هذا من وسط النعاس
في ليلة مثقلة بكواكب من أبطأ ما يكون
وأفتح الباب على مصراعيه بعد أن أقول هذا .
وفي نص آخر يستحضر سركون، شاعرا عرف بتخصصه في التغزل بالنساء، ويبرع في فن القصص الشعري. إنه ابن أبي ربيعة، وقد خصه الشاعر بمرثية. لكنها مرثية تكسر أفق توقع النوع؛ فلا ذكر لمناقب المرثي، ولا توجع، ولا تفجع، وإنما هو رثاء من نوع خاص؛ رثاء ينتقل من الشخص إلى النص؛ أي هو رثاء لنوع الغزل. فإذا كانت المعشوقة في الغزل القديم تتخلق عبر الكلمات والأوصاف والنعوت؛ وتترك للشاعر مجالا لاستيهامته فينسجها عبر مخيلته، وعبر تجربة نصية؛ فإن معشوقة سركون من نوع آخر لا تترك للشاعر مجالا ليجلي تجربته الفنية في هذا الجنس الأدبي؛ معشوقة أفسدت مطامح الشاعر في إغوائها؛ معشوقة متعجلة.
لقد تأسست قصيدة «مرثية إلى عمر ابن أبي ربيعة» على الباروديا، (المحاكاة الساخرة)؛ وعلى نوع من التحول في مفهوم جنس الغزل. فسركون يصرح أنه من الممكن أن يقوم بتكرار قواعد نوع الغزل:
قد أصف نهدها
حلمتها الوردية وكيف تشف في النور القوي
نارية كالزبيبة
قد أكتب عن نمش يغطي كتفيها
كظلال قوافل من النحل
تعبر صحراء من الصوان
عندما تستيقظ في سريري
أو سريرها، عند الظهيرة أو في الضحى
وليس أبدا في الصباح .
فهذه البداية في القصيدة تخدم وظيفتين: الأولى؛ قدرة الشاعر على الانضباط لقواعد النوع؛ والثانية، تعكس أن التجربة الغزلية تتجلى في النص وإمكانياته وليس في الممارسة الواقعية. لذلك يتخلى سركون عن هذه المهمة لأن الآخرين قد أنجزوا هذه المهمة:
لكن آخرين
أكثر جدارة مني
تغنوا بهذا. وأجادوا
نثروا أسرارها تحت كل قافية
حبا ذهبيا لدجاحة سحرية، هم الذين خبروا
الرغبة بارتعاش اليتامى
فأشعلت على طرف اللسان آية
عابرة ومدت لهم جسرا.
إلى النسيان، بالوهيج
بكل آهة افلتت شاكية من فم
وكل ما أتوا من البراعة، متوسلين آلة الكلام.
ليسكروها فترضى.
بصورة العالم كما رأوها وتأتي
فرسا، لينة، في النهاية…
إن معشوقة «نوع الغزل»، هي معشوقة كلمات، ومعشوقة سركون هي معشوقة أفعال وسرير؛
لكن ها هي عاشقة وجدتْ
حتى قبل أن أحسن النطق باسمها، سريري
أزاحت بطانيتي بيد خبيرة ثم دعتني
كمن ينازل، خصما، عبر نهر، بعينيه
أصبحت المعشوقة في هذا النص إيذانا بتحول كبير في العلاقة بين الشاعر وموضوع الرغبة؛ اتسمت فيه بالجسارة، والمبادرة، والخبرة في منازلة الخصم. وأيضا بنوع من الفضائحية. معشوقة لا صلة لها بإرث الغزل؛ متعجلة، لا تبحث عن الإغواء بواسطة الكلمات، لا تبحث عن المس والدوار. هي نموذج يمر إلى الفعل مباشرة وتعتبر الإرث الغزلي نوعا من المجاعة، وأن الحب مرماه هو الوصال الحقيقي.
خبرني بما كتبوا، أولئك التُيُوسُ، وَصِفْ لي باختصار
ولكن باختصار، طرفا من تلك المجاعة: صف لي ! .
هذه القصيدة هي نموذج للمحاكاة الساخرة لنوع أدبي، استطاع فيه ابن أبي ربيعة أن يغير فيه بعضا من ثوابته، أي أن تتغزل المرأة بالرجل؛ لكن هذا التغيير سينطمس أمام هذا التحول في العلاقة بين المرأة والرجل في نص سركون؛ حيث تتجاوز المرأة كل معايير الموروث الغزلي، وتقدم صورة أخرى تنعكس فيها جرأة غير مسبوقة، وبوح فضائحي ينتقل فيه الحب إلى ممارسة جسدية.
أما في نص «إلى امرئ القيس في طريقه إلى الجحيم»؛ فإنه استحضار لشخصية شعرية؛ ارتبطت في متخيلنا، بالتيه، والضلال، والصعلكة، والارتباط بالصحراء؛ والبحث عن مُلْك ضائع. وبريادة الشعر. واختراع المعاني. وبليل الهموم السرمدي. وبالنهاية التراجيدية. والموت في الغربة.
إن ظلال هذه المعاني تخيم على عوالم نص سركون؛ واختياره لهذه الشخصية الشعرية، يصب في مفهومه «لتداخل مصائر الشعراء»، فهناك سمات عديدة تقرب كلا الشاعرين من بعضهما البعض؛ تجذر الصحراء في متخيلهما؛ والتيه، عدم الرغبة في الموت في أرض الاغتراب، الهموم المتتالية، الهروب من الطاغية:
ومن خلال هذه التقاربات ينتسج النص في نوع من التناص مع الشخص ومع النص؛ هناك استحضار لفضاء الصحراء بدلا عن فضاء المدينة الأمريكية:
«وأصغي إلى عاصفة ترود في الظلام كضبعة شبقة
عويلُها الفاجع لم يعد يطربني.
أصغي
لكي أسمع الصحراء تغني
وليس صهيل أمريكا المتعالي كألف حصان جريح».
وأيضا هناك التنصيص على موضوعة التيه والضياع
«تثرثر الريح في ودياننا كامرأة هرمة لنا بها علاقة رحمية.
ضيعني أبي صغيرا أجل ضيعني ولن أستريح
«اليوم خمر وغدا أمر» تقول الريح
ولي خمر وجمر ومعلقة.
قد أهزم بها جنيا يزورني في مثل هذه الساعة».
وأيضا لا يفوت الشاعر –على عادته- إدانة السلطة الجائرة والطغيان:
أيها الملك الهارب من ذلك الوغد
المنذر بن ماء السماء.
ذلك الوغد الذي ليس سوى اسم يطاردنا حتى باب الجحيم
ذلك الاسم الأجوف كالطبل، ذلك الطاغية. ذلك العبد. ذلك الوغد، إنه دائما هناك .
وتحضر في نصوص سركون إشارات عديدة يشتغل عليها، إما تضمينا، أو تحويرا، أو يعقد معها نوعا من الباروديا؛ لشخصيات شعرية بصمت تاريخ الشعر العربي أو الغربي ببصمات خالدة. ففي النص المعنون «حانة الكلب»؛ يستحضر كلا من المتنبي والمعري. مركزا على موضوعة العمى المتواترة بكثرة في شعره، حيث العمى كموضوعة شعرية هو صنو للرؤية العميقة.
من حجارة المَعَرَات حيث الشعراء يطالبون بأن يُسْمَلُوا
ليفتحوا حوارا من رهين المحبسين
أو أقرب العميان يهمهم بالهمس يهلهل بالهلاك.
كأني فتحت حنفية المحيط بمطرقة .
وفي القصيدة نفسها يقول:
من يدي الأعمى الذي نظر إلى أدبي
بعينه الثالثة وبكى .
فصورة المعري التي ضيفها سركون في قصيدته تعكس موضوعة العزلة (كان رحمه الله يصب العزلة في إناء من فضة)؛ والإعجاز الشعري (شَعره مشعث) ولكن في فمه كالإعجاز تتذأبن الحمامة/ يهدل الذئب)، والحزن. والصدق. (أريدك أن تشعر بخطورة القضية ! لكننا نبدأ عادة/ بالبداية أي الخروج بكل ما نملكه من الصدق/ نحو الفريسة/ التي ستقودنا إلى قلب المعنى/ لأن المعنى دائما هناك يدخن صابرا في نهاية القصيدة ).
ولقد تفاعل سركون ايضا مع النصوص الصوفية؛ خصوصا نصوص جلال الدين الرومي؛ إذ عنوان مجموعته «إذا كنت نائما في مركب نوح» مأخوذ من عبارة للرومي؛ جعلها استهلالا لقصيدته «حانة الكلب». فعنوان القصيدة يحمل دلالة مزدوجة. إذ هذه «الحانة» توجد حقيقة في طريق كان رهبان المكسيك قديما يحجون من خلالها، فتضمن هذا العنوان ثنائية تحيل إلى المقدس والمدنس. والعبارة التي استل منها العنوان هي «إذا كنت نائما في مركب نوح وأنت سكران ماهم إذا جاء الطوفان». فهذه الجملة بعيدا عن حمولتها الصوفية هي جملة شعرية؛ وسركون يوظف هذه العبارات الصوفية لما تحبل به من جمالية شعرية. ولما تفتحه من آفاق لتوليد دلالات جديدة.
ونجد في المجموعة الشعرية الأخيرة التي نشرت بعد وفاة سركون بولص ذات العنوان الملتبس «عظمة أخرى لكلب القبيلة». الذي يوحي إلى نقد السلطة والحكام الذين يتلهون فيما تمنحهم لهم القوى الاستعمارية، ولو كان تافها، حتى يتمكنوا من التوغل في أوطانهم. إذ ما يعطيه الغرب الامبريالي للعرب قليل إذا ما قيس بما يأخذونه. وليعمق هذه الدلالة الواردة في هذا العنوان المليء بالإيحاءات يستعير سركون مثلا سومريا «المدينة التي ليست لها كلاب حراسة يحكمها ابن آوى» .
نجد استحضارا لشخصيات شعرية، إما أنها ماتت وسط عالم من البؤس كما هو الحال بالنسبة إلى «سيزار فاييخو». أو قتلت واغتيلت في زمن الفوضى كما هو الشأن في قصيدة «محمود البريكان واللصوص في البصرة». والشاعر «توفو». فكل هؤلاء الشعراء يوحد بينهم الألم والمنفى، فسيزار فاييخو (1938-1892) شاعر بيروفي كبير مات في منفاه بباريس، بسبب الجوع، ومحمود البريكان شاعر عراقي مات مقتولا في داره بالبصرة عام 2002 وتوفو (770-713) هو أحد أكبر شعراء الصين، عاش حياته تائها ومنفيا، وشعره مليء بمشاهد الحروب والموت والثورات والمجاعات التي عاشها أو رآها في أسفاره الدائبة.
من خلال هذه المعاينة لنصوص مختلفة لسركون بولص، نستنتج أنه شاعر ظل يطور تجربته الشعرية من مجموعة لأخرى، من حيث شكلها ومن حيث مضامينها ودلالاتها. وقد كان شكل قصيدة النثر لديه مطواعا، ضيف تجربته الحياتية الغنية، وأسفاره، وتنقلاته عبر عواصم العالم، وتفاعلاته مع الآخر، وضمن تجربته الشعرية بأصوات شعراء يلتقي معهم في الإخلاص للشعر وتقديسه.
كتب سركون بولص، سيرته الذاتية شعريا، وأضاف إليها سيرته الذهنية؛ فكان للذكرى حضور قوي في تجاربه، رسم بورتريهات لشخصيات عادية، وكتب عن الأمكنة، والشوارع، والمقاهي، والساحات؛ استحضر أساطير بلاد الرافدين، مارس نقدا لسلطة الطاغية، كتب عن اللامكان واستحالة الوصول، عقد صداقات شعرية مع شعراء أحدثوا ثورة في الشعر الأمريكي جماعة البتنيكس بعد أن أغوته قصائدهم وهو لم يزل يافعا في مدينة كركوك.
كتب القصيدة الطويلة ذات النفس السردي، كما كتب القصيدة الومضة أو القصيدة التوقيع الموسومة بالكثافة والتوهج والمفارقة. توسل بكتابة الصورة الصادمة وتحلل منها، ليكتب بالسرد. نسج حوارات عميقة مع شعراء من القديم ومن الزمن المعاصر، مبرهنا على تصوره ومفهومه «لتداخل مصائر الشعراء»؛ كان للتناص حضور بالغ الأهمية في تجربته، إما امتصاصا أو تحويلا أو تحويرا أو محاكاة ساخرة. لم يسقط في شرك الانقطاع عن الموصول الشعري؛ ولم يكن ضحية قتل الأب؛ كان يعشق السياب ويعيد قراءته؛ أعاد ترجمة كتاب «النبي» لجبران خليل جبران. انفتح على النص الصوفي، ولكن بطريقة مغايرة عن أولئك الذين استنسخوا هذا النص؛ يقول بهذا الصدد: «وإذا كنت اخترت للكتاب عنوانا مستوحى من رومي، فإنما لأنني في هذه الفترة بالذات وأنا أقرأه بالانجليزية –بعد آخر للتغريب- في ترجمات آربري وادريس شاه خصوصا في كتابه «طريق الصوفي» كنت معجبا لا بصوفيته التي لم تكن تهمني في نهاية الأمر، لمجرد كونها صوفيه فحسب، بل بطريقة قوله للأشياء: تغريب العادي، المسلم به، المؤسس على الثقة. وخاصة رموزه المستقاة من التراث الديني، عن طريق قذفه في فضاء الحكمة الانتشائية، التي لا يهمها، بالنتيجة الصواب المنطقي لما يقال، بقدر ما يهمها توظيفه في مجال الوثبة الشعرية (بالنسبة إلى) الروحية (بالنسبة إلى رومي) التي تريد أن تعبر بالقول إلى الجهة الثانية من الكلام «.
وسم بالشاعر في بدايته وبعد مماته. قال عنه سعدي يوسف إنه «شاعر العراق الوحيد» وهو كما ذهب إلى ذلك حسن نجمي في الحوار الذي أنجزه معه في سان فرانسيسكو «كان سركون تكثيفا للشعرية العراقية كلها»، كان مصاهرة مفتوحة على أبرز وأعمق وأصفى المرجعيات والخبرات الشعرية والجمالية العربية، غذى الآخرين وتغذى منهم، أضاءهم وأضاؤؤه، رافقهم وصاحبهم واستأنس بهم فاستأنسوا به، أحبهم وأحبوه، وعثر على مكانه بينهم على الخريطة. كما عثر على لغته داخل اللغة. ابتكر للمنفى، للعزلة، للصمت، للمغامرة، للمجهول معجما يليق بكل هذه الحالات التي يحيا كأنما حملته خفة القصيدة إلى أعالي الحياة. ثم نزلت به إلى أعماق اللؤلؤ وهشاشة العشب «.
مع سركون بولص اكتسبت قصيدة النثر العربية دعامة قوية، كدعامة الماغوط الذي لفت الانتباه إلى أن هذا الشكل قادم، وسيغوي شعراء آخرين سيستثمرونه في كتابة نصوص أخرى مغايرة، تسهم في إثراء وإغناء مشهد قصيدة النثر العربية. لقد رسم كل من الماغوط وسركون بولص خارطة طريق لقصيدة النثر العربية. ويستمد إنجازهم للتجارب الشعرية الأخرى التي تعاقبت في الثمانينات والتسعينات.
د.محمد ايت لعميم